وهذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته.
والنهي عن الشيء أمر بضده.
وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها فإن الزوج
إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة،
والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئا واحدا أو اثنين مثلا، وما فيها مما يحب أكثر. فإذا كان منصفا غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها.
وبهذا: تدوم الصحبة، وتؤدى الحقوق الواجبة المستحبة.
وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله. وأما من غض عن المحاسن، ولحظ المساوئ ولو كانت قليلة، فهذا من عدم الإنصاف. ولا يكاد يصفو مع زوجته.
والناس في هذا ثلاثة أقسام:
أعلاهم: من لحظ الأخلاق الجميلة والمحاسن، وغض عن المساوئ بالكلية وتناساها.
وأقلهم توفيقا وإيمانا وأخلاقا جميلة: من عكس القضية، فأهدر المحاسن مهما كانت، وجعل المساوئ نصب عينيه. وربما مددها وبسطها وفسرها بظنون وتأويلات تجعل القليل كثيرا، كما هو الواقع.
والقسم الثالث: من لحظ الأمرين، ووازن بينهما، وعامل الزوجة بمقتضى كل واحد منها. وهذا منصف. ولكنه قد حرم الكمال.
وهذا الأدب الذي أرشد إليه صلى الله عليه وسلم،
ينبغي سلوكه واستعماله مع جميع المعاشرين والمعاملين؛ فإن نفعه الديني والدنيوي كثير،
وصاحبه قد سعى في راحة قلبه، وفي السبب الذي يدرك به القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة ؛ لأن الكمال في الناس متعذر.
وحسبُ الفاضلِ أن تُعد معايبه.
وتوطين النفس على ما يجيء من المعاشرين مما يخالف رغبة الإنسان، يسهل عليه حسن الخلق، وفعل المعروف والإحسان مع الناس.. والله الموفق.
(بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)
فوائد الحديث:
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
[وفي الحديث فائدتان عظيمتان:
إحداهما: الإرشاد إلى معاملة الزوجة والقريب والصاحب والمعامل، وكل من بينك وبينه علاقة واتصال، وأنه ينبغي أن توطن نفسك على أنه لا بد أن يكون فيه عيب أو نقص أو أمر تكرهه،
فإذا وجدت ذلك، فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة،
بتذكر ما فيه من المحاسن، والمقاصد الخاصة والعامة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن، تدوم الصحبة والاتصال وتتم الراحة وتحصل لك.
الفائدة الثانية: وهي زوال الهم والقلق، وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة: وحصول الراحة بين الطرفين،
ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم- بل عكس القضية فلحظ المساوئ، وعمي عن المحاسن-، فلا بد أن يقلق، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويتقطع كثير من الحقوق التي على كلٍ منهما المحافظة عليها.
وكثير من الناس ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة.
لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون، ويتكدر الصفاء،
والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار، وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم، فالحازم يوطن نفسه على الأمور القليلة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، فعند ذلك يسهل عليه الصغير، كما سهل عليه الكبير. ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحا].
(الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ص 26 )
وإننا لنرى كثيرًا من الأزواج والزوجات قد استحالت حياتهم الزوجية إلى جـحـيمٍ لا يُطاق فمشاجرات ومناوشات وتطاول بالأيدي والألسن، قد تسأل عن السبب فتأتيك الإجابة:
(أنا أكرهها، ما عُدت أطيقها) (أنا أكرهه وأفضل العمى على رؤيته)!!
ولـِـمَ كــل ذلــك؟!!
ألا يوجد ولو سبب واحد فقط يجعل المودة هي الغالبة،، لماذا ننظر دومـا إلى نصف الكوب الفارغ؟ فنتصور أن لا يوجد غيره في حين أنه يوجد نصف آخر مماثل تماما ومع ذلك ممتلئ!!
قال ابن عثيمين رحمه الله:
[المحبة لها أسباب، والبغضاء لها أسباب، فابتعد عن أسباب البغضاء وأكثِر من أسباب المحبة، فمثلاً إذا كنت أبغضت شخصاً لأنه عمل عملاً ما،
فاذكر محاسنه حتى تزيل عنك هذه البغضاء، وإلا ستبقى على ما أنت عليه من بغضائه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
تسعون فائدة من حديث: (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي)
عقيل بن سالم الشمري- الألوكة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الغاية العظمى من أحاديث السنة النبوية العمل بها وتطبيقها،
ولا يكون ذلك إلا بعد فهمها والغور في معانيها، واستخراج ما هو أغلى من اللؤلؤ والمرجان،
وقد سبق إلى ذلك سلفُنا الصالح، فكانت رسائلُ ابن رجب الحنبلي رحمه الله خيرَ شاهد على إفراد كل حديث من أحاديث السنة بالدراسة، خاصة في جانب فوائده التربوية الإيمانية،
فأحببت أن أسير على منهجه في دراسة الحديث من حيث الفوائد المستنبطة، ويكفيني أن أحاكي القوم وأتشبه بهم في الطريقة، وقد اخترت حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما"،
واختياري يرجع إلى عدة أمور:
1- لصحته، فقد رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
2- لأنه حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى.
3- لأنه يجمع فقرات عدة، وهذا مظنة لكثرة الفوائد.
4- لتداوله على ألسنة الخطباء والوعاظ وغالب الناس اليوم.
5- سهولة ألفاظه التي سهلت حفظه.
وقد جعلت منهجي في استنباط فوائد هذا الحديث أن أقسم الحديث إلى أجزاء، ثم أستنبط من كل جزء ما فتح الله به علي من الفوائد، وقد يوجد في بعض الفوائد شيء من التداخل إلا أن ذلك لازم لمن أراد أن يحلل ألفاظ الحديث، ويدقق في الفوائد المستنبطة، ويقتنص الوقفات التربوية، والآن إلى نص الحديث، ثم إلى الفوائد المستنبطة منه.
‘‘ نص الحديث:
عن أبي ذَرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عن اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قال:
"يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا،
يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلا من هَدَيْتُهُ فاستهدوني أَهْدِكُمْ،
يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلا من أَطْعَمْتُهُ فاستطعموني أُطْعِمْكُمْ،
يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلا من كَسَوْتُهُ فاستكسوني أَكْسُكُمْ،
يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ما زَادَ ذلك في مُلْكِي شيئا،
يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِي شيئا،
يا عِبَادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ،
يا عِبَادِي إنما هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".