اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة البقرة)

المشاركات التي تم ترشيحها

 

png-clipart-qur-an-islamic-calligraphy-b


قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.. [البقرة : 64].


بعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى لنا كيف أمر اليهود بأن يتذكروا المنهج ولا ينسوه.. وكان مجرد تذكرهم للمنهج يجعلهم يؤمنون بالإسلام وبرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه مكتوب عندهم في التوراة ومذكورة أوصافه.. ماذا فعل اليهود؟


يقول الحق تبارك وتعالى:
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك}..
أي أعرضتم عن منهج الله ونسيتموه ولم تلتفتوا إليه..
{فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين}

ما هو الفضل وما هي الرحمة؟

الفضل هو الزيادة عما تستحق.. يقال لك هذا حقك وهذا فضل مني أي زيادة على حقك.


عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سدّدوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدْخِلُ أحداً الجنةَ عملهُ قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة).

فإذا تساءلت كيف يتم هذا؟ وكيف أنه لا أحد يدخل الجنة بعمله؟ نقول نعم لأن عمل الدنيا كله لا يساوي نعمة من نعم الله على خلقه؛ فأنت تذكرت العمل ولم تتذكر الفضل.. وكل من يدخل الجنة فبفضل الله سبحانه وتعالى.. حتى الشهداء الذين أعطوا حياتهم وهي كل ما يملكون في هذه الدنيا.. يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم: {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. [آل عمران : 170].

فإذا كان هؤلاء الشهداء وهم في أعلى مراتب الجنة قد دخلوا الجنة بفضل الله.. فما بالك بمن هم أقل منهم أجرا.. والله سبحانه وتعالى له فضل على عباده جميعا.. واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ}.. [البقرة : 243].


أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبه لغفران الذنوب. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه لولا هذا الفضل لبني إسرائيل.. ولولا أنه فتح لهم باب الرحمة والمغفرة ليعودوا مرة أخرى إلى ميثاقهم ومنهجهم.. لولا هذا لكانوا من الخاسرين الذين أصابهم خسران مبين في الدنيا والآخرة.. ولكن الله تبارك وتعالى بفضل منه ورحمة قد قادهم إلى الدين الذي حفظه الله سبحانه وتعالى بقدرته من أي تحريف.. فرفع عنهم عبء حفظ الكتاب.. وما ينتج عن ذلك من حمل ثقيل في الدنيا.. ورحمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.. مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.. [الأنبياء : 107].



وأعطاهم فضل هذا الدين الخاتم الذي حسم قضية الإيمان في هذا الكون.. ومع هذه الرحمة وهذا الفضل.. بأن نزل إليهم في التوراة أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعد بعثه.. فتح لهم بابا حتى لا يصبحوا من الخاسرين.. ولكنهم تركوا هذا الباب كما تولوا عن دينهم.



2014_11_16_17_33_42_928.jpg



قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.. [البقرة : 65].



بعد أن بين الله جل جلاله لنا كيف أنه فتح باب الفضل والرحمة لليهود فتركوه.. أراد أن يبين لنا بعض الذي فعلوه في مخالفة أوامر الله والتحايل عليها.. والله تبارك وتعالى له أوامر في الدين وأوامر تتعلق بشئون الدنيا.. وهو لا يحب أن نأخذ أي أمر له يتعلق بالدين أو بالدنيا مأخذ عدم الجد.. أو نفضل أمرا على أمر.. ولذلك تجد في سورة الجمعة مثلا قول الحق تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله}.. [الجمعة : 9-10].
هذان أمران أحدهما في الدين والثاني يتعلق بالدنيا..
وكلاهما من منهج الله..

فالله لا يريدك أن تتاجر وتعمل وقت الصلاة.. ولا أن تترك عملك بلا داع وتبقى في المسجد بعد الصلاة.. إذا نودي للصلاة فإلى المسجد.. وإذا قضيت الصلاة فإلى السعي للرزق..

وهناك يومان في الأسبوع ذكرا في القرآن بالاسم وهما يوم الجمعة والسبت..
بينما أيام الأسبوع سبعة، خمسة أيام منها لم تذكر في القرآن بالاسم.. وهي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.. الجمعة هي عيد المسلمين الذي شرع فيه اجتماعهم في المساجد وأداء صلاة الجماعة.. ونلاحظ أن يوم الجمعة لم يأخذ اشتقاقه من العدد.. فأيام الأسبوع نسبت إلى الأعداد فيما عدا الجمعة والسبت. لذلك تجد الأحد منسوب إلى واحد والاثنين منسوب إلى اثنين.. والثلاثاء منسوب إلى ثلاثة والأربعاء منسوب إلى أربعة والخميس منسوب إلى خمسة.


كان المفروض أن ينسب يوم الجمعة إلى ستة ولكنه لم ينسب..
لماذا؟

لأنه اليوم الذي اجتمع فيه للكون نظام وجوده.. فسماه الله تبارك وتعالى الجمعة وجعله لنا عيدا.. والعيد هو اجتماع كل الكون في هذا اليوم، إجتماع نعمة الله في إيجاد الكون وتمامها في ذلك اليوم.. فالمؤمنون بالله يجتمعون اجتماع حفاوة بتمام خلق الكون لهم..
والسبت.. الباء والتاء تفيد معنى القطع.. وسبت ويسبت سبتا إذا انقطع عمله..
ونلاحظ أن خلق السموات والأرض تم في ستة أيام مصداقا لقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.. [الحديد : 4].


وكان تمام الخلق يوم الجمعة.. وفي اليوم السابع وهو يوم السبت.. كان كل شيء قد استقر وفرغ من خلق الكون.. ولذلك له سبات أي أن هذا اليوم يسمى سباتا.. لأن فيه سكون الحركة بعد تمام الخلق.. فلما أراد اليهود يوما للراحة أعطاهم الله يوم السبت وأراد الحق تبارك وتعالى أن يبتليهم في هذا اليوم والابتلاء هو امتحانهم فقد كانوا يعيشون على البحر وعملهم كان صيد السمك.

وكان الابتلاء في هذا اليوم حيث حرم الله عليهم فيه العمل وجعل الحيتان التي يصطادونها تأتي إليهم وقد بدت أشرعتها وكانوا يبحثون عنها طوال الأسبوع وربما لا يجدونها.. وفي يوم السبت جاءتهم ظاهرة على سطح الماء تسعى إليهم لتفتنهم.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.. [الأعراف: 163].
وهكذا يمتلئ سطح البحر بالأسماك والحيتان يوم السبت.. فإذا جاء صباح الأحد اختفت بعيدا وهم يريدون أن يجعلوا السبت عيدا لهم لا يفعلون فيه أي شيء.. ولكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يحصلوا على هذه الأسماك والحيتان.. صنعوا شيئا اسمه الحياض العميقة ليحتالوا بها على أمر الله بعدم العمل في هذا اليوم.. وفي الوقت نفسه يحصلون على الأسماك.. هذه الحياض يدخلها السمك بسهولة.. ولأنها عميقة لا يستطيع الخروج منها ويتركونه يبيت الليل وفي الصباح يصطادونه.. وكان هذا تحايلا منهم على مخالفة أمر الله.. والله سبحانه وتعالى لا يحب من يحتال في شيء من أوامره.

ويقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.. وهذه قصة مشهورة عند اليهود ومتواترة.. يعلمها الأجداد للآباء والآباء للأحفاد.. وهي ليست جديدة عليهم وإن كان المخاطبون هم اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولذلك عندما سمع: {ولقد علمتم} أي لقد عرفتم ومعنى ذلك أن القصة عندكم معروفة.. وكأنها من قصص التراث التي يتناقلونها.

وقوله تعالى:
{الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت}..
المفعول هنا واحد هنا حيلة مذكورة أنهم اعتدوا على أمر الله بالراحة يوم السبت.. هم حقيقة لم يصطادوا يوم السبت.. ولكنهم تحايلوا على الممنوع بنصب الفخاخ للحيتان والأسماك.. وكانوا في ذلك أغبياء.. وقد كان الممنوع أن يأخذوا السمك في حيازتهم بالصيد يوم السبت.. ولكنهم أخذوه في حيازتهم بالحيلة والفخاخ.. وقوله تعالى: (اعتدوا) أي تجاوزوا حدود الله المرسومة لهم.. وعادة حين يحرم الله شيئا يأتي بعد التحريم قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا}.. [البقرة: 187].


لأنه يريد أن يمنعك من الإغراء.. حتى لا تقع في المعصية فيقول لك لا تقترب.. ولكن بني إسرائيل اعتدوا على حكم الله متظاهرين بالطاعة وهم عاصون.. وحسبوا أنهم يستطيعون خداع الله بأنهم طائعون مع أنهم عاصون.. وصدر حكم الله عليهم: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
وعادة أنك لا تأمر إنسانا أمرا إلا إذا كان في قدرته أن يفعله.. الأمر هنا أن يكونوا قردة. فهل يستطيعون تنفيذه؟ وأن يغيروا خلقتهم إلى قردة.. إنه أمر في مقدرة الله وحده فكيف يقول لهم كونوا قردة؟

نقول إن الآمر نفسه هنا هو الذي يستطيع أن يجعلهم قردة.. وهذا الأمر يسمى أمراً تسخيريّاً ولم يقل لهم كونوا قردة ليكونوا هم بإرادتهم قردة.. ولكنه سبحانه بمجرد أن قال كونوا قردة كانوا.. وهذا يدلنا على انصياع المأمور للأمر وهو غير مختار.. ولو كان لا يريد ذلك ولا يلزم أن يكونوا قد سمعوا قول الله أو قال لهم.. لأنه لو كان المطلوب منهم تنفيذ ما سمعوه ربما كان ذلك لازما.. ولكن بمجرد صدور الأمر وقبل أن ينتبهوا أو يعلموا شيئا كانوا قردة.

ولقد اختلف العلماء كيف تحول هؤلاء اليهود إلى قردة؟ كيف مسخوا؟
قال بعضهم لقد تم المسخ وهم لا يدرون.. فلما وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان.. لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا.. وقال بعض العلماء أن الإنسان إذا مسخ فإنه لا يتناسل، ولذلك فبمجرد مسخهم لم يتناسلوا حتى انقرضوا.. ولماذا لم يتناسلوا؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.. [الأنعام: 164].


ولو أنهم تناسلوا.. لتحمل الأبناء وزر آبائهم.. وهذا مرفوض عند الله.. إذن فمن رحمة الله أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناسلون.. ويبقون فترة ثم ينقرضون بالأمراض والأوبئة وهذا ما حدث لهم.

قد يقول بعض الناس لو أنهم مسخوا قردة.. فمن أين جاء اليهود الموجودون الآن؟
نقول لهم أنه لم يكن كل اليهود عاصين.. ولكن كان منهم أقلية هي التي عصت ومسخت.. وبقيت الأكثرية ليصل نسلها إلينا اليوم.. وقد قال علماء آخرون أن هناك آية في سورة المائدة تقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل}.. [المائدة: 60].


إذن هذه قضية قوم غضب الله عليهم ومسخهم قردة وخنازير وعبدة الطاغوت.. ولقد أخبرنا الله جل جلاله أن اليهود مسخوا قردة.. ولكنه لم يقل لنا أنهم مسخوا خنازير..
فهل مسخوا قردة؟ ثم بعد ذلك إزداد غضب الله عليهم ومسخوا خنازير؟
وهل نقلهم الله من إنسانية إلى بهيمية في القيم والإرادة والخلقة؟



نقول علينا أولا أن ننظر إلى البهيمية التي نقلهم الله إليها.. نجد أن القردة هي الحيوان الوحيد المفضوح العورة دائما.. وإن عورته لها لون مميز عن جسده.

وأنه لا يتأدب إلا بالعصا.. واليهود كذلك لم يقبلوا المنهج إلا عندما رفع فوقهم جبل الطور.. وما هم فيه الآن ليس مسخ خلقه ولكن مسخ خُلُق.. والخنازير لا يغارون على أنثاهم وهذه لازمة موجودة في اليهود.. وعبدة الطاغوت.. الطاغوت هو كل إنسان تجاوز الحد في البغي والظلم.. وعباد الطاغوت هم الطائعون لكل ظالم يعينونه على ظلمه وهم كذلك.

إذن فعملية المسخ هذه سواء تمت مرة واحدة أو على مرتين مسألة شكلية.. ولكن الله سبحانه وتعالى أعطانا في الآية التي ذكرناها في سورة المائدة سمات اليهود الأخلاقية.. فكأنهم مسخوا خلقه ومسخوا أخلاقا.


2014_11_18_12_34_44_21.png


قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.. [البقرة : 66].


يريد الله تبارك وتعالى أن يلفتنا إلى أنه بعد أن جعل المسخة الخلقية والأخلاقية لليهود: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي ما معها: {وَمَا خَلْفَهَا} أي ما بعدها: (والنكال) هو العقوبة الشديدة.. والعقوبة لابد أن تنشأ عن تجريم أولا.. هذا هو المبدأ الإسلامي والمبدأ القانوني.. فرجال القانون يقولون لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم إلا بنص.. قبل أن تعاقب لابد أن تقول أن هذا الفعل جريمة عقوبتها كذا وكذا.. وفي هذه الحالة عندما يرتكبها أي إنسان يكون مستحقا للعقوبة.. ومادام هذا هو الموقف فلابد من تشريع.


والتشريع ليس معناه أن الله شرع العقوبة.. ولكن معناه محاولة منع الجريمة بالتخويف حتى لا يفعلها أحد.. فإذا تمت الجريمة فلابد من توقيع العقوبة.. لأن توقيعها عبرة للغير ومنع له من ارتكابها.. وهذا الزجر يسمى نكولا ومنها النكول في اليمين أي الرجوع فيه.


إذن قوله تعالى:
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً}..
أي جعلناهم زجرا وعقابا قويا.. حتى لا يعود أحد من بني إسرائيل إلى مثل هذه المخالفة: {نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا}.. أي عقوبة حين يرويها الذين عاصروها تكفي لكيلا يقتربوا من هذه المعصية أبدا.. وتكون لهم موعظة لا ينسونها: {وَمَا خَلْفَهَا} يعني جعلناها تتوارثها الأجيال من بني إسرائيل جيلا بعد جيل.. كما بيننا الأب يحكي لابنه حتى لا يعود أحد في المستقبل إلى مثل هذا العمل من شدة العقوبة: {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.. أي موعظة لكل الناس الذين سيبلغهم الله تبارك وتعالى بما حدث من بني إسرائيل وما عاقبهم به.. حتى يقوا أنفسهم شر العذاب يوم القيامة الذي سيكون فيه ألوان أشد كثيرا من هذا العذاب.. على أننا لابد أن نلفت الإنتباه إلى أن مبدأ أنه لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم إلا بنص هو مبدأ إلهي.. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}.. [الإسراء : 15].


أي يأتي الرسول أولا ليجرم هذه الأفعال.. فإن ارتكبها أحد من خلق الله حقت عليه العقوبة.. ومن هنا فإن كل ما يقال عن قوانين بأثر رجعي مخالف لشريعة الله تبارك وتعالى وعدله.. فلا يوجد في عدالة السماء ما يقال عنه أثر رجعي.

المصدر نداء الايمان


2014_11_18_15_18_35_148.jpg


 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

%D8%A8%D8%B3%D9%85%D9%84%D8%A9.png




قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.. [البقرة : 67].


تعرضنا إلى هذه الآية الكريمة في بداية سورة البقرة.. لأن السورة سميت بهذا الاسم..
ونلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى أتى بحرف: (وإذ).. يعني واذكروا: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}.. ولم يقل لماذا أمرهم بأن يذبحوا البقرة.. ولابد أن نقرأ الآيات إلى آخر القصة لنعرف السبب في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.. [البقرة : 72-73].



والمفروض في كل الأمور أن الأمر تسبقه علته.. ولكن هذه عظمة القرآن الكريم..
لأن السؤال عن العلة أولا معناه أن الأمر صادر من مساو لك.. فإذا قال لك إنسان إفعل كذا.. تسأله لماذا حتى أطيع الأمر وأنفذه.. إذن الأمر من المساوي هو الذي تسأل عن علته.. ولكن الأمر من غير المساوي.. كأمر الأب لإبنه والطبيب لمريضه والقائد لجنوده.. مثل هذا الأمر لا يسأل عن علته قبل تنفيذه.. لأن الذي أصدره أحكم من الذي صدر إليه الأمر.. ولو أن كل مكلف من الله أقبل على الأمر يسأل عن علته أولا.. فيكون قد فعل الأمر بعلته. فكأنه قد فعله من أجل العلة..

ومن هنا يزول الإيمان.. ويستوي أن يكون الإنسان مؤمنا أو غير مؤمن.. ويكون تنفيذ الأمر بلا ثواب من الله.


إن الإيمان يجعل المؤمن يتلقى الأمر من الله طائعا.. عرف علته أو لم يعرف.. ويقوم بتنفيذه لأنه صادر من الله.. ولذلك فإن تنفيذ أي أمر إيماني يتم لأن الأمر صادر من الله.. وكل تكليف يأتي.. علة حدوثه هي الإيمان بالله.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يبدأ كل تكليف بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا}.. أي يا من آمنت بالله ربا وإلها وخالقا.. خذ عن الله وافعل لأنك آمنت بمن أمرك.
في هذه الآيات التي نحن بصددها أراد الله تعالى أن يبين لنا ذلك. فجاء بالأمر بذبح البقرة أولا.. وبالعلة في الآيات التي روت لنا علة القصة.. وأنت حين تعبد الله فكل ما تفعله هو طاعة لله سبحانه وتعالى.. سواء عرفت العلة أو لم تعرفها؛ فأنت تؤدي الصلاة لأن الله تبارك وتعالى أمرك بأن تصلي.. فلو أديت الصلاة على أنها رياضة أو أنها وسيلة للاستيقاظ المبكر.. أو أنها حركات لازمة لليونة المفاصل فإن صلاتك تكون بلا ثواب ولا أجر.. إن أردت الرياضة فاذهب إلى أحد النوادي وليدربك أحد المدربين لتكون الرياضة على أصولها.

وأن أردت اللياقة البدنية فهناك ألف طريقة لذلك.. وإن أردت عبادة الله كما أمرك الله فلتكن صلاتك التي فرضها الله عليك لأن الله فرضها.. وكذلك كل العبادات الأخرى.

الصوم ليس شعورا بإحساس الجائع.. ولا هو طريقة لعمل الرجيم ولكنه عباده.. إن لم تصم تنفيذا لأمر الله بالصوم فلا ثواب لك.. وإن جعلت للصيام أي سبب إلا العبادة فإنه صيام لا يقبله الله.. والله أغنى الشركاء عن الشرك.. فمن أشرك معه أحدا ترك الله عمله لمن أشركه.. وكذلك كل العبادات.
هذا هو المفهوم الإيماني الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه في قصة بقرة بني إسرائيل.. ولذلك لم يأت بالعلة أو السبب أولا.. بل أتى بالقصة ثم أخبرنا سبحانه في آخرها عن السبب.. وسواء أخبرنا الله عن السبب أو لم يخبرنا فهذا لا يغير في إيماننا بحقيقة ما حدث.. وإن القصة لها حكمة وإن خفيت علينا فهي موجودة.

قوله تعالى:
{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}..
أعطى الله تبارك وتعالى الأمر أولا ليختبر قوة إيمان بني إسرائيل.. ومدى قيامهم بتنفيذ التكليف دون تلكؤ أو تمهل.. ولكنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك أخذوا في المساومة والتباطؤ: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ}.. كلمة قوم تطلق على الرجال فقط.. ولذلك يقول القرآن الكريم: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ}.. [الحجرات: 11].



تفسير الشعراوي للآية 67 من سورة البقرة


{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}


وكان سؤالهم يبين نقص درجة الإيمان عندهم..
لم يقولوا ادع لنا ربنا.. بل قالوا إدع لنا ربك
وكأنه رب موسى وحده.. ولقد تكررت هذه الطريقة في كلام بني إسرائيل عدة مرات.. حتى إنهم قالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

ولقد استمر الحوار بينهم وبين موسى فترة طويلة.. يوجهون السؤال لموسى فيدعو الله فيأتيه الجواب من الله تبارك وتعالى.. فبدلا من أن ينفذوا الأمر وتنتهي المسألة يوجهون سؤالا آخر.. فيدعو موسى ربه فيأتيه الجواب، ويؤدي الجواب إلى سؤال في غير محله منهم.. ثم يقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم أسباب الجدل.. بأن يعطيهم أوصافا لبقرة لا تنطبق إلا على بقرة واحدة فقط.. فكأنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.

نأتي إلى أسئلة بني إسرائيل.. يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ}.. سؤال لا معنى له ولا محل.. لأن الله تبارك وتعالى قال لهم إنها بقرة.. ولم يقل مثلا إنها حيوان على إطلاقه فلم يكن هناك محل للسؤال..

فجاء الحق تبارك وتعالى يقول لهم:

{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ}..
الفارض في اللغة هو الواسع والمراد به بقرة غير مسنة..
ولكن ما العلاقة بين سن البقرة وبين الواسع؟
البقرة تتعرض للحمل كثيرا وأساسا هي للبن وللإنجاب.. ومادامت قد تعرضت للحمل كثيرا يكون مكان اللبن فيها في اتساع.. أي أن بطنها يزداد اتساعا مع كل حمل جديد.. وعندما يكون بطن البقرة واسعاً يعرف أنها مسنة وولدت كثيرا وصارت فارضا.

وكلمة (بكر) لها معانٍ متعددة
منها أنه لم يطأها فحل.. ومنها أنها بكر ولدت مرة واحدة.. ومنها أنها ولدت مرارا ولكن لم يظهر ذلك عليها لأنها صغيرة السن.
وقوله تعالى:

{عَوَانٌ بَيْنَ ذلك}..
يعني وسط بين هذه الأوصاف كلها..

الحق بعد ذلك يقرعهم فيقول:

{فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ}..
يعني كفاكم مجادلة ونفذوا أمر الله واذبحوا البقرة.. ولكنهم لم يسكنوا أنهم يريدون أن يحاوروا.. ولذلك غيروا صيغة السؤال.


تفسير الشعراوي للآية 68 من سورة البقرة




{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}

بحثوا عن سؤال آخر:
ما لونها؟
كأن الله تبارك وتعالى حين حدثهم عن السن فتحوا الأبواب ليسألوا ما لونها؟ مع أنه سبحانه وتعالى قال لهم: {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ}.. فلم يفعلوا بل سألوا ما لونها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ} والصفرة لون من الألوان..

ثم قال جل جلاله: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا}.. يعني صفرة شديدة.. ثم قال: {تَسُرُّ الناظرين}.. يعني أن كل من ينظر إليها يُسر لنضارتها ونظافتها وحسن مظهرها وتناسق جسدها.
وصف البقرة بأنها صفراء هذا لون معروف.. وفي الألوان لا يمكن أن تحدد لونا إلا برؤيته.. ولذلك فإن المحسَّات في الألوان لابد أن تسبق معرفتها وبعد ذلك تأتي باللون المطلوب.. لذلك لا يقال صفراء فقط لأنك لا تستطيع تحديده؛ لأن اللون الأصفر له درجات لا نهاية لها.. ومزج الألوان يعطيك عدداً لا نهائيا من درجاتها.. ولذلك فإن المشتغلين بدهان المنازل لا يستطيعون أن يقوموا بدهان شقة بلون إلا إذا قام بعمل مزيج اللون كله مرة واحدة.. حتى يخرج الدهان كله بدرجة واحدة من اللون.. ولكن إذا طلبت منه أن يدهن الشقة باللون نفسه.. بشرط أن يدهن حجرة واحدة كل يوم فإنه لا يستطيع.. فإذا سمعت صفراء يأتي اللون الأصفر إلى ذهنك.. فإذا سمعت (فاقع) فكل لون من الألوان له وصف يناسبه يعطينا دقة اللون المطلوب.. (فاقع) أي شديد الصفرة.

أظن أن المسألة قد أصبحت واضحة.. إنها بقرة لونها أصفر فاقع تسر الناظرين.. وكان من المفروض أن يكتفي بنو إسرائيل بذلك ولكنهم عادوا إلى السؤال مرة أخرى.



تفسير الشعراوي للآية 69 من سورة البقرة


{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}

وبرغم أن ما قيل لبني إسرائيل.. واضح تمام الوضوح عن البقرة.. وعمرها وشكلها ولونها ومنظرها.. فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدبهم فجعلهم ينظرون إلى البقر.. وهذا يقول هذه هي والآخر يقول لا بل هي في مكان كذا.. والثالث يقول لا بل هي في موقع كذا.. وعادوا إلى موسى يسألونه أن يعود إلى ربه ليبين لهم لأن البقر تشابه عليهم.. وهنا ذكروا الله الذي نسوه ولم ينفذوا أمره منذ أن قال لهم اذبحوا بقرة ثم قال لهم: {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ}.. فطلبوا منه الهداية بعد أن تاهوا وضاعوا بسبب عنادهم وجدلهم.. وجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى.



تفسير الشعراوي للآية 70 من سورة البقرة



{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}(بقرة لا ذلول)..
البقرة الذلول هي البقرة المروضة الممرنة تؤدي مهمتها بلا تعب.. تماما مثل الخيل المروضة التي لا تتعب راكبها لأنها تم ترويضها.. وسيدنا إسماعيل هو أول من روض الخيل وساسها.. وقال الله سبحانه وتعالى لهم أول وصف للبقرة أنها ليست مروضة.. لا أحد قادها ولا قامت بعمل.. إنها انطلقت على طبيعتها وعلى سجيتها في الحقول بدون قائد..

{تُثِيرُ الأرض}
أي لم تستخدم في حراثة الأرض أو فلاحتها..
{وَلاَ تَسْقِي الحرث}..
أي لم تستخدم في إدارة السواقي لسقية الزرع..
{مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا}
أي خالية من العيوب لا أذنها مثقوبة. ولا فيها أي علامة من العلامات التي يميز الناس أبقارهم بها.. ولا رجلها عرجاء، خالية من البقع والألوان غير اللون الأصفر الفاقع.. وكلمة {لاَّ شِيَةَ فِيهَا}.. أي لا شيء فيها.

والمتأمل في وصف البقرة كما جاء في الآيات يرى الصعوبة والتشدد في اختيار أوصافها.. كأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يجازيهم على أعمالهم.. ولم يجد بنو إسرائيل إلا بقرة واحدة تنطبق عليها هذه المواصفات فقالوا {الآن جِئْتَ بالحق} كأن ما قاله موسى قبل ذلك كان خارجا عن نطاق الحق. وذبحوا البقرة ولكن عن كره منهم.. لأنهم كانوا حريصين على ألا يذبحوها، حرصهم على عدم تنفيذ المنهج. هم يريدون أن يماطلوا الله سبحانه وتعالى.. والله يقول لنا أن سمة المؤمنين أن يسارعوا إلى تنفيذ تكاليفه..

واقرأ قوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وهذه السرعة من المؤمنين في تنفيذ التكاليف.. دليل على عشق التكليف.. لأنك تسارع لتفعل ما يطلبه منك من تحبه.. وقوله تعالى: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}.. يدلنا على أنهم حاولوا الإبطاء في التنفيذ والتلكؤ.

إننا لابد أن نلتفت إلى أن تباطؤ بني إسرائيل في التنفيذ خدم قضية إيمانية أخرى.. فالبقرة التي طلبها الله منهم بسبب عدم قيامهم بتنفيذ الأمر فور صدوره لهم بقرة نادرة لا تتكرر.. والمواصفات التي أعطيت لهم في النهاية.. لم تكن تنطبق إلا على بقرة واحدة ليتحكم صاحبها في ثمنها ويبيعها بأغلى الأسعار.


والقصة
أنه كان هناك في بني إسرائيل رجل صالح.. يتحرى الحلال في الرزق والصدق في القول والإيمان الحقيقي بالله. وعندما حضرته الوفاة كان عنده عجلة وكان له زوجة وابنهما الصغير.. ماذا يفعل وهو لا يملك سوى العجلة. اتجه إلى الله وقال: اللهم إني استودعك هذه العجلة لولدي، ثم أطلقها في المراعي.

لم يوصِّ عليها أحداً ولكن استودعها الله. استودعها يد الله الأمينة على كل شيء.. ثم قال لامرأته إني لا أملك إلا هذه العجلة ولا آمن عليها إلا الله.. ولقد أطلقتها في المراعي.

وعندما كبر الولد قالت له أمه: إن أباك قد ترك لك وديعة عند الله وهي عجلة.. فقال يا أمي وأين أجدها؟.. قالت كن كأبيك هو توكل واستودع، وأنت توكل واسترد.. فقال الولد: اللهم رب إبراهيم ورب موسى.. رد إلي ما استودعه أبي عندك.. فإذا بالعجلة تأتي إليه وقد أصبحت بقرة فأخذها ليريها لأمه.. وبينما هو سائر رآه بنو إسرائيل. فقالوا إن هذه البقرة هي التي طلبها الرب.. وذهبوا إلى صاحب البقرة وطلبوا شراءها فقال بكم.. قالوا بثلاثة دنانير.. فذهب ليستشير أمه فخافوا أن ترفض وعرضوا عليه ستة دنانير.. قالت أمه لا.. لا تباع.. فقال الابن لن أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا، فدفعوا له ما أراد.. وهكذا نجد صلاح الأب يجعل الله حفيظا على أولاده يرعاهم وييسر لهم أمورهم.




المصدر
نداء الايمان



تفسير الشعراوي للآية 71 من سورة البقرة
 


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

منتديات سبيستون

 

 

.تفسير الآية رقم (72):

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}

 

قصة القتيل

هي أن رجلا ثريا من بني إسرائيل لم يكن له ولد يرثه.. وكان له أقارب كل منهم يريد أن يستأثر بأموال هذا الرجل.. والمال والذهب هما حياة بني إسرائيل.. فتآمر على هذا الرجل الثري ابن أخيه فقتله ليرثه ويستولي على أمواله.. ولكنه أراد أن يبعد التهمة عن نفسه فحمل الجثة وألقاها على باب قرية مجاورة ليتهم أهلها بقتل الثري.. وفي الصباح قام أهل القرية ووجدوا جثة الثري أمام قريتهم.. ووجدوه غريبا عن القرية فسألوا من هو؟ حتى وصلوا إلى ابن أخيه.. فتجمع أهل القتيل واتهموهم بقتله.. وكان أشدهم تحمسا في الاتهام القاتل ابن أخيه.
 

وقوله تعالى:

{فادارأتم فِيهَا}

الدرأ هو الشيء حين يجئ إليك وكل واحد ينفيه عن نفسه.. إدارأتم أي أن كلا منكم يريد أن يدفع الجريمة عن نفسه فكل واحد يقول لست أنا.
وليس من الضروري أن يتهم أحد آخر غيره.. المهم أن يدفعها عن نفسه.
ولقد حاول أهل القريتين.. قرية القتيل، والقرية التي وجدت أمامها الجثة. أن يدفع كل منهما شبهة الجريمة عن نفسه وربما يتهم بها الآخر.. ولم يكن هناك دليل دامغ يرجح اتهاما محددا. بل كانت الأدلة ضائعة ولذلك استحال توجيه اتهام لشخص دون آخر أو لقرية دون أخرى.

 

وكان التشريع في ذلك الوقت ينص على أنه إذا وجد قتيل على باب قرية ولم يستدل على قاتله.. فإن قرية القتيل وأهله يأخذون خمسين رجلا من أعيان القرية التي وجدت بجوارها الجثة.. فيلقوا اليمين بأنهم ما قتلوه.. ولا علموا قاتله.. وإذا كان الأعيان والأكابر أقل من خمسين رجلا.. تكررت الأيْمان حتى تصير خمسين يمينا.. فيحلفون أنهم ما قتلوه ولا يعرفون قاتله.. عندما يتحمل بيت المال دية القتيل.
 

ولكن الله كان يريد شيئا آخر.. يريد أن يرد بهذه الجريمة على جحود بني إسرائيل باليوم الآخر.. ويجعل الميت يقف أمامهم وينطق اسم قاتله.. ويجعلهم يرون البعث وهم أحياء..

ولذلك قال سبحانه وتعالى:

{والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}..

أي أن بني إسرائيل أو أولئك الذين ارتكبوا الجريمة دبروها على أن تبقى في طي الكتمان فلا يعلم أحد عنها شيئا.. ولذلك جاء الشاب وقتل عمه دون أن يراه أحد.. ثم حمل الجثة خفية في ظلام الليل وخرج بها فلم يلتفت أحد إليه.. ثم ذهب إلى قرية مجاورة وألقى بالجثة على باب القرية وأهلها نائمون وانصرف عائدا.
كانت كل هذه الخطوات في رأيه ستجعل الجريمة غامضة لا تنكشف أبدا ولا يعرف سرها أحد. ولكن الله تبارك وتعالى أراد غير ذلك.. أراد أن يكشف الجريمة بطريقة لا تحتمل الجدل، وفي نفس الوقت يرد على جحود بني إسرائيل للبعث.. بأن يريهم البعث وهم أحياء.



تفسير الشعراوي للآية 72 من سورة البقرة | مصراوى

 

تفسير الآية رقم (73):

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}


احتدم الخلاف بين بني إسرائيل وكادت تحدث فتنة كبيرة.. فقرروا أن يلجأوا إلى موسى عليه السلام ليطلب من الله تبارك وتعالى أن يكشف لهم لغز هذه الجريمة ويدلهم على القاتل.. وجاء الأمر من الله سبحانه وتعالى أن اذبحوا البقرة ولو ذبحوا بقرة أية بقرة لانتهت المشكلة.. ولكنهم ظلوا يقولون ما لونها وما شكلها إلى آخر ما رويناه.. حتى وصلوا إلى البقرة التي كان قد استودعها الرجل الصالح عند الله حتى يكبر ابنه فاشتروها وذبحوها.. فأمرهم الله أن يضربوه ببعضها. أي أن يضربوا القتيل بجزء من البقرة المذبوحة بعد أن سال دمها وماتت.
 

وانظر إلى العظمة في القصة.. جزء من ميت يُضرب به ميت فيحيا.. إذن المسألة أعدها الحق بصورة لا تجعلهم يشكون أبدا.. فلو أن الله أحياه بدون أن يضرب بجزء من البقرة. لقالوا لم يكن قد مات، كانت فيه حياه ثم أفاق بعد اغماءة. ولكن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة حتى تموت ليعطيهم درسا إيمانيا بقدرة الله وهم الماديون الذين لا يؤمنون إلا بالماديات.. وأن يأخذوا جزءاً أو أجزاء منها وأن يضربوا به القتيل فيحيا وينطق باسم قاتله ويميته الله بعد ذلك.
يقول الحق جل جلاله.. {كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحيى الله الموتى وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حيا بأسباب الحياة.. ولكن بإرادة مسبب الحياة في أن يقول (كن فيكون).



تفسير الشعراوي للآية 73 من سورة البقرة | مصراوى

 

.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}


لماذا ذكر الحق سبحانه وتعالى القلب ووصفه بأنه يقسو ولم يقل نفوسكم لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف.. وإذا ما جعلنا القلب كثير الذكر لله فإنه يمتلئ رحمة وعطفا.. والقلب هو العضو الذي يحسم مشاكل الحياة.. فإذا كان القلب يعمر باليقين والإيمان.. فكل جارحة تكون فيها خميرة الإيمان.
وحتى نعرف قوة وقدرة وسعة القلب على الإيمان واحتوائه أوضح الله تعالى هذا المعنى في كتابه العزيز حيث يقول: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

 

وهكذا نرى أن الجلود تقشعر من هول الوعيد بالنار.. ومجرد قراءة ما ذكره القرآن عنها.. وبعد ذلك تأتي الرحمة، وفي هذه الحالة لا تلين الجلود فقط ولكن لابد أن تلين القلوب لأنها هي التي تعطي اللمحة الإيمانية لكل جوارح الجسد.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
إذن فالقلب هو منبع اليقين ومصب الإيمان، وكما أن الإيمان في القلب فإن القسوة والكفر في القلب.. فالقلب حينما ينسى ذكر الله يقسو.. لماذا؟.. لأنه يعتقد أنه ليس هناك إلا الحياة الدنيا وإلا المادة فيحاول أن يحصل منها على أقصى ما يستطيع وبأي طريقة فلا تأتي إلا بالظلم والطغيان وأخذ حقوق الضعفاء، ثم لا يفرط فيها أبدا لأنها هي منتهى حياته فلا شيء بعدها.

 

إنه يجد إنساناً يموت أمامه من الجوع ولا يعطيه رغيفا.. وإذا خرج الإيمان من القلب خرجت منه الرحمة وخرج منه كل إيمان الجوارح.. فلمحة الإيمان التي في اليد تخرج فتمتد اليد إلى السرقة والحرام.. ولمحة الإيمان التي في العين تخرج فتنظر العين إلى كل ما حرم الله. ولمحة الإيمان التي في القدم تخرج فلا تمشي القدم إلى المسجد أبدا ولكنها تمشي إلى الخمارة وإلى السرقة.. لأنه كما قلنا القلب مخزن الإيمان في الجسم.
 

ويشبه الحق تبارك وتعالى قسوة قلوبهم فيقول:

{فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}..

الحجارة هي الشيء القاسي الذي تدركه حواسنا ومألوف لنا ومألوف لبني إسرائيل أيضا.. لأن لهم مع الحجارة شوطا كبيرا عندما تاهوا في الصحراء.. وعندما عطشوا وكان موسى يضرب لهم الحجر بعصاه.
الله تبارك وتعالى لفتهم إلى أن المفروض أن تكون قلوبهم لينة ورفيقة حتى ولو كانت في قسوة الحجارة.
ولكن قلوبهم تجاوزت هذه القسوة فلم تصبح في شدة الحجارة وقسوتها بل هي أشد.
ولكن كيف تكون القلوب أشد قسوة من الحجارة.. لا تنظر إلى لينونة مادة القلوب ولكن انظر إلى أدائها لمهمتها.
الجبل قسوته مطلوبة لأن هذه مهمته أن يكون وتداً للأرض صلبا قويا، ولكن هذه القسوة ليست مطلوبة من القلب وليست مهمته.. أما قلوب بني إسرائيل فهي أشد قسوة من الجبل.. والمطلوب في القلوب اللين، وفي الحجارة القسوة.. فكل صفة مخلوقة لمخلوق ومطلوبة لمهمة.. فالخطاف مثلا أعوج.. هذا العوج يجعله يؤدي مهمته على الوجه الأكمل.. فعوج الخطاف استقامة لمهمته.. وحين تفسد القلوب وتخرج عن مهمتها تكون أقسى من الحجارة.. وتكون على العكس تماما من مهمتها.

 

ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {

وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} [البقرة: 74].

هنا يذكرهم الله لما رأوه من الرحمة الموجودة في الحجارة.. عندما ضرب موسى الحجر بالعصا فانفجرت منه العيون. وذلك مثل حسي شهدوه. يقول لهم الحق جل جلاله: أن الرحمة تصيب الحجارة فيتفجر منها الأنهار ويخرج منها الماء ويقول سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله}.
إذن فالحجارة يصيبها اللين والرحمة فيخرج منها الماء. ولكن قلوبكم إذا قست لا يصيبها لين ولا رحمة فلا تلين أبدا ولا تخشع أبدا. والله سبحانه وتعالى نزل عليكم التوراة وأعطاكم من فضله ورحمته وستره ومغفرته الكثير.. كان المفروض أن تلين قلوبكم لذكر الله.

 

ولكن ما الفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وبين تشققها ليخرج منها الماء؟

عندما تتفجر الحجارة يخرج منها الماء. نحن نذهب إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا.. ولكن عندما تتفجر منها الأنهار فالماء هو الذي يأتي إلينا ونحن في أماكننا.. وفرق بين عطاء تذهب إليه وعطاء يأتي إليك.. أما هبوط الحجر من خشية الله فذلك حدث عندما تجلى الله للجبل فجعله دكا.

واقرأ قوله تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143].

يذكرهم الحق سبحانه كيف أن الجبل حين تجلى الله له هبط وانهار من خشية الله. وهكذا لا يعطيهم الأمثلة مما وقع لغيرهم، ولكن يعطيهم الأمثلة مما وقع لهم.

 

وقوله تعالى:

{وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

أي تذكروا أن الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء وأن كل ما تعملونه يعرفه وأنكم ملاقونه يوم القيامة ومحتاجون إلى رحمته ومغفرته، فلا تجعلوا قلوبكم تقسو حتى لا يطردكم الله من رحمته كما خلت قلوبكم من ذكره.

تفسير الشعراوي للآية 74 من سورة البقرة | مصراوى


تفسير الآية رقم (75):


{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}


يعطينا الحق تبارك وتعالى هنا الحكمة.. فيما رواه لنا عن بني إسرائيل وعن قصصهم. لأنهم سيكون لهم دور مع المسلمين في المدينة، ثم في بيت المقدس، ثم في المسجد الأقصى.. فهو يروي لنا كيف أتعبوا نبيهم وكيف عصوا ربهم. وكيف قابلوا النعمة بالمعصية والرحمة بالجحود. وإذا كان هذا موقفهم يا محمد مع الله ومع نبيهم.. فلا تطمع أن يؤمنوا لك ولا أن يدخلوا في الإسلام، مع أنهم عندهم التوراة تدعوهم إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام.


هذه الآيات تحمل أعظم تعزية للرسول الكريم. وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه عليه البلاغ فقط؛ ولكن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمن كل أهل الأرض يهود ونصارى وكفاراً، ليس معناه أنه لم يفهم مهمته، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه، بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله في الأرض.. فيطمئنه الله ويقول له لا تعتقد أنهم سيؤمنون لك. وليس معنى عدم إيمانهم أنك لست صادقا.. فتكذيبهم لك لا ينبغي أن يؤثر فيك.. فلا تطمع يا محمد أن يؤمنوا لك.
 

ما هو الطمع؟..

الطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوبا لها.. والأصل في الإنسان العاقل ألا يطمع إلا في حقه.. والإنسان أحيانا يريد أن يرفه حياته ويعيش مترفا ولكن بحركة حياته كما هي. نقول له إذا أردت أن تتوسع في ترفك فلابد أن تتوسع في حركة حياتك؛ لأنك لو أترفت معتمدا على حركة حياة غيرك فسيفسد ميزان حركة الحياة في الأرض، أي إن كنت تريد أن تعيش حياة متزنة فعش على قدر حركة حياتك؛ لأنك إن فعلت غير ذلك تسرق وترتش وتفسد. فإن كان عندك طمع فليكن فيما تقدر عليه.

إذن فكلمة

(افتطمعون)

هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. هؤلاء اليهود هل نقدر على أن نجعلهم يؤمنون؟ يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.. هذا أمر زائد على ما كلفت به.. لأن عليك البلاغ، وحتى لو كان محببا إلى نفسك.. فإن مقدماتهم مع الله لا تعطيك الأمل في أنك ستصل إلى النتيجة التي ترجوها.
وهذه الآية فيها تسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما سيلاقيه مع اليهود. وتعطيه الشحنة الإيمانية التي تجعله يقابل عدم إيمان هؤلاء بقوة وعزيمة.. لأنه كان يتوقعه فلا يحزن ولا تذهب نفسه حسرات، لأن الله تبارك وتعالى قد وضع في نفسه التوقع لما سيحدث منهم.. فإذا جاء تصرفهم وفق ما سيحدث.
يكون ذلك أمرا محتملا من النفس.

والحق سبحانه وتعالى يقول:

{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله}

انظر إلى الأمانة والدقة.. فريق منهم ليس كلهم.. هذا هو ما استنبط منه العالم نظرية صيانة الاحتمال.. وهي عدم التعميم بحيث تقول أنهم جميعا كذا. لابد أن تضع احتمالا في أن شخصا ما سيؤمن أو سيشذ أو سيخالف.. هنا فريق من أهل الكتاب عرفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل.. وعندما بعث آمنوا به، وهؤلاء لم يحرفوا كلام الله. لو أن القرآن جاء بالحكم عاما لتغيرت نظرة الكافرين للإسلام.. ولقالوا لقد قال عنا هذا الدين أننا حرفنا كتاب الله ولكننا لم نحرفه ونحن ننتظر رسوله.. فكأن هذا الحكم غير دقيق.. ولابد أن شيئا ما خطأ.. لأن الله الذي نزل هذا القرآن لا يخفي عليه شيء ويعرف ما في قلوبنا جميعا.. ولكن لأن الآية الكريمة تقول أن فريقا منهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه.. الكلام بلا تعميم ومنطبق بدقة على كل حال.
 

والحق جل جلاله يقول:

{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

هذه معصية مركبة سمعوا كلام الله وعقلوه وعرفوا العقوبة على المعصية ثم بعد ذلك حرفوه.. لقد قرأوه في التوراة وقرأوا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنهم يعرفونه كأبنائهم.. ثم حرفوا كلام الله وهم يعلمون.. ومعنى التحريف تغيير معنى الكلمة.. كانوا يقولون السَّأم عليكم بدلا من السلام عليكم.. ولم يتوقف الأمر عند التحريف بل تعداه إلى أن جاءوا بكلام من عندهم وقالوا أنه من التوراة.

 

تفسير الشعراوي للآية 75 من سورة البقرة | مصراوى

المصدر

نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

فواصل لتزيين المواضيع¨.·)¸.·*) - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

 

.تفسير الآية رقم (76):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}

 

هذه صور من صور نفاق اليهود.

والناس مقسمون إلى ثلاث:

مؤمنون وكافرون ومنافقون..

المؤمن انسجم مع نفسه ومع الكون الذي يعيش فيه..

والكافر انسجم مع نفسه ولم ينسجم مع الكون، والكون يلعنه..

والمنافق لا انسجم مع نفسه ولا انسجم مع الكون،

 

والآية تعطينا صورة من صور النفاق وكيف لا ينسجم المنافق مع نفسه ولا مع الكون.. فهو يقول ما لا يؤمن به.. وفي داخل نفسه يؤمن بما لا يقول. والكون كله يلعنه، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار. وهذه الآية تتشابه مع آية تحدثنا عنها في أول هذه السورة.. وهي قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
 

في الآية الأولى كان الدور لليهود، وكان هناك منافقون من غير اليهود وشياطينهم من اليهود.. وهنا الدور من اليهود والمنافقين من اليهود. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} وهل الإيمان كلام؟.. الإيمان يقين في القلب وليس كلاما باللسان.. والاستدلال على الإيمان بالسلوك فلا يوجد إنسان يسلك سبيل المؤمنين نفاقا أو رياء.. يقول آمنت نفاقا ولكن سلوكه لا يكون سلوك المؤمن.. ولذلك كان سلوكهم هو الذي يفضحهم. يقول تعالى: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ}.. وفي سورة أخرى يقول الحق: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119].

وفي سورة المائدة يقول سبحانه: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61].

 

هنا أربع صور من صور المنافقين.. كلها فيها التظاهر بإيمان كاذب..

في الآية الأولى {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ}

وفي الآية الثانية: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ}.

وفي الآية الثالثة: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ}.

وفي الآية الرابعة: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ}.
 

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعث كان اليهود يقولون للمؤمنين هذا هو نبيكم موجود عندنا في التوراة أوصافه كذا.. حينئذ كان أحبار اليهود ينهونهم عن ذلك ويقولون لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} فكأنهم علموا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم أرادوا أن يخفوها.. إن الغريب أنهم يقولون: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ}. وإذا كان هذا فتحا من الله فلا فضل لهم فيه.. ولو أراد الله لهم الفتح لآمنت القلوب.
قوله تعالى: {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يدل على أن اليهود المنافقين والكفار وكل خلق الأرض يعلمون أنهم من خلق الله، وأن الله هو الذي خلقهم.

وماداموا يعلمون ذلك فلماذا يكفرون بخالقهم؟

{لِيُحَآجُّوكُم بِهِ} أي لتكون حجتهم عليكم قوية عند الله.. ولكنهم لم يقولوا عند الله بل قالوا {عِنْدَ رَبِّكُمْ} والمحاجة معناها أن يلتقي فريقان لكل منهما وجهة نظر مختلفة. وتقام بينهما مناظرة يدلي فيها كل فريق بحجته. واقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك} [البقرة: 258].
هذه هي المناظرة التي حدثت بين إبراهيم عليه السلام والنمرود الذي آتاه الله الملك.. ماذا قال إبراهيم؟

{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258].
هذه كانت حجة إبراهيم في الدعوة إلى الله، فرد عليه النمرود بحجة مزيفة. قال أنا أحيي وأميت.. ثم جاء بواحد من جنوده وقال لحراسه اقتلوه.. فلما اتجهوا إليه قال اتركوه.. ثم التفت إلى إبراهيم: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].

جدل عقيم لأن هذا الذي أمر النمرود بقتله. كان حيا وحياته من الله.. والنمرود حين قال اقتلوه لم يمته ولكن أمر بقتله..

فرق بين الموت والقتل..

القتل أن تهدم بنية الجسد فتخرج الروح منه لأنه لا يصلح لإقامتها..

والموت أن تخرج الروح من الجسد والبنية سليمة لم تهدم..

الذي يميت هو الله وحده، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
والنمرود لو قتل هذا الرجل ما كان يستطيع أن يعيده إلى الحياة.. ولكن إبراهيم عليه السلام.. لم يكن يريد أن يدخل في مثل هذا الجدل العقيم.. الذي فيه مقارعة الحجة. بالحجة يمكن فيه الجدال ولو زيفا.. ولذلك جاء بالحجة البالغة التي لا يستطيع النمرود أن يجادل فيها: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258].

 

هذا هو معنى الحاجّة.. كل طرف يأتي بحجته، وما داموا يحاجونكم عند ربكم وهم يعتقدون أن القضية لن تمر أمام الله بسلام لأنه رب الجميع وسينصف المظلوم من الظالم.. إذا كانت هذه هي الحقيقة فهل أنتم تعملون لمصلحة أنفسكم؟ الجواب لا.. لو كنتم تعلمون الصواب ما كنتم وقعتم في هذا الخطأ فهذا ليس فتحا.
وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ختام منطقي للآية.. لأن من يتصرف تصرفهم ويقول كلامهم لا يكون عنده عقل.. الذي يقول {لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يكون مؤمنا بأن له ربا، ثم لا يؤمن بهذا الإله ولا يخافه لا يمكن أن يتصف بالعقل.



تفسير الشعراوي للآية 76 من سورة البقرة | مصراوى


تفسير الآية رقم (77):

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}

يبين الله لنا بأنه يعلم أمرهم وما يفعلون. لقد ظنوا أن الله غافل عندما خلا بعضهم إلى بعض وقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.. الله علم وسمع.. وعندما يلاقي المنافقون المؤمنين ويقولون آمنا.. {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} هذا انفعال حركي ليس فيه كلام يقال ولكن فيه واقع يرى.. ومع ذلك فهو ليس سرا.

ما هو السر وما هو العلن؟..

الأمر المعلن هو الذي يخرج منك إلى من عنده آلة السماع ليسمعك.. والأمر المعلن يخرج منك إلى من عنده آلة الرؤية ليراك.. فإن كان حركة بلا صوت فهذا عدته العين.. وإن كان بصوت فعدته الأذن.. هذه وسائل الإدراك الأصلية.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ألم يكن أولى أن يقول سبحانه يعلم ما يعلنون وما يسرون.. وإذا كان يعلم ما نسر أفلا يعلم ما نعلن؟.. لاشك أنه يعلم.. ولكنها دقة في البلاغة القرآنية؛ ذلك أن المتكلم هو الله سبحانه.
ونحن نعلم أن الله غيب.. وغيب يعني مستور عن حواسنا.. ومادام الله غيبا فهو يعلم الغيب المستور.. ربما كان العلن الظاهر له قوانين أخرى.. فمثلا إذا كان هناك شخص في المنزل، ثم يقول: أنا اعلم ما في المنزل وما هو خارج المنزل.. لو قال أنا اعلم ما في المنزل لقلنا له أنت داخله فلا غرابة في ذلك.. ولكنك مستور عما في الخارج فكيف تعلمه؟
ومادام الله غيباً فقوله ما يسرون أقرب لغيبه. وما يعلنون هي التي تحتاج وقفة. لا تظنوا أن الله تبارك وتعالى لأنه غيب لا يعلم إلا ما هو مستور وخفي فقط.. لا.. إنه يعلم المشهود والغائب.. إذن فالمناسب لأن الله غيب عن أبصارنا وكوننا لا ندركه أن يقول ما يسرون أولا.


ما معنى ما يسرون؟..

السر هو ما لم تهمس به إلى غيرك.. لأن همسك للغير بالشيء لم يعد سرا.. ولكن السر هو ما تسره في نفسك ولا تهمس به لأحد من الناس.. وإذا كان السر هو ما تسره في نفسك، فالعلن هو ما تجاهر به. ويكون علنا مادام قد علمه اثنان.. والعلن عند الناس واضح والسر عندهم خفي.. والله سبحانه وتعالى حين يخبرنا أنه غيب.. فليس معنى ذلك أنه لا يعلم إلا غيباً. إنه يعلم السر والعلن.. والله جل جلاله يقول في القرآن الكريم: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] فإذا كان السر هو ما تخفيه في نفسك وله واقع داخلك.. ما هو أخفى: هو أن الله يعلم أنك ستفعله قبل أن تفعله. ويعلم أنه سيحدث منك قبل أن يحدث منك.

تفسير الشعراوي للآية 77 من سورة البقرة | مصراوى

.

تفسير الآية رقم (78):

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
الله سبحانه وتعالى لازال يتحدث عن أهل الكتاب.. فبعد أن بين لنا الذين يقول: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.. انتقل سبحانه وتعالى إلى طائفة أخرى وهم من أسماهم بالأميين.. وأصح قول في الأمي هو أنه كما ولدته أمه. أي لم يعلم شيئاً من ثقافة وعلم في الوجود منذ لحظة نزوله من بطن أمه. ولذلك فإن الأمي على إطلاقه هو الذي لا يكتسب شيئاً من ثقافة الوجود حوله، بصرف النظر عن أن يقال كما ولدته أمه.. لأن الشائع في المجتمعات أن الذي يعلم هم الخاصة لا العامة.. وعلى أية حال فالمعاني كلها ملتقية في تعريف الأمي.

 

قوله تعالى:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}..

تلاحظ أن هناك معسكرات من الأميين واجهت الدعوة الإسلامية.. فالمعسكر الأول كان المشركين في مكة، والمعسكر الثاني كان أهل الكتاب في المدينة. وأهل الكتاب تطلق على أتباع موسى وأتباع المسيح.. ولكن في الجزيرة العربية كان هناك عدد لا يذكر من النصارى.. وكان هناك مجتمع. والمقصود من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} هم اليهود الذين كان لهم مجتمع في المدينة.. ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}.. معنى هذا أنه لابد أن يكون هناك منهم غير أميين.. وهؤلاء هم الذين سيأتي قول الله تعالى عنهم في الآية التالية: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79].

هنا قسّم الله تبارك وتعالى اليهود إلى أقسام..

منهم قسم أُمِّي لا يعرفون الكتاب وما يقوله لهم أحبارهم هو الذي يعرفونه فقط.. وهؤلاء ربما لو كانوا يعلمون ما في التوراة.. من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا به.. والكتاب هنا يقصد به التوراة.. والله سبحانه وتعالى لم ينف عنهم مطلق العلم.. ولكنه نفى خصوصية العلم، لأنه قال لا يعلمون إلا أماني.. فكأن الأماني يعلمونها من الكتاب.

ولكن ما الأماني؟..

إنها تطلق مرة بدون تشديد الياء ومرة بتشديد الياء.. فإن كانت التخفيف تكون جمع أمنية.. وإن كانت بالتشديد تكون جمع أمنية بالتشديد على الياء.. الأمنية تجدها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
هذه بالنسبة للجمع. أما بالنسبة للمفرد.. في قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52].

ما هي الأمنية؟.. الأمنية هي الشيء الذي يحب الإنسان أن يحدث ولكن حدوثه مستحيل.. إذن لن يحدث ولن يكون له وجود.
ولذلك قالوا إن من معاني التمني اختلاق الأشياء.. الشاعر الذي قال:
أَلا لَيْتَ الشَّبابَ يعودُ يوماً ** فَأُخْبِرُهُ بما فَعَلَ المَشِيبُ

هل الشباب يمكن أن يعود؟.. طبعاً مستحيل.. هذا شيء لن يحدث.. والشاعر الذي قال:
لَيْتَ الكواكبَ تَدْنُو لِي فَأَنْظمَهَا ** عُقُودَ مَدْحٍ فَما أَرْضَى لَكُمْ كَلِمِ

هل النجوم ستنزل من السماء وتأتي إلى هذا الشاعر.. ينظمها أبيات شعر إلى حبيبته.. إذن من معاني التمني الكذب والاختلاق. ولقد فسر بعض المستشرقين قول الله تبارك وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى} (أي قرأ): {أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} (أي في قراءته).. وطبعا الشيطان لن يلقي في قراءة الرسول إلا كذبا وإفتراء وكفرا.. إقرأ قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 19-22].

 

قال أعداء الإسلام مادام قد ذكر في القرآن أسماء الغرانيق.. وهي الأصنام التي كان يعبدها الكفار.. ومنها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.. إذن فشفاعة هذه الأصنام ترتجى في الآخرة.. وهذا كلام لا ينسجم مع منطق الدين كله يدعو لعبادة الله وحده.. وخرج المستشرقون من ذلك بأن الدين فعلا يدعو لعبادة الله وحده.. إذن فيكون الشيطان قد ألقى في أمنيته فيما يقوله رسول الله.. ثم أحكم الله سبحانه آياته فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم ما أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23].


هم يريدون بذلك أن يشككوا.. في أنه من الممكن أن يلقي الشيطان بعض أفكاره في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكن الله سبحانه ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته.
إن الله جل جلاله لم يترك وحيه لعبث الشيطان.. ولذلك سنبحث الآية بعيداً عن كل ما قيل.. نقول لو أنك تنبهت إلى قول الله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى} لو قلنا تمنى بمعنى قرأ، ثم أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته.. إذن هو سبحانه لن يترك رسوله يخطئ.. وبذلك ضمنا أن كل ما ينتهي إليه الرسول صواب.. وأن كل ما وصلنا عن الرسول محكم.. فنطمئن إلى أنه ليس هناك شيء يمكن أن يلقيه الشيطان في تمني الرسول ويصلنا دون أن ينسخ.

 

فإذا قلنا: إن الله ينسخ ما يلقي الشيطان فما الذي جعلكم تعرفون ما ألقاه الشيطان مادام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لكم إلا المحكم.. ثم من هو الرسول؟ بَشَرٌ أُوحِيَ إليه بمنهج من السماء وأمر بتبليغه.. ومن هو النبي؟.. بشر أوحي إليه بمنهج.
ولم يؤمر بتبليغه.. ومادام لم يؤمر بتبليغه يكون خاصا بهذا النبي.. ويكون النبي قدوة سلوكية.. لأنه يطبق منهج الرسول الذي قبله فهو لم يأت بجديد.

 

الآية الكريمة جاءت بكلمتي رسول أو نبي.. إذا كان معنى أمنية الشيطان مستقيما بالنسبة للرسول فهو غير مستقيم بالنسبة للنبي.. لأن النبي لا يقرأ شيئاً، ومادام النبي ذكر في الآية الكريمة فلابد أن يكون للتمني معنى آخر غير القراءة.. لأن النبي لم يأت بكلام يقرؤه على الناس.. فكأنه سيقرأ كلاما محكما ليس فيه أمنية الشيطان أي قراءته.
إن التمني لا يأتي بمعنى قراءة الشيطان.. وأمنية الرسول والنبي أن ينجحا في مهمتهما.. فالرسول كمبلغ لمنهج الله، النبي كأسوة سلوكية.. المعنى هنا يختلف.. الرسول أمنيته أن يبلغ منهج الله.. والشيطان يحاول أن ينزع المنهج من قلوب الناس.. هذا هو المعنى.. والله سبحانه وتعالى حين يحكم آياته ينصر الإيمان ليسود منهج الله في الأرض وتنتظم حركة الناس.. هذا هو المعنى.

 

وكلمة تمني في هذه الآية الكريمة بمعنى أن الرسول أو النبي يحب أن يسود منهجه الأرض.. والشيطان يلقي العراقيل والله يحكم آياته وينصر الحق. ويجب أن نفهم الآية على هذا المعنى.. وبهذا ينتفي تماما ما يدعيه المستشرقون من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرأ ما يوحى إليه يستطيع الشيطان أن يتدخل ويضع كلاما في الوحي.. مستحيل.
 

وقوله تعالى:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ}..

معناها أنه يأتي قوم لا يعرفون شيئاً عن الكتاب إلا ظنا.. فيصدقهم هؤلاء الأميون دون علم.. وكان الله سبحانه يريد أن يلفتنا إلى أن كثيرا من المذاهب الدينية في الأرض ينشأ عن المبلغين لها.. فهناك أناس يأتمنون آخرين ليقولوا لهم ما إنتهت إليه الأحكام الدينية.. فيأتي الأمي أو غير المثقف يسأل عالما عن حكم من الأحكام الشرعية.. ثم يأخذ منه الحكم ويطبقه دون أن يناقشه.. لأن علمه قد إنتهى عند السؤال عن الفتوى..

والحق سبحانه وتعالى كما يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164].
أي لا يحمل أحد ذنب أحد يوم القيامة.. فيقول تعالى:
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].

بعض الناس يظن أن الآيتين بينهما تعارض..

نقول لا..

ومن يرتكب إثما يحاسب عليه.. ومن يضل غيره بفتوى غير صحيحة يحل له بها ما حرم الله.. فإنه يحمل معاصيه ومعاصي من أضل.. فيكون له وزر لأنه ضل، ووزر لأنه أضل غيره.. بل وأكثر من ذلك.. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
ولابد أن نتنبه إلى خطورة الفتوى في الدين بغير علم.. الفتوى في الدنيا أقصى ما يمكن أن تؤدي إليه هو أن تجعلك تخسر صفقة.. لكن الفتوى في الدين ستدوم عمرا طويلا.


الحق تبارك وتعالى يقول:

{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}..

والظن كما قلنا هو نسبة راجحة ولكن غير مؤكدة.. وإذا كان التمني كما ورد في اللغة هو القراءة.. فهؤلاء الأمِّيون لا يعلمون الكتاب إلا قراءة لسان بلا فهم.. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5].
وهكذا نرى أن هناك صنفا يحمل التوراة وهو لا يعرف عنها شيئا.. والله جل جلاله قال إن مثله كالحمار.. ولكن أقل من الحمار، لأن الحمار مهمته أن يحمل الأثقال.. ولكن الإنسان ليست مهمته أن يحمل ما يجهل.. ولكن لابد أن يقرأ الكتاب ويعلم المطلوب منه.

المصدر : نداء الايمان

تفسير الشعراوي للآية 78 من سورة البقرة | مصراوى


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

Shirley: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته متحركة

 

.تفسير الآية رقم (79):


{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}


هذه الآية الكريمة جاءت في القسم الثاني من اليهود وهو المقابل للأميين..
وهم إما أميون لا يعلمون الكتاب..
وإما يعلمون ولكنهم يغيرون فيه ويكتبونه بأيديهم ويقولون هذا من عند الله.
ولذلك توعدهم الله تبارك وتعالى فقال: ويل لهم،

وبدأ الآية بالوعيد بالجزاء مباشرة. نلاحظ أن كلمة ويل في اللغة تستعمل معها كلمتي ويح وويس.. وكلها تعني الهلاك والعذاب.. وتستعمل للتحسر على غفلة الإنسان عن العذاب.. واقرأ قوله تعالى: {ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].



وقوله جل جلاله: {ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} [الأنبياء: 97].
هذه الويلات تعني الحسرة وقت رؤية العذاب..
وقيل إن الويل وَادٍ في جهنم يهوي الإنسان فيه أربعين خريفا والعياذ بالله..

والحق تبارك وتعالى ينذر الذين يكتبون الكتاب بأيديهم أن عذابهم يوم القيامة سيكون مضاعفا.. لأن كل من ارتكب إثما نتيجة لتزييفهم للكتاب سيكونون شركاء وسيحملون عذابهم معهم يوم القيامة، وسيكون عذابهم مضاعفا أضعافا كثيرة.



يقول الحق سبحانه وتعالى: 

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ}..
ألم يكن يكفي أن يقول الحق فويل للذين يكتبون الكتاب ويكون المعنى مفهوما..
يكتبون الكتاب بماذا؟
بأيديهم..
نقول لا..
لأن الفعل قد يتم بالأمر وقد يتم بالفعل..


رئيس الدولة مثلا يتصل بأحد وزرائه ويقول له ألم أكتب إليك كتابا بكذا فلماذا لم تنفذه؟ هو لم يكتب هذا الكتاب بيده ولكنهم كتبوه بأمره، ورؤساء الدول نادرا ما يكتبون كتبا بأيديهم.
إن الله سبحانه وتعالى يريد هنا أن يبين لنا مدى تعمد هؤلاء للإثم.. فهم لا يكتفون مثلا بأن يقولوا لغيرهم إكتبوا.. ولكن لاهتمامهم بتزييف كلام الله سبحانه وتزويره يقومون بذلك بأيديهم ليتأكدوا بأن الأمر قد تم كما يريدون تماما.. فليس المسألة نزوة عابرة.. ولكنها مع سبق الإصرار والترصد.. وهم يريدون بذلك أن يشتروا ثمنا قليلا، هو المال أو ما يسمى بالسلطة الزمنية.. يحكمون ويكون لهم نفوذ وسلطان.



ولقد كان أهل الكتاب في الماضي إذا اختلفوا في شيء.. ذهبوا إلى الكهان والرهبان وغيرهم ليقضوا بينهم.. لماذا؟
لأن الناس حين يختلفون يريدون أن يستتروا وراء ما يحفظ كبرياءهم إن كانوا مخطئين.. يعني لا أنهزم أمامه ولا ينهزم أمامي.. وإنما يقولون ارتضينا حكم فلان.. فإذا كنا سنلجأ إلى تشريع السماء ليحكم بيننا.. لا يكون هناك غالب ومغلوب أو منهزم ومنتصر.. ذلك حين أخضع أنا وأنت لحكم الله يكون كل منا راضيا بنتيجة هذا الحكم.
ولكن رجال الدين اليهودي والمسيحي أخذوا يصدرون فتاوى متناقضة.
كل منهم حسب مصلحته وهواه.. ولذلك تضاربت الأحكام في القضايا المتشابهة.. لأنه لم يعد الحكم بالعدل.. بل أصبح الحكم خاضعا لأهواء ومصالح وقضايا البشر.. وحين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله.. إنما يريدون أن يخلعوا على المكتوب قداسة تجعل الإنسان يأخذه بلا مناقشة.. وبذلك يكونون هم المشرعين باسم الله، ويكتبون ما يريدون ويسجلونه كتابه، وحين أحس أهل الكتاب بتضارب حكم الدين بما أضافه الرهبان والأحبار، بدأوا يطلبون تحرير الحكم من سلطة الكنيسة.



ولكن لماذا يكتب هؤلاء الناس الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله؟!..
الحق سبحانه وتعالى يقول: 
{لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً}..
وقد قلنا إن الإنسان لا يشتري الثمن.. ولكن يدفع الثمن ويشتري السلعة.. ولكنك هنا تدفع لتأخذ ثمنا.. تدفع من منهج الله وحكم الله فتغيره وتبدله لتأخذ ثمنا موقوتا.. والله سبحانه وتعالى يعطيك في الآخرة الكثير ولكنك تبيعه بالقليل.. وكل ثمن مهما بلغ تأخذه مقابل منهج الله يعتبر ثمنا قليلا.
والحق سبحانه وتعالى: يقول {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}..

الآية الكريمة بدأت بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ}..
ثم جاء قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}..
فساعة الكتابة لها ويل وعذاب..
وساعة بيع الصفقة لها ويل وعذاب..
والذي يكسبونه هو ويل وعذاب.


لقد انتشرت هذه المسألة في كتابة صكوك الغفران التي كانت تباع في الكنائس لمن يدفع أكثر.
والحق سبحانه وتعالى يقول:

 {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}..
وكلمة كسب تدل على عمل من أعمال جوارحك يجلب لك خيرا أو نفعا
وهناك كسب وهناك اكتسب..
كسب تأتي بالشيء النافع، واكتسب تأتي بالشيء الضار..
ولكن في هذه الآية الكريمة الحق سبحانه وتعالى قال: {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}..
وفي آية ثانية قال: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً}.

فلماذا تم هذا الإستخدام؟


نقول إن هذا ليس كسبا طبيعيا، إنما هو افتعال في الكسب.. أي اكتساب.. ولابد أن نفهم إنه بالنسبة لجوارح الإنسان.. فإن هناك القول والفعل والعمل.. بعض الناس يعتقد إن هناك القول والعمل.. نقول لا.. هناك قول هو عمل اللسان.. وفعل هو عمل الجوارح الأخرى غير اللسان.. وعمل وهو أن يوافق القول الفعل.. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].


إذن هناك قول وفعل وعمل..

والإنسان إذا استخدم جوارحه استخداما سليما بفعل ما هو صالح له.. فإذا انتقل إلى ما هو غير صالح إلى ما يغضب الله فإن جوارحه لا تفعل ولكنها تفتعل.
تتصادم ملكاتها بعضها مع بعض والإنسان وهو يفتح الخزانة ليأخذ من ماله يكون مطمئنا لا يخاف شيئا.. والإنسان حين يفتح خزانة غيره يكون مضطربا وتصرفاته كلها افتعال..
والإنسان مع زوجته منسجم في هيئة طبيعية، بعكس ما يكون في وضع مخالف.. إنها حالة افتعال.. وكل من يكسب شيئا حراما افتعله.. ولذلك يقال عنه اكتسب.. إلا إذا تمرس وأصبح الحرام لا يهزه، أو ممن نقول عنهم معتادو الإجرام.. في هذه الحالة يفعل الشيء بلا افتعال لأنه اعتاد عليه.. هؤلاء الذين وصلوا إلى الحد الذي يكتبون فيه بأيديهم ويقولون من عند الله.. أصبح الإثم لا يهزهم، ولذلك توعدهم الله بالعذاب مرتين في آية واحدة.


تفسير الشعراوي للآية 79 من سورة البقرة | مصراوى





.تفسير الآية رقم (80):




{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}


هنا يكشف الله سبحانه وتعالى فكر هؤلاء الناس.. لقد زين لهم الشيطان الباطل فجعلهم يعتقدون أنهم كسبوا فعلا وأنهم أخذوا المال والجاه الدنيوي وفازوا به.. لأنهم لن يعذبوا في الآخرة إلا عذابا خفيفا قصيرا.. ولذلك يفضح الله تبارك وتعالى ما يقولونه بعضهم مع بعض.. ماذا قالوا؟:
 {وقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.

المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء.. ولكن لا يحس أحدهما بالآخر إلا إحساسا خفيفا لا يكاد يذكر.. فإذا أتيت إلى إنسان ووضعت أَنَا مِلَكَ على يده يقال مسست.. ولكنك لم تستطع بهذا المس أن تحس بحرارة يده أو نعومة جلده.. ولكن اللمس يعطيك إحساسا بما تلمس: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب.. ثم أقل الأقل في الزمن فقالوا أياما معدودة.. الشيء إذا قيل عن معدود فهو قليل.. أما الشيء الذي لا يحصى فهو الكثير.. ولذلك حين يتحدث الله عن نعمه يقول سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18].


فمجرد الإقبال على العد معناه أن الشيء يمكن إحصاؤه.. فإن لم يكن ممكنا لا يُقبل أحد على عده، ولا نرى من حاول عدَّ حبات الرمل أو ذرات الماء في البحار.. نِعَمُ الله سبحانه وتعالى ظاهرة وخفية لا يمكن أن تحصى، ولذلك لا يقبل لا يُقبل أحد على إحصائها.. وإذا سمعت كلمة (أياما معدودة) فأعلم أنها أيام قليلة.. ولذلك نرى في سورة يوسف قول الحق جل جلاله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20].

قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.. دليل على غبائهم لأن مدة المس لا تكون إلا لحظة.. ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم ليأتي الرد من الله في قوله سبحانه: 

{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} 
أي إذا كان ذلك وعداً من الله، فالله لا يخلف وعده.
والله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم لستم أنتم الذين تحكمون وتقررون ماذا سيفعل الله سبحانه وتعالى بكم.. بل هو جل جلاله الذي يحكم.. فإن كان قد أعطاكم عهدا فالله لا يخلف وعده.



وقوله تعالى:
 
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}..
هنا أدب النبوة والخلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فبدلا من أن يقول لهم أتفترون على الله أو أتكذبون على الله.. أو أتختلقون على الله ما لم يقله.. قال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إن الذي يختلق الكلام يعلم أنه مختلق.

إنه أول من يعلم كذب ما يقول، وقد يكون له حجة ويقنع من أمامه فيصدقه، ولكنه يظل يعلم إن ما قاله مختلق رغم أنهم صدقوه.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها».
إذن مختلق الشيء يعرف إن هذا الشيء مختلق. وهؤلاء اليهود هم أول من يعلم إن قولهم.. {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قول مختلق.. ولكن لمن يقولون على الله ما هو افتراء وكذب؟ يقولون للأميين الذين لا يعرفون الكتاب.


تفسير الشعراوي للآية 80 من سورة البقرة | مصراوى




.تفسير الآية رقم (81):


{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}


أراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح كذبهم.. فجاء القرآن قائلا: (بلى) وهي حرف جواب مثل نعم تماما.. ولكن (بلى) حرف جواب في النفي.. يعني ينفي الذي قبله.. هم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ورسول الله سألهم هل اتخذوا عند الله عهدا أو يقولون على الله ما لا يعلمون، فجاء القرآن ليقول: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.. بداية الجواب ببلى تنفي ما قالوا.. لأن بلى تأتي بعد النفي.. ونعم تأتي بعد الإجابة..

فإذا قال إنسان ليس لك عندي شيء وقلت نعم، فمعناها أنه صحيح أنك ليس لك عندي شيء.. أما إذا قلت بلى، فمعنى ذلك أن لك عندي شيئا أو أشياء.. ولذلك بعد قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.. لو جاء بعدها نعم، لكان قولهم صحيحا، ولكن بلى نفت.. وجاء الكلام بعدها مؤكدا النفي: {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هم قالوا لن تمسنا النار.. قال لن تمسكم فقط بل أنتم فيها خالدون.. وقوله تعالى: {أَصْحَابُ النار}.. الصحبة تقتضي نوعا من الملازمة فيها تجاذب المتصاحبين.. ومعنى ذلك أنه سيكون هناك تجاذب بينهم وبين النار.



هنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: 

{بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً}..
وكان السياق يقتضي أن يقال اكتسب.. ولكن لأنهم ظنوا أنهم كسبوا.. كما بينا في الآية السابقة.. وقوله تعالى: 
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته}..
إحاطة بحيث لا يوجد منفذ للإفلات من الخطيئة لأنها محيطة به. وأنسب تفسير لقوله تعالى: {كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته}.. أن المراد الشرك.. لأن الشرك هو الذي يحيط بالإنسان ولا مغفرة فيه.. والله تعالى يقول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]



ولذلك فهؤلاء لم يكونوا عصاة فقط.. ولكنهم كانوا كافرين مشركين. والدليل قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.. وأصحاب الصغائر أو الكبائر الذين يتوبون منها لا يخلدون في النار.. ولكن المشرك بالله والكافر به هم الخالدون في النار.. وكل من لم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كافر.. لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85].

ولذلك قلت هناك فرق بين.. الإنسان الذي يرتكب معصية لأنه لا يقدر على نفسه فيندم ويتوب.. وبين إنسان يفرح بالمعصية.. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء: 17].
وهناك من يندم على المعصية وهذا له توبة.. وهناك من يفرح بالمعصية وهذا يزداد معصية.


تفسير الشعراوي للآية 81 من سورة البقرة | مصراوى




.تفسير الآية رقم (82)




{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}


عندما يذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.. العذاب والنار، يأتي بالمقابل وهو النعيم والجنة.. وذلك أن المقابلة ترينا الفرق.. وتعطي للمؤمن إحساسا بالسعادة.. لأنه زحزح عن عذاب الآخرة، وليس هذا فقط.. بل دخل الجنة ليقيم خالدا في النعيم.. ولذلك يقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].


إذن الفوز في الآخرة ليس على درجة واحدة ولكن على درجتين..
أولى درجات الفوز أن يزحزح الإنسان على النار ولو إلى الأعراف وهذا فوز عظيم..
يكفي إنك تمر على الصراط المضروب فوق النار وترى ما فيها من ألوان العذاب، ثم بعد ذلك تنجو من هذا الهول كله.. يكفي ذلك ليكون فوزا عظيما.. لأن الكافر في هذه اللحظة يتمنى لو كان ترابا حتى لا يدخل النار.. فمرور المؤمن فوق الصراط ورؤيته للنار نعمة لأنه يحس بما نجا منه.. فإذا تجاوز النار ودخل إلى الجنة لينعم فيها نعيما خالدا كان هذا فوزاً آخر.. ولذلك حرص الله تبارك وتعالى أن يعطينا المرحلتين. فلم يقل: من زحزح عن النار فاز.. ولم يقل من أدخل الجنة فاز.. بل قال 
{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ}..
وجاءت هذه الآية الكريمة بعد آيات العذاب لتعطينا المقارنة.




تفسير الشعراوي للآية 82 من سورة البقرة | مصراوى

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك



1_57109237738700037309.gif&key=dfe443681


تفسير الآية رقم (83):



{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}


أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ثمانية أشياء



الميثاق.

. وهو العهد الموثق المربوط ربطا دقيقا وهو عهد الفطرة أو عهد الذر.. مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172].

وهناك عهد آخر أخذه سبحانه وتعالى على رسله جميعا.. أن يبشروا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويطلبوا من أتباعهم أن يؤمنوا به عند بعثه.. أو ألا يكتموا ما في كتبهم وإلا يغيروه.. والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله.. ذلك أنك تدخل في عقد إيماني مع الله سبحانه وتعالى بأن تفعل ما يأمر به وتترك ما نهى عنه.. هذا هو الميثاق.. كلمة الميثاق وردت في القرآن الكريم بوصف غليظ.. في علاقة الرجل بالمرأة.. قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 20-21].

نقول نعم لأن هذا الميثاق سيحل للمرأة أشياء لا تكون إلا به.. أشياء لا تحل لأبيها أو لأخيها أو أي إنسان عدا زوجها.. والرجل إذا دخل على ابنته وكانت ساقها مكشوفة تسارع بتغطيته.. فإذا دخل عليها زوجها فلا شيء عليها.. إذن هو ميثاق غليظ لأنه دخل مناطق العورة وأباح العورة للزوج والزوجة.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187].
إن كلا منهما يغطي ويخفي ويستر عورة الآخر.. والأب لا يفرح من انتقال ولاية ابنته إلى غيره.. إلا انتقال هذه الولاية لزوجها.. ويشعر بالقلق عندما تكبر الفتاة ولا تتزوج.

الحق يقول:


(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)

هذا الميثاق شمل ثلاثة شروط:


{لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} أي تعبدون الله وحده.. وتؤمنون بالتوراة وبموسى نبيا.. لماذا؟

لأن عبادة الله وحده هي قمة الإيمان.. ولكن لا تحدد أنت منهج عبادته سبحانه.. بل الذي يحدد منهج العبادة هو المعبود وليس العابد.. لابد أن تتخذ المنهج المنزل من الله وهو التوراة وتؤمن به..

ثم بعد ذلك تؤمن بموسى نبيا.. لأنه هو الذي نزلت عليه التوراة.. وهو الذي سيبين لك طريق العبادة الصحيحة.


وبدون هذه الشروط الثلاثة لا تستقيم عبادة بني إسرائيل.

وقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} لأنهما السبب المباشر في وجودك.. ربياك وأنت صغير، ورعياك، وقوله تعالى: (إحسانا) معناه زيادة على المفروض.

لأنك قد تؤدي الشيء بالقدر المفروض منك.. فالذي يؤدي الصلاة مثلا بقدر الغرض يكون قد أدى.. أما الذي يصلي النوافل ويقوم الليل يكون قد دخل في مجال الإحسان.. أي عطاؤه أكثر من المفروض.. والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 15-19].


وهكذا نرى أن الإحسان زيادة على المفروض في الصلاة والتسبيح والصدقة والله تبارك وتعالى يريد منك أن تعطي لوالديك أكثر من المفروض أو من الواجب عليك.


وقوله تعالى:
{وَذِي القربى}.. يحدد الله لنا فيها المرتبة الثانية بالنسبة للإحسان.. فالله جل جلاله أوصانا أن نحسن لوالدينا ونرعى أقاربنا.. ولو أن كل واحد منا قام بهذه العملية ما وجد محتاج أو فقير أو مسكين في المجتمع.. والله يريد مجتمعا لا فقر فيه ولا حقد.. وهذا لا يتأتى إلا بالتراحم والإحسان للوالدين والأقارب.. فيكون لكل محتاج في المجتمع من يكفله.


ويقول الله سبحانه:
(واليتامى).. واليتيم هو من فقد أباه وهو طفل لم يبلغ مبلغ الرجال.. هذا في الإنسان.. أما في الحيوان فإن اليتيم من فقد أمه.. لأن الأمومة في الحيوان هي الملازمة للطفل، ولأن الأب غير معروف في الحيوان ولكن الأم معروفة.. اليتيم الذي فقد أباه فقد من يعوله ومن يسعى من أجله ومن يدافع عنه.. والله سبحانه وتعالى جعل الأم هي التي تربي وترعى.. والأب يكافح من أجل توفير احتياجات الأسرة.. ولكن الحال إنقلب الآن ولذلك يقول شوقي رحمه الله:

لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ ** هَمِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفََاهُ ذَلِيلاَ


إِنّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ ** أُمَّاَ تَخَلَّتْ أَوْ أَباًً مَشْغُولاَ

إن اليتيم يكون منكسرا لأنه فقد والده فأصبح لا نصير له.. فإذا رأينا في المجتمع الإسلامي أن كل يتيم يرعاه رعاية الأب كل رجال المجتمع.. فذلك يجعل الأب لا يخشى أن يترك إبنه بعد وفاته.. إذن فرعاية المجتمع لليتيم تضمن أولا حماية حقه، لأنه إذا كان يتيما وله مال فإن الناس كلهم يطمعون في ماله، لأنه لا يقدر أن يحميه.. هذه واحدة.. والثانية أن هذا التكافل يُذْهِب الحقد من المجتمع ويجعل كل إنسان مطمئنا على أولاده.

وقوله سبحانه وتعالى:
(والمساكين).. في الماضي كنا نقول إن المساكين هم الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق ليقيموا به حياتهم.. إلى أن نزلت الآية الكريمة في سورة الكهف: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79].
فعرفنا أن المسكين قد يملك.
ولكنه لا يملك ما يكفيه.. وهذا نوع من التكافل الإجتماعي لابد أن يكون موجودا في المجتمع.. حتى يتكافل المجتمع كله.. فأنت إن كنت فقيرا أو مسكينا ويأتيك من رجل غني ما يعينك على حياتك.. فإنك ستتمنى له الخير لأن هذا الخير يصيبك.. ولكن إذا كان هذا الغني لا يعطيك شيئا.. هو يزداد غنى وأنت تزداد فقرا.. تكون النتيجة أن حقده يزداد عليك.

ويقول الحق سبحانه وتعالى:
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}.. كلمة حسنا بضم الحاء ترد بمعنى حسن بفتح الحاء.. والحسن هو ما حسنه الشرع.. ذلك أن العلماء اختلفوا: هل الحسن هو ما حسَّنه الشرع أو ما حسنه العقل؟ نقول: ما حسنه العقل مما لم يرد فيه نص من تحسين الشرع.. لأن العقل قد يختلف في الشيء الواحد.. هذا يعتبره حسنا وهذا يعتبره قبيحا.. والله تبارك وتعالى يقول: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
هذا هو معنى قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}..

ثم جاء قوله جل جلاله:
{وَأَقِيمُواْ الصلاة} وقد تكلمنا عن معنى إقامة الصلاة وما يجعلها مقبولة عند الله. وهناك فرق بين أن تقول صلوا.. وبين أن تقول أقيموا الصلاة.. أقيموا الصلاة معناها صلّ ولكن صلاة على مستواها الذي يطلب منك.. وإقامة الصلاة كما قلنا هي الركن الذي لا يسقط أبدا عن الإنسان.


ويقول الحق:
{وَآتُواْ الزكاة}.. بالنسبة للزكاة عندما يقول الله سبحانه: {وَذِي القربى واليتامى والمساكين}.. نقول أن الأقارب واليتامى والمساكين لهم حق في الزكاة ماداموا فقراء.. لنحس جميعا أننا نعيش في بيئة إيمانية متكاملة متكافلة.. يحاول كل منا أن يعاون الآخر.. فالزكاة في الأساس تعطي للفقير ولو لم يكن يتيما أو قريبا.. فإن لكل فقير حقوقا ورعاية.. فإذا كان هناك فقراء أقارب أو يتامى يصبح لهم حقان.. حق القريب وحق الفقير.
وإن كان يتيما فله حق اليتيم وحق الفقير.. بعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى عناصر الميثاق الثمانية.. قال: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ}.. تولى يعني أعرض أو لم يُطعْ أو لم يستمع.. يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ}.. هذا هو واقع تاريخ بني إسرائيل.. لأن بعضهم تولى ولم يطع الميثاق وبعضهم أطاع.
إن القرآن لم يشن حملة على اليهود، وإنما شن حملة على المخالفين منهم. ولذلك احترم الواقع وقال: {إِلاَّ قَلِيلاً}.. وهذا يقال عنه بالنسبة للبشر قانون صيانة الاحتمال.
إن الحق جل جلاله يتكلم بإنصاف الخالق للمخلوق.. لذلك لم يقل {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} بل قال إلا قليلا.



(توليتم) يعني أعرضتم، ولكن الله تبارك وتعالى يقول: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} نريد أن نأخذ الدقة الأدائية.. إذا أردنا أن نفسر توليّ.. فمعناها أعرض أو رفض الأمر.. ولكن الدقة لو نظرنا للقرآن لوجدنا أنه حين يلتقي المؤمن بالكافر في معركة.. فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16].


إذن فالتولي هو الإعراض.. والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بين لنا أن الإعراض يتم بنوايا مختلفة.. المقاتل يوم الزحف يعرض أو يتولى ليس بنية الهرب من المعركة.. ولكن بنية أن يذهب ليقاتل في مكان آخر أو يعاون إخوانه الذين تكاثر عليهم الأعداء.. هذا إعراض ولكن ليس بنية الهرب من المعركة.. ولكن بنية القتال بشكل أنسب للنصر.

نفرض أن إنسانا مدين لك رأيته وهو قادم في الطريق فتوليت عنه.. أنت لم تعرض عنه كرها.. ولكن رحمة لأنك لا تريد المساس بكرامته.. إذن هناك تولٍّ أو إعراض ليس بنية الإعراض. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن هؤلاء اليهود تولوا بنية الإعراض، ولم يتولوا بأي نية أخرى.. أي أنهم أعرضوا وهم متعمدون أن يعرضوا.. وليس لهدف آخر.



فواصل وصور تزيين المواضيع متحركة 2018 - منتدي اميرتي

تفسير الآية رقم (84):


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}


قلنا ساعة تسمع (إذ) فأعلم أن معناها أذكر.. وقلنا إن الميثاق هو العهد الموثق..
وقوله تعالى:
{لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ}.. والله تبارك وتعالى ذكر قبل ذلك في الميثاق عبادة الله وحده.. وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين.. وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة.. وكلها أوامر أي وكلها افعل.. إستكمالا للميثاق.. يقول الله في هذه الآية الكريمة ما لا تفعل.. فالعبادة كما قلنا هي إطاعة الأوامر والامتناع عن النواهي.. أو ما نهى عنه الميثاق: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} ومعناها لا يسفك كل واحد منكم دم أخيه.. لا يسفك بعضكم دم بعض.

ولكن لماذا قال الله: (دماءكم)؟
لأنه بعد ذلك يقول: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ}..
الحكم الإيماني يخاطب الجماعة الإيمانية على أنها وحدة واحدة.. لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».

فكأن المجتمع الإيماني وحدة واحدة.. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61].

ولكن إذا كنت أنا الداخل فكيف أسلم على نفسي؟

كأن الله يخاطب المؤمنين على أساس أنهم وحدة واحدة.. وعلى هذا الأساس يقول سبحانه: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ}.. أي لا تقتلوا أنفسكم.. السفك معناه حب الدم.. (ودماءكم) هو السائل الموجود في الجسم اللازم للحياة.. وقوله تعالى: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} يعني لا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم.. ثم ربط المؤمنين من بني إسرائيل بقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}.. أقررتم أي اعترفتم: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} الشهادة هي الإخبار بمشاهد.. والقاضي يسأل الشهود لأنهم رأوا الحادث فيروون ما شاهدوا.. وأنت حين تروي ما شاهدت.. فكأن الذين سمعوا أصبح ما وقع مشهودا وواقعا لديهم.. وشاهد الزور يغير المواقع.

الحق سبحانه وتعالى يخاطب اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويذكرهم بما كان من آبائهم الأولين.. وموقفهم من أخذ الميثاق حين رفع فوقهم جبل الطور وهي مسألة معروفة.. والقرآن يريد أن يقول لهم إنكم غيرتم وبدلتم فيما تعرفون.. فالذي جاء على هواكم طبقتموه.. والذي لم يأت على هواكم لم تطبقوه.


فواصل وصور تزيين المواضيع متحركة 2018 - منتدي اميرتي
تفسير الآية رقم (85):


{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}



يخاطب الحق جل جلاله اليهود ليفضحهم لأنهم طبقوا من التوراة ما كان على هواهم.. ولم يطبقوا ما لم يعجبهم ويقول لهم:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. إ
نه يذكرهم بأنهم وافقوا على الميثاق وأقروه.


ولقد نزلت هذه الآية عندما زنت امرأة يهودية وأرادوا ألا يقيموا عليها الحد بالرجم.. فقالوا نذهب إلى محمد ظانين أنه سيعفيهم من الحد الموجود في كتابهم.. أو أنه لا يعلم ما في كتابهم.. فلما ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم هذا الحكم موجود عندكم في التوراة.. قالوا عندنا في التوراة أن نلطخ وجه الزاني والزانية بالقذارة ونطوف به على الناس.. قال لهم رسول الله لا.. عندكم آية الرجم موجودة في التوراة فانصرفوا.. فكأنهم حين يحسبون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخفف حدا من حدود الله.. يذهبون إليه ليستفتوه.

والحق سبحانه وتعالى يقول:

{ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}..
أي بعد أن أخذ عليكم الميثاق ألا تفعلوا.. تقتلون أنفسكم.. يقتل بعضكم بعضا، أو أن من قتل سيقتل. فكأنه هو الذي قتل نفسه.. والحق سبحانه قال:

{ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}..
لماذا جاء بكلمة هؤلاء هذه؟
لإنها إشارة للتنبيه لكي نلتف إلى الحكم.


وقوله تعالى:

{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ}
وحذرهم بقوله: {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ}.. وجاء هذا في الميثاق.

ما هو الحكم الذي يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليه؟

نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة إنتقل من دار شرك إلى دار إيمان.. ومعنى دار إيمان أن هناك مؤمنين سبقوا.. فهناك من آمن من أهل المدينة.. لقد هاجر المسلمون قبل ذلك إلى الحبشة ولكنها كانت هجرة إلى دار أمن وليست دار إيمان.. ولكن حين حدثت بيعة العقبة وجاء جماعة من المدينة وعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به.. أرسل معهم الرسول مصعب بن عمير ليعلمهم دينهم.. وجاءت هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام على خميرة إيمانية موجودة.. لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أفسد على اليهود خطة حياتهم.. فاليهود كانوا ممثلين في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.. وكان هناك في المدينة الأوس والخزرج.. وبينهما حروب دائمة قبل أن يأتي الإسلام..
فاليهود قسموا أنفسهم إلى قوم مع الأوس وقوم مع الخزرج حتى يضمنوا استمرار العداوة.. فكلما هدأ القتال أهاجوا أحد المعسكرين على الآخر ليعود القتال من جديد.

وهم كذلك حتى الآن وهذه طبيعتهم.

إن الذي صنع الشيوعية يهودي، والذي صنع الرأسمالية يهودي.. والذي يحرك العداوة بين المعسكرين يهودي.. وكان بنو النضير وبنو قينقاع مع الخزرج وبنو قريظة مع الأوس.. فإذا إشتبك الأوس والخزرج كان مع كل منهم حلفاؤه من اليهود. عندما تنتهي المعركة ماذا كان يحدث؟ إن المأسورين من بني النضير وبني قينقاع يقوم بنو قريظة بالمساعدة في فك أسرهم.. مع أنهم هم المتسببون في هذا الأسر.. فإذا إنتصرت الأوس وأخذوا أسرى من الخرج ومن حلفائهم اليهود.. يأتي اليهود ويعملون على إطلاق سراح الأسرى اليهود.. لأن عندهم نصاً أنه إذا وجد أسير من بني إسرائيل فلابد من فك أسره.

والحق سبحانه وتعالى يقول لهم إن أعمالكم في أن يحارب بعضكم بعضا وأن تسفكوا دماءكم.. لا تتفق مع الميثاق الذي أخذه الله عليكم بل هي مصالح دنيوية.. تقتلون أنفسكم والله نهاكم عن هذا: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} والله نهاكم عن هذا:


{تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}..
وهذا ما كان يحدث في المدينة في الحروب بين الأوس والخزرج كما بينا.. والأسارى جمع أسير وهي على غير قياسها، لأن القياس فيها أسرى.. ولذلك نرى في آية أخرى أنه يأتي قول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67].
ولكن القرآن أتى بها أسارى.. واللغة أحيانا تأتي على غير ما يقتضيه قياسها لتلفتك إلى معنى من المعاني.. فكسلان تجمع كسالى. والكسلان هو هابط الحركة.. الأسير أيضا أنت قيدت حركته.. فكأن جمع أسير على أسارى إشارة إلى تقييد الحركة.. القرآن الكريم جاء بأسارى وأسرى.. ولكنه حين استخدم أسارى أراد أن يلفتنا إلى تقييد الحركة مثل كسالى.. ومعنى وجود الأسرى أن حربا وقعت.. لحرب تقتضي الالتقاء والالتحام.. ويكون كل واحد منهم يريد أن يقتل عدوه.
كلمة الأسر هذه أخذت من أجل تهدئة سعار اللقاء.. فكأن الله أراد أن يحمي القوم من شراسة نفوسهم وقت الحرب فقال لهم إستأسروهم.. لا تقتلوهم إلا إذا كنتم مضطرين للقتل.. ولكن خذوهم أسرى وفي هذا مصلحة لكم لأنكم ستأخذون منهم الفدية.. وهذا تشريع من ضمن تشريعات الرحمة.. لأنه لو لم يكن الأسر مباحا.. لكان لابد إذا إلتقى مقاتلان أن يقتل أحدهما الآخر.. لذلك يقال خذه أسيرا إلا إذا كان وجوده خطراً على حياتك.

وقول الحق تبارك وتعالى:

{وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}..
كانت كل طائفة من اليهود مع حليفتها من الأوس أو الخزرج.

وكانت تخرج المغلوب من دياره وتأخذ الديار.. وبعد أن تنتهي الحرب يفادوهم.. أي يأخذون منهم الفدية ليعيدوا إليهم ديارهم وأولادهم.

لماذا يقسم اليهود أنفسهم هذه القسمة..
إنها ليست تقسيمة إيمانية ولكنها تقسيمة مصلحة دنيوية..
لماذا؟
لأنه ليس من المعقول وأنتم أهل كتاب.. ثم تقسمون أنفسكم قسما مع الأوس وقسما مع الخزرج.. ويكون بينكم إثم وعدوان.


وقوله تعالى:

{تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ}..
تظاهرون عليهم. أي تعاونون عليهم وأنتم أهل دين واحد: (بالإثم).. والإثم هو الشيء الخبيث الذي يستحي منه الناس: (والعدوان).. أي التعدي بشراسة.. وقوله تعالى:

{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}..
أي تأخذون القضية على أساس المصلحة الدنيوية.. وتقسمون أنفسكم مع الأوس أو الخزرج.. تفعلون ذلك وأنتم مؤمنون بإله ورسول وكتاب.. مستحيل أن يكون دينكم أو نبيكم قد أمركم بهذا.

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:

{فَمَا جزاء مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا}
أي إنكم فعلتم ذلك وخالفتم لتصلوا إلى مجد دنيوي ولكنكم لم تصلوا إليه.. سيصيبكم الله بخزي في الدنيا.. أي أن الجزاء لن يتأخر إلى الآخرة بل سيأتيكم خزي وهو الهوان والذل في الدنيا.. وماذا في الآخرة؟

يقول الله تعالى:

{وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب}
الخزي في الدنيا أصابهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.. وأخرج بنو قينقاع من ديارهم في المدينة.. كذلك ذبح بنو قريظة بعد أن خانوا العهد وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. وهكذا لا يؤخر الله سبحانه وتعالى جزاء بعض الذنوب إلى الآخرة.. وجزاء الظلم في الدنيا لا يؤجل إلى الآخرة، لأن المظلوم لابد أن يرى مصرع ظالميه حتى يعتدل نظام الكون.. ويعرف الناس أن الله موجود وأنه سبحانه لكل ظالم بالمرصاد.. اليهود أتاهم خزي الدنيا سريعا: {يَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب}.

قد يتساءل الناس ألا يكفيهم الخزي في الدنيا عن عذاب الآخرة؟
نقول لا..
لأن الخزي لم ينلهم في الدنيا حدا.. ولم يكن نتيجة إقامة حدود الله عليهم.. فالخزي حين ينال الإنسان كحد من حدود من حدود الله يعفيه من عذاب الآخرة..
فالذي سرق وقطعت يده والذي زنا ورجم.. هؤلاء نالهم عذاب من حدود الله فلا يحاسبون في الآخرة.. أما الظالمون فالأمر يختلف..

لذلك فإننا نجد إناسا من الذين ارتكبوا إثما في الدنيا يلحون على إقامة الحد عليهم لينجوا من عذاب الآخرة.. مع أنه لم يرهم أحد أو يعلم بهم أحد أو يشهد عليهم أحد.. حتى لا يأتي واحد ليقول: لماذا لا يعفي الظالمون الذي أصابهم خزي في الدنيا من عذاب الآخرة؟

نقول إنهم في خزي الدنيا لم يحاسبوا عن جرائمهم.

أصابهم ضر وعذاب.. ولكن أشد العذاب ينتظرهم في الآخرة.. وما أهون عذاب الدنيا هو بقدرة البشر بالنسبة لعذاب الآخرة الذي هو بقدرة الله سبحانه وتعالى، كما أن هذه الدنيا تنتهي فيها حياة الإنسان بالموت، أما الآخرة فلا موت فيها بل خلود في العذاب.

ثم يقول الحق جل جلاله:

{وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}..
أي لا تحسب أن الله سبحانه وتعالى يغفل عن شيء في كونه فهو لا تأخذه سنة نوم.. وهو بكل شيء محيط.



المصدر

نداء الايمان



hwaml.com_1384044197_166.gif


 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
97865.png



.تفسير الآية رقم (86):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

ويذكر لنا الله سبحانه وتعالى سبب خيبة هؤلاء وضلالهم لأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.. جعلوا الآخرة ثمنا لنزواتهم ونفوذهم في الدنيا.. هم نظروا إلى الدنيا فقط.. ونظرة الإنسان إلى الدنيا ومقارنتها بالآخرة تجعلك تطلب في كل ما تفعله ثواب الآخرة.. فالدنيا عمرك فيها محدود.. ولا تقل عمر الدنيا مليون أو مليونان أو ثلاثة ملايين سنة.. عمر الدنيا بالنسبة لك هو مدة بقائك فيها.. فإذا خرجت من الدنيا انتهت بالنسبة لك.. والخروج من الدنيا بالموت..

والموت لا أسباب له ولذلك فإن الإسلام لا يجعل الدنيا هدفا لأن عمرنا فيها مظنون.. هناك من يموت في بطن أمه.. ومن يعيش ساعة أو ساعات، ومن يعيش إلى أرذل العمر.. إذن فاتجه إلى الآخرة، ففيها النعيم الدائم والحياة بلا موت المتعة على قدرات الله.. ولكن خيبة هؤلاء أنهم إشتروا الدنيا بالآخرة..

ولذلك يقول الحق عنهم:

{فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}..
لا يخفف عنهم العذاب أي يجب ألا يأمنوا أن العذاب في الآخرة سيخفف عنهم.. أو ستقل درجته أو تنقص مدته.. أو سيأتي يوما ولا يأتي يوما وقوله:
{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}..
النصرة تأتي على معنيين..
تأتي بمعنى أنه لا يغلب.. وتأتي بمعنى أن هناك قوة تنتصر له أي تنصره.. كونه يغلب.. الله سبحانه وتعالى غالب على أمره فلا أحد يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.. ولكن الله يملك النفع والضر لكل خلقه.. ويملك تبارك وتعالى أن يقهر خلقه على ما يشاء..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [الأعراف: 188].

أما مسألة أن ينصره أحد.. فمن الذي يستطيع أن ينصر أحدا من الله..
واقرأ قوله سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} [هود: 30].


يقول الحق سبحانه وتعالى:
{فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب}..
أمر لم يقع بعد بل سيقع مستقبلا.. يتحدث الله سبحانه وتعالى عنه بلهجة المضارع..
نقول إن كل أحداث الكون وما سيقع منها هو عند الله تم وانتهى وقضى فيه.. لذلك نجد في القرآن الكريم قوله سبحانه: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
أتى فعل ماضي.. ولا تستعجلوه مستقبل..

كيف يقول الله سبحانه وتعالى أتى ثم يقول لا تستعجلوه؟
إنه مستقبل بالنسبة لنا.. أما بالنسبة لله تبارك وتعالى فمادام قد قال أتى.. فمعنى ذلك أنه حدث.. فلا أحد يملك أن يمنع أمرا من أمور الله من الحدوث.. فالعذاب آت لهم آت.. ولا يخفف عنهم لأن أحدا لا يملك تخفيفه.


2014_12_17_17_20_34_39.jpg


.تفسير الآية رقم (87):


{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}

وبعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى لنا ما فعله اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام.. أراد أن يبين لنا ما فعله بنو إسرائيل بعد نبيهم موسى.. وأراد أن يبين لنا موقفهم من رسول جاءهم منهم.. ولقد جاء لبني إسرائيل رسل كثيرون لأن مخالفاتهم للمنهج كانت كثيرة.. ولكن الآيةَ الكريمة ذكرت عيسى عليه السلام.. لأن الديانتين الكبيرتين اللتين سبقتا الإسلام هما اليهودية والنصرانية.. ولكن لابد أن نعرف أنه قبل مجيء عيسى.. وبين رسالة موسى ورسالة عيسى عليهما السلام رسل كثيرون.. منهم داود وسليمان وزكريا ويحيى وغيرهم.. فكأنه في كل فترة كان بنو إسرائيل يبتعدون عن الدين.. ويرتكبون المخالفات وتنتشر بينهم المعصية.. فيرسل اللهُ رسولا يعدل ميزانَ حركة حياتهم.. ومع ذلك يعودون مرة أخرى إلى معصيتهم وفسقهم.. فيبعث اللهُ رسولا جديداً.. ليزيل الباطل وهوى النفس من المجتمع ويطبق شرع الله.. ولكنهم بعده يعودون مرة أخرى إلى المعصية والكفر.

وقال اللهُ سبحانه وتعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب}
والقائلُ هو اللهُ جل جلاله..
والكتابُ هو التوراةُ:

{وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل}..

واللهُ تبارك وتعالى بين لنا موقفَ بني إسرائيل من موسى.. وموقِفَهُم من رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين.. ولكنه لم يبين لنا موقفَهُم من الرسلِ الذين جاءوا بعد موسى حتى عيسى ابن مريم.
الحقُ سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا.. إلى أنه لم يترك الأمر لبني إسرائيل بعد موسى.. أن يعملوا بالكتاب الذي أرسل معه فقط.. ولكنه أتبع ذلك بالرسل.. حين تسمع (قفينا).. أي اتبعنا بعضهم بعضا.. كل يخلف الذي سبقه. (وقفينا) مشتقة من قفا.. وقفا الشيء خلفه.. وتقول قفوت فلاناً أي سرت خلفه قريباً منه.

إن الحق يريد أن يلفتنا إلى أن رسالةَ موسى لم تقف عند موسى وكتابه..
ولكنه سبحانه أرسل رسلاً وأنبياءَ ليذكروا وينبهوا.. ولقد قلنا
إن كثرةَ الأنبياءِ لبني إسرائيلَ ليست شهادة لهم ولكنها شهادة عليهم..
إنهم يتفاخرون أنهم أكثرُ الأممِ أنبياءً.. ويعتبرون ذلك ميزة لهم ولكنهم لم يفهموا..
فكثرة الأنبياء والرسل دلالةَ على كثرة فساد الأمة، لأن الرسل إنما يجيئون لتخليص البشريةِ من فساد وأمراض وإنقاذها من الشقاء.. وكلما كثُرَ الرسلُ والأنبياءُ دل ذلك على أن القومَ قد انحرفوا بمجرد ذهابِ الرسولِ عنهم، ولذلك كان لابد من رسول جديد.. تماما كما يكون المريض في حالةٍ خطرةٍ فيكثر أطباؤه بلا فائدةٍ.. وليقطع اللهُ سبحانه وتعالى عليهم الحجةَ يومَ القيامةِ.
لم يترك لهم فترةً من غفلةٍ.. بل كانت الرسلُ تأتيهم واحدا بعد الآخر على فتراتٍ قريبةٍ.

وإذا نظرنا إلى يوشع وأشمويه وشمعون. وداود وسليمان وشعيب وأرميا. وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى.. نرى موكبا طويلاً جاء بعد موسى.. حتى إنه لم تمر فترةٌ ليس فيها نبي أو رسول..


وحتى نفرقَ بين النبيِ والرسولِ..
نقول النبيُ مرسلٌ والرسولُ مرسلٌ.. كلاهما مرسلٌ من اللهِ ولكن النبيَ لا يأتي بتشريعٍ جديدٍ.. وإنما هو مرسلٌ على منهجِ الرسولِ الذي سَبَقَهُ.. واقرأ قولَهُ سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52].
إذن فالنبي مرسل أيضاً.. ولكنه أسوةٌ سلوكيةٌ لتطبيقِ منهجِ الرسولِ الذي سبقه.
وهل اللهُ سبحانه وتعالى قص علينا قصص كل الرسل والأنبياء الذين أرسلهم؟
اقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164].

إذن هناك رسلٌ وأنبياء أرسلوا إلى بني إسرائيل لم نعرفهم.. لأن الله لم يقصص علينا نبأهم..
ولكن الآية الكريمة التي نحن بصددها لم تذكر إلا عيسى عليه السلام.. باعتباره من أكثر الرسل أتباعا.. والله تبارك وتعالى حينما أرسل عيسى أيده بالآيات والبينات التي تثبت صدقَ بلاغه عن اللهِ..
 
ولذلك قال جل جلاله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}.. وعيسى ابنُ مريمَ عليه السلام جاء ليرد على المادية التي سيطرت على بني إسرائيل.. وجعلتهم لا يعترفون إلا بالشيء المادي المحسوس.. فعقولهم وقلوبهم أغلقت من ناحية الغيب.. حتى إنهم قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}.. وحين جاءهم المن والسلوى رزقاً من الله.. خافوا أن ينقطع عنهم لأنه رزقٌ غيبيّ فطلبوا نبات الأرض.. لذلك كان لابد أن يأتي رسول كل حياته ومنهجه أمور غيبية.. مولده أمر غيبي، وموته أمر غيبي ورفعه أمر غيبي ومعجزاته أمور غيبية حتى ينقلهم من طغيان المادية إلى صفاء الروحانية.

لقد كان أول أمره أن يأتي عن غير طريق التكاثر الماديّ.. أي الذي يتم بين الناس عن طريق رجل وأنثى وحيوان منويّ.. واللهُ سبحانه وتعالى أراد أن يخلع من أذهان بني إسرائيل أن الأسباب المادية تحكمه.. وإنما هو الذي يحكم السبب. هو الذي يخلق الأسباب ومتى قال: (كن) كان.. بصرف النظر عن المادية المألوفة في الكون.. وفي قضية الخلق أراد الله جل جلاله للعقول أن تفهم أن مشيته هي السبب وهي الفاعلة..
 
واقرأ قوله سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
فكأن الله سبحانه وتعالى جعل الذكورة والأنوثة هما السبب في الإنجاب.. ولكنه جعل طلاقة القدرة مهيمنةً على الأسباب.. فيأتي رجل وامرأة ويتزوجان ولكنهما لا ينجبان.. فكأن الأسباب نفسها عاجزة عن أن تفعل شيئا إلا بإرادة المسبب.
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}..


لماذا قال الحق تبارك وتعالى:
{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}..
ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين بروح القدس؟

نقول: لقد ذكر هنا تأييد عيسى بروح القدس لأن الروح ستشيع في كل أمر له.. ميلاداً ومعجزةً وموتاً..
والروحُ القدس هو جبريل عليه السلام لم يكن يفارقه أبدا..
لقد جاء عيسى عليه السلام على غير مألوف الناس وطبيعة البشر مما جعله معرضاً دائماً للهجوم.. ولذلك لابد أن يكون الوحي في صحبته لا يفارقه.. ليجعل من مهابته على القوم ما يرد الناس عنه.. وعندما يتحدث القرآن أنه رفع إلى السماء..


اختلف العلماء هل رفع إلى السماء حيا؟
أو مات ثم رفع إلى السماء؟

نقول: لو أننا عرفنا أنه رُفع حيا أو مات فما الذي يتغير في منهجنا؟
لا شيء.. وعندما يقال إنه شيء عجيب أن يرفع إنسان إلى السماء، ويظل هذه الفترة ثم يموت..
نقول إن عيسى ابنَ مريمَ لم يتبرأ من الوفاة.. إنه سيُتَوَفّى كما يُتَوَفَّى سائر البشر..
ولكن هل كان ميلاده طبيعياً؟
الإجابة لا..
إذن فلماذا تتعجب إذا كانت وفاته غير طبيعية؟
لقد خلق من أم بدون أب.. فإذا حدث أنه رفع إلى السماء حياً وسينزل إلى الأرض فما العجب في ذلك؟ ألم يصعد رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى السماء حياً؟ ثم نزل لنا بعد ذلك إلى الأرض حياً؟ لقد حدث هذا لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام.. إذن فالمبدأ موجود.. فلماذا تستبعد صعود عيسى ثم نزوله في آخر الزمان؟ والفرق بين محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعيسى هو أن محمداً لم يمكث طويلاً في السماء، بينما عيسى بقى.. والخلاف على الفترة لا ينقض المبدأ.


عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم صلى الله عليه وسلم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد».
وهذا الحديث موجود في صحيح البخاري.. فقد جعله الله مثلا لبني إسرائيل.. واقرأ قوله سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

قوله تعالى:
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات}.
البينات هي المعجزات
مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وغير ذلك من المعجزات.. وهي الأمور البينة الواضحة على صدق رسالته.
لكننا إذا تأملنا في هذه المعجزات.. نجد أن بعضها نسبت لقدرة الله كإحياء الموتى جاء بعدها بإذن الله.. وبعضها نسبها إلى معجزته كرسول.. ومعروف أنه كرسول يؤيده اللهُ بمعجزات تخرق قوانين الكون.. ولكن هناك فرقاً بين معجزة تعطي كشفاً للرسول.. وبين معجزة لابد أن تتم كل مرة من الله مباشرة..

واقرأ الآية الكريمة: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49].

وهكذا نرى في الآية الكريمة أنه بينما كان إخبار عيسى لما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم كشفاً من الله.. كان إحياء الموتى في كل مرة بإذن الله.. وليس كشفا ولا معجزة ذاتية لعيسى عليه السلام.. إن كل رسول كان مؤيداً بروح القدس وهو جبريل عليه السلام.. ولكن الله أيد عيسى بروح القدس دائما معه.. وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}.. وأيدناه مشتقة من القوة ومعناها قويناه بروح القدس في كل أمر من الأمور.. وكلمة روح تأتي على معنيين.. المعنى الأول ما يدخل الجسم فيعطيه الحركة والحياة.. وهناك روح أخرى هي روح القيم تجعل الحركة نافعة ومفيدة.. ولذلك سمى الحق سبحانه وتعالى القرآن بالروح..

واقرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
والقرآن روح.. من لا يعمل به تكون حركة حياته بلا قيم.. إذن كل ما يتصل بالمنهج فهو روح.. والقدس هذه الكلمة تأتي مرة بضم القاف وتسكين الدال.. ومرة بضم القاف وضم الدال.. وكلا اللفظين صحيح وهي تفيد الطهر والتنزه عن كل ما يعيب ويشين.. والقدس يعني المطهر عن كل شائبة.

 
قوله تبارك وتعالى:
{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم}
قوله تعالى: (أفكلما).. هناك عطف وهناك استفهام، وهي تعني أكفرتم، وكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم.. أي إن اليهود جعلوا أنفسهم مشرعين من دون الله.. وهم يريدون أن يشرعوا لرسلهم.. فإذا جاء الرسول بما يخالف هواهم كذَّبوه أو قتلوه.

وقوله تعالى:
{بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ}.. هناك هَوَى بالفتحة على الواو وهَوِيَ بالكسرة على الواو.. هَوَى بالفتحة على الواو بمعنى سقط إلى أسفل.. وهَوِيَ بالكسرة على الواو معناه أحب وأشتهى.
اللفظان ملتقيان.. الأول معناه الهبوط، والثاني حب الشهوة والهوى يؤدي إلى الهبوط..
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى حينما يشرع يقول (تَعَالَوْا) ومعناها؟
إرتفعوا من موقعكم الهابط.. إذن فالمنهج جاء ليعصمنا من السقوط.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم.. يعطينا هذا المعنى، وكيف أن الدين يعصمنا من أن نهوى ونسقط في جهنم يقول: (إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعْن فيه فأنا آخذ بحجزكم وأنتم موحمون فيه).
ومعنى آخذ بحجزكم أي آخذ بكم.. وكأننا نقبل على النار ونحن نشتهيها باتباعنا شهوتنا.. ورسول الله بمنهج الله يحاول أن ينقذنا منها.. ولكن رب نفسٍ عشقت مصرعها..

والحق تبارك وتعالى يقول:

{استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
معنى استكبرتم أي أعطيتم لأنفسكم كبرا لستم أهلا له.. ادعيتم أنكم كبارٌ ولستم كباراً..
ولكن هل المشروع مساو لك حتى تتكبر على منهجه؟
طبعا لا..
قوله تعالى:
{ففريقاً كذبتم}..
والكذب كلام يخالف الواقع..
أي أنكم اتهمتم الرسل بأنهم يقولون كلاما يخالف الواقع. لأنه يخالف ما تشتهيه أنفسكم..
وقوله تعالى:
{وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}..
التكذيب مسألة منكرة.. ولكن القتل أمر بشع.. وحين ترى إنسانا يتخلص من خصمه بالقتل فاعلم أنها شهادة بضعفه أمام خصمه.. وإن طاقته وحياته لا تطيق وجود الخصم.. ولو أنه رجلٌ مكتمل الرجولة لما تأثر بوجود خصمه.. ولكن لأنه ضعيف أمامه قتله.
قوله تعالى:

{وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}..
مثل نبي الله يحيى ونبي الله زكريا.. وهناك قصص وروايات تناولت قصة سالومي.. وهي قصة راقصة جميلة أرادت إغراء يحيى عليه السلام فرفض أن يخضع لإغرائها.. فجعلت مهرها أن يأتوها برأسه.. وفعلا قتلوه وجاءوها برأسه على صينية من الفضة.




2014_12_18_16_44_11_169.jpg

المصدر نداء الايمان
 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
شجرة التفاخ | شباب الإسلام Amino
تفسير الآية رقم (88):

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}

الله سبحانه وتعالى يذكر لنا كيف برر بنو إسرائيل عدم إيمانهم وقتلهم الأنبياء وكل ما حدث منهم.. فماذا قالوا؟
لقد قالوا
{قُلُوبُنَا غُلْفٌ}
والغلف مأخوذ من الغلاف والتغليف.. وهناك غلْف بسكون اللام، وغلُف بضم اللام.. مثل كتاب وكتب {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي مغلفة وفيها من العلم ما يكفيها ويزيد، فكأنهم يقولون إننا لسنا في حاجة إلى كلام الرسل.. أو {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي مغلفة ومطبوع عليها.. أي أن الله طبع على قلوبهم وختم عليها حتى لا ينفذ إليها شعاع من الهداية.. ولا يخرج منها شعاع من الكفر.

إذا كان الله سبحانه وتعالى قد فعل هذا..
ألم تسألوا أنفسكم لماذا؟
ما هو السبب؟
والحق تبارك وتعالى يرد عليهم فيقول:

{بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ}:
لفظ (بل) يؤكد لنا أن كلامهم غير صحيح.. فهم ليس عندهم كفاية من العلم بحيث لا يحتاجون إلى منهج الرسل.. ولكنهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله.. فلا تنفذ إشعاعات النور ولا الهداية إلى قلوبهم.. ولكن ذلك ليس لأن ختم عليها بلا سبب.. ولكنه جزاء على أنهم جاءهم النور والهدى.. فصدوه بالكفر أولا.. ولذلك فإنهم أصبحوا مطرودين من رحمة الله.. لأن من يصد الإيمان بالكفر يطرد من رحمة الله، ولا ينفذ إلى قلبه شعاع من أشعة الإيمان.

وهنا يجب أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يبدأهم باللعنة.
وبعض الناس الذين يريدون أن يهربوا من مسئولية الكفر- علها تنجيهم من العذاب يوم القيامة- يقولون إن الله سبحانه وتعالى قال:

{فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [فاطر: 8].
تلك هي حجة الكافرين الذين يظنون إنها ستنجيهم من العذاب يوم القيامة..
إنهم يريدون أن يقولوا إن الله يضل من يشاء.. ومادام اللهُ قد شاء أن يضلني فما ذنبي أنا؟
وهل أستطيع أن أمنع مشيئة الله..

نقول له: إن الله إذا قيد أمرا من الأمور المطلقة فيجب أن نلجأ إلى التقييد.. والله تبارك وتعالى يقول: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37].
ويقول سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 19].
ويقول جل جلاله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
والحق سبحانه وتعالى أخبرنا أنه منع إعانته للهداية عن ثلاثة أنواع من الناس..
الكافرين والظالمين والفاسقين..
ولكن هل هو سبحانه وتعالى منع معونة الهداية أولا؟
أم أنهم هم الذين ارتكبوا من الضلال ما جعلهم لا يستحقون هداية الله؟!

إنسان واجه الله بالكفر.. كفر بالله.. رفض أن يستمع لآيات الله ورسله.
ورفض أن يتأمل في كون الله.. ورفض أن يتأمل في خلقه هو نفسه ومن الذي خلقه.. ورفض أن يتأمل في خلق السموات والأرض.. كل هذا رفضه تماما.. ومضى يصنع لنفسه طريق الضلال ويشرع لنفسه الكفر.. لأنه فعل ذلك أولا.. ولأنه بدأ بالكفر برغم أن الله سبحانه وتعالى وضع له في الكون وفي نفسه آيات تجعله يؤمن بالله، وبرغم ذلك رفض. هو الذي بدأ والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه.

الإنسان الظالم يظلم الناس ولا يخشى الله.. يذكرونه بقدره الله وقوة الله فلا يلتفت.. يختم الله على قلبه.. كذلك الإنسان الفاسق الذي لا يترك منكرا إلا فعله.. ولا إثما إلا ارتكبه.. ولا معصية إلا أسرع إليها.. لا يهديه الله.. أكنت تريد أن يبدأ هؤلاء الناس بالكفر والظلم والفسوق ويصرون عليه ثم يهديهم الله؟ يهديهم قهرا أو قَسْراً، والله سبحانه وتعالى خلقنا مختارين؟ طبعا لا.. ذلك يضع الاختيار البشري في أن يطيع الإنسان أو يعصى.

والحق تبارك وتعالى أثبت طلاقة قدرته فيما نحن مقهورون فيه.. في أجسادنا التي تعمل أعضاؤها الداخلية بقهر من الله سبحانه وتعالى وليس بإرادة منا كالقلب والتنفس والدورة الدموية.. والمعدة والأمعاء والكبد.. كل هذا وغيره مقهور لله جل جلاله.. لا نستطيع أن نأمره ليفعل فيفعل.. وأن نأمره ألا يفعل فلا يفعل.. وأثبت الله سبحانه وتعالى طلاقة قدرته فيما يقع علينا من أحداث في الكون.. فهذا يمرض، وهذا تدهمه سيارة، وهذا يقع عليه حجر.. وهذا يسقط، وهذا يعتدي عليه إنسان.. كل الأشياء التي تقع عليك لا دخل لك فيها ولا تستطيع أن تمنعها.. بقى ذلك الذي يقع منك وأهمه تطبيق منهج الله في افعل ولا تفعل.. هذا لك اختيار فيه.

إن الله سبحانه وتعالى أوجد لك هذا الاختيار حتى يكون الحساب في الآخرة عدلا..
فإذا اخترت الكفر لا يجبرك الله على الإيمان.. وإذا اخترت الظلم لا يجبرك الله على العدل..
وإذا اخترت الفسوق لا يجبرك الله على الطاعة..
إنه يحترم اختيارك لأنه أعطاك هذا الاختيار ليحاسبك عليه يوم القيامة.

لقد أثبت الله لنفسه طلاقة القدرة بأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ولكنه سبحانه قال إنه لا يهدي القوم الكافرين ولا القوم الظالمين ولا القوم الفاسقين.. فمن يرد أن يخرج من هداية الله فليكفر أو يظلم أو يفسق.. ويكون في هذه الحالة هو الذي اختار فحق عليه عقاب الله.. لذلك فقد قال الكافرون من بني إسرائيل إن الله ختم على قلوبهم فهم لا يهتدون، ولكنهم هم الذين اختاروا هذا الطريق ومشوا فيه.
فاختاروا عدم الهداية.

لقد أثارت هذه القضية جدلا كبيراً بين العلماء ولكنها في الحقيقة لا تستحق هذا الجدل..
فالله سبحانه وتعالى قال: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ}.. واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله.. ويتم ذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى.. لأن الطرد يتناسب مع قوة الطارد.
فمثلا.. إبنك الصغير يطرد حجرا أمامه تكون قوة الطرد متناسبة مع سنه وقوته.. والأكبر أشد فأشد.. فإذا كان الطارد هو الله سبحانه وتعالى فلا يكون هناك مقدارٌ لقوة اللعن والطرد يعرفه العقل البشري.

قوله تعالى:

{بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ}..
أي طردهم الله بسبب كفرهم.. والله تبارك وتعالى لا يتودد للناس لكي يؤمنوا.. ولا يريد للرسل أن يتعبوا أنفسهم في حمل الناس على الإيمان.. إنما وظيفة الرسول هي البلاغ حتى يكون الحساب حقا وعدلا.. واقرأ قوله جل جلاله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
أي إنهم لا يستطيعون ألا يؤمنون إذا أردناهم مؤمنين قهرا.. ولكننا نريدهم مؤمنين اختيارا.. وإيمان العبد هو الذي ينتفع به.. فالله لا ينتفع بإيمان البشر.. وقولنا لا إله إلا الله لا يسند عرش الله.. قلناها أو لم نقلها فلا إله إلا الله.. ولكننا نقولها لتشهد علينا يوم القيامة.. نقولها لتنجينا من أهوال يوم القيامة ومن غضب الله.

وقوله تعالى: (بكفرهم) يعطينا قضية مهمة هي: أنه تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك. فمن يشرك معه أحدا فهو لمن أشرك.. لذلك يقول الحق جل جلاله في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ من عَمِلَ عملا أَشْرَكَ فيه معي غيري تركْتُهُ وشِركُه).
وشهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه بالألوهية.. هي شهادة الذات للذات.. وذلك في قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].

فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق خلقا يشهدون أنه لا إله إلا الله.. شهد لنفسه بالألوهية.. ولنقرأ الآية الكريمة: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18].
والله سبحانه وتعالى شهد لنفسه شهادة الذات للذات. والملائكة شهدوا بالمشاهدة.. وأولو العلم بالدليل.. والحق تبارك وتعالى يقول: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ}.. عندما تقول قليلا ما يحدث كذا، فإنك تقصد به هنا صيانة الإحتمال، لأنه من الممكن أن يثوب واحد منهم إلى رشده ويؤمن.. فيبقي اللهُ البابَ مفتوحا لهؤلاء. ولذلك نجد الذين أسرفوا على أنفسهم في شبابهم قد يأتون في آخر عمرهم ويتوبون.. في ظاهر الأمر أنهم أسرفوا على أنفسهم.. ولكنهم عندما تابوا واعترفوا بخطاياهم وعادوا إلى طريق الحق تقبل الله إيمانهم.. لذلك يقول الله جل جلاله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} أي أن الأغلبية تظل على كفرها.. والقلة هي التي تعود إلى الإيمان.



image.jpeg.2eb2a3f0ad90ad6a4d49b094245f3f2c.jpeg
 
.تفسير الآية رقم (89):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}

بعد أن بين لنا الله سبحانه وتعالى.. أن بني إسرائيل قالوا إن قلوبهم غلف لا يدخلها شعاع من الهدى أو الإيمان.. أراد تبارك وتعالى أن يعطينا صورة أخرى لكفرهم بأنه أنزل كتابا مصدقا لما معهم ومع ذلك كفروا به.. ولو كان هذا الكتاب مختلفا عن الذي معهم لقلنا إن المسألة فيها خلاف.. ولكنهم كانوا قبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزل عليه القرآن كانوا يؤمنون بالرسول والكتاب الذي ذكر عندهم في التوراة.. وكانوا يقولون لأهل المدينة.. أَهَلّ زمن رسول سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قبل عاد وإرم.

لقد كان اليهود يعيشون في المدينة.. وكان معهم الأوس والخزرج وعندما تحدث بينهم خصومات كانوا يهددونهم بالرسول القادم.. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به وبما أنزل عليه من القرآن.

واليهود في كفرهم كانوا أحد أسباب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لأن الأوس والخرزج عندما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا هذا النبي الذي يهددنا به اليهود وأسرعوا يبايعونه.. فكأن اليهود سخرهم الله لنصرة الإسلام وهم لا يشعرون.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى الناس في الطائف.. وينتظر القبائل عند قدومها إلى مكة في موسم الحج ليعرض عليهم الدعوة فيصدونه ويضطهدونه.. وعندما شاء الله أن ينتشر دعوة الإسلام جاء الناس إلى مكة ومعهم الأوس والخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذهب هو إليهم، وأعلنوا مبايعته والإيمان برسالته ونشر دعوته.. دون أن يطلب عليه الصلاة والسلام منهم ذلك.. ثم دعوه ليعيش بينهم في دار الإيمان.. كل هذا تم عندما شاء الله أن ينصر الإسلام بالهجرة إلى المدينة وينصره بمن اتبعوه.

ويقول الحق تبارك وتعالى:

{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ}..
أي أنهم قبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستفتحون بأنه قد أطل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه.. فلما جاء الرسول كذبوه وكفروا برسالته.

وقوله تعالى:

{عَلَى الذين كَفَرُواْ}..
أي كفار المدينة من الأوس والخزرج الذين لم يكونوا أسلموا بعد.. لأن الرسول لم يأت.. الحق سبحانه وتعالى يعطينا تمام الصورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين}.
وهكذا نرى أن بني إسرائيل فيهم جحود مركب جاءهم الرسول الذي انتظروه وبشروا به.. ولكن أخذهم الكبر رغم أنهم موقنون بمجيء الرسول الجديد وأوصافه موجودة عندهم في التوراة إلا أنهم رفضوا أن يؤمنوا فاستحقوا بذلك لعنة الله.. واللعنة كما قلنا هي الطرد من رحمة الله.



تفسير الشعراوي للآية 89 من سورة البقرة | مصراوى


.تفسير الآية رقم (90):


{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}

عندما رفض اليهود الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطردهم الله من رحمته..
بيّن لنا أنهم:

{بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}..

وكلمة إشترى سبق الحديث عنها وقلنا إننا عادة ندفع الثمن ونأخذ السلعة التي نريدها.. ولكن الكافرين قلبوا هذا رأسا على عقب وجعلوا الثمن سلعة..
على أننا لابد أن نتحدث أولا عن الفرق بين شرى واشترى..
شَرَى بمعنى باع.. واقرأ قوله عز وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20].

ومعنى الآية الكريمة أنهم باعوه بثمن قليل.. واشترى يعني ابتاع.. ولكن اشترى قد تأتي بمعنى شرى.. لأنك في بعض الأحيان تكون محتاجا إلى سلعة ومعك مال.. وتذهب وتشتري السلعة بمالك وهذا هو الوضع السليم.. ولكن لنفرض أنك احتجت لسلعة ضرورية كالدواء مثلا.. وليس عندك المال ولكن عندك سلعة أخرى كأن يكون عندك ساعة أو قلم فاخر.. فتذهب إلى الصيدلية وتعطي الرجل سلعة مقابل سلعة.. أصبح الثمن في هذه الحالة مشترى.. إذن فمرة يكون البيع مشتري ومرة يكون مبيعاً.

والحق تبارك وتعالى يقول:

{بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}..
وكأنما يعيرهم بأنهم يدعون الذكاء والفطنة.. ويؤمنون بالمادية وأساسها البيع والشراء.. لو كانوا حقيقة يتقنون هذا لعرفوا أنهم قد أتموا صفقة خاسرة.. الصفقة الرابحة كانت أن يشتروا أنفسهم مقابل التصديق بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.. ولكنهم باعوا أنفسهم واشتروا الكفر فخسروا الصفقة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.. والله سبحانه وتعالى يجعل بعض العذاب في الدنيا ليستقيم ميزان الأمور حتى عند من لم يؤمن بالآخرة.. فعندما يرى ذلك من لا يؤمن بالآخرة عذابا دنيويا يقع على ظالم.. يخاف من الظلم ويبتعد عنه حتى لا يصيبه عذاب الدنيا ويعرف أن في الدنيا مقاييس في الثواب والعقاب.. وحتى لا ينتشر في الأرض فساد من لا يؤمن بالله ولا بالآخرة.. وضع الحق تبارك وتعالى قصاصا في الدنيا..

واقرأ قوله جل جلاله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
والله سبحانه وتعالى في قصاصه يلفت المؤمن وغير المؤمن إلى عقوبة الحياة الدنيا.. فيأتي للمرابي الذي يمتص دماء الناس ويصيبه بكارثة لا يجد بعدها ما ينفقه.. ولذلك نحن نقول يا رب إن القوم غرهم حلمك واستبطأوا آخرتك فخذهم ببعض ذنوبهم أخذ عزيز مقتدر حتى يعتدل الميزان.
والله تبارك وتعالى جعل مصارع الظالمين والباغين والمتجبرين في الدنيا.. جعلها الله عبرة لمن لا يعتبر بمنهج الله.

فتجد إنسانا ابتعد عن دينه وأقبلت عليه الدنيا بنعيمها ومجدها وشهرتها ثم تجده في آخر أيامه يعيش على صدقات المحسنين.. وتجد امرأة غرها المال فانطلقت تجمعه من كل مكان حلالا أو حراما وأعطتها الدنيا بسخاء.. وفي آخر أيامها تزول عنها الدنيا فلا تجد ثمن الدواء.. وتموت فيجمع لها الناس مصاريف جنازتها.. كل هذه الأحداث وغيرها عبرة للناس.. ولذلك فهي تحدث على رؤوس الأشهاد.. يعرفها عدد كبير من الناس.. إما لأنها تنشر في الصحف وإما أنها تذاع بين أهل الحي فيتناقلونها.. المهم أنها تكون مشهورة.

وتجد مثلا أن اليهود الذين كانوا زعماء المدينة تجار الحرب والسلاح.. ينتهي بهم الحال أن يطردوا من ديارهم وتؤخذ أموالهم وتسبى نساؤهم.. أليس هذا خزيا؟

قوله تعالى:

{أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً}.
. البغي تجاوز الحد، والله جعل لكل شيء حدا مَنْ تجاوزه بَغَى.. والحدود التي وضعها الله سبحانه هي أحكام.. ومرة تكون أوامر ومرة تكون نواهي. ولذلك يقول الحق بالنسبة للأوامر: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
ويقول تعالى بالنسبة للنواهي: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].

ولكن ما سبب بغيهم؟..

بغيهم حسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتي إليه الرسالة.. وعلى العرب أن يكون الرسول منهم.. واليهود اعتقدوا لكثرة أنبيائهم أنهم الذين ورثوا رسالات الله إلى الأرض.. وعندما جاءت التوراة والإنجيل يبشران برسول خاتم قالوا إنه منا.. الرسالة والنبوة لن تخرج عنا فنحن شعب الله المختار.. ولذلك كانوا يعلنون أنهم سيتبعون النبي القادم وينصرونه.. ولكنهم فوجئوا بأنه ليس منهم.. حينئذ ملأهم الكبر والحسد وقالوا مادام ليس منا فلن نتبعه بل سنحاربه.. لقد خلعت منهم الرسالات لأنهم ليسوا أهلا لها.. وكان لابد أن يعاقبهم الله على كفرهم ومعصيتهم ويجعل الرسالة في أمة غيرهم.. والله تبارك وتعالى يقول: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [فاطر: 16-17].

لقد اختبرهم الله في رسالات متعددة ولكنهم كما قرأنا في الآيات السابقة.. كذبوا فريقا من الأنبياء. ومن لم يكذبوه قتلوه.. لذلك كان لابد أن ينزع الله منهم هذه الرسالات ويجعلها في أمة غيرهم.. لتكون أمة العرب فيها ختام رسالات السماء إلى الأرض.. ولذلك بغوا.

وقوله تعالى:

{بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}..
ومن هنا نعرف أن الرسالات واختيار الرسل.. فضل من الله يختص به من يشاء.. والله سبحانه حين يطلق أيدينا ويملكنا الأسباب.. فإننا لا نخرج عن مشيئته بل نخضع لها.. ونعرف أنه لا ذاتية في هذا الكون.
وذلك حتى لا يغتر الإنسان بنفسه.. فإن بطل العالم في لعبة معينة هو قمة الكمالات البشرية في هذه اللعبة.. ولكن هذه الكمالات ليست ذاتية فيه لأن غيره يمكن أن يتغلب عليه.. ولأنه قد يصيبه أي عائق يجعله لا يصلح للبطولة.. وعلى كل حال فإن بطولته لا تدوم.. لأنها ليست ذاتية فيه ومَنْ وهبها له وهو الله سيهبها لغيره متى شاءَ.. ولذلك لابد أن يعلم الإنسان أن الكمال البشري متغير لا يدوم لأحد.. وأن كل من يبلغ القمة ينحدر بعد ذلك لأننا في عالم أغيار.. ولابد لكل من علا أن ينزل.. فالكمال لله وحده.. والله سبحانه يحرس كماله بذاته.
إذن اليهود حسدوا رسول الله.. حسدوا نزول القرآن على العرب.. والحق سبحانه يقول: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.. والله جل جلاله يخبرنا أنه غضب عليهم مرتين.

الغضب الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة فغضب الله عليهم..
والغضب الثاني حين جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به فكفروا به.. وكان المفروض أن يؤمنوا حتى يرضى الله عنهم.. ولذلك غضب الله عليهم مرة أخرى عندما كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى:

{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}..
العذاب في القرآن الكريم وُصِفَ بأنه أليم.. وَوُصِفَ بأنه عظيم وَوُصِفَ بأنه مهين.. أليم أي شديد الألم يصيب من يعذب بألم شديد.. ولكن لنفرض أن الذي يعذب يتجلد.. ويحاول ألا يظهر الألم حتى لا يشمت فيه الناس.. يأتيه الله بعذاب عظيم لا يقدر على احتماله.. ذلك أن عظمة العذاب تجعله لا يستطيع أن يحتمل.. فإذا كان الإنسان من الذين تزعموا الكفر في الدنيا.. ووقفوا أمام دين الله يحاربونه وتزعموا قومهم.. يأتيهم الله تبارك وتعالى بعذاب مهين.. ويكون هذا أكثر إيلاما للنفس من الألم.. تماما كما تأتي لرجل هو أقوى مَنْ في المنطقة يخافه الناس جميعا ثم تضربه بيدك وتسقطه على الأرض.. تكون في هذه الحالة قد أهنته أمام الناس.. فلا يستطيع بعد ذلك أن يتجبر أو يتكبر على واحد منهم.. ويكون هذا أشد إيلاما للنفس من ألم العذاب نفسه ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 69-70].
وقوله جل جلاله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
ذلك هو العذاب المهين.

المصدر نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 90 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

gratis-png-texto-de-caligrafia-verde-cal

تفسير الآية رقم (91):


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}

يبين لنا الحق سبحانه وتعالى موقف اليهود.. من عدم الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مع أنهم أُومروا بذلك في التوراة.. فيقول جل جلاله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي إذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالإسلام وأن يؤمنوا بالقرآن رفضوا ذلك {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي نؤمن بالتوراة ونكفر بما وراءه، أي بما نزل بعده.

ونحن نعرف أن الكفر هو الستر.. ولو أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء يناقض ما عندهم ربما قالوا: جاء ليهدم ديننا ولذلك نكفر به.. ولكنه جاء بالحق مصدقا لما معهم.
إذن حين يكفرون بالقرآن يكفرون أيضا بالتوراة.. لأن القرآن يصدق ما جاء في التوراة.
وهنا يقيم الله تبارك وتعالى عليهم الحجة البالغة.. إن كفركم هذا وسلوكك ضد كل نبي جاءكم.. ولو أنكم تستقبلون الإيمان حقيقة بصدر رحب.. فقولوا لنا لِمَ قتلتم أنبياء الله؟..
ولذلك يقول الحق: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ}..
هل هناك في كتابكم التوراة أن تقتلوا أولياء الله.. كأن الحق سبحانه وتعالى قد أخذ الحجة من قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ}.. إذا كان هذا صحيحا وأنكم تؤمنون بما أنزل عليكم فهاتوا لنا مما أنزل إليكم وهي التوراة ما يبيح لكم قتل الأنبياء إن كنتم مؤمنين بالتوراة.. وطبعا لم يستطيعوا ردا لأنهم كفروا بما أنزل عليهم.. فهم كاذبون في قولهم نؤمن بما أنزل علينا.. لأن ما ينزل عليهم لم يأمرهم بقتل الأنبياء.. فكأنهم كفروا بما أنزل عليهم.. وكفروا بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام.

والقرآن يأتينا بالحجة البالغة التي تخرس أفواه الكافرين وتؤكد أنهم عاجزون غير قادرين على الحجة في المناقشة..

وهنا لابد أن نتنبه إلى قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ}..
قوله تعالى: (من قبلُ)

طمأنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتلهم الأنبياء انتهى، وفي الوقت نفسه قضاء على آمال اليهود في أن يقتلوا محمدا عليه الصلاة والسلام.. والله يريد نزع الخوف من قلوب المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما جرى للرسل السابقين من بني إسرائيل لن يجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبذلك قطع القرآن خط الرجعة على كل من يريد أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. لأن ذلك كان عهدا وانتهى.. وأنهم لو تآمروا على قتله عليه الصلاة والسلام فلن يفلحوا ولن يصلوا إلى هدفهم.

واليهود بعد نزول هذه الآية الكريمة لم يتراجعوا عن تآمرهم ولن يكفوا عن بغيهم في قتل الرسل والأنبياء.. فحاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة.. مرة وهو في حيهم ألقوا فوقه حجرا ولكن جبريل عليه السلام أنذره فتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانه قبل إلقاء الحجر.. ومرة دسوا له السم، ومحاولات أخرى فشلت كلها.

إذن فقوله تعالى: (من قبل) معناها..
إن كنتم تفكرون في التخلص من محمد صلى الله عليه وسلم بقتله كما فعلتم في أنبيائكم نقل لكم: إنكم لن تستطيعوا أن تقتلوه.
ولقد كانت هذه الآية كافية لإلقاء اليأس في نفوسهم حتى يكفوا عن أسلوبهم في قتل الأنبياء ولكنهم ظلوا في محاولاتهم، وفي الوقت نفسه كانت الآية تثبيتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. بأن اليهود مهما تآمروا فلن يمكنهم الله من شيء.. وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.. أي بما أنزل إليكم.


2014_12_22_16_20_49_270.jpg

.تفسير الآية رقم (92):


{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}

بعد أن بين لنا الله سبحانه وتعالى رفضهم للإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بحجة أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم فقط.. أوضح لنا أن هذه الحجة كاذبة وأنهم في طبيعتهم الكفر والإلحاد.. فقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات}.. أي أن موسى عليه السلام أيده الله ببينات ومعجزات كثيرة كانت تكفي لتملأ قلوبكم بالإيمان وتجعلكم لا تعبدون إلا الله.. فلقد شق لكم البحر ومررتم فيه وأنتم تنظرون وترون.. أي أن المعجزة لم تكن غيبا عنكم بل حدثت أمامكم ورأيتموها.. ولكنكم بمجرد أن تجاوزتم البحر وذهب موسى للقاء الله.. بمجرد أن حدث ذلك اتخذتم العجل إلها من دون الله وعبدتموه.. فكيف تدعون أنكم آمنتم بما أنزل إليكم.. لو كنتم قد آمنتم به ما كنتم اتخذتم العجل إلهاً.

والحق تبارك وتعالى يريد أن ينقض حجتهم في أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم.. ويرينا أنهم ما آمنوا حتى بما أنزل إليهم.. فجاء بحكاية قتل الأنبياء.. ولو أنهم كانوا مؤمنين حقا بما أنزل إليهم فليأتوا بما يبيح لهم قتل أنبيائهم ولكنهم كاذبون.. أما الحجة الثانية فهي إن كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم.. فقولوا لنا كيف وقد جاءكم موسى بالآيات الواضحة من العصا التي تحولت إلى حية واليد البيضاء من غير سوء والبحر الذي شققناه لكم لتنجوا من قوم فرعون.. والقتيل الذي أحياه لله أمامكم بعد أن ضربتموه ببعض البقرة التي ذبحتموها.. آيات كثيرة ولكن بمجرد أن ترككم موسى وذهب للقاء ربه عبدتم العجل.

إذن فقولكم نؤمن بما أنزل إلينا غير صحيح.. فلا أنتم مؤمنون بما أنزل إليكم ولا أنتم مؤمنون بما أنزل من بعدكم.. وكل هذه حجج الهدف منها عدم الإيمان أصلا.

وقوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}.. واتخاذ العجل في ذاته ليس معصية إذا اتخذته للحرث أو للذبح لتأكل لحمه.. ولكن المعصية هي اتخاذ العجل معبودا.. وقوله تعالى: {اتخذتم العجل}.. أي أن ذلك أمر مشهود لم تعبدوا العجل سرا بل عبدتموه جهرا، ولذلك فهو أمر ليس محتاجا إلى شهود ولا إلى شهادة لأنه حدث علنا وأمام الناس كلهم.. وذكر حكاية العجل هذه ليشعروا بذنبهم في حق الله.. كأن يرتكب الإنسان خطأ ثم يمر عليه وقت.. وكلما أردنا أن نؤنبه ذكرناه بما فعل.. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}.. أي ظالمون في إيمانكم.. ظالمون في حق الله بكفركم به.
.

2014_12_24_16_51_5_865.jpg


تفسير الآية رقم (93):


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}

بعد أن ذَكَّرهم الله سبحانه وتعالى بكفرهم بعبادتهم للعجل.. وكان هذا نوعا من التأنيب الشديد والتذكير بالكفر.. أراد أن يؤنبهم مرة أخرى وأن يُذَكِّرَهُم أنهم آمنوا خوفا من وقوع جبل الطور عليهم.. ولم يكن الجبل سيقع عليهم.. لأن الله لا يقهر أحدا على الإيمان.. ولكنهم بمجرد أن رأوا جبل الطور فوقهم آمنوا.. مثلهم كالطفل الذي وصف له الطبيب دواء مرا ليشفى. ولذلك فإن رَفْعَ الله سبحانه وتعالى لجبل الطور فوقهم ليأخذوا الميثاق والمنهج.. لا يقال إنه فعل ذلك إرغاما لكي يؤمنوا.. إنه إرغام المحب.. يريد الله من خلقه ألا يعيشوا بلا منهج سماوي فرفع فوقهم جبل الطور إظهارا لقوته وقدرته تبارك وتعالى حتى إذا استشعروا هذه القوة الهائلة وما يمكن أن تفعله لهم وبهم آمنوا.. فكأنهم حين أحسوا بقدرة الله آمنوا.. تماما كالطفل الصغير يفتح فمه لتناول الدواء المر وهو كاره.. ولكن هل أعطيته الدواء كرها فيه أو أعطيته له قمة في الحب والإشفاق عليه؟

الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أنه لم يترك حيلة من الحيل حتى يتلقى بنو إسرائيل منهج الله الصحيح.. نقول إنه لم يترك حيلة إلا فعلها.. لكن غريزة الاستكبار والعناد منعتهم أن يستمروا على الإيمان.. تماما كما يقال للأب إن الدواء مر لم يحقق الشفاء وطفلك مريض.. فيقول وماذا افعل أكثر من ذلك أرغمته على شرب الدواء المر ولكنه لم يشف.

وقول الله تعالى:
(ميثاقكم).
هل الميثاق منهم أو هو ميثاق الله؟.
طبعا هو ميثاق الله..
ولكن الله جل جلاله خاطبهم بقوله: (ميثاقكم) لأنهم أصبحوا طرفا في العقد.. وماداموا قد أصبحوا طرفا أصبح ميثاقهم.. ولابد أن نؤمن أن رفع جبل الطور فوق اليهود لم يكن لإجبارهم لأخذ الميثاق منهم حتى لا يقال أنهم أجبروا على ذلك.. هم اتبعوا موسى قبل أن يرفع فوقهم جبل الطور.. فلابد أنهم أخذوا منهجه باختيارهم وطبقوه باختيارهم لأن الله سبحانه وتعالى لم يبق الطور مرفوعا فوق رءوسهم أينما كانوا طوال حياتهم حتى يقال أنهم أجبروا.. فلو أنهم أجبروا لحظة وجود جبل الطور فوقهم.. فإنهم بعد أن انتهت هذه المعجزة لم يكن هناك ما يجبرهم على تطبيق المنهج.. ولكن المسألة أن الله تبارك وتعالى.. حينما يرى من عباده مخالفة فإنه قد يخيفهم.. وقد يأخذهم بالعذاب الأصغر علهم يعودون إلى إيمانهم.. وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين.

ولكن اليهود قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمادة والله تبارك وتعالى أراد أن يريهم آية مادية على قلوبهم تخشع وتعود إلى ذكر الله.
وليس في هذا إجبار لأنه كما قلنا إنه عندما انتهت المعجزة كان يمكنهم أن يعودوا إلى المعصية.. ولكنها آية تدفع إلى الإيمان.. وقوله تعالى: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} لأن ما يؤخذ بقوة يعطى بقوة.. والأخذ بقوة يدل على عشق الآخذ للمأخوذ.. وما دام المؤمن يعشق المنهج فإنه سيؤدي مطلوباته بقوة.. فالإنسان دائما عندما يأخذ شيئا لا يحبه فإنه يأخذه بفتور وتهاون.

قوله تعالى:

{واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}..
القول هو عمل اللسان والفعل للجوارح كلها ما عدا اللسان.. هناك قول وفعل وعمل.. القول أن تنطق بلسانك والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ.. والعمل أن يطابق القول الفعل.. هم: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} هم سمعوا ما قاله لهم الله سبحانه وتعالى وعصوه.. ولكن (عصينا) على أي شيء معطوفة؟.. إنها ليست معطوفة على (سمعنا).. ولكنها معطوفة على (قالوا).. قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا.. وليس معنى ذلك أنهم قالوا بلسانهم عصينا في الفعل.. فالمشكلة جاءت من عطف عصينا على سمعنا.. فتحسب أنهم قالوا الكلمتين.. لا.. هم قالوا سمعنا ولكنهم لم ينفذوا فلم يفعلوا. والله سبحانه وتعالى يريدهم أن يسمعوا سماع طاعة لا سماع تجرد أي مجرد سماع.. ولكنهم سمعوا ولم يفعلوا شيئا فكأن عدم فعلهم معصية.

قوله تعالى:

{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل}.
الحق تبارك وتعالى يريد أن يصور لنا ماديتهم.. فالحب أمر معنوي وليس أمراً ماديّاً لأنه غير محسوس.. وكان التعبير يقتضي أن يقال وأشربوا حب العجل.. ولكن الذي يتكلم هو الله.. يريد أن يعطينا الصورة الواضحة الكاملة في أنهم أشربوا العجل ذاته أي دخل العجل إلى قلوبهم.

لكن كيف يمكن أن يدخل العجل في هذا الحيز الضيق وهو القلب..
الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الشيوع في كل شيء بكلمة أُشْرِبُوا.. لأنها وصف لشرب الماء والماء يتغلغل في كل الجسم.. والصورة تعرب عن تغلغل المادية في قلوب بني إسرائيل حتى كأن العجل دخل في قلوبهم وتغلغل كما يدخل الماء في الجسم مع أن القلب لا تدخله الماديات.

ويقول الحق جل جلاله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ}.. كأن الكفر هو الذي أسقاهم العجل.. هم كفروا أولا.. وبكفرهم دخل العجل إلى قلوبهم وختم عليها.. وقوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.. هم قالوا نؤمن بما أنزل علينا ولا نؤمن بما جاء بعده.. قل هل إيمانكم يأمركم بهذا؟.

وهذا أسلوب تهكم من القرآن الكريم عليهم.. مثل قوله تعالى: {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
هل الطهر والطهارة مبرر لإخراج آل لوط من القرية؟..
طبعا لا..
ولكنه أسلوب تهكم واستنكار.. والحق أن إيمانهم بهذا بل يأمرهم بالإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 156-157].

هذا هو ما يأمرهم به إيمانهم.. أن يؤمنوا بالنبي الأمي محمد عليه الصلاة والسلام.. والله تبارك وتعالى يعلم ما يأمرهم به الإيمان لأنه منه جل جلاله.. ولذلك عندما يحاولون خداع الله.. يتهكم الله سبحانه وتعالى عليهم ويقول لهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} دليل على أنهم ليسوا مؤمنين.. ولكن لازال في قلوبهم الشرك والكفر أو العجل الذي عبدوه


2014_12_26_0_25_17_876.JPG

المصدر نداء الايمان

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم Gif Animé



تفسير الآية رقم (94):


{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}

والله سبحانه وتعالى يريد أن يفضح اليهود.. ويبين إن إيمانهم غير صحيح وأنهم عدلوا وبدلوا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.. وهو سبحانه يريدنا أن نعرف أن هؤلاء اليهود.. لم يفعلوا ذلك عن جهل ولا هم خُدعوا بل هم يعملون أنهم غيروا وبدلوا.. ويعرفون أنهم جاءوا بكلام ونسبوه إلى الله سبحانه وتعالى زورا وبهتانا.. ولذلك يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفضحهم أمام الناس ويبين كذبهم بالدليل القاطع..

فيقول:

{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة}:
(قل) موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قل لهم يا محمد.. ولا يقال هذا الكلام إلا إذا كان اليهود قالوا إن لهم: (الدار الآخرة عند الله خالصة).
الشيء الخالص هو الصافي بلا معكر أو شريك. أي الشيء الذي لك بمفردك لا يشاركك فيه أحد ولا ينازعك فيه أحد.. فالله سبحانه وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إن كانت الآخرة لهم وحدهم عند الله لا يشاركهم فيها أحد.. فكان الواجب عليهم أن يتمنوا الموت ليذهبوا إلى نعيم خالد.. فمادامت لهم الدار الآخرة وماداموا موقنين من دخول الجنة وحدهم.. فما الذي يجعلهم يبقون في الدنيا.. أَلاَ يتمنون الموت كما تمنى المسلمون الشهادة ليدخلوا الجنة.. وليست هذه هي الافتراءات الوحيدة من اليهود على الله سبحانه وتعالى..

واقرأ قوله جل جلاله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111].
من الذي قال؟
اليهود قالوا عن أنفسهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا،
والنصارى قالوا عن أنفسهم لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا..
كل منهم قال عن نفسه إن الجنة خاصة به. ولقد شكل قولهم هذا لنا لغزا في العقائد..
من الذي سيدخل الجنة وحده..
اليهود أم النصارى؟
نقول: إن الله سبحانه وتعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله جل جلاله:
{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
وهذا أصدق قول قالته اليهود وقالته النصارى بعضهم لبعض.
فاليهود ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء.. وكلاهما صادق في مقولته عن الآخر..

في الآية الكريمة التي نحن بصددها.. اليهود قالوا إن الدار الآخرة خالصة لهم.. سنصدقهم ونقول لهم لماذا لا يتعجلون ويتمنون الموت.. فالمفروض أنهم يشتاقون للآخرة مادامت خالصة لهم..

ولذلك قال الله تبارك وتعالى:

{إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}..
ولكنها أمانٍ كاذبة عند اليهود وعند النصارى..

واقرأ قوله سبحانه: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير} [المائدة: 18].
إذن هم يتوهمون أنهم مهما فعلوا من ذنوب فإن الله لن يعذبهم يوم القيامة.. ولكن عدل الله يأبى ذلك.. كيف يعذب بشرا بذنوبهم ثم لا يعذب اليهود بما اقترفوا من ذنوب.. بل يدخلهم الجنة في الآخرة.. وكيف يجعل الله سبحانه وتعالى الجنة في الآخرة لليهود وحدهم.. وهو قد كتب رحمته لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين برسالة الإسلام.. وأبلغ اليهود والنصارى بذلك في كتبهم.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 156-157].

إذا كانت هذه هي الحقيقة الموجودة في كتبهم.. والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85].
فكيف يَدَّعِي اليهود أن الدار الآخرة خالصة لهم يوم القيامة؟ ولكن الحق جل جلاله يفضح كذبهم ويؤكد لنا أن ما يقولونه هم أول من يعرف إنه كذب.



تفسير الشعراوي للآية 94 من سورة البقرة | مصراوى


تفسير الآية رقم (95):


{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}

إنهم لن يتمنوا الموت أبدا بل يخافوه.. والله تبارك وتعالى حين أنزل هذه الآية.. وضع قضية الإيمان كله في يد اليهود.. بحيث يستطيعون إن أرادوا أن يشككوا في هذا الدين.. كيف؟ ألم يكن من الممكن عندما نزلت هذه الآية أن يأتي عدد من اليهود ويقولوا ليتنا نموت.. نحن نتمنى الموت يا محمد. فادع لنا ربك يميتنا.. ألم يكن من الممكن أن يقولوا هذا؟ ولو نفاقا.. وَلو رياءً ليهدموا هذا الدين.. ولكن حتى هذه لم يقولوها ولم تخطر على بالهم..

أنظر إلى الإعجاز القرآني في قوله سبحانه:
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ}.
لقد حكم الله سبحانه حكما نهائيا في أمر إختياري لعدو يعادي الإسلام.. وقال إن هذا العدو وهم اليهود لن يتمنوا الموت.. وكان من الممكن أن يفطنوا لهذا التحدي.. ويقولوا بل نحن نتمنى الموت ونطلبه من الله.. ولكن حتى هذه لم تخطر على بالهم؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا حكم في أمر اختياري فهو يسلب من أعداء الدين تلك الخواطر التي يمكن أن يستخدموها في هدم الدين.. فلا تخطر على بالهم أبدا مثلما تحداهم الله سبحانه من قبل في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142].

ولقد نزلت هذه الآية الكريمة قبل أن يقولوا.. بدليل إستخدام حرف السين في قوله: (سيقولُ).. ووصفهم الله جل جلاله بالسفهاء.. ومع ذلك فقد قالوا.. ولو أن عقولهم تنبهت لسكتوا ولم يقولوا شيئا.. وكان في ذلك تحدٍ للقرآن الكريم.. كانوا سيقولون لقد قال الله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس}.. ولكن أحدا لم يقل شيئا فأين هم هؤلاء السفهاء ولماذا لم يقولوا؟ وكان هذا يعتبر تحديا للقرآن الكريم في أمر يملكون فيه حرية الاختيار.. ولكن لأن الله هو القائل والله هو الفاعل.. لم يخطر ذلك على بالهم أبدا، وقالوا بالفعل.

في الآية الكريمة التي نحن بصددها.. تحداهم القرآن أن يتمنوا الموت ولم يتمنوه.. وكان الكلام المنطقي مادامت الدار الآخرة خالصة لهم.. والله تحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين لتمنوه.. ليذهبوا إلى نعيم أبدي.. ولكن الحق حكم مسبقا أن ذلك لن يحدث منهم.. لماذا؟ لأنهم كاذبون ويعلمون أنهم كاذبون.. لذلك فهم يهربون من الموت ولا يتمنونه.


انظروا مثلا إلى العشرة المبشرين بالجنة..
عمار بن ياسر في الحرب في حنين.. كان ينشد وهو يستشهد الآن ألقى الأحبة محمدا وصحبه.. كان سعيداً لأنه أصيب وكان يعرف وهو يستشهد أنه ذاهب إلى الجنة عند محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته.
هكذا تكون الثقة في الجزاء والبشرى بالجنة.. وعبد الله بن رواحة كان يحارب وهو ينشد ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ** طيبة وبارد وشرابها

و
الإمام علي رضي الله عنه يدخل معركة حنين ويرتدي غلالة ليس لها دروع.. لا ترد سهما ولا طعنة رمح.. حتى إن إبنه الحسن يقول له: يا أبي ليست هذه لباس حرب.. فيرد علي كرم الله وجهه: يا بني إن أباك لا يبالي أسقط على الموت أم سقط الموت عليه.. وسيدنا حذيفة بن اليمان ينشد وهو يحتضر.. حبيب جاء على ناقة لا ربح من ندم.. إذن الذين يثقون بآخرتهم يحبون الموت.

وفي غزوة بدر سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل هؤلاء فيقتلوني.. فيجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم.. وكان في يد الصحابي تمرات يمضغها.. فيستبطئ أن يبقى بعيدا عن الجنة حتى يأكل التمرات فيلقيها من يده ويدخل المعركة ويستشهد.
هؤلاء هم الذين يثقون بما عند الله في الآخرة..

ولكن اليهود عندما تحداهم القرآن الكريم بقوله لهم:

{فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}..
سكنوا ولم يجيبوا.. ولو تمنوا الموت لانقطع نفس الواحد منهم وهو يبلع ريقه فماتوا جميعا.. قد يقول قائل وهل التمني باللسان؟ ربما تمنوا بالقلب.. نقول ما هو التمني؟ نقول إن التمني هو أن تقول لشيء محبوب عندك ليته يحدث. فهو قول.. وهب أنه عمل قلبي فلو أنهم تمنوا بقلوبهم لأطلع الله عليها وأماتهم في الحال.. ولكن مادام الحق تبارك وتعالى قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً}.. فهم لن يتمنوه سواء كان باللسان أو بالقلب.. لأن الإدعاء منهم بأن لهم الجنة عند الله خالصة أشبه بقولهم الذي يرويه لنا القرآن في قوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].

وقوله تعالى:

{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}..
أي أن أعمالهم السيئة تجعلهم يخافون الموت.. أما صاحب الأعمال الصالحة فهو يسعد بالموت.. ولذلك نسمع أن فلانا حين مات كان وجهه أشبه بالبدر لأن عمله صالح.. فساعة الموت يعرف فيها الإنسان يقينا أنه ميت.. فالإنسان إذا مرض يأمل في الشفاء ويستبعد الموت.. ولكن ساعة الغرغرة يتأكد الإنسان أنه ميت ويستعرض حياته في شريط عاجل.. فإن كان عمله صالحا تنبسط أساريره ويفرح لأنه سينعم في الآخرة نعيما خالدا.. لأنه في هذه الساعة والروح تغادر الجسد يعرف الإنسان مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار.

وتتسلمه إما ملائكة الرحمة وإما ملائكة العذاب.. فالذي أطاع الله يستبشر بملائكة الرحمة.. والذي عصى وفعل ما يغضب الله يستعرض شريط أعماله.. فيجده شريط سوء وهو مقبل على الله.. وليست هناك فرصة للتوبة أو لتغيير أعماله.. عندما يرى مصيره إلى النار تنقبض أساريره وتقبض روحه على هذه الهيئة.. فيقال فلان مات وهو أسود الوجه منقبض الأسارير.
إذن فالذي أساء في دنياه لا يتمنى الموت أبدا.. أما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت فقال: (لاَ يَتَمَنَّينَّ أحدُكم الموتَ ولا يدعو به من قَبلِ أن يَأْتِيَه إلا أن يكون قد وَثِقَ بعملِه).

نقول إن تمني الموت المنهي عنه هو تمني اليأس وتمني الاحتجاج على المصائب.. يعني يتمنى الموت لأنه لا يستطيع أن يتحمل قدر الله في مصيبة حدثت له.. أو يتمناه احتجاجا على أقدار الله في حياته.. هذا هو تمني الموت المنهي عنه.. أما صاحب العمل الصالح فمستحب له أن يتمنى لقاء الله.. وإقرأ قوله تعالى في آخر سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101].
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لا تتمنوا الموت جزعا مما يصيبكم من قدر الله.. ولكن إصبروا على قدر الله..

وقوله تعالى:

{والله عَلِيمٌ بالظالمين}..
لأن الله عليم بظلمهم ومعصيتهم.. هذا الظلم والمعصية هو الذي يجعلهم يخافون الموت ولا يتمنونه.



تفسير الشعراوي للآية 95 من سورة البقرة | مصراوى


.تفسير الآية رقم (96):


{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}

الحق سبحانه وتعالى بعد أن فضح كذبهم.. في أنهم لا يمكن أن يتمنوا الموت لأنهم ظالمون.. وماداموا ظالمين فالموت أمر مخيف بالنسبة لهم.. وهم أحرص الناس على الحياة.. حتى إن حرصهم يفوق حرص الذين أشركوا.. فالمشرك حريص على الحياة لأنه يعتقد أن الدنيا هي الغاية.. واليهود أشد حرصا على الحياة من المشركين لأنهم يخافون الموت لسوء أعمالهم السابقة.. لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون عن عذاب الآخرةِ.. الحياة لا تجعلهم يواجهون العذاب ولذلك فهم يفرحون بها.

إن اليهود لا يبالون أن يعيشوا في ذلة أو في مسكنة.. أو أي نوع من أنواع الحياة.. المهم أنهم يعيشون في أي حياة.. ولكن لماذا هم حريصون على الحياة أكثر من المشركين؟ لأن المشرك لا آخرة له فالدنيا هي كل همه وكل حياته.. لذلك يتمنى أن تطول حياته بأي ثمن وبأي شكل.. لأنه يعتقد أن بعد ذلك لا شيء.. ولا يعرف أن بعد ذلك العذاب.. واليهود أحرص من المشركين على حياتهم.

وقوله تعالى:

{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}..
الود هو الحب.. أي أنهم يحبون أن يعيشوا ألف سنة أو أكثر.. ولكن هب أنه عاش ألف سنة أو حتى أكثر من ذلك.. أيزحزحه هذا عن العذاب؟ لا.. طول العمر لا يغير النهاية.
فمادامت النهاية هي الموت يتساوى من عاش سنوات قليلة ومن عاش ألوف السنين.. قوله تعالى: (يعمر) بفتح العين وتشديد الميم يقال عنها إنها مبنية للمجهول دائما.. ولا ينفع أن يقال يعمر بكسر الميم.. فالعمر ليس بيد أحد ولكنه بيد الله.. فالله هو الذي يعطي العمر وهو الذي ينهيه.. وبما أن العمر ليس ملكا لإنسان فهو مبني للمجهول.

والعمر هو السن الذي يقطعه الإنسان بين ميلاده ووفاته.. ومادة الكلمة مأخوذة من العمار لأن الجسد تعمره الحياة. وعندما تنتهي يصبح الجسد أشلاء وخرابا..

قوله تعالى:

(ألف سنة)..
لماذا ذكرت الألف؟
لأنها هي نهاية ما كان العرب يعرفونه من الحساب.
ولذلك فإن الرجل الذي أسر في الحرب أخت كسرى فقالت كم تأخذ وتتركني؟
قال ألف درهم.. قالوا له بكم فديتها؟
قال بألف..
قالوا لو طلبت أكثر من ألف لكانوا أعطوك..
قال والله لو عرفت شيئا فوق الألف لقلته..
فالألف كانت نهاية العدد عند العرب.. ولذلك كانوا يقولون ألف ألف ولم يقولوا مليونا.

وقوله تعالى:

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ}..
معناها أنه لو عاش ألف سنة أو أكثر فلن يهرب من العذاب.

وقوله تعالى:

{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}..
أي يعرف ما يعملونه وسيعذبهم به سواء عاشوا ألف سنة أو أكثر أو أقل

المصدر نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 96 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

159927798_1348514312168518_5312571812277


تفسير الآية رقم (97):


{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}

الله تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء ويحرفوا التوراة ويشتروا بآيات الله جاه الدنيا فقط.. ولكنهم عادوا الملائكة أيضا.. بل إنهم أضمروا العداوة لأقرب الملائكة إلى الله الذي نزل بوحي القرآن وهو جبريل عليه السلام.. وأنهم قالوا جبريل عدو لنا.
الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم..

ولقد جلس ابن جوريا أحد أحبار اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له من الذي ينزل عليك بالوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل.. فقال اليهودي لو كان غيره لآمنا بك.. جبريل عدونا لأنه ينزل دائما بالخسف والعذاب.. ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب.. وأيضا هو عدوهم لأنهم اعتقدوا أن بيت المقدس سيخربه رجل اسمه بختنصر، فأرسل اليهود إليه من يقتله.. فلقى اليهودي غلاما صغيرا وسأله الغلام ماذا تريد؟ قال إني أريد أن أقتل بختنصر لأنه عندنا في التوراة هو الذي سيخرب بيت المقدس.. فقال الغلام إن يكن مقدرا أن يخرب هذا الرجل بيت المقدس فلن تقدر عليه.. لأن المقدر نافذ سواء رضينا أم لم نرضى.. وإن لم يكن مقدرا فلماذا تقتله؟ أي أن الطفل قال له إذا كان الله قد قضى في الكتاب أن بختنصر سيخرب بيت المقدس.. فلا أحد يستطيع أن يمنع قضاء الله.. ولن تقدر عليه لتقتله وتمنع تخريب بيت المقدس على يديه.. وإن كان هذا غير صحيح فلماذا تقتل نفسا بغير ذنب.. فعاد اليهودي دون أن يقتل بختنصر.. وعندما رجع إلى قومه قالوا له إن جبريل هو الذي تمثل لك في صورة طفل وأقنعك ألا تقتل هذا الرجل.

ويروى أن سيدنا عمر بن الخطاب كان له أرض في أعلى المدينة.. وكان حين يذهب إليها يمر على مدارس اليهود ويجلس إليهم.. وظن اليهود أن مجلس عمر معهم إنما يعبر عن حبه لهم.. فقالوا له إننا نحبك ونحترمك ونطمع فيك.. ففهم عمر مرادهم فقال والله ما جالستكم حبا فيكم.. ولكني أحببت أن أزداد تصورا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم عنه ما في كتابكم.. فقالوا له ومن يخبر محمدا بأخبارنا وأسرارنا؟ فقال عمر إنه جبريل ينزل عليه من السماء بأخباركم.. قالوا هو عدونا.. فقال عمر كيف منزلته من الله؟ قالوا إنه يجلس عن يمين الله وميكائيل يجلس على يسار الله.. فقال عمر مادام الأمر كما قلتم فليس أحدهما عدواً للآخر لأنهما عند الله في منزلة واحدة.
فمن كان عدواً لأحدهما فهو عدو لله.. فلن تشفع لكم عداوتكم لجبريل ومحبتكم لميكائيل لأن منزلتهما عند الله عالية.

إن عداوتهم لجبريل عليه السلام تؤكد ماديتهم.. فهم يقيسون الأمر على البشر.. إن الذي يجلس على يمين السيد ومن يجلس على يساره يتنافسان على المنزلة عنده.. ولكن هذا في دنيا البشر.. ولكن عند الملائكة لا شيء من هذا.. الله عنده ما يجعله يعطي لمن يريد المنزلة العالية دون أن ينقص من الآخر.. ثم إن الله سبحانه وتعالى اسمه الحق.. وما ينزل به جبريل حق وما ينزل به ميكائيل حق.. والحق لا يخاصم الحق.. وقال لهم عمر أنتم أشدّ كفرا من الحمير.. ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد الرسول يراه حتى قال له وافقك ربك يا عمر.. وتنزل قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} فقال عمر يا رسول الله.. إني بعد ذلك في إيماني لأصلب من الجبل.

إذن فقولهم ميكائيل حبيبنا وجبريل عدونا من الماديات، والله تبارك وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم.. إنهم يُعَادُون جبريل لأنه نزل على قلبك بإذن الله.. ومادام نزل من عند الله على قلبك.. فلا شأن لهم بهذا.. وهو مصدق لما بين يديهم من التوراة.. وهو هدى وبشرى للمؤمنين.. فأي عنصر من هذه العناصر تنكرونه على جبريل.. إن عداوتكم لجبريل عداوة لله سبحانه وتعالى.


2014_12_30_13_39_38_474.jpg

تفسير الآية رقم (98):


{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}

وهكذا أعطى الله سبحانه وتعالى الحُكْم.. فقال إن العداوة للرسل.. مثل العداوة للملائكة.. مثل العداوة لجبريل وميكائيل.. مثل العداوة لله. ولقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالملائكة ككل.. ثم ذكر جبريل وميكائيل بالاسم.

إن المسألة ليست مجزأة ولكنها قضية واحدة.. فمن كان عدوا للملائكة وجبريل وميكائيل ورسل الله.. فهو أولا وأخيرا عدو لله.. لأنه لا انقسام بينهم فكلهم دائرون حول الحق.. والحق الواحد لا عدوان فيه.. وإنما العدوان ينشأ من تصادم الأهواء والشهوات. وهذا يحدث في أمور الدنيا.
والآية الكريمة أثبتت وحدة الحق بين الله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل.. ومن يعادي واحدا من هؤلاء يعاديهم جميعا وهو عدو الله سبحانه.. واليهود أعداء الله لأنهم كفروا به.. وأعداء الرسل لأنهم كذبوهم وقتلوا بعضهم.

وهكذا فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى وحدة الحق في الدين.. مصدره هو الله جل جلاله.. ورسوله من الملائكة هو جبريل.. ورسله من البشر هم الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله.. وميكائيل ينزل بالخير والخصب لأن الإيمان أصل وجود الحياة.. فمن كان عدوا للملائكة والرسل وجبريل وميكائيل فهو كافر.. لأن الآية لم تقل إن العداوة لهؤلاء هي مجرد عداوة.. وإنما حَكَمَ الله عليهم بأنهم كافرون.. الله سبحانه وتعالى لم يخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم فقط، وإنما أمره بأن يعلنه حتى يعرفه الناس جميعا ويعرفوا أن اليهود كافرون.


2014_12_31_15_7_21_787.jpg

تفسير الآية رقم (99):


{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}

إنتقل الله سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى تأكيد صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأن الآيات فيها واضحة بحيث إِن كل إنسان يعقل ويريد الإيمان يؤمن بها.. ولكن الذين يريدون الفسق والفجور.. هم هؤلاء الذين لا يؤمنون.. ما معنى الآيات البينات؟ إن الآية هي الأمر العجيب.. وهو عجيب لأنه معجز.. والآيات معجزات للرسول تدل على صدق بلاغه عن الله.. وهي كذلك الآيات في القرآن الكريم.. وبينات معناها أنها أمور واضحة لا يختلف عليها ولا تحتاج إلى بيان: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون}.. والفسق هو الخروج عن الطاعة وهي مأخوذة من الرطبة.. البلح قبل أن يصبح رطبا لا تستطيع أن تنزع قشرته ولكن عندما يصبح رطبة تجد أن القشرة تبتعد عن الثمرة فيقال فسقت الرطبة.. ولذلك من يخرج عن منهج الله يقال له فاسق.

والمعنى أن الآيات التي أيد بها اللهُ سبحانه وتعالى محمداً عليه الصلاة والسلام ظاهرة أمام الكفار ليست محتاجة إلى دليل.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يقرأ كلمة في حياته.. يأتي بهذا القرآن المعجز لفظا ومعنى.. هذه معجزة ظاهرة لا تحتاج إلى دليل.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تغريه الدنيا كلها.. ليترك هذا الدين مهما أعطوه.. دليل على أنه صاحب مبدأ ورسالة من السماء.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر بقرآن موحى من السماء عن نتيجة حرب ستقع بعد تسع سنوات.. ويخبر الكفار والمنافقين بما في قلوبهم ويفضحهم.. ويتنبأ بأحداث قادمة وبقوانين الكون.. وغير ذلك مما احتواه القرآن المعجز من كل أنواع الإعجاز علميا وفلكيا وكونيا.. كل هذه آيات بينات يتحدى القرآن بها الكفار.. كلها آيات واضحة لا يمكن أن يكفر بها إلا الذي يريد أن يخرج عن منهج الله، ويفعل ما تهواه نفسه.

إن الإعجاز في الكون وفي القرآن وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كل هذا لا يحتاج إلا لمجرد فكر محايد.. لنعرف أن هذا القرآن هو من عند الله مليء بالمعجزات لغة وعلما.. وإنه سيظل معجزة لكل جيل له عطاء جديد.


2014_12_31_15_9_6_615.jpg

تفسير الآية رقم (100):


{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}

بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الدين الإسلامي، وكتابه القرآن فيه من الآيات الواضحة ما يجعل الإيمان به لا يحتاج إلا إلى وقفة مع العقل مما يجعل موقف العداء الذي يقفه اليهود من الإسلام منافيا لكل العهود التي أخذت عليهم، منافيا للإيمان الفطري، ومنافيا لأنهم عاهدوا الله ألا يكتموا ما جاء في التوراة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لعهدهم أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لما طلب منهم موسى أن يؤمنوا بالإسلام عندما يأتي الرسول، مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].

وهكذا نعرف أن موسى عليه السلام الذي أُخذ عليه الميثاق قد أبلغه إلى بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانوا يعرفون هذا الميثاق جيداً عند بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عندهم أوصاف دقيقة للرسول عليه الصلاة والسلام.. ولكنهم نقضوه كما نقضوا كثيرا من المواثيق.. منها عهدهم بعدم العمل في السبت، وكيف تحايلوا على أمر الله بأن صنعوا مصايد للأسماك تدخل فيها ولا تستطيع الخروج وهذا تحايل على أمر الله، ثم كان ميثاقهم في الإيمان بالله إلها واحداً أحدا، ثم عبدوا العجل.. وكان قولهم لموسى عليه السلام بعد أن أمرهم الله بدخول واد فيه زرع.. لأنهم أرادوا أن يأكلوا من نبات الأرض بدلا من المن والسلوى التي كانت تأتيهم من السماء.. قالوا لموسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.. وغير ذلك الكثير من المواثيق بالنسبة للحرب والأسرى والعبادة، حتى عندما رفع الله تبارك وتعالى جبل الطور فوقهم ودخل في قلوبهم الرعب وظنوا أنه واقع عليهم، ولم يكن هذا إلا ظنا وليس حقيقة.. لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.. وبمجرد ابتعادهم عن جبل الطور نقضوا الميثاق.

ثم نقضوا عهدهم وميثاقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وذلك في غزوة الخندق.. وعندما أرادوا أن يفتحوا طريقا للكفار ليضربوا جيوش المؤمنين من الخلف.
قوله تعالى: {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} قلنا إن هذا يسمى قانون صيانة الاحتمال.. لأن منهم من صان المواثيق.. ومنهم من صدق ما عهد الله عليه.. ومنهم مثلا من كان يريد أن يعتنق الدين الجديد ويؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام.

إذن فليسوا كلهم حتى لا يقال هذا على مطلق اليهود.. لأن فيهم أناسا لم ينقضوا العهد.. ويريد الله تبارك وتعالى أن يفتح الباب أمام أولئك الذين يريدون الإيمان، حتى لا يقولوا لقد حكم الله علينا حكما مطلقا ونحن نريد أن نؤمن ونحافظ على العهد، ولكن هؤلاء الذين حافظوا على العهد كانوا قلة.. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.. أي أن الفريق الناقض للعهد.. الناقض للإيمان هم الأكثرية من بني إسرائيل.


2014_12_31_15_18_29_398.jpg


تفسير الآية رقم (101):


{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}

بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى عن اليهود الذين نقضوا المواثيق الخاصة بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوها وهم يعلمون.. قال الله سبحانه: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ}.. أي أن ما جاء في القرآن مصدق لما جاء في التوراة.. لأن القرآن من عند الله والتوراة من عند الله.. ولكن التوراة حرفوها وكتموا بعضها وغيروا وبدلوا فيها فأخفوا ما يريدون إخفاءه.. لذلك جاء القرآن الكريم ليظهر ما أخفوه ويؤكد ما لم يخفوه ولم يتلاعبوا فيه.

وقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ}.. قلنا إن هناك كتابا نبذوه أولا وهو التوراة.. ولما جاءهم الكتاب الخاتم وهو القرآن الكريم نبذوه هو الآخر وراء ظهورهم.. ما معنى نبذه؟.. المعنى طرحه بعيدا عنه.. إذن ما في كتابهم من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذوه بعيدا.. ومن التبشير بمجيء رسول الله عليه الصلاة والسلام نبذوه هو الآخر.. لأنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم.

وقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ}.. يعني نبذ جماعة وبقيت جماعة أخرى لم تنبذ الكتاب.. بدليل أن ابن سلام وهو أحد أحبار اليهود صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به.. وكعب الأحبار مخيريق أسلم.. فلو أن القرآن عمم ولم يقل فريق لقيل إنه غير منصف لهؤلاء الذين آمنوا.

وقوله تعالى: {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ}.. النبذ قد يكون أمامك.. وكونه أمامك فأنت تراه دائما، وربما يغريك بالإقبال عليه، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم أي جعلوه وراءهم حتى ينسوه تماما ولا يلتفتوا إليه.

وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.. أي يتظاهرون بأنهم لا يعلمون ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصافه..

وقوله تعالى: (كأنهم).. دليل على أنهم يعلمون ذلك علم يقين.. لأنهم لو كانوا لا يعلمون.. لقال الحق سبحانه: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} وهم لا يعلمون.. إذن هم يعلمون يقينا ولكنهم تظاهروا بعدم العلم.. ولابد أن نتنبه إلى أن نبذ يمكن أن يأتي مقابلها فنقول نبذ كذا واتبع كذا.. وهم نبذوا كتاب الله ولكن ماذا اتبعوا؟



2014_12_31_15_20_16_554.jpg
المصدر
نداء الايمان

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
تفسير الآية رقم (105):

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}

ثم كشف الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين العداوة التي يكنها لهم أهل الكتاب من اليهود والمشركين.. الذين كفروا لأنهم رفضوا الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام.. فيلفتهم إلى أن اليهود والمشتركين يكرهون الخير للمؤمنين.. فتشككوا في كل أمر يأتي منهم، واعلموا أنهم لا يريدون لكم خيرا..
 
قوله تعالى:
(ما يود)..
أي ما يحب، والود معناه ميل القلب إلى من يحبه.. والود يختلف عن المعروف.. أنت تصنع معروفا فيمن تحب ومن لا تحب.. ولكنك لا تود إلا من تحب.. لذلك قال الله تبارك وتعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليقول عن الوالدين: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
يقول بعض المستشرقين إن هناك تناقضا بين الآيتين..
كيف أن الله سبحانه وتعالى يقول: لا توادوا من يحارب الله ورسوله..
ثم يأتي ويقول إذا حاول أبواك أن يجعلاك تشرك بالله فصاحبهما في الدنيا معروفا..
وطبعا الوالدان اللذان يحاولان دفع ابنهما إلى الكفر إنما يحاربان الله ورسوله.. كيف يتم هذا التناقض؟.
نقول إنكم لم تفهموا المعنى..
 
إن الإنسان يصنع المعروف فيمن يحب ومن لا يحب كما قلنا.. فقد تجد إنسانا في ضيق وتعطيه مبلغا من المال كمعروف.. دون أن يكون بينك وبينه أي صلة.. أما الود فلا يكون إلا مع من تحب.
إذن: {مَّا يَوَدُّ} معناها حب القلب.. أي أن قلوب اليهود والنصارى والمشركين لا تحب لكم الخير.. إنهم يكرهون أن ينزل عليكم خير من ربكم.. بل هم في الحقيقة لا يريدون أن ينزل عليكم من ربكم أي شيء مما يسمى خيرا.. والخير هو وحي الله ومنهجه ونبوة رسول صلى الله عليه وسلم.

 
وقوله تعالى:
{مِّنْ خَيْرٍ}..
أي من أي شيء مما يسمى خير.. فأنت حين تذهب إلى إنسان وتطلب منه مالا يقول لك ما عندي من مال.. أي لا أملك مالا، ولكنه قد يملك جنيها أو جنيهين.. ولا يعتبر هذا مالا يمكن أن يوفي بما تريده.. وتذهب إلى رجل آخر بنفس الغرض تقول أريد مالا.. يقول لك ما عندي من مال.. أي ليس عندي ولا قرش واحد، ما عندي أي مبلغ مما يقال له مال حتى ولو كان عدة قروش. والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن أهل الكتاب والكفار والمشركين.
مشتركون في كراهيتهم للمؤمنين.. حتى إنهم لا يريدون أن ينزل عليكم أي شيء من ربكم مما يطلق عليه خير.

وقوله تعالى:
{مِّن رَّبِّكُمْ}..
تدل على المصدر الذي يأتي منه الخير من الله.. فكأنهم لا يحبون أن ينزل على المؤمنين خير من الله.. وهو المنهج والرسالة. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}.. أي أن الخير لا يخضع لرغبة الكافرين وأمانيهم.. والله ينزل الخير لمن يشاء.. والله قد قسم بين الناس أمور حياتهم الدنيوية.. فكيف يطلب الكافرون أن يخضع الله منهجه لإرادتهم؟
 
واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31-32].
اعترض الكفار على نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا لو نزل على رجل من القريتين عظيم..
 
فيرد عليهم سبحانه وتعالى.. أنتم لا تقسمون رحمة الله ولكن الله يقسم بينكم حياتكم في الدنيا.
الحق تبارك وتعالى في الآية التي نحن بصددها يقول:
{والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}..
ساعة تقرأ كلمة يختص تفهم أن شيئا خصص لشيء دون غيره.. يعني أنني خصصت فلانا بهذا الشيء: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}.. أي يعطي الرحمة لمن يشاء لكي يؤدي مهمته أو ينزل رحمته على من يشاء، فليس لهؤلاء الكفار أن يتحكموا في مشيئة الله، وحسدهم وكراهيتهم للمؤمنين لا يعطيهم حق التحكم في رحمة الله.. ولذلك أراد الله أن يرد عليهم بأن هذا الدين سينتشر ويزداد المؤمنون به.. وسيفتح الله به أقطارا ودولا.. وسيدخل الناس فيه أفواجا وسيظهره على الدين كله.
ولو تأملنا أسباب انتصار أي عدو على من يعاديه لوجدنا إنها إما أسباب ظاهرة واضحة وإما مكر وخداع.. بحيث يظهر العدو لعدوه أنه يحبه ويكيد له في الخفاء حتى يتمكن منه فيقتله.. ولقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سرا.. لماذا؟ لأن الله أراد أن يقول لقريش لن تقدروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بالمكر والخداع والتبييت.. هم بيتوا الفتية ليقتلوه.. وجاءوا من كل قبيلة بفتى ليضيع دمه بين القبائل.. وخرج صلى الله عليه وسلم ووضع التراب على رءوس الفتية.. الله أرادهم أن يعرفوا أنهم لن يقدروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكر والتبييت والخداع ولا بالعداء الظاهر.

 
قوله تعالى:
{والله ذُو الفضل العظيم}..
الفضل هو الأمر الزائد عن حاجتك الضرورية.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فَلْيَعُدْ به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له».
وفضل مال أي مال زائد على حاجته. هذا عن الفضل بالنسبة للبشر. أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فإن كل ما في كون الله الآن وفي الآخرة هو فضل الله لأنه زائد على حاجته؛ فالله غير محتاج لخلقه ولا لكل نعمه التي سبقت والتي ستأتي. ولذلك قال: {والله ذُو الفضل العظيم}.. أي ذو الفضل الهائل الزائد على حاجته؛ لأنه ربما يكون عندي فضل، ولكني أبقيه لأنني سأحتاج إليه مستقبلا. والفضل الحقيقي هو الذي من عند الله. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو ذو الفضل العظيم؛ لأنه غير محتاج إلى كل خلقه أو كونه؛ لأن الله سبحانه كان قبل أن يوجد شيء، وسيكون بعد ألا يوجد شيء. وهذا ما يسمى بالفضل العظيم.

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

تفسير الآية رقم (106):


{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}

ولكن ما هو السبب؟
السبب أن أهل الكتاب والمشركين لا يريدون خيرا للمؤمنين في دينهم؛ لأنهم أحسوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في زمنه خير مما جاء به موسى وبقى إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم.. وخير مما جاء به عيسى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. وليس معنى ذلك أننا نحاول أن ننقص ما جاء به الرسل السابقون.. لكننا نؤكد أن الرسل السابقين جاءوا في أزمانهم بخير ما وُجد في هذه الأزمان..
 
فكل رسالة من الرسالات التي سبقت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وجاءت لقوم محدّدين ولزمن محدّد ثم جاء نبي جديد لينسخ ما في الرسالة السابقة لقوم محددين.. وزمن محدد..
 
واقرأ قول عيسى عليه السلام حينما بعث إلى بني إسرائيل كما يروي لنا القرآن الكريم: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50].
فكأن عيسى عليه السلام جاء لينسخ بعض أحكام التوراة.. ويحل لبني إسرائيل بعض ما حرمه الله عليهم.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرسول الخاتم أعطى الخير كله؛ لأنه دينه للعالمين وباق إلى يوم القيامة.

 
وهكذا نرى أن المؤمنين بالرسل كلما جاء رسول جديد كانوا ينتقلون من خير إلى خير.. وفيما تتفق فيه الرسالات كانوا ينتقلون إلى مثل هذا الخير.. وذلك فيما يتعلق بالعقائد، وإلى زيادة في الخير فيما يتعلق بمنهج الحياة.. هناك في رسالات السماء كلها أمور مشتركة لا فرق فيها بين رسول ورسول وهي قضية الإيمان بإله واحد أحد له الكمال المطلق.. سبحانه في ذاته، وسبحانه في صفاته، وسبحانه في أفعاله.. كل ذلك قدر الرسالات فيه مشترك.. ولكن الحياة في تطورها توجد فيها قضايا لم تكن موجودة ولا مواجهة في العصر الذي سبق..
 
فإذا قلنا إن رسالة بقيمتها العقائدية تبقى.. فإنها لا تستطيع أن تواجه قضايا الحياة التي ستأتي بها العصور التي بعدها فيما عدا الإسلام.. لأنه جاء دينا خاتما لا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.. على أننا نجد من يقول وماذا عن قول الله سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].
نقول إن هذا يأتي في شيء واحد.. يتعلق بالأمر الثابت في رسالات السماء وهو قضية قمة العقيدة والإيمان بالله الواحد.

 
أما فيما يتعلق بقضايا الحياة فإننا نجد أحكاما في هذه الحركة حسب ما طرأ عليها من توسعات.. ولذلك عندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم أعطى أشياء يعالج بها قضايا لم تكن موجودة في عهد الرسل السابقين.

يقول الله تبارك وتعالى:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}..
كلمة ننسخ معناها نزيل آية كانت موجودة ونأتي بآية أخرى بدلا منها.. كما يقال نسخت الشمس الظل.. أي أن الظل كان موجودا وجاءت الشمس فمحته وحلت هي مكانه.. ويقال نسخت الكتاب أي نقلته إلى صور متعددة، ونسخ الشيب الشباب أي أصبح الشاب شيخا.
 
وقوله تعالى
(ننسها)
لها معان متعددة..
قد يعني ذلك أن الله يجعل الإنسان يسهو ويغفل عنها.. فتضيع من ذاكرته أو يتركها إلى غيرها.. والعلماء إختلفوا في هذه المسألة.. وكان هذا الاختلاف لأن أحدهم يلحظ ملحظا وغيره يلحظ ملحظا آخر وكلاهما يريد الحق.
 
نأتي للنسخ في القرآن الكريم..
قوم قالوا لا نسخ في القرآن أبدا..
لماذا؟
لأن النسخ بداء على الله.. ما معنى البداء؟
هو أن تأتي بحكم ثم يأتي التطبيق فيثبت قصور الحكم عن مواجهة القضية فيعدل الحكم.. وهذا محال بالنسبة لله سبحانه وتعالى..
نقول لهم طبعا هذا المعنى مرفوض ومحال أن يطلق على الله تبارك وتعالى.. ولكننا نقول إن النسخ ليس بداء، وإنما هو إزالة الحكم والمجيء بحكم آخر.. ونقول لهم ساعة حكم الله الحكم أولا فهو سبحانه يعلم أن هذا الحكم له وقت محدود ينتهي فيه ثم يحل مكانه حكم جديد.. ولكن الظرف والمعاجلة يقتضيان أن يحدث ذلك بالتدريج.. وليس معنى ذلك أن الله سبحانه قد حكم بشيء ثم جاء واقع آخر أثبت أن الحكم قاصر فعدل الله عن الحكم.. إن هذا غير صحيح.
لماذا؟..
 
لأنه ساعة حكم الله أولا كان يعلم أن الحكم له زمن أو يطبق لفترة.. ثم بعد ذلك ينسخ أو يبدل بحكم آخر. إذن فالمشرع الذي وضع هذا الحكم وضعه على أساس أنه سينتهي وسيحل محله حكم جديد.
وليس هذا كواقع البشر.. فأحكام البشر وقوانينهم تعدل لأن واقع التطبيق يثبت قصور الحكم عن مواجهة قضايا الواقع.. لأنه ساعة وضع الناس الحكم علموا أشياء وخفيت عنهم أشياء.. فجاء الواقع ليظهر ما خفى وأصبح الحكم لابد أن ينسخ أو يعدل.. ولكن الأمر مع الله سبحانه وتعالى ليس كذلك.. أمر الله جعل الحكم موقوتا ساعة جاء الحكم الأول.
مثلا حين وجه الله المسلمين إلى بيت المقدس.

 
أكانت القضية عند الله أن القبلة ستبقى إلى بيت المقدس طالما وجد الإسلام وإلى يوم القيامة؟ ثم بدا له سبحانه وتعالى أن يوجه المسلمين إلى الكعبة؟ لا.. لم تكن هذه هي الصورة.. ولكن كان في شرع الله أن يتوجه المسلمون أولا إلى بيت المقدس فترة ثم بعد ذلك يتوجهون إلى الكعبة إلى يوم القيامة.
 
إذن فالواقع لم يضطر المشرع إلى أن يعدل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.. وإنما كان في علمه وفي شرعه أنه سيغير القبلة بعد فترة إلى الكعبة.. ولعل لذلك هدفا إيمانيا في أن العلة في الأمور هي أنها من الله؛ فالاتجاه إلى بيت المقدس أو الاتجاه إلى الكعبة لا يكلف المؤمنين جهدا إيمانيا إضافيا.. ولا يضع عليهم تكاليف جديدة. فالجهد نفسه الذي أبذله للاتجاه إلى الشرق أبذله للاتجاه إلى الغرب. ولكن الاختبار الإيماني أن تكون علة الأمر أنه صادر من الله.. فإذا قال الله اتجه إلى بيت المقدس إتجهنا.. فإذا قال اتجه إلى الكعبة اتجهنا.. ولا قدسية لشيء في ذاته.. ولكن القدسية لأمر الله فيه.

والله تبارك وتعالى حين أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم لم يسجدوا لذات آدم ولكنهم سجدوا لأمر الله بالسجود لآدم. والله سبحانه وتعالى اختار الكعبة المشرفة بيتا ومسجدا له في الأرض.. واتخذت الكعبة مقامها العالي عند المسلمين ليس لأنها بقعة في مكان ما جاءها إبراهيم والأنبياء وحج إليها الناس، ولكن مقامها جاء من أنها هي بيت الله باختيار الله لها.. وكل مساجد الأرض هي بيوت الله باختيار خلق الله.. ولكن المسجد الوحيد الذي هو بيت الله باختيار الله هو الكعبة.. ولذلك كان لابد لكل المساجد التي هي باختيار خلق الله.. أن تتجه إلى المسجد الذي هو باختيار الله..
 
ولكن العلة الإيمانية الكبرى هي أن نؤمن أن صدور الأمر من الله هو الحيثية لاتباع هذا الأمر دون أن نبحث عن أسبابه الدنيوية.
فإذا قال الله سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم.. فدون أن نبحث عن السبب أو نقول لماذا خمسة؟ فلننقص منها.. دون أن نفعل ذلك نصلي خمس مرات في اليوم والسبب أن الله قال، وهكذا الزكاة، وهكذا الصوم وهكذا الحج.. كلها تتم طاعة لله.. وهكذا تغيير القبلة تم اختباراً للطاعة الإيمانية لله.. فالله موجود في كل مكان.. فلا يأتي أحد ليقول لماذا الكعبة؟ وهل الله ليس موجوداً إلا في الكعبة؟ نقول لا إنه موجود في كل مكان.. ولكنه أمرنا أن نتجه إلى الكعبة.. ونحن لا نتجه إليها لأننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى موجود في هذا المكان فقط.
ولكن طاعة لأمر الله الذي أمرنا أن تكون قبلتنا إلى الكعبة.

 
ولعل تغيير القبلة يعطينا فلسفة نسخ الآيات.. لماذا؟ لأنه لم توجد أية ظروف أو تجد وقائع، أو تظهر أشياء كانت خفية تجعل الاتجاه إلى بيت المقدس صعبا أو محوطا بالمشاكل أو غير ذلك، ولكن تغيير القبلة جاء هنا لأن الله سبحانه وتعالى شاء أن يتوجه المسلمون إلى بيت المقدس فترة ثم يتوجهوا إلى الكعبة إلى يوم القيامة.
 
إذن فكل آية نسخت كان في علم الله سبحانه وتعالى أنها ستطبق لفترة معينة ثم بعد ذلك ستعدل.. وكان كل من الحكم الذي سينسخ، والوقت الذي سيستغرقه، والحكم الذي سيأتي بعده معلوما عند الله تبارك وتعالى ومقررا منذ الأزل وقبل بداية الكون.. وأيضا فإن الله أراد أن يلفتنا بالتوجه إلى بيت المقدس أولا.. لأن الإسلام دين يشمل كل الأديان، وأن بيت المقدس سيصبح من مقدسات الإسلام.. وأنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن المسلمين لن يكون لهم شأن في بيت المقدس، لذلك أسرى الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس.. ليثبت أن لبيت المقدس قداسة في الإسلام وإنه من المقدسات عند الله.. ومن هنا كان التوجه إلى بيت المقدس كقبلة أولى، ثم نسخ الله القبلة إلى الكعبة..
 
فالحق جل جلاله يقول:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}..
أي أن النسخ يكون إما أن يأتي الله سبحانه وتعالى بخير من هذه الآية أو يأتي بمثلها.. وهل الآية المنسوخة كان هناك خير منها ولم ينزله الله؟ نقول لا..
المعنى أن الآية المنسوخة كانت خيراً في زمانها..
والحكم الثاني كان زيادة في الخير بعد فترة من الزمن..
كلاهما خير في زمنه وفي أحكامه..
والله تبارك وتعالى أنزل الآية الكريمة: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
 
ولكن من يستطيع أن يتقي الله حق تقاته.. ذلك صعب على المسلمين.. ولذلك عندما نزلت الآية قالوا ليس منا من يستطيع أن يتقي الله حق تقاته.. فنزلت الآية الكريمة: {فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} [التغابن: 16].
 
الذي يتقي الله حق تقاته خير، أم الذي يتقي الله ما استطاع؟
طبعا حق تقاته خير من قدر الاستطاعة..
ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا}..
نقول إنك لم تفهم عن الله.. {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} في الآية الأولى
أو {فاتقوا الله مَا استطعتم} في الآية الثانية..
أي الحالتين أحسن؟
نقول إن العبرة بالنتيجة.
عندما تريد أن تقيم شيئا لابد أن تبحث عن نتيجته أولا.

ولنقرب المعنى للأذهان سنضرب مثلا ولله المثل الأعلى.. نفرض أن هناك تاجرا يبيع السلع بربح خمسين في المائة.. ثم جاء تاجر آخر يبيع نفس السلع بربح خمسة عشر في المائة.. ماذا يحدث؟ سيقبل الناس طبعا على ذلك الذي يبيع السلع بربح خمسة عشر في المائة ويشترون منه كل ما يريدون، والتاجر الذي يبيع السلع بربح خمسين في المائة يحقق ربحا أكبر.. ولكن الذي يبيع بربح خمسة عشر في المائة يحقق ربحا أقل ولكن بزيادة الكمية المبيعة.. يكون الربح في النهاية أكبر.
والذي يطبق الآية الكريمة: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} يحقق خيرا أكبر في عمله.. ولكنه لا يستطيع أن يتقي الله حق تقاته إلا في أعماله محدودة جدا.

إذن الخير هنا أكبر ولكن العمل الذي تنطبق عليه الآية محدود.
أما قوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} فإنه قد حدد التقوى بقدر الاستطاعة.. ولذلك تكون الأعمال المقبولة كثيرة وإن كان الأجر عليها أقل.

عندما نأتي إلى النتيجة العامة.. أعمال أجرها أعلى ولكنها قليلة ومحدودة جدا.. وأعمال أجرها أقل ولكنها كثيرة.. أيهما فيه الخير؟
طبعا الأعمال الكثيرة ذات الأجر الأقل في مجموعها تفوق الأعمال القليلة ذات الأجر المرتفع.

إذن فقد نسخت هذه الآية بما هو خير منها.. رغم أن الظاهر لا يبدو كذلك، لأن اتقاء الله حق تقاته خير من اتقاء الله قدر الاستطاعة..
ولكن في المحصلة العامة الخير في الآية التي نصت على الاستطاعة.
 
نأتي بعد ذلك إلى قوله تعالى:
{أَوْ مِثْلِهَا}..
هنا توقف بعض العلماء: قد يكون مفهوما أن ينسخ الله آية بخير منها، ولكن ما هي الحكمة في أن ينسخها بمثلها؟
إذا كانت الآية التي نسخت مثل الآية التي جاءت.. فلماذا تم النسخ؟
نقول إننا إذا ضربنا مثلا لذلك فهو مثل تغيير القبلة.. أن الله تبارك وتعالى حين أمر المسلمين بالتوجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس نسخ آية بمثلها.. لأن التوجه إلى الكعبة لا يكلف المؤمن أية مشقة أو زيادة في التكليف.. فالإنسان يتوجه ناحية اليمين أو إلى اليسار أو إلى الأمام أو إلى الخلف وهو نفس الجهد.. والله سبحانه وتعالى كما قلنا موجود.. وهنا تبرز الطاعة الإيمانية التي تحدثنا عنها وأن هناك أفعالا نقوم بها لأن الله قال.. وهذه تأتي في العبادات لأن العبادة هي طاعة عابد لأمر معبود.. والله تبارك وتعالى يريد أن نثبت العبودية له عن حب واختيار.. فإن قال افعلوا كذا فعلنا.. وإن قال لا تفعلوا لا نفعل.
والعلة في هذا أننا نريد اختياراً أن نجعل مراداتنا في الكون خاضعة لمرادات الله سبحانه وتعالى.. إذن مثلها لم تأت بلا حكمة بل جاءت لحكمة عالية.

 
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{أَوْ نُنسِهَا}
ما معنى ننسها؟
قال بعض العلماء إن النسخ والنسيان شيء واحد.. ولكن ساعة قال الله الحكم الأول كان في إرادته ومشيئته وعلمه أن يأتي حكم آخر بعد مدة.. ساعة جاء الحكم الأول ترك الحكم الثاني في مشيئته قدرا من الزمن حتى يأتي موعد نزوله.
إذن فساعة يأتي الحكم الأول.. يكون الحكم مرجأ ولكنه في علم الله. ينتظر انقضاء وقت الحكم الأول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} هي الآية المنسوخة أو التي سيتم عدم العمل بها: {أَوْ نُنسِهَا}.. أي لا يبلغها الله للرسول والمؤمنين عن طريق الوحي مع أنها موجودة في علمه سبحانه..
 
ويجب أن نتنبه إلى أن النسخ لا يحدث في شيئين:
الأول: أمور العقائد فلا تنسخ آية آية أخرى في أمر العقيدة.. فالعقائد ثابتة لا تتغير منذ عهد آدم حتى يوم القيامة.. فالله سبحانه واحد أحد لا تغيير ولا تبديل، والغيب قائم، والآخرة قادمة والملائكة يقومون بمهامهم.. وكل ما يتعلق بأمور العقيدة لا ينسخ أبدا.
والثاني: الإخبار من الله عندما يعطينا الله تبارك وتعالى آية فيها خبر لا ينسخها بآية جديدة.. لأن الإخبار هو الإبلاغ بشيء واقع.. والحق سبحانه وتعالى إخباره لنا بما حدث لا ينسخ لأنه بلاغ صدق من الله.. فلا تروى لنا حادثة الفيل ثم تنسخ بعد ذلك وتروى بتفاصيل أخرى لأنها أبلغت كما وقعت..
إذن لا نسخ في العقائد والإخبار عن الله..
ولكن النسخ يكون في التكليف.
. مثل قول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].
كأن المقياس ساعة نزول هذه الآية أن الواحد من المؤمنين يقابل عشرة من الكفار ويغلبهم.. ولكن كانت هذه عملية شاقة على المؤمنين.. ولذلك نسخها الله ليعطينا على قدر طاقتنا.. فنزلت الآية الكريمة: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66].

 
والحق سبحانه وتعالى علم أن المؤمنين فيهم ضعف.. لذلك لن يستطيع الواحد منهم أن يقاتل عشرة ويغلبهم.. فنقلها إلى خير يسير يقدر عليه المؤمنون بحيث يغلب المؤمن الواحد اثنين من الكفار.. وهذا حكم لا يدخل في العقيدة ولا في الإخبار.. وفي أول نزول القرآن كانت المرأة إذا زنت وشهد عليها أربعة يمسكونها في البيت لا تخرج منه حتى تموت.
واقرأ قوله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15].
وبعد أن شاع الإسلام وامتلأت النفوس بالإيمان.. نزل تشريع جديد هو الرجم أو الجلد.. ساعة نزل الحكم الأول بحبسهن كان الحكم الثاني في علم الله.. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً}.. وقوله سبحانه: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].
وقوله تعالى حتى يأتي الله بأمره.. كأن هناك حكما أو أمرا في علم الله سيأتي ليعدل الحكم الموجود.. إذن الله حين أبلغنا بالحكم الأول أعطانا فكرة.. إن هذا الحكم ليس نهائيا وأن حكما جديدا سينزل.. بعد أن تتدرب النفوس على مراد الله من الحكم الأول.. ومن عظمة الله أن مشيئته اقتضت في الميراث أن يعطي الوالدين اللذين بلغا أرذل العمر فقال جل جلاله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180].

 
وهكذا جعلها في أول الأمر وصية ولم تكن ميراثا.. لماذا؟
لأن الإنسان إن مات فهو الحلقة الموصولة بأبيه.. أما أبناؤه فحلقة أخرى.. ولما استقرت الأحكام في النفوس وأقبلت على تنفيذ ما أمر به الله.. جعل سبحانه المسألة فرضا.. فيستوفى الحكم. ويقول جل جلاله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11].
 
وهكذا بعد أن كان نصيب الوالدين في تركة الإبن وصية.. إن شاء أوصى بها وإن شاء لم يوصي أصبحت فرضا.. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. أي كل شيء يدخل في إرادة الله وقدرته سبحانه.. إذا قلنا إذا جاء الله بحكم لعصر فهذا هو قمة الخير.. لأنه إذا عُدل الحكم بعد أن أدى مهمته في عصره، فإن الحكم الجديد الذي يأتي هو قمة الخير أيضا.. لأن الله على كل شيء قدير، يواجه كل عصر بقمة الخير للموجودين فيه.. ولذلك فمن عظمة الله أنه لم يأت بالحكم خبرا من عنده ولكنه أشرك فيه المخاطب.. فلم يقل سبحانه (إن الله على كل شيء قدير).. ولكنه قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. لأنه واثق أن كل من يسمع سيقول نعم.. وهذا ما يعرف بالاستفهام الإنكاري أو التقريري.

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

0023.gif&key=2a9609ad6590be5d944be6a4121


تفسير الآية رقم (102):


{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}

يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين.. لأن النبذ يقابله الإتباع.. واتبعوا يعني اقتدوا وجعلوا طريقهم في الاهتداء هو ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان.. وكان السياق يقتضي أن يقال ما تلته الشياطين على ملك سليمان.. ولكن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن هذا الاتباع مستمر حتى الآن كأنهم لم يحددوا المسألة بزمن معين.
إنه حتى هذه اللحظة هناك من اليهود من يتبع ما تلته الشياطين على ملك سليمان، ونظرا لأن المعاصرين من اليهود قد رضوا وأخذوا من فعل أسلافهم الذين اتبعوا الشياطين فكأنهم فعلوا.

الحق سبحانه يقول:

{واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين}
ولكن الشياطين تلت وانتهت.. واستحضار اليهود لما كانت تتلوه الشياطين حتى الآن دليل على أنهم يؤمنون به ويصدقونه.. الشياطين هم العصاة من الجن..
والجن فيهم العاصون والطائعون والمؤمنون..
وإقرأ قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} [الجن: 11].
وقوله سبحانه عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} [الجن: 14].
إذن الجن فيهم المؤمن والكافر..
والمؤمنون من الجن فيهم الطائع والعاصي..
والشياطين هم مردةُ الجنِ المتمردون على منهج الله..
وكل متمرد على منهج الله نسميه شيطانا.. سواء كان من الجن أو من الإنس..
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} [الأنعام: 112].
إذن فالشياطين هم المتمردون على منهج الله.. قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ}.. يعني ما كانت تتلو الشياطين أيام ملك سليمان.


ولكن ما هي قصة ملك سليمان والشياطين؟..
الشياطين كانوا قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله قد مكنهم من قدرة الاستماع إلى أوامر السماء وهي نازلة إلى الأرض.. وكانوا يستمعون للأوامر تلقى من الملائكةِ وينقلونها إلى أئمة الكفر ويزيدون عليها بعض الأكاذيب والخرافات.. فبعضها يكون على حق والأكثر على باطل.. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121].
وكان الشياطين قبل نزول القرآن يستقرون السمع، ولكن عند بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إمتنع ذلك كله، حتى لا يضع الشياطين خرافاتهم في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في القرآن.. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: 9].
أي أن الشياطين كانت لها مقاعد في السماء تقعد فيها لتستمع إلى ما ينزل من السماء إلى الأرض ليتم تنفيذه.
ولكن عند نزول القرآن أرسل الله سبحانه وتعالى الشهب وهي النجوم المحترقة فعندما تحاول الشياطين الاستماع إلى ما ينزل من السماء ينزل عليهم شهاب يحرقهم.. ولذلك فإن عامة الناس حين يرون شهابا يحترق في السماء بسرعة يقولون: سهم الله في عدو الدين.. كأن المسألة في أذهان الناس وجعلتهم يقولون: سهم الله في عدو الدين.. الذي هو الشيطان.
واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن: 8].
{وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10].
أي أن الأمر اختلط على الشياطين لأنهم لم يعودوا يستطيعون استراق السمع.. ولذلك لم يعرفوا هل الذي ينزل من السماء خير أو شر؟.. أنظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء}.. كأنهم صعدوا حتى بلغوا السماء لدرجة أنها أصبحت قريبة لهم حتى كادوا يلمسونها.. فالله تبارك وتعالى في هذه الحالة وهي اتباع اليهود لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والتعاويذ والأشياء التي تضر ولا تفيد أراد أن يبرئ سليمان من هذا كله.. فقال جل جلاله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}.
وكان المنطق يقتضي أن يخص الله سبحانه وتعالى حكاية الشياطين قبل أن يبرئ سليمان من الكفر الذي أرادوا أن ينشروه.. ولكن الله أراد أن ينفي تهمة الكفر عن سليمان ويثبتها لكل من اتبع الشياطين فقال جل جلاله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ}.

إذن الشياطين هم الذين نشروا الكفر.. وكيف كفر الشياطينُ وبماذا أغروا أتباعهم بالكفر؟..
يقول الله سبحانه وتعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ}.

ما قصة كل هذا؟..
اليهود نبذوا عهد الله واتبعوا ما تتلو الشياطين أيام سليمان، وأرادوا أن ينسبوا كل شيء في عهد سليمان على أنه سحر وعمل شياطين، وهكذا أراد اليهود أن يوهموا الناس أن منهج سليمان هو من السحر ومن الشياطين. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يبرئ سليمان من هذه الكذبة.. سليمان عليه السلام حين جاءته النبوة طلب من الله سبحانه وتعالى أن يعطيه ملكا لا يعطيه لأحد من بعده.. واقرأ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} [ص: 35-38].

وهكذا أعطى سليمان الملك على الإنس والجن ومخلوقات الله كالريح والطير وغير ذلك.. حين أخذ سليمان الملك كان الشياطين يملأون الأرض كفراً بالسحر وكتبه. فأخذ سليمان كل كتب السحر وقيل أنه دفنها تحت عرشه.. وحين مات سليمان وعثرت الشياطين على مخبأ كتب السحر أخرجتها وأذاعتها بين الناس.. وقال أولياؤهم من أحبار اليهود إن هذه الكتب من السحر هي التي كان سليمان يسيطر بها على الإنس والجن، وأنها كانت منهجه، وأشاعوها بين الناس.. فأراد الله سبحانه وتعالى أنْ يبرئ سليمان من هذه التهمة ومن أنه حكم بالسحر ونشر الكفر..

قال جل جلاله:

{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر}.
ما هو السحر؟..
الكلمة مشتقة من سحر وهو آخر ساعات الليل وأول طلوع النهار.. حيث يختلط الظلام بالضوء ويصبح كل شيء غير واضح.. هكذا السحر شيء يخيل إليك أنه واقع وهو ليس بواقع.. إنه قائم على شيئين.. سحر العين لترى ما ليس واقعا على أنه حقيقة.. ولكنه لا يغير طبيعة الأشياء.. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في سحرة فرعون: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116].
إذن فالساحر يسيطر على عين المسحور ليرى ما ليس واقعا وما ليس حقيقة.. وتصبح عين المسحور خاضعة لإرادة الساحر.. ولذلك فالسحر تخيل وليس حقيقة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66].
إذن مادام الله سبحانه وتعالى قال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}.. فهي لا تسعى.. إذن فالسحر تخيل..


وما الدليل على أن السحر تخيل؟..
الدليل هو المواجهة التي حدثت بين موسى وسحرة فرعون.. ذلك أن الساحر يسحر أعين الناس ولكن عينيه لا يسحرهما أحد.. حينما جاء السحرة وموسى.. اقرأ قوله سبحانه: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 65-66].
عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم خُيِّل للموجودين إنها حيات تسعى.. ولكن هل خيل للسحرة إنها حيات؟ طبعا لا.. لأن أحدا لم يسحر أعين السحرة.. ولذلك ظل ما ألقوه في أعينهم حبالا وعِصِيّاً.. حين ألقى موسى عصاه واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 69-70].
هنا تظهر حقيقة السحر.. لماذا سجد السحرة؟ لأن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي حبالا وعصيا.. ذلك أن أحدا لم يسحر أعينهم.
ولكن عندما ألقى موسى عصاه تحولت إلى حية حقيقية.. فعرفوا أن هذا ليس سحرا ولكنها معجزة من الله سبحانه وتعالى.. لماذا؟ لأن السحر لا يغير طبيعة الأشياء، وهم تأكدوا أن عصا موسى قد تحولت إلى حية.. ولكن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي وإن كان قد خيل إلى الناس أنها تحولت إلى حية.

إذن فالسحر تخيل والساحر يرى الشيء على حقيقته لذلك فإنه لا يخاف.. بينما المسحورون الذين هم الناس يتخيلون أن الشيء قد تغيرت طبيعته.. ولذلك سجد السحرة لأنهم عرفوا أن معجزة موسى ليست سحرا.. ولكنها شيء فوق طاقة البشر.
السحر إِذن تخيل والشياطين لهم قدرة التشكل بأي صورة من الصور


ونحن لا نستطيع أن ندرك الشيطان على صورته الحقيقية
ولكنه إذا تشكل نستطيع أن نراه في صورة مادية..

فإذا تشكل في صورة إنسان رأيناه إنسانا، وإذا تشكل في صورة حيوان رأيناه حيوانا، وفي هذه الحالة تحكمه الصورة.. فإذا تشكل كإنسان وأطلقت عليه الرصاص مات، وإذا تشكل في صورة حيوان ودهمته بسيارتك مات، ذلك لأن الصورة تحكمه بقانونها..
وهذا هو السر في إنه لا يبقى في تشكله إلا لمحة ثم يختفي في ثوان..
لماذا؟

لأنه يخشى ممن يراه في هذه الصورة أن يقتله خصوصا أن قانون التشكل يحكمه.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشكل له الشيطان في صورة إنسان قال: (ولقد هممت أن أربطه في سارية المسجد ليتفرج عليه صبيان المدينة ولكني تذكرت قَول أخي سليمان: {رب هب لي مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فتركته) الحديث لم يُخَرَّجْ.
ومن رحمة الله بنا أنه إذا تشكل الشيطان فإن الصورة تحكمه.. وإلا لكانوا فزعونا وجعلوا حياتنا جحيما.. فالله سبحانه وتعالى جعل الكون يقوم على التوازن حتى لا يطغى أحد على أحد.. بمعنى أننا لو كنا في قرية وكلنا لا نملك سلاحا وجد التوازن.. فإذا ملك أحدنا سلاحا وادعى أنه يفعل ذلك ليدافع عن أهل القرية، ثم بعد ذلك استغل السلاح ليسيطر على أهل القرية ويفرض عليهم إتاوات وغير ذلك، يكون التوازن قد اختل وهذا مالا يقبله الله.

السحر يؤدي لاختلال التوازن في الكون.. لأن الساحر يستعين بقوة أعلى في عنصرها من الإنسان وهو الشيطان وهو مخلوق من نار خفيف الحركة قادر على التشكل وغير ذلك.. الإنسان عندما يطلب ويتعلم كيف يسخر الجن.. يدعي أنه يفعل ذلك لينشر الخير في الكون، ولكنها ليست حقيقة.. لأن هذا يغريه على الطغيان.. والذي يخل بأمن العالم هو عدم التكافؤ بين الناس.

إنسان يستطيع أن يطغى فإذا لم يقف أمامه المجتمع كله إختل التوازن في المجتمع. والله سبحانه وتعالى يريد تكافؤ الفرص ليحفظ أمن وسلامة الكون.. ولذلك يقول لنا لا تطغوا وتستعينوا بالشياطين في الطغيان حتى لا تفسدوا أمن الكون.
ولكن الله جل جلاله شاءت حكمته أن يضع في الكون ما يجعل كل مخلوق لا يغتر بذاتيته.. ولا يحسب أنه هو الذي حقق لنفسه العلو في الأرض.. ولقد كانت معصية إبليس في أنه رفض أن يسجد لآدم. إنه قال: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].

إذن فقد أخذ عنصر الخلق ليدخل الكبر إلى نفسه فيعصي، ولذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم البشر من القوانين، ما يجعل هذا الأعلى في العنصر وهو الشيطان يخضع للأدنى وهو الإنسان، حتى يعرف كل خلق الله أنه إن ميزهم الله في عنصر من العناصر، فإن هذا ليس بإرادتهم ولا ميزة لهم.. ولكنه بمشيئة الله سبحانه وتعالى.. فأرسل الملكين ببابل هاروت وماروت ليعلما الناس السحر. الذي يخضع الأعلى عنصراً للأدنى.

واقرأ قوله سبحانه:

{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}..
فالله تبارك وتعالى أرسل الملكين هاروت وماروت ليعلما الناس السحر.. ولقد رويت عن هذه الملكين قصص كثيرة.. ولكن مادام الله سبحانه وتعالى قد أرسل ملكين ليعلما الناس السحر.. فمعنى ذلك أن السحر علم يستعين فيه الإنسان بالشياطين.. وقيل إن الملائكة قالوا عن خلق آدم كما يروي لنا القرآن الكريم: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 20].

حينئذ طلب الحق جل جلاله من الملائكة.. أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض لينظروا ماذا يفعلان؟ فاختاروا هاروت وماروت..
وعندما نزلا إلى الأرض فتنتهما امرأة فارتكبا الكبائر.
هذه القصة برغم وجودها في بعض كتب التفسير ليست صحيحة.. لأن الملائكة بحكم خلقهم لا يعصون الله.. ولأنه من تمام الإيمان أن يؤدي المخلوق كل ما كُلِّف به من الله جل جلاله..
وهذان الملكان كلفا بأن يعلما الناس السحر.. وأن يحذرا بأن السحر فتنة تؤدي إلى الكفر وقد فعلا ذلك.. والفتنة هي الامتحان..

ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:

{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}..
إذن فهذان الملكان حذرا الناس من أن ما يعلمانه من السحر فتنة تؤدي إلى الكفر.. وإنها لا تنفع إلا في الشر وفي التفريق بين الزوج وزوجه.
وإن ضررها لا يقع إلا بإذن الله.. فليس هناك أي قوى في هذا الكون خارجة عن مشيئة الله سبحانه وتعالى.

ثم يأتي قول الحق تبارك وتعالى:

{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}..
إن الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن تعلم السحر يضر ولا ينفع.. فهو لا يجلب نفعا أبدا حتى لمن يشتغل به.. فتجد من يشتغل بالسحر يعتمد في رزقه على غيره من البشر فهم افضل منه.. وهو يظل طوال اليوم يبحث عن إنسان يغريه بأنه يستطيع أن يفعل له أشياء ليأخذ منه مالا، وتجد شكله غير طبيعي وحياته غير مستقرة وأولاده منحرفين. وكل من يعمل بالسحر يموت فقيرا لا يملك شيئا وتصيبه الأمراض المستعصية، ويصبح عبرة في آخر حياته.

إذن فالسحر لا يأتي إلا بالضرر ثم بالفقر ثم بلعنة الله في آخر حياة الساحر.. والذي يشتغل بالسحر يموت كافرا ولا يكون له في الآخرة إلا النار.. ولذلك قد اشتروا أنفسهم بأسوأ الأشياء لو كانوا يعلمون ذلك.. لأنهم لم يأخذوا شيئا إلا الضر.. ولم يفعلوا شيئا إلا التفريق بين الناس.. وهم لا يستطيعون أن يضروا أحدا إلا بإذن الله.

والله سبحانه وتعالى إذا كانت حكمته قد اقتضت أن يكون السحر من فتن الدنيا وابتلاءاتها.. فإنه سبحانه قد حكم على كل من يعمل بالسحر بأنه كافر.. ولذلك لا يجب أن يتعلم الإنسان السحر أو يقرأ عنه.. لأنه وقت تعلمه قد يقول سأفعل الخير ثم يستخدمه في الشر.. كما أن الشياطين التي يستعين بها الساحر غالبا ما تنقلب عليه لتذيقه وبال أمره وتكون شرا عليه وعلى أولاده.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6].
أي أن الذي يستعين بالجن ينقلب عليه ويذيقه ألوانا من العذاب.



2014_12_31_15_23_10_882.jpg


تفسير الآية رقم (103):


{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}

يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة.. لقد بين لهم أن السحر كفر، وأن من يقوم به يبعث كافرا يوم القيامة ويخلد في النار.. وقال لهم سبحانه وتعالى لو أنهم امتنعوا عن تعلم السحر ليمتازوا به على من سواهم إمتيازا في الضرر والإيذاء.. لكان ذلك خيرا لهم عند الله تبارك وتعالى.. لأن الملكين اللذين نزلا لتعليم السحر قال الله سبحانه عنهما: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}.

إذن فممارسة السحر كفر. فلو أنهم آمنوا بهذه القضية وبأنهم يدخلون في الكفر واتقوا الله لكان ذلك ثوابا لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة..


ولكن ما هي المثوبة؟

هي الثواب على العمل الصالح.. يقابلها العقوبة وهي العقاب على العمل السيئ.. وهي مشتقة من ثاب أي رجع.. ولذلك يسمى المبلغ عن الإمام في الصلاة المثوب.. لأن الإمام يقول الله أكبر فيرددها المبلغ عن الإمام بصوت عال حتى يسمعها المصلون الذين لا يصلهم صوت الإمام.. وهذا إسمه التثويب.. أي إعادة ما يقوله الإمام لتزداد فرصة الذين لم يسمعوا ما قاله الإمام.. وكما قلنا فهي مأخوذة من ثاب أي رجع.. لأن الإنسان عندما يعمل صالحا يرجع عليه عمله الصالح بالخير.. فلا تعتقد أن العمل الصالح يخرج منك ولا يعود.. ولكنه لابد أن يعود عليك بالخير.

وإذا نظرنا إلى دقة التعبير القرآني:

{لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ}.
نجد أن كلمة مثوبة مأخوذة من نفس معنى كلمة ثوب وجمعه ثياب.. وكان الناس قديما يأخذون أصواف الأغنام ليصنعوا منها ملابسهم.. فيأتي الرجل بما عنده من غنم ويجز صوفها ثم يعطيه لآخر ليغزله وينسجه ثوبا ويعيده إلى صاحبه.. فكأن ما أرسله من الصوف رد إليه كثوب.. ولذلك سميت مثوبة لأن الخير يعود إليك لتنتفع به نفعا عاليا.. وكذلك الثواب عن العمل الصالح يرتد إليك بالنفع العالي.

إذن فكلمة ثوب جاء منها الثواب، والله سبحانه وتعالى علمنا أن الثواب لستر العورة.. والعمل الصالح يستر الأمراض المعنوية والنفسية في الإنسان.. وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

فكأن هناك لباسين أحدهما لستر العورة..
والثاني لستر الإنسان من العذاب..
ولباس التقوى خير من لباس ستر العورة..
قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ}..
انظر إلى المثوبة التي تأتي من عند الله..
إذا كان الثواب يأتيك من عند من صنعه جميلا مزركشا وله ألوان مبهجة.
إذا كان هذا ما يصنعه لك بشر فما بالك بالثواب الذي يأتيك من عند الله. إنه قمة الجمال. فالله هو القادر على أن يرد الثواب بقدراته سبحانه فيكون الرد عاليا وعاليا جدا، بحيث يضاعف الثواب مرات ومرات. على أننا لابد أن نتنبه إلى قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا} قلنا معنى اتقوا أنهم جعلوا بينهم وبين صفات الجلال في الله وقاية.. ولذلك قلنا إن بعض الناس يتساءل.. كيف يقول الله تبارك وتعالى: (اتقوا الله).. ويقول جل جلاله: (اتقوا النار).. نقول إن معنى اتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية: (واتقوا النار).. أي اجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقاية.. لأن النار من متعلقات صفات الجلال..

لذلك فإن قوله: (اتقوا الله).. تساوي: (اتقوا النار)..
والحق تبارك وتعالى حينما قال: (اتقوا) أطلقها عامة..
والحذف هنا المراد به التعميم..
والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن السحرة لو آمنوا بأن تعلم السحر فتنة تؤدي إلى الكفر.. واتقوا الله وخافوا عذابه في الآخرة لكان ذلك خيراً لهم..
لذلك قال جل جلاله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ}.

وساعة تسمع كلمة خير تأتي إلى الذهن كلمة شر.. لأن الخير يقابله الشر.. ولكن في بعض الأحيان كلمة خير لا يقابلها شر. ولكن يقابلها خير أقل. وكلمة خير هي الوحيدة في اللغة العربية التي يساوي الإسم فيها أفعل التفضيل.. فأنت تقول هذا فاضل وهذا مفضول عليه.. كلمة خير إسم تفضيل فيقال ذلك خير من كذا.. أي واحد منهما يعطي أكثر من الآخر.. وكلمة خير إذا لم يأت مقابلها أي خير من كذا يكون مقابلها شر.. فإذا قلت فلان خير من فلان.. فكلاهما إشترك في الخير ولكن بدرجة مختلفة.. والخير هو ما يأتي لك بالنفع.. ولكن مقياس النفع يختلف باختلاف الناس.. واحد ينظر إلى النفع العاجل وآخر ينظر إلى النفع الآجل.. وفي ظاهر الأمر كل منهما أراد خيرا.

وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلى الأذهان فلنقل إن هناك أخوين أحدهما يستيقظ مبكراً ليذهب إلى مدرسته والثاني ينام حتى الضحى، ويخرج من البيت ليجلس على المقهى.. الأول يحب الخير لنفسه والثاني يحب الخير لنفسه والخلاف في تقييم الخير.. الكسول يحب الخير العاجل فيعطي نفسه حظها من النوم والترفيه وعدم العمل.. والمجتهد يحب الخير الآجل لنفسه لذلك يتعب ويشقى سنوات الدراسة حتى يرتاح بعد ذلك ويحقق مستقبلا مرموقا.
الفلاح الذي يزرع ويذهب إلى حقله في الصباح الباكر ويروي ويبذر الحب ويشقى، يأتيه في آخر العام محصول وافر وخير كثير.
والفلاح الذي يجلس على المقهى طول النهار أعطى نفسه خير الراحة، ولكن ساعة الحصاد يحصد الندم.
إذن كل الناس يحبون الخير ولكن نظرتهم ومقاييسهم تختلف.. فمنهم من يريد متعة اليوم، ومنهم من يعمل لأجل متعة الغد.. والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالخير.. قد يكون الخير متعبا للجسد والنفس.. ولكن النهاية متاع أبدي في جنة الخلد. إذن فالخير الحقيقي هو ما جاء به الشرع.. لماذا؟ لأن الخير هو ما ليس بعده بعد.. فأنت تولد ثم تكبر ثم تتخرج في الجامعة.. ثم تصبح في أعلى المناصب ثم تموت ثم تبعث ثم تدخل الجنة.. وبعدها لا شيء إلا الخلود في النعيم.

قوله تعالى:

{لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}..
الله ينفي عنهم العلم بينما في الآية السابقة أثبت لهم العلم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ}.. نقول إن العلم الذي لا يخضع حركة الإنسان له فكأنه لم يعلم شيئا.. لأن هذا العلم سيكون حجة على صاحبه يوم القيامة وليته لم يعلمه.. واقرأ قول الشاعر:
رُزِقُوا وما رُزِقٌوا سَمَاحَ يد ** فكأنهم رُزِقُوا وما رُزِقُوا

خُلِقُوا وما خُلِقُوا لمكرُمَةٍ ** فكأنهم خُلِقُوا وما خُلِقُوا

فكأن العلم لم يثبت لك لأنك لم تنفع به.. والله سبحانه وتعالى يقول: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].
{يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} وهكذا نفى الله عن الناس العلم الحقيقي.. وأثبت لهم العلم الدنيوي الظاهر.. وقوله جل جلاله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الجمعة: 5].
أي أنهم حملوا التوراة علما ولكنهم لم يحملوها منهجا وعملا.. وهؤلاء السحرة علموا أَنَّ مَنْ يمارس السحر يكفر.. ومع ذلك لم يعملوا بما علموا.



2015_1_5_15_49_23_992.jpg


.تفسير الآية رقم (104):


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}

هذا نداء للمؤمنين..
لأن الآية الكريمة تبدأ:

{يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ}..
نعرف أن الإيمان هنا هو سبب التكليف.. فالله لا يكلف كافرا أو غير مؤمن.. ولا يأمر بتكليف إلا لمن آمنوا.. فمادام العبد قد آمن فقد أصبحت مسئولية حركته في الحياة عند ربه.. ولذلك يوحي إليه بمنهج الحياة.. أما الكافر فلا يكلفه الله بشيء.
إذن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ}.. أمر لمن آمن بالله ورضى به إلها ومشرعا.. قوله: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ}.. نداء للمؤمنين

وقوله:

{لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}..
نهى.. وكأن راعنا كانت مقولة عندهم يريد الله أن ينهاهم عنها.. والإيمان يلزمهم أن يستمعوا إلى نهي الله.
ما معنى راعنا؟
نحن نقول في لغتنا الدارجة (راعينا).. يعني احفظنا وراقبنا وخذ بيدنا وكلها مأخوذة من مادة الرعاية والراعي. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».
وأصل المادة مأخوذة من راعي الغنم.. لأن راعي الغنم لابد أن يتجه بها إلى الأماكن التي فيها العشب والماء.. أي إلى أماكن الرعي.. وأن يكون حارسا عليها حتى لا تشرد واحد أو تضل فتفتك بها ذئاب الصحاري.. وأن يوفر لها الراحة حتى لا تتعب وتنفق في الطريق.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كنتُ أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة».


ولكن لماذا استبدل الحق سبحانه وتعالى كلمة راعنا بكلمة انظرنا؟
إن عند اليهود في العبرانية والسريانية كلمة راعنا ومعناها الرعونة..
ولذلك كانوا إذا سمعوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة راعنا..
اتخذوها وسيلة للسباب بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. والمسلمون لا يدرون شيئا.. لذلك أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتركوا هذه الكلمة.. حتى لا يجد اليهود وسيلة لستر سبابهم، وأمرهم بأن يقولوا: انظرنا.

ثم قال الحق سبحانه وتعالى:

(واسمعوا)..
والله هنا يشير إلى الفرق بين اليهود والمؤمنين..
فاليهود قالوا سمعنا وعصينا،
ولكن الله يقول للمؤمنين إسمعوا سماع طاعة وسماع تنفيذ.

سعد بن معاذ سمع واحدا من اليهود يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم راعنا وسعد كان من أحبار اليهود ويعرف لغتهم فلما سمع ما قاله فهم مراده. فذهب إلى اليهودي وقال له لو سمعتها منك مرة أخرى لضربت عنقك.. وقال اليهودي أو لستم تقولونها لنبيكم؟ أهي حرام علينا وحلال لكم؟ فنزلت الآية الكريمة تقول: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا}.. ولو تأملنا كلمة (راعنا) وكلمة (انظرنا) لوجدنا المعنى واحدا.. ولكن (انظرنا) تؤدي المعنى وليس لها نظير في لغة اليهود التي تعني الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم..

وقوله تعالى:

{وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}..
أي من يقولون راعنا إساءةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عذاب أليم.

نداء الايمان



2015_1_5_15_55_36_115.jpg

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

البسمله بخط الثلث
تفسير الآية رقم (107):


{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}

وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى لنا أن هناك آيات نسخت في القرآن.. أراد أن يوضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في كونه يفعل ما يشاء.. ولذلك بدأ الآية الكريمة:
{أَلَمْ تَعْلَمْ}..
وهذا التعبير يسمى الاستفهام الاستنكاري أو التقريري.. لأن السامع لا يجد إلا جوابا واحدا بأنه يقر ما قاله الله تبارك وتعالى.. ويقول نعم يا رب أنت الحق وقولك الحق.
 
قوله تعالى:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}..
الملك يقتضي مالكا ويقتضي مملوكا.. ويقتضي قدرة على استمرار هذا الملك وعدم زواله.. فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه يقدر ويملك المقدرة.. والإنسان ليست له قدرة التملك ولا المقدرة على استبقاء ما يملكه.. والإنسان لا يملك الفعل في الكون.. إن أراد مثلا أن يبني عمارة قد لا يجد الأرض.. فإن وجد الأرض قد لا يجد العامل الذي يبني.. فإن وجده قد لا يجد مواد البناء.. فإن وجد هذا كله قد تأتي الحكومة أو الدولة وتمنع البناء على هذه الأرض.. أو أن تكون الأرض ملكا لإنسان آخر فتقام القضايا ولا يتم البناء.
 
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}..
أي أن كل شيء في الوجود هو ملك لله وهو يتصرف بقدرته فيما يملك.. ولذلك عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. كان اليهود يملكون المال ولهم معرفة ببعض العلم الدنيوي لذلك سادوا المدينة.. وبدأوا يمكرون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. والله تبارك وتعالى طمأن رسوله بأن طلاقة القدرة في الكون هي لله وحده.. وأنه إذا كان لهم ملك فإنه لا يدوم لأن الله ينزع الملك ممن يشاء ويعطيه لمن يشاء.. ولذلك حينما يأتي يوم القيامة ويُهلك الله الأرض ومن عليها.. يقول سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16].
ويرد جل جلاله بشهادة الذات للذات فيقول: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
ومادام الله هو المالك وحده..
فإنه يستطيع أن ينزع من اليهود وغيرهم ومن الدنيا كلها ما يملكونه..
 
ويحدثنا العلماء أن العسَسَ وهم الجنود الذين يسيرون ليلا لتفقد أحوال الناس وجدوا شخصا يسير ليلا.. فلما تقدموا منه جرى فجروا وراءه إلى أن وصل إلى مكان خرب ليستتر فيه.. تقدم العسس وأمسكوا به وإذا بهم يجدون جثة قتيل في المكان.. فقالوا له أنت القاتل لأنك جريت حين رأيتنا ولأنك موجود الآن في المكان الذي فيه جثة القتيل.
فأخذوه ليحاكموه فقال لهم أمهلوني لأصلي ركعتين لله.. فأمهلوه فصلى ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم إنك تعلم أنه لا شاهد على براءتي إلا أنت.. وأنت أمرتنا ألا نكتم الشهادة فأسألك ذلك في نفسك.. فبينما هم كذلك إذا أقبل رجل فقال.. أنا قاتل هذا القتيل وأنا أقر بجريمتي.. فتعجب الناس وقالوا لماذا تقر بجريمتك ولم يرك أحد ولم يتهمك أحد.. فقال لهم والله ما أقررت إنما جاء هاتف فأجرى لساني بما قلت.. فلما أقر القاتل بما فعل وقام ولي المقتول وهو أبوه فقال.. اللهم إني أشهدك إني قد أعفيت قاتل ابني من دينه وقصاصه.

انظر إلى طلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى.. القاتل أراد أن يختفي ولكن أنظر إلى دقة السؤال من السائل أو المتهم البريء.. وقد صلى ركعتين لله.. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أنه إذا حزبنا أمر قمنا إلى الصلاة فليس أمامنا إلا هذا الباب.. وبعد أن صلى سأل الله أنت أمرتنا ألا نكتم الشهادة ولا يشهد ببراءتي أحد إلا أنت فأسألك ذلك في نفسك وبعد ذلك كان ما كان.

وهذه القصة تدلنا على أننا في قبضة الله.. أردنا أو لم نرد..
بأسباب أو بغير أسباب..
لماذا؟..
لأن الله له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.. وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.. الولي هو من يواليك ويحبك.. والنصير هو الذي عنده القدرة على أن ينصرك وقد يكون النصير غير الولي.. الحق تبارك وتعالى يقول أنا لكم وليٌّ ونصير أي محب وأنصركم على من يعاديكم.


تفسير الشعراوي للآية 107 من سورة البقرة | مصراوى


.تفسير الآية رقم (108):

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}

ثم ينقل الحق جل جلاله المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم.. ينقلهم إلى سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك
فيقول جل جلاله:
{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ}..
الحق يقول للمؤمنين أم تريدون أن تسألوا رسول الله كما سأل اليهود موسى.. ولم يشأ الحق أن يشبه المسلمين باليهود فقال: {كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ}.. وكان من الممكن أن يقول أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سأل اليهود موسى.. ولكن الله لم يرد أن يشبه اليهود بالمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهذا تكريم من الله للمؤمنين بأن ينزههم أن يتشبهوا باليهود.. وقد سأل اليهود موسى عليه السلام وقالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 153].
 
وقد سأل أهل الكتاب والكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي لنا القرآن الكريم: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90].
{أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 92-93].

 
الله تبارك وتعالى يهيب بالمؤمنين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كما سأله أهل الكتاب والكفار ويقول لهم أن اليهود قد سألوا موسى أكبر من ذلك.. فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم.. وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم.. بل كانت ظاهرة لهم واضحة.. دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته.. ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.. أي لم تكفهم هذه المعجزات.. وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار.. وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنما يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها.
 
وقوله تعالى:
{وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل}..
قلنا إن الباء في قوله تعالى: (بالإيمان) تدخل دائما على المتروك.. كأن تقول اشتريت هذا بكذا درهم.. يعني تركت الدراهم وأخذت البضاعة.. ومعناها أن الكفر مأخوذ والإيمان متروك.
فقد أخذ اليهود الكفر وتركوا الإيمان حين قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}.. وقوله سبحانه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل}.

ما هو الضلال؟..
هو أن تسلك سبيلا لا يؤدي بك إلى غايتك..
و(سواء السبيل)..
السواء هو الوسط..
و(سواء السبيل)..
هو وسط الطريق..
والله تبارك وتعالى يقول: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55].
أي في وسط الجحيم.. أي أنه يكون بعيدا عن الحافتين بعداً متساوياً.. وسواء الطريق هو وسطه.. والسبيل أو الطريق كان قبل استخدام التكنولوجيا الحديثة تكون أطرافه وعرة من جنس الأرض قبل أن تمهد.. أي لا تصلح للسير.. ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات. ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد أو في وسط الطريق لأنه أكثر أمانا لهم.. فهم فيه لن يضلوا يمينا ولا يسارا بل يسيروا على منهج الله والإيمان.. وطريق الإيمان دائما ممهد لا يقودهم إل الكفر.

نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 108 من سورة البقرة | مصراوى

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

Bismillah Pg Clipart , Png Download - بسم الله الرحمن الرحيم Png,  Transparent Png - 1071x321 PNG - DLF.PT

 

تفسير الآية رقم (109):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}


هذه الآية الكريمة تتناول أحداثا وقعت بعد غزوة أحد..

وفي غزوة أحد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. من الرماة ألا يغادروا مواقعهم عند سفح الجبل سواء انتصر المسلمون أو انهزموا.. فلما بدأت بوادر النصر طمع الرماة في الغنائم.. فخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزمهم الله.. ولكن الكفار لم يحققوا نصرا لأن النصر هو أن تحتل أرضا وتبقى.
 

هؤلاء الكفار بعد المعركة انطلقوا عائدين إلى مكة.. حتى أن المسلمين عندما خرجوا للقائهم في اليوم التالي لم يجدوا أحداً.. يهود المدينة استغلوا هذا الحدث.. وعندما التقوا بحذيفة بن اليمان وطارق وغيرهما.. قالوا لهم إن كنتم مؤمنين حقا لماذا إنهزمتم فارجعوا إلى ديننا واتركوا دين محمد.. فقال لهم حذيفة ماذا يقول دينكم في نقض العهد؟..

يقصد ما تقوله التوراة في نقض اليهود ولعهودهم مع الله ومع موسى.. ثم قال أنا لن انقض عهدي مع محمد ما حييت.. أما عمار فقال.. لقد آمنت بالله ربا وآمنت بمحمد رسولا وآمنت بالكتاب إماما وآمنت بالكعبة قبلة وآمنت بالمؤمنين إخوة وسأظل على هذا ما حييت.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله حذيفة وطارق بن ياسر فسر بذلك ولكن اليهود كانوا يستغلون ما حدث في أحد ليهزموا العقيدة الإيمانية في قلوب المسلمين كما استغلوا تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ليهزوا الإيمان في القلوب وقالوا إذا كانت القبلة تجاه بيت المقدس باطلة فلماذا اتجهتم إليها، وإذا كانت صحيحة فلماذا تركتموها، فنزل قول الله تعالى:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ}.
 

انظر إلى دقة التعبير القرآني في قوله تعالى:

{مِّنْ أَهْلِ الكتاب}..

فكأن بعضهم فقط هم الذين كانوا يحاولون رد المؤمنين عن دينهم.. ولكن كانت هناك قلة تفكر في الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام.. ولو أن الله جل جلاله حكم على كل أهل الكتاب لسد الطريق أمام هذه القلة أن يؤمنوا.. أي أن أهل الكتاب من اليهود يحبون أن يردوكم عن دينكم وهؤلاء هم الكثرة.. لأن الله تعالى قال:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.


وقوله تعالى:

{مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً}..

كفارا بماذا؟..

بما آمنتم به أو بما يطلبه منكم دينكم.. وهم لا يفعلون ذلك عن مبدأ أو عقيدة أو لصالحكم ولكن: {حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}.. فدينهم يأمرهم بعكس ذلك.. يأمرهم أن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ولذلك فهم لا ينفذون ما تأمرهم به التوراة حينما يرفضون الإيمان بالإسلام.


والذي يدعوهم إلى أن يحاولوا ردكم عن دينكم هو الحسد..

والحسد هو تمني زوال النعمة عمن تكره..

وقوله تعالى:

{حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}..

أي هذه المسألة من ذواتهم لأنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإيمان.. ويتمنون زوال هذه النعمة.. التي جعلت من المسلمين إخوانا متحابين متكاتفين مترابطين.. بينما هم شيع وأحزاب.. وهناك حسد يكون من منطق الدين وهذا مباح.. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فَسُلِّط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس».

فكأن الحسد حرام في غير هاتين الحالتين.. فكأن هؤلاء اليهود يحسدون المسلمين على دينهم.. وهذا الحسد من عند أنفسهم لا تقره التوراة ولا كتبهم..

 

وقوله سبحانه:

{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق}..

أي بعد ما تأكدوا من التوراة من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم.
 

وقوله تعالى:

{فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}..

ما هو العفو وما هو الصفح؟..

يقال عفت الريح الأثر أي مسحته وأزالته.. فالإنسان حين يمشي على الرمال تترك قدمه أثرا فتأتي الريح وتعفو الأثر أي تزيله.. ولذلك فإن العفو أن تمحو من نفسك أثر أي إساءة وكأنه لم يحدث شيء.. والصفح يعني طي صفحات هذا الموضوع لا تجعله في بالك ولا تجعله يشغلك..

 

وقوله تعالى:

{حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}..

أن هذا الوضع بالنسبة لليهود وما يفعلونه في المؤمنين لن يستمر لأن الله سبحانه قد أعد لهم أمرا ولكن هذا الأمر لم يأت وقته ولا أوانه.. وعندما يأتي سيتغير كل شيء.. لذلك يقول الله للمؤمنين لن تظلوا هكذا.. بل يوم تأخذونهم فيه بجرائمهم ولن يكون هذا اليوم بعيدا.. عندما يقول الله سبحانه: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}.. فلابد أن أمر الله آت.. لأن هذه قضية تتعلق بجوهر الإيمان كله.. فلا يقال أبدا حتى يأتي الله بأمره ثم لا يجيء هذا الأمر.. بل أمر الله بلا شك نافذ وسينصركم عليهم..

 

وقوله تعالى:

{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}..

أن الله له طلاقة القدرة في ملكه.. ولذلك إذا قال أنه سيأتي بأمر فسيتحقق هذا الأمر حتما وسيتم.. ولا توجد قدرة في هذا الكون إلا قدرة الله سبحانه.. ولا قوة إلا قوته جل جلاله.. ولا فعل إلا ما أراد.

تفسير الشعراوي للآية 109 من سورة البقرة | مصراوى

تفسير الآية رقم (110):

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}


بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن أقصى أماني أهل الكتاب أن يردونا كفارا، وأن هذا حسدا منهم. أراد الله تبارك وتعالى أن يبين لنا ما الذي يكرهه أهل الكتاب.. وقال إن الذي يتعبهم ميزان العدل والحق الذي نتبعه.. منهج الله سبحانه وتعالى.. ولذلك يأمر الله المؤمنين أن يثبتوا ويتمسكوا بالإيمان، وأن يقبلوا على التكليف فهذا أحسن رد عليهم.. والتكاليف التي جاء بها الإسلام منها تكليفات لا تتطلب إلا وقتاً من الزمن وقليلا من الفعل كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
 

إن شهادة لا إله إلا الله تقال مرة في العمر.. والزكاة والصوم مرة كل عام.. والحج للمستطيع مرة في العمر.. ولكن هناك من العبادات ما يتكرر كل يوم ليعطي المؤمن شحنة اليقين والإيمان ويأخذه من دنياه بالله أكبر خمس مرات في اليوم.. وهذه هي العبادة التي لا تسقط أبدا.. والإنسان سليم والإنسان مريض.. فالمؤمن يستطيع أن يصلي واقفا وأن يصلي جالسا وأن يصلي راقدا.. وأن يجري مراسم الصلاة على قلبه.. لذلك كانت هذه أول عبادة تذكر في قوله تعالى:

{وَأَقِيمُواْ الصلاة}

أي والتفتوا إلى نداءات ربكم للصلاة.. وعندما يرتفع صوت المؤذن بقوله الله أكبر فهذه دعوة للإقبال على الله.. إقبال في ساعة معلومة لتقفوا أمامه سبحانه وتعالى وتكونوا في حضرته يعطيكم الله المدد.. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
ومعنى حزبه أمر.. أي ضاقت به أسبابه فلم يجد مخرجا ولا طريقا إلا أن يلجأ إلى الله.. إذا حدث هذا يتوضأ الإنسان ويصلي ركعتين غير الفريضة.. ثم يدعو ما يشاء فيفرج الله كربه.. إذن: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} هي الرد المناسب على كل محاولاتهم ليسلبوكم دينكم.. ذلك أن هذا التكليف المقرر لإعلان الولاء الإيماني لله كل يوم خمس مرات.. نترك كل ما في الدنيا ونتجه إلى الله بالصلاة.. إنها عماد الدين وأساسه.


وقوله تعالى:

{وَآتُواْ الزكاة}..

إيتاء الزكاة لا يحدث إلا إذا كان لديهم ما هو زائد عن حاجتك.. فكأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نضرب في الأرض لنكسب حاجتنا وحاجة من نعول ونزيد.. وبذلك يخرج المسلمون من سيطرة اليهود الإقتصادية التي يستذلون بها المسلمين.
فالمؤمن حين يأتي الزكاة معناه أن حركته اتسعت لتشمل حاجته وحاجة غيره.. ولذلك حتى الفقير يجد في الزائد في أموال المسلمين ما يكفي حاجته.
فلا يذهب إلى اليهودي ليقترض بالربا.. ولذلك فالله سبحانه وتعالى يريد أن يتكامل المسلمون.. بحيث تكفي أموالهم غنيهم وفقيرهم والقادر على العمل منهم وغير القادر. والله تبارك وتعالى يزيد أموال المسلمين بأكثر مما يخرج منها من زكاة.. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه».
وقد سميت (الزكاة) لأنها في ظاهرها نقص وفي حقيقتها زيادة.. والربا ظاهره زيادة وحقيقته نقص.. وفي ذلك يقول الله جل جلاله: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276].

 

ثم يقول الحق سبحانه:

{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله}..

إذن لابد أن يطمئن المؤمن لأن حركة حياته هي ثواب وأجر عند الله تبارك وتعالى.. فإذا صلى فله أجر وإذا زكى فله أجر، وإذا تصدق فله أجر، وإذا صام فله أجر، وإذا حج فله أجر، كل ما يفعله من منهج الله له أجر، وليس أجرا بقدر العمل، بل أضعاف العمل.. وإقرأ قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وهكذا نعرف أن كل حركة في منهج الله ليس فقط لها أجر عند الله سبحانه وتعالى.. ولكنه أجر مضاعف أضعافا مضاعفة.. وهو أجر ليس بقدرات البشر ولكنه بقدرة الله سبحانه.. ولذلك فهو ليس مضاعفا فقط في عدد المرات ولكنه مضاعف في القدرة أيضا.. فكأن كل إنسان مؤمن لا أجر له في الآخرة.. وإذا أُعطى في الدنيا يُعطي عطاء المثل.. ولكن المؤمن وحده له عطاء الآخرة أضعافا مضاعفة.. وهو عطاء ليس زائلا كعطاء الدنيا ولكنه باق وخالد.
والخير الذي تفعله لن تدخره عندك أو عند من قد ينكره.. ويقول لا شيء لك عندي ولكن الله سيدخره لك.. فانظر إلى الإطمئنان والعمل في يد الله الأمينة، وفي مشيئته التي لا يغفل عنها شيء، وفي قدرته التي تضاعف أضعافا مضاعفة.. وتجده في الوقت الذي تكون في أحوج اللحظات إليه وهو وقت الحساب.

 

ثم يقول الحق تبارك وتعالى:

{الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}..

أي لا تعتقد أن هناك شيئا يخفى على الله، أو أن أحدا يستطيع أن يخدع الله؛ فالله سبحانه وتعالى بصير بكل شيء.. ليس بالظاهر منك فقط.. ولكن بما تخفيه في نفسك ولا تطلع عليه أحدا من خلق الله، إنه يعلم كل شيء واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [إبراهيم: 38].
وهكذا نطمئن إلى أن الله بصير بكل شيء، وانظر إلى قوله جل جلاله: (تعملون) لتفهم أهمية العمل.


تفسير الشعراوي للآية 110 من سورة البقرة | مصراوى

 

.تفسير الآية رقم (111):

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}


بعد أن بين الحق تبارك وتعالى كيف أن كل عمل في منهج الله له أجر، وأجر باق وثابت ومضاعف عند الله ومحفوظ بقدرة الله سبحانه.. أراد أن يرد على ادعاءات اليهود والنصارى الذين يحاولون أن يثيروا اليأس في قلوب المؤمنين بالكذب والإحباط علهم ينصرفون عن الإسلام.. لذلك فقد أبلغنا الله سبحانه بما افتروه.
 

واقرأ قوله تعالى:

{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى}.

. وفي هذه الآية الكريمة يظهر التناقض بين أقوال اليهود والنصارى.

. ولقد أوردنا كيف أن اليهود قد قالوا {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً}.. وقالت النصارى: (لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا).. والله سبحانه وتعالى يفضح التناقض في آية ستأتي في قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
ومعنى ذلك أنهم تناقضوا في أقوالهم، فقالت النصارى: إنهم سيدخلون الجنة وحدهم، وقالت اليهود القول نفسه. ثم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا.. ثم قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.

 

ويقول الناس إذا كنت كذوبا فكن ذكورا؛ ذلك أن الذي يكذب تتناقض أقواله لأنه ينسى مادام قد قال غير الحقيقة، ولذلك تجد أن المحقق أو القاضي يظل يسأل المتهم أسئلة مختلفة.. حتى تتناقض أقواله فيعرف أنه يكذب.. فأنت إذا رويت الواقعة كما حدثت فإنك ترويها مائة مرة دون أي خلاف في التفاصيل. ولكنك إذا كذبت تتناقض مع نفسك..

والله سبحانه وتعالى يقول:

{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}..

ما هي الأماني؟..

هي أن تعلق نفسك بأمنية وليس لهذه الأمنية سند من الواقع يوصلك إلى تحقيق هذه الأمنية.. ولكن إذا كان التمني قائما على عمل يوصلك إلى تحقيق الأمنية فهذا شيء آخر.
بعض الناس يقول التمني وإن لم يتحقق فإنه يروح عن النفس.. فقد ترتاح النفس عندما تتعلق بأمل كاذب وتعيش أياما في نوع من السعادة وإن كانت سعادة وهمية.. نقول إن الصدمة التي ستلحق بالإنسان بعد ذلك ستدمره.. ولذلك لا يكون في الكذب أبدا راحة.. فأحلام اليقظة لا تتحقق لأنها لا تقوم على أرضية من الواقع وهي لا تعطي الإنسان إلا نوعا من بعد عن الحقيقة.. ولذلك يقول الشاعر:
مُنَى إِنْ تَكُنْ حقاً تَكُنْ أَحْسَنَ الْمنَى ** وَإِلاّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَناً رَغْدَا

يعني الأماني لو كانت حقيقة أو تستند إلى الحقيقة فإنها أحسن الأماني لأنها تعيش معك.. فإن لم تكن حقيقة يقول الشاعر:
فقد عشنا بها زمنا رغدا ** أماني من ليلى حسان كأنما

سقتنا بها ليلى على ظمأ بردا

وقوله تعالى:

{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}

تبين لنا أن الأماني هي مطامع الحمقى لأنها لا تتحقق..

والحق سبحانه يقول:

{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}..

ما هو البرهان؟..

البرهان هو الدليل.. ولا تطلب البرهان إلا من إنسان وقعت معه في جدال واختلفت وجهات النظر بينك وبينه.. ولا تطلب البرهان إلا إذا كنت متأكداً أن محدثك كاذب.. وأنه لن يجد الدليل على ما يدعيه.
 

هب أن شخصا ادعى أن عليك مالا له.. وطلب منك أن تعيده إليه وأنت لم تأخذ منه مالا.. في هذه الحالة تطلب منه تقديم الدليل.. (فالكمبيالة) التي كتبتها له أو الشيك أو إيصال الأمانة.. وأضعف الإيمان أن تطلب منه شهودا على أنك أخذت منه المال.. ولكن قبل أن تطالبه بالدليل.. يجب أن تكون واثقا من نفسك وأنه فعلا يكذب وأنك لم تأخذ منه شيئا.
 

إذن فقوله الحق سبحانه: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}.. كلام من الله يؤكد أنهم كاذبون.. وأنهم لو أرادوا أن يأتوا بالدليل.. فلن يجدوا في كتب الله ولا في كلام رسله ما يؤكد ما يدعونه، وإن أضافوه يكن هذا افتراء على الله ويكن هناك الدليل الدامغ على أن هذا ليس من كلام الله ولكنه من افتراءاتهم.
إذن فليس هناك برهان على ما يقولونه.. ولو كان هناك برهان ولو كان في هذا الكلام ولو جزءا من الحقيقة.. ما كان الله سبحانه وتعالى يطالبهم بالدليل.

 

إذن لا تقول هاتوا برهانكم إلا إذا كنت واثقا أنه لا برهان على ما يقولون؛ لأنك رددت الأمر إليه فيما يدعيه.. وهو يحب أن يثبته ويفعل كل شيء في سبيل الحصول على برهان.. ولا يمكن أن يقول الله: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}.. إلا وهو سبحانه يعلم أنهم يكذبون..

ولذلك قال:

{إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}..

أي إن كنتم واثقين من أن ما تقولونه صحيح؛ لأن الله يعرف يقينا أنكم تكذبون.
.

نداء الايمان

تفسير الشعراوي للآية 111 من سورة البقرة | مصراوى

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - ¨°o.O« الخيمة  الرمضانية الكبرى "اليوم 11" إعداد وتقديم : جوهرة الإيمان31»O.o°¨

 

تفسير الآية رقم (112):

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}


بعد أن بين لنا الله تبارك وتعالى كذب اليهود وطالبهم بالدليل على ما قالوه من أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى جاء بحقيقة القضية ليخبرنا جل جلاله من الذي سيدخل الجنة.. فقال: (بلى).. وعندما تقرأ: (بلى) اعلم أنها حرف جواب ولابد أن يسبقها كلام ونفي.. فساعة يقول لك إنسان ليس لي عليك دين.. إذا قلت له نعم فقد صدقت أنه ليس عليه دين.. ولكن إذا قلت بلى فذلك يعني أن عليه دينا وأنه كاذب فيما قاله.. إذن بلى تأتي جوابا لتثبيت نفي ما تقدم.
 

هم قالوا {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى}.. عندما يقول الله لهم بلى فمعنى ذلك أن هذا الكلام غير صحيح.. وأنه سيدخلها غير هؤلاء.. وليس معنى أنه سيدخلها غير اليهود والنصارى.. أن كل يهودي وكل نصراني سيدخل الجنة.. لأن الله سبحانه وتعالى قد حكم حينما جاء الإسلام بأن الذي لا يسلم لا يدخل الجنة..

 

واقرأ قوله جل جلاله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [آل عمران: 85].
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى..
أنه لن يدخلها اليهود ولا النصارى..

لأن القرآن أزلي..

ما معنى أزلي؟..

أي أنه يعالج القضايا منذ بداية الخلق وحتى يوم القيامة.. فالقرآن كلام الله تبارك وتعالى.. فلو أنه قال لن يدخل الجنة إلا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان في هذا تجاوزٌ.. لأن هناك من آمن بموسى وقت رسالته وعاصره واتبعه وحسن دينه ومات قبل أن يدرك محمدا عليه الصلاة والسلام.. فهل هذا لا يدخل الجنة ويجازى بحسن عمله.. وهناك من النصارى من آمن بعيسى وقت حياته.. وعاصره ونفذ تعاليمه ومنهجه ثم مات قبل أن يُبْعَثَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام.. أهذا لن يدخل الجنة؟.. لا.. يدخل وتكون منزلته حسب عمله ويجازى بأحسن الجزاء.. ولكن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وجاء الإسلام ونزل القرآن، فكل من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة.. بل ولن يراها.. ولذلك جاء كلام الله دقيقا لم يظلم أحدا من خلقه.
إذن فقوله تعالى: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}.. أي لا يدخل الجنة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن.. فقد يسلم واحد وجهه لله ويكون منافقا يظهر غير ما يبطن.. نقول إن المنافقين لم يكونوا محسنين ولكنهم كانوا مسيئين.

لأن لهم شخصيتين شخصية مؤمنة أمام الناس وشخصية كافرة في الحقيقة أو في قلوبهم.
 

قوله تعالى:

{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ}

تدلنا على أن كل شيء أسلم لله لأن الوجه هو أشرف شيء في الإنسان.. فيه التمييز وفيه السمة وفيه التشخص وهو أعلى ما في الجسم.. وحينما عرفوا الإنسان قالوا حيوان ناطق أي حيوان مفكر.. وقال بعضهم حيوان مستوي القامة يعني قامته مرفوعة.. والقامة المرفوعة على بقية الجسم هي الوجه.. والإنسان مرفوع على بقية أجناس الأرض.. إذن هو مرفوع على بقية الأجناس ووجهه مرفوع عليه.. فإذا أسلم وجهه لله يكون قد أسلم أشرف شيء فيه لله.. ولذلك قيل.. أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد.. لماذا؟.. لأنه جاء بالوجه الذي رفعه الله به وكرمه.. وجعله مساويا لقدميه ليستوي أكمل شيء فيه بأدنى شيء.. فلم يبقى عنده شيء يختال به على الله.
 

الحق سبحانه وتعالى يقول:

{فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ}..

كلمة {أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ}.. دلت على أن الله لم يجعلنا مقهورين.. ولكنه كلفنا وجعلنا مختارين أن نفعل أو لا نفعل.. فإن فعلنا فلنا أجر.. ولأن التكليف من الله سبحانه وتعالى فالمنطقي أن يكون الأجر عند الله.. وألا يوجد خوف أو حزن.. لأن الخوف يكون من شيء سيقع.. والحزن يأتي على شيء قد وقع.. ولا هذه ولا تلك تحدث عندما يكون أجرنا عند الله.
إن الإنسان حين يكون له حق عند مساويه.. فربما يخاف أن ينكر المساوي هذا الحق أو يطمع فيه، أو يحتاج إليه فيدعي عدم أحقيته فيه، ولكن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين.. ولذلك فهو لا يطمع فيما في أيدينا من خير لأنه من عنده.. ولا يطمع فيما معنا من مال لأن عنده خزائن السموات والأرض.

 

الله سبحانه لا ينكر حقا من حقوقنا لأنه يعطينا من فضله ويزيدنا.. ولذلك فإن ما عند الله لا خوف عليه بل هو يضاعَف ويزداد.. وما عند الله لا حزن عليه.. لأن الإنسان يحزن إذا فاته خير.. ولكن ما عند الله باق لا يفوتك ولا تفوته.. فلا يوجد شيء عند الله سبحانه وتعالى تحزن عليه لأنه فات.. ولذلك كان قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.. أدق ما يمكن أن يقال عن حالة المؤمنين في الآخرة.. أنهم يكونون فرحين بما عند الله لا خوف عندهم ولا حزن.

تفسير الشعراوي للآية 112 من سورة البقرة | مصراوى

 


تفسير الآية رقم (113):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}


نقول إن أصدق ما قاله اليهود والنصارى.. هو أن كل طائفة منهم اتهمت الأخرى بأنها ليست على شيء.. فقال اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.. والعجيب إن الطائفتين أهل كتاب.. اليهود أهل كتاب والنصارى أهل كتاب.. ومع ذلك كل منهما يتهم الآخر بأنه لا إيمان له وبذلك تساوى مع المشركين.
 

الذين يقولون إن أهل الكتاب ليسوا على شيء.. أي أن المشركين يقولون اليهود ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء.. واليهود يقولون المشركون ليسوا على شيء والنصارى ليسوا على شيء.. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}.. وبذلك أصبح لدينا ثلاث طوائف يواجهون الدعوة الإسلامية.. طائفة لا تؤمن بمنهج سماوي ولا برسالة إلهية وهؤلاء هم المشركون.. وطائفتان لهم إيمان ورسل وكتب هم اليهود والنصارى..

 

ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:

{كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}..

أي الذين لا يعلمون دينا ولا يعلمون إلها ولا يعلمون أي شيء عن منهج السماء.. اتحدوا في القول مع اليهود والنصارى وأصبح قولهم واحدا.
وكان المفروض أن يتميز أهل الكتاب الذين لهم صلة بالسماء وكتب نزلت من الله ورسل جاءتهم للهداية.. كان من المفروض أن يتميزوا على المشركين.. ولكن تساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. وهذا معنى
قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}.. ومادامت الطوائف الثلاث قالوا على بعضهم نفس القول.. يكون حجم الخلاف بينهم كبيرا وليس صغيرا.. لأن كل واحد منهم يتهم الآخر أنه لا دين له.
 

هذا الخلاف الكبير من الذي يحكم فيه؟

لا يحكم فيه إلا الله.. فهو الذي يعلم كل شيء.. وهو سبحانه القادر على أن يفصل بينهم بالحق.. ومتى يكون موعد هذا الفصل أو الحكم؟ أهو في الدنيا؟ لا.. فالدنيا دار اختبار وليست دار حساب ولا محاسبة ولا فصل في قضايا الإيمان.. ولذلك فإن الحكم بينهم يتم يوم القيامة وعلى مشهد من خلق الله جميعا.
 

والحق سبحانه وتعالى يقول:

{فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}..

ومعنى الحكم هنا ليس هو بيان المخطئ من المصيب فالطوائف الثلاث مخطئة.. والطوائف الثلاث في إنكارها للإسلام قد خرجت عن إطار الإيمان.. ويأتي الحكم يوم القيامة ليبين ذلك ويواجه المخالفين بالعذاب.



تفسير الشعراوي للآية 113 من سورة البقرة | مصراوى

 

تفسير الآية رقم (114):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}


فالحق جل جلاله بعد أن بين لنا موقف اليهود والنصارى والمشركين من بعضهم البعض ومن الإسلام، وكيف أن هذه الطوائف الثلاث تواجه الإسلام بعداء ويواجه بعضها البعض باتهامات.. فكل طائفة منها تتهم الأخرى أنها على باطل.. أراد أن يحذرهم تبارك وتعالى من الحرب ضد الإسلام ومحاربة هذا الدين فقال:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه}..

مساجد الله هي الأماكن التي يتم فيها السجود لله.. والسجود علامة الخضوع وعلامة العبودية كما بينا.. لأنك تضع أشرف شيء فيك وهو وجهك على الأرض خضوعا لله وخشوعا له.
قبل الإسلام كان لا يمكن أن يصلي أتباع أي دين إلا في مكان خاص بدينهم.. مكان مخصص لا تجوز الصلاة إلا فيه.. ثم جاء الله بالإسلام فجعل الأرض كلها مسجدا وجعلها طهورا..

ومعنى أن تكون الأرض كلها مسجداً هو توسيع على عباد الله في مكان التقائهم بربهم وفي أماكن عبادتهم له حتى يمكن أن تلتقي بالله في أي مكان وفي أي زمان.. لأنه لا يحدد لك مكانا معينا لا تصح الصلاة إلا فيه.. وأنت إذا أردت أن تصلي ركعتين لله بخلاف الفرض.. مثل صلاة الشكر أو صلاة الاستخارة أو صلاة الخوف.. أو أي صلاة من السنن التي علمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإنك تستطيع أن تؤديها في أي وقت.. فكأنك تلتقي بالله سبحانه أين ومتى تحب.


ومادام الله تبارك وتعالى أنعم على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بأن جعل لهم الأرض مسجدا طهورا فإنما يريد أن يوسع دائرة التقاء العباد بربهم..

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«أُعطيتُ خمسا لم يُعْطَهُن أحد من الأنبياء قبلي. نُصرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر، وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأُحِلَّتْ لِيَ الغنائمُ ولم تحل لأحد قبلي وأُعْطِيتُ الشفاعةَ وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وَبُعِثْتُ إلى الناسِ عامة».


ولكن لماذا خص الله أمة محمد بهذه النعمة؟

لأن الإسلام جاء على موعد مع ارتقاءات العقل وطموحات الدنيا.. كلما ارتقى العقل في علوم الدنيا كشف قوانين وتغلب على عقبات.. وجاء بمبتكرات ومخترعات تفتن عقول الناس.. وتجذبهم بعيدا عن الدين فيعبدون الأسباب بدلا من خالق الأسباب.
يريد الحق تبارك وتعالى أن يجعل عبادتهم له ميسرة دائما حتى يعصمهم من هذه الفتنة.. وهو جل جلاله يريدنا حين نرى التليفزيون مثلا ينقل الأحداث من أقصى الأرض إلى أقصاها ومن القمر إلى الأرض في نفس لحظة حدوثها.

 

أن نسجد لله على نعمه التي كشف لنا عنها في أي مكان نكون فيه.. فخصائص الغلاف الجوي موجودة في الكون منذ خلق الله السموات والأرض.. لم يضعها أحد من خلق الله في كون الله هذه الأيام.. ولكنها خلقت مع خلق الكون.. وشاء الله ألا ندرك وجودها ونستخدمها إلا هذه الأيام.. فلابد أن نسجد لله شكرا على نعمه التي كشفت لنا أسرارا في الكون لم نكن نعرفها.. وهذه الأسرار تبين لنا دقة الخلق وتقربنا إلى قضايا الغيب.
 

فإذا قيل لنا أن يوم القيامة سيقف خلق الله جميعا وهم يشاهدون الحساب.. وإن كل واحد منهم سيرى الحساب لحظة حدوثه.. لا نتعجب ونقول هذا مستحيل.. لأن أحداث العالم الهامة نراها الآن كلها لحظة حدوثها ونحن في منتهى الراحة.. ونحن جالسون في منازلنا أمام التليفزيون.. أي أننا نراها جميعا في وقت واحد دون جهد.. فإذا كانت هذه هي قدرات البشر للبشر.. فكيف بقدرات خالق البشر للبشر؟.
 

عندما نرى أسرار قوانين الله في كونه.. لابد أن نسجد لعظمة الخالق سبحانه وتعالى، الذي وضع كل هذا العلم والإعجاز في الكون.. وهذا السجود يقتضي أن تكون الأرض كلها مساجد حتى يمكنك وأنت في مكانك أن تسجد لله شكرا.. ولا تضطر للذهاب إلى مكان آخر قد يكون بعيدا أو الطريق إليه شاقا فينسيك هذا شكر الله والسجود له.. فالله سبحانه وتعالى شاء أن يوسع على المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة الالتقاء بربهم؛ لأن هناك أشياء ستأتي الرسالة المحمدية في موعد كشفها لخلق الله.. وكلما انكشف سر من أسرار الوجود إغتر الإنسان بنفسه.. ومادام الغرور قد دخل إلى النفس البشرية.. فلابد أن يجعل الله في الكون ما يعدل هذا الغرور.
 

لقد كانت الأمور عكس ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.. كانت الأمور فطرية فإذا امتنعت الأمطار ونضبت العيون والآبار.. لم يكن أمامهم إلا أن يتوجهوا إلى السماء بصلاة الاستسقاء.. وكذلك في كل أمر يصعب عليهم مواجهته.. ولكن الآن بعد أن كشف الله لخلقه عن بعض أسراره في كونه.. أصبحت هناك أكثر من وسيلة يواجه بها الإنسان عددا من أزمات الكون.. هذه الوسائل قد جعلت البشر يعتقدون أنهم قادرون على حل مشكلاتهم.. بعيدا عن الله سبحانه وتعالى وبجهودهم الخاصة.. فبدأ الاعتماد على الخلق بدلا من الإعتماد على الحق..

 

ولذلك نزل قول الحق سبحانه وتعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 35-36].
ما هي هذه البيوت التي يرى فيها الناس نور الله تبارك وتعالى؟

هي المساجد.. فَعُمَّارُ المساجد وزوارها الدائمون على الصلاة فيها هم الذين يرون نور الله.. فإذا أتى قوم يجترئون عليها ويمنعون أن يذكر اسم الله فيها.. فمعنى ذلك أن المؤمنين القائمين على هذه المساجد ضعفاء الإيمان ضعفاء الدين تجرأ عليهم أعداؤهم.. لأنهم لو كانوا أقوياء ما كان يجرؤ عدوهم على أن يمنع ذكر اسم الله في مساجد الله.. أو أن يسعى إلى خرابها فتهدم ولا تقام فيها صلاة الجمعة.. ولكن ساعة يوجد من يخرب بيتا من بيوت الله.. يهب الناس لمنعه والضرب على يده يكون الإيمان قويا.. فإن تركوه فقد هان المؤمنون على عدوهم.. لماذا؟ لأن الكافر الذي يريد أن يطفئ مكان إشعاع نور الله لخلقه.. يعيش في حركة الشر في الوجود التي تقوى وتشتد كلما استطاع غير المؤمنين أن يمنعوا ذكر اسم الله في بيته وأن يخربوه.


وقول الحق سبحانه وتعالى:

{أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ}..

أي أن هؤلاء الكفار ما كان يصح لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين أن يفتك بهم المؤمنون من أصحاب المسجد والمصلين فيه.. فإذا كانوا قد دخلوا غير خائفين.. فمعنى ذلك أن وازع الإيمان في نفوس المؤمنين قد ضعف.
 

قوله تعالى:

{وَمَنْ أَظْلَمُ}..

معناه أنه لا يوجد أحد أظلم من ذلك الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.. أي أن هذا هو الظلم العظيم.. ظلم القمة.. وقوله تعالى: {وسعى فِي خَرَابِهَآ}.. أي في إزالتها أو بقائها غير صالحة لأداء العبادة.. والسعي في خراب المسجد هو هدمه.
 

ويختم الحق سبحانه الآية الكريمة بقولة:

{لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ}..

أي لن يتركهم الله في الدنيا ولا في الآخرة.. بل يصيبهم في الدنيا خزي.. والخزي هو الشيء القبيح الذي تكره أن يراك عليه الناس.. قوله تعالى: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ}.. هذا مظهر غيرة الله على بيوته.. وانظر إلى ما أذاقهم الله في الدنيا بالنسبة ليهود المدينة الذين كانوا يسعون في خراب مساجد الله.. لقد أخذت أموالهم وطردوا من ديارهم.. هذا حدث.. وهذا معنى قوله تعالى الخزي في الدنيا.. أما في الآخرة فإن أعداء الله سيحاسبون حسابا عسيرا لتطاولهم على مساجد الله سبحانه، ولكن في الوقت نفسه فإن المؤمنين الذين سكتوا على هذا وتخاذلوا عن نصرة دين الله والدفاع عن بيوت الله.. سيكون لهم أيضا عذاب أليم.
 

إنني أحذر كل مؤمن أن يتخاذل أو يضعف أمام أولئك الذين يحاولون أن يمنعوا ذكر الله في مساجده.. لأنه في هذه الحالة يكون مرتكبا لذنبهم نفسه وربما أكثر.. ولا يتركه الله يوم القيامة بل يسوقه إلى النار.

تفسير الشعراوي للآية 114 من سورة البقرة | مصراوى

تفسير الآية رقم (115):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}


بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الذين يخربون مساجد الله ويهدمونها.. ويمنعون أن يذكر فيها اسمه والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة أراد أن يذكرنا بأن تنفيذ هذا على مستوى تام وكامل عملية مستحيلة لأن الأرض كلها مساجد.. وتخريبها معناه أن تخرب الأرض كلها.. لأن الله تبارك وتعالى موجود في كل مكان فأينما كنتم فستجدون الله مقبلا عليكم بالتجليات.
 

وقوله تعالى:

{فَثَمَّ وَجْهُ الله}..

أي هناك وجه الله..

وقوله تعالى:

{الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

. أي لا تضيقوا بمكان التقاءاتكم بربكم؛ لأن الله واسع موجود في كل مكان في هذا الكون وفي كل مكان خارج هذا الكون.. ولكن إذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} لا يعني تحديد جهة الشرق أو جهة الغرب فقط.. ولكنه يتعداها إلى كل الجهات شرقها وغربها.. شمالها وجنوبها والشمال الشرقي والجنوب الغربي وكل جهة تفكر فيها.
 

ولكن لماذا ذكرت الآية الشرق والغرب فقط؟

لأن بعد ذلك كل الجهات تحدد بشروق الشمس وغروبها.. فهناك شمال شرقي وجنوب شرقي وشمال غربي وجنوب غربي.. كما إن الشرق والغرب معروف بالفطرة عند الناس.. فلا أحد يجهل من أين تشرق الشمس ولا إلى أين تغرب. فأنت كل يوم ترى شروقا وترى غروبا.
 

الله سبحانه وتعالى حين يقول: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} فليس معناها حصر الملكية لهاتين الجهتين ولكنه ما يعرف بالاختصاص بالتقديم.. كما تقول بالقلم كتبت وبالسيارة أتيت.. أي أن الكتابة هي خصوص القلم والإتيان خصوص السيارة.. وهذا ما يعرف بالاختصاص.. فهذا مختص بكذا وليس لغيره شيء فيه.. ولذلك فإن معنى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب}.. أن الملكية لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد..

 

وتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ليس معناه أن الله تبارك وتعالى في بيت المقدس والاتجاه بعد ذلك إلى الكعبة ليس معناه أن الله جل جلاله في الكعبة.
إن توحيد القبلة ليس معناه أكثر من أن يكون للمسلمين اتجاه واحد في الصلاة.. وذلك دليل على وحدة الهدف.. فيجب أن تفرق بين اتجاه في الصلاة واتجاه في غير الصلاة.. اتجاه في الصلاة نكون جميعا متجهين إلى مكان محدد إختاره الله لنا لنتجه إليه في الصلاة.. والناس تصلي في جميع أنحاء العالم متجهة إلى الكعبة.. الكعبة مكانها واحد لا يتغير.. ولكن اتجاهنا إليها من بقاع الأرض هو الذي يتغير.. فواحد يتجه شمالا وواحد يتجه جنوبا وواحد يتجه شرقا وواحد يتجه غربا.. كل منا يتجه اتجاها مختلفا حسب البقعة التي يوجد عليها من الأرض.

 

ولكننا جميعا نتجه إلى الكعبة رغم اختلاف وجهاتنا إلا أننا نلتقي في اتجاهنا إلى مكان واحد.
الله جل جلاله يريدنا أن نعرف أننا إذا قلنا: (وللهِ المشرقُ) فلا نظن أن المشرق إتجاه واحد بل إن المشرق يختلف باختلاف المكان.. فكل مكان في الأرض له مشرق وله مغرب.. فإذا أشرقت الشمس في مكان فإنها في نفس الوقت تغرب في مكان آخر.. تشرق عندي وتغرب عند غيري.. وبعد دقيقة تشرق عند قوم وتغرب عند آخرين.. فإذا نظرت إلى الشرق وإلى الغرب بالنسبة لشروق الشمس الظاهري وغروبها.. تجد أن المشرق والمغرب لا ينتهيان من على سطح الأرض.. في كل دقيقة شروق وغروب.

 

وقوله تعالى:

{إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}..

أي يتسع لكل ملكه لا يشغله شيء عن شيء..

ولذلك عندما سئل الإمام علي كرم الله وجهه..

كيف يحاسب الله الناس جميعا في وقت واحد؟

قال كما يرزقهم جميعا في وقت واحد.
إذن فالله لا يشغله شيء عن شيء.. ولا يحتاج في عمله إلى شيء..

إنما عمله (كن فيكون).

نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 115 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

image.png.ae0ae3ca490f7ce8b663a7b44ae3385c.png

 
.تفسير الآية رقم (116):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن له كل شيء في الكون لا يشغله شيء عن شيء.. أراد أن يرد على الذين حاولوا أن يجعلوا لله معينا في ملكه.. الذين قالوا اتخذ الله ولداً.. الله تبارك وتعالى رد عليهم أنه
لماذا يتخذ ولدا وله ما في السموات والأرض كل له قانتون..
وجاء الرد مركزا في ثلاث نقاط..
قوله تعالى: (سبحانه) أي تنزه وتعالى أن يكون له ولد..
وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض}.. فإذا كان هذا ملكه وإذا كان الكون كله من خلقه وخاضعا له فما حاجته للولد؟
وقوله سبحانه: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}.. أي كل من في السموات والأرض عابدون لله جل جلاله مقرون بألوهيته.

 
قضية إن لله سبحانه وتعالى ولداً جاءت في القرآن الكريم تسع عشرة مرة ومعها الرد عليها.. ولأنها قضية في قمة العقيدة فقد تكررت وتكرر الرد عليها مرة بعد أخرى..
 
وإذا نظرت للذين قالوا ذلك تجد أن هناك أقوالا متعددة..
هناك قول قاله المشركون.. واقرأ القرآن الكريم: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى البنات على البنين} [الصافات: 151-153].
وقول اليهود كما يروي لنا القرآن: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30].
وقول النصارى: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
ثم في قصة خلق عيسى عليه السلام من مريم بدون رجل.. الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 88-93].

 
والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا إدعاء خطير مستقبح مستنكر وممقوت.. لقد عالجت سورة مريم المسألة علاجا واسعا.. علاجا اشترك فيه انفعال كل أجناس الكون غير الإنسان.. انفعال السموات والأرض والجبال وغيرها من خلق الله التي تلعن كل من قال ذلك.. بل وتكاد شعورا منها بفداحة الجريمة أن تنفطر السماء أي تسقط قطعا صغيرة.. وتنشق الأرض أي تتمزق.. وتخر الجبال أي تسقط كتراب.. كل هذا من هول ما قيل ومن كذب ما قيل.. لأن هذا الادعاء افتراء على الله. ولقد جاءت كل هذه الآيات في سورة مريم التي أعطتنا معجزة خلق عيسى.. كما وردت القضية في عدة سور أخرى.
والسؤال هنا ما هي الشبهة التي جعلتهم يقولون ولد الله؟ ما الذي جعلهم يلجأون إلى هذا الافتراء؟ القرآن يقول عن عيسى بن مريم.
كلمة الله ألقاها إلى مريم.. نقول لهم كلنا كلمة (كن).
لماذا فتنتم في عيسى ابن مريم هذه الفتنة؟ والله سبحانه وتعالى يشرح المسألة فيقول: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

 
قوله كمثل آدم لمجرد مجاراة الخصم.. ولكن المعجزة في آدم أقوى منها في عيسى عليه السلام.. أنتم فتنتم في عيسى لأن عنصر الأبوة ممتنع.. وآدم امتنع فيه عنصر الأبوة والأمومة.. إذن فالمعجزة أقوى.. وكان الأولى أن تفتنوا بآدم بدل أن تفتنوا بعيسى.. ومن العجيب أنكم لم تذكروا الفتنة في آدم وذكرتم الفتنة فيما فيه عنصر غائب من عنصرين غائبين في آدم.. وكان من الواجب أن تنسبوا هذه القضية إلى آدم ولكنكم لم تفعلوا.
 
ورسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال له الله إن القضية ليست قضية إنكار ولكنها قضية كاذبة.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81].
أي لن يضير الله سبحانه وتعالى أن يكون له ولد.. ولكنه جل جلاله لم يتخذ ولدا.. فلا يمكن أن يعبد الناس شيئا لم يكن لله.. وإنما ابتدعوه واختلقوه.

الله جل جلاله يقول: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض}..
 
قوله تعالى:
{بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض}
تعطي الله سبحانه وتعالى الملكية لكل ما في الكون.. والملكية تنافي الولدية.. لماذا؟ لأن الملكية معناها أن كل ما في الكون من خلق الله.. كل شيء هو خالقه بدون معارض.. ومادام هو خالقه وموجده.. فلا يمكن أن يكون هذا الشيء جزءا منه.. لأن الذي يخلق شيئا يكون فاعلا.. والفاعل له مفعول.. والمفعول لا يكون منه أبدا.. هل رأيت واحدا صنع صنعة منه؟ الذي يصنع سيارة مثلا.. هل صنعها من لحمه أو من لحم البشر؟ وكذلك الطائرة والكرسي والساعة والتليفزيون.. هل هذه المصنوعات من جنس الذي صنعها؟ طبعا لا.
إذن مادام ملكية.. فلا يقال إنها من نفس جنس صانعها.. ولا يقال إن الفاعل أوجد من جنسه.. لأن الفاعل لا يوجد من جنسه أبدا.. كل فاعل يوجد شيئا أقل منه..
فقول الله:
(سبحانه)..
أي تنزيه له تبارك وتعالى..
لماذا؟
لأن الولد يتخذ لاستبقاء حياة والده التي لا يضمنها له واقع الكون.. فهو يحمل اسمه بعد أن يموت ويرث أملاكه.. إذن هو من أجل بقاء نوعه.. والذي يريد بقاء النوع لا يكفيه أن يكون له ولد واحد.
لو فرضنا جدلا إن له ولداً واحداً فالمفروض أن هذا الولد يكون له.. ولكننا لم نر أولادا لمن زعموا أنه ابن الله.. وعندما وقبلما يوجد الولد ماذا كان الله سبحانه وتعالى يفعل وهو بدون ولد؟ وماذا استجد على الله وعلى كونه بعد أن اتخذ ولدا كما يزعمون.. لم يتغير شيء في الوجود.. إذن إن وجود ولد بالنسبة للإله لم يعطه مظهرا من مظاهر القوة.. لأن الكون قبل أن يوجد الولد المزعوم وبعده لم يتغير فيه شيء.

 
إذن فما سبب اتخاذ الولد؟
معونة؟ الله لا تضعف قوته.. ضمان للحياة؟
الله حياته أزليه.. هو الذي خلق الحياة وهو الذي يهبها وهو حي لا يموت.. فما هي حاجته لأي ضمان للحياة؟
الحق سبحانه وتعالى تنفعل له الأشياء.. أي أنه قادر على إبراز الشيء بمقتضى حكمه.. وهو جل جلاله له كمال الصفات أزلا.. وبكمال صفاته خلق هذا الكون وأوجده.. لذلك فهو ليس في حاجة إلى أحد من خلقه.. لأنه ساعة خلق كانت له كل صفات القدرة على الخلق.. بل قبل أن يخلق كانت له كل صفات الخالق وبهذه الصفات خلق.. والله سبحانه وتعالى كان خالقا قبل أن يخلق أحدا من خلقه.. وكان رزاقا قبل أن يوجد من يرزقه.. وكان قهارا قبل أن يوجد من يقهره.. وكان توابا قبل أن يوجد من يتوب عليه.. وبهذه الصفات أوجد وخلق ورزق وقهر وتاب على خلقه.
إذن كل هذا الكون لم يضف صفة من صفات الكمال إلى الله.. بل إن الله بكمال صفاته هو الذي أوجد. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي: (يا عبادي لَوْ أَنَّ أولَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنسان مَسْألته ما نقص ذلك مِنْ ملكي شيئا إلا كما يَنْقُصُ المخِيطُ إذا غُمس في البحر..).

 
ثم إذا كان لله سبحانه وتعالى زوجة وولد.. فمن الذي وجد أولا؟.. إذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجد أولا.. ثم بعد ذلك أوجد الزوجة والولد فهو خالق وهما مخلوقان.. وإن كان كل منهم قد أوجد نفسه فهم ثلاثة آلهة وليسوا إلها واحدا.. إذن فالولد إما أن يكون مخلوقا أو يكون إلها.. والكمال الأول لله لم يزده الولد شيئا.. ومن هنا يصبح وجوده لا قيمة له.. وحين يعرض الحق تبارك وتعالى هذه القضية يعرضها عرضا واسعا في كثير من سور القرآن الكريم وأولها سورة مريم في قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [مريم: 88].
 
إنه سبحانه منزه عن التماثل مع خلقه.. لا بالذات ولا بالصفات ولا بالأفعال.. كل شيء تراه في الوجود.. الله منزه عنه.. وكل شيء يخطر على بالك فالله غير ذلك.. قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض}.. فتلك قضية تناقض اتخاذ الولد لأن كل ما في السموات والأرض خاضع لله.
 
قوله تعالى؛
{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}..
أي خاضعون، وهذا يؤكد لنا أن كون الله في قبضة الله خاضع مستجيب اختيارا أو قهرا لأمر الله.
.

image.png.c0df81c93157942f6c913b828a5f5574.png

 
تفسير الآية رقم (117):

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}

بعد أن بين الله تبارك وتعالى.. أن قولهم اتخذ الله ولدا هو افتراء على الله.. أراد الحق أن يلفتنا إلى بعض من قدراته..
 
فقال جل جلاله:
{بَدِيعُ السماوات والأرض}..
أي خلق السموات والأرض وكل ما فيها من خلق على غير مثال سابق.. أي لم يكن هناك سماء أو أرض أو ملائكة أو جن أو إنسان.. ثم جاء الله سبحانه وتعالى وأوجد متشابها لهم في شكل أو حجم أو قدرة.. أي أنه سبحانه لم يلجأ إلى ما نسميه نحن بالقالب.
 
إن الذي يصنع كوب الماء يصنع أولا قالبا يصب فيه خام الزجاج المنصهر.. فتخرج في النهاية أكواب متشابهة.. وكل صناعة لغير الله تتم على أساس صنع القالب أولا ثم بعد ذلك يبدأ الإنتاج.. ولذلك فإن التكلفة الحقيقية هي في إعداد القالب الجيد الذي يعطينا صورة لما نريد.. والذي يخبز رغيفا مثلا قد لا يستخدم قالبا ولكنه يقلد شيئا سبق.. فشكل الرغيف وخامته سبق أن تم وهو يقوم بتقليدهما في كل مرة.. ولكنه لا يستطيع أن يعطي التماثل في الميزان أو الشكل أو الاستدارة.. بل هناك اختلاف في التقليد ولا يوجد كمال في الصناعة.
 
وحين خلق الله جل جلاله الخلق من آدم إلى أن تقوم الساعة.. جعل الخلق متشابهين في كل شيء.. في تكوين الجسم وفي شكله في الرأس والقدمين واليدين والعينين.. وغير ذلك من أعضاء الجسم.. تماثلا دقيقا في الشكل وفي الوظائف.. بحيث يؤدي كل عضو مهمته في الحياة.. ولكن هذا التماثل لم يتم على قالب وإنما تم بكلمة كن.. ورغم التشابه في الخلق فكل منا مختلف عن الآخر اختلافا يجعلك قادرا على تمييزه بالعلم والعين.. فبالعلم كل منا له بصمة أصبع وبصمة صوت يمكن أن يميزها خبراء التسجيل.. وبصمة رائحة قد لا نميزها نحن ولكن تميزها الكلاب المدربة.. فتشم الشيء ثم تسرع فتدلنا على صاحبه ولو كان بين ألف من البشر.. وبصمة شفرة تجعل الجسد يعرف بعضه بعضا.. فإن جئت بخلية من جسد آخر لفظها. وإن جئت بخلية من الجسد نفسه اتحد معها وعالج جراحها.
 
وإذا كان هذا بعض ما وصل إليه العلم.. فإن هناك الكثير مما قد نصل إليه ليؤكد لنا أنه رغم تشابه بلايين الأشخاص.. فإن لكل واحد ما يميزه وحده ولا يتكرر مع خلق الله كلهم.. وهذا هو الإعجاز في الخلق ودليل على طلاقة قدرة الله في كونه.
والله سبحانه وتعالى يعطينا المعنى العام في القرآن الكريم بأن هذا من آياته وأنه لم يحدث مصادفة ولم يأت بطريق غير مخطط بل هو معد بقدرة الله سبحانه.

 
فيقول جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} [الروم: 22].
هذا الاختلاف يمثل لنا طلاقة قدرة الله سبحانه في الخلق على غير مثال.. فكل مخلوق يختلف عمن قبله وعمن بعده وعمن حوله.. مع أنهم في الشكل العام متماثلون.. ولو أنك جمعت الناس كلهم منذ عهد آدم إلى يوم القيامة تجدهم في صورة واحدة.. وكل واحد منهم مختلف عن الآخر.. فلا يوجد بشران من خلق الله كل منهما طبق الأصل من الآخر.. هذه دقة الصنع وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: (بديع).. والدقة تعطي الحكمة.. والإبراز في صور متعددة يعطي القدرة.. ولذلك بعد أن نموت وتتبعثر عناصرنا في التراب يجمعنا الله يوم القيامة.. والإعجاز في هذا الجمع هو أن كل إنسان سيبعث من عناصره نفسها وصورته نفسها وهيئته نفسها التي كان عليها في الدنيا. ولذلك قال الحق سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4].
إذن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته في الإيجاد قد خلقنا.. وبطلاقة قدرته في إعادة الخلق يحيينا بعد الموت.. بشكلنا ولحمنا وصفاتنا وكل ذرة فينا.. هل هناك دقة بعد ذلك؟.

 
لو أننا أتينا بأدق الصناع وأمهرهم وقلنا له: اصنع لنا شيئا تجيده. فلما صنعه قلنا له: اصنع مثله. إنه لا يمكن أن يصنع نموذجا مثله بالمواصفات نفسها؛ لأنه يفتقد المقاييس الدقيقة التي تمده بالمواصفات نفسها التي صنعها. إنه يستطيع أن يعطينا نموذجا متشابها ولكن ليس مثل ما صنع تماما. لكن الله سبحانه وتعالى يتوفى خلقه وساعة القيامة أو ساعة بعثهم يعيدهم بمكوناتهم نفسها التي كانوا عليها دون زيادة أو نقص. وذلك لأنه الله جل جلاله لا يخلق وفق قوالب معينة، وإنما يقول للشيء: كن فيكون.
 
تقول الآية الكريمة:
{بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
(وكن) وردت كثيرا في القرآن الكريم.. وفي اللغة شيء يسمى المشترك.. اللفظ يكون واحدا ومعانيه تختلف حسب السياق.. فمثلا كلمة قضى لها معاني متعددة ولها معنى يجمع كل معانيها.. مرة يأتي بها الحق بمعنى فرغ أو انتهى.. في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200].

ومعناها إذا انتهيتم من مناسك الحج.. ومرة يقول سبحانه: {فاقض ما أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} [طه: 72].
والمعنى إفعل ما تريد.. وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
والمعنى هنا أنه إذا قال الله شيئا لا يترك للمؤمنين حق الاختيار.. ومرة يصور الله جل جلاله الكفار في الآخرة وهم في النار يريدون أن يستريحوا من العذاب بالموت.

 
واقرأ قوله سبحانه: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
لِيَقْضِ علينا هنا معناها يميتنا.. ومعنى آخر في قوله تعالى: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر} [إبراهيم: 22].
أي لما انتهى الأمر ووقع الجزاء.. وفي موقع آخر قوله سبحانه: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29].
قضى الأجل هنا بمعنى أتم الأجل وفي قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 54].
أي حكم وفصل بينهم.. وقوله جل جلاله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4].
بمعنى أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم.. إذن (قضى) لها معان متعددة يحددها السياق.. ولكن هناك معنى تلتقي فيه كل المعاني.. وهو قضى أي حكم وهذا هو المعنى الأم.

 
إذن معنى قوله تعالى:
{إِذَا قضى أَمْراً}..
أي إذا حكم بحكم فإنه يكون.. على أننا يجب أن نلاحظ قول الحق: {وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ}.. معنى يقول له أن الأمر موجود عنده.. موجود في علمه.. ولكنه لم يصل إلى علمنا.. أي أنه ليس أمرا جديدا.. لأنه مادام الله سبحانه وتعالى قال: (يقول له).. كأنه جل جلاله يخاطب موجودا.. ولكن هذا الموجود ليس في علمنا ولا نعلم عنه شيئا.. وإنما هو موجود في علم الله سبحانه وتعالى.. ولذلك قيل أن لله أموراً يبديها ولا يبتديها.. إنها موجودة عنده لأن الأقلام رُفِعَتْ، والصحف جفت.. ولكنه يبديها لنا نحن الذين لا نعلمها فنعلمها.


image.png.842247fad72bc5915209acc4289af22c.png

تفسير الآية رقم (118):

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}

الحق سبحانه وتعالى حين قال:
{الذين لاَ يَعْلَمُونَ}..
أي لا يعلمون عن كتاب الله شيئا لأنهم كفار.. وهؤلاء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم الله.. ومعنى أن يكلمهم الله أن يسمعوا كلاما من الله سبحانه.. كما سمع موسى كلام الله.
 
وماذا كانوا يريدون من كلام الله تبارك وتعالى.. أكانوا يريدون أن يقول لهم الله إنه أرسل محمداً رسولا ليبلغهم بمنهج السماء.. وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها القرآن الكريم لم تكن كافية لإقناعهم.. مع أن القرآن كلام معجز وقد أتى به رسول أمي.. سألوه عن أشياء حدثت فأوحى الله بها إليه بالتفصيل.. جاء القرآن ليتحدى في أحداث المستقبل وفي أسرار النفس البشرية.. وكان ذلك يكفيهم لو أنهم استخدموا عقولهم ولكنهم أرادوا العناد كلما جاءتهم آية كذبوا بها وطلبوا آية أخرى.. والله سبحانه وتعالى قد أبلغنا أنه لا يمكن لطبيعة البشر أن تتلقى عن الله مباشرة..
 
واقرأ قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51].
إذن فالبشر حتى المصطفى من الله والمؤهل للتلقي عن الله.. لا يكلمه الله إلا وحيا أو إلهامَ خاطرٍ أو من وراء حجاب كما كلم موسى.. أو يرسل رسولا مبلغا للناس لمنهج الله.. أما الاتصال المباشر فهو أمر تمنعه بشرية الخلق.

 
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
{أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ}..
والآيات التي يطلبها الكفار ويأتي بها الله سبحانه وتعالى ويحققها لهم.. لا يؤمنون بها بل يزدادون كفرا وعنادا.. والله جل جلاله يقول: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59].
 
إذن فالآيات التي يطلبها الكفار ليؤمنوا لا تجعلهم يؤمنون.. ولكن يزدادون كفرا حتى ولو علموا يقينا أن هذه الآيات من عند الله سبحانه وتعالى كما حدث لآل فرعون.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 13-14].
وهكذا فإن طلبهم أن يكلمهم الله أو تأتيهم آية كان من باب العناد والكفر.. والحق سبحانه يقول: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ}.. فبنو إسرائيل قالوا لموسى أرنا الله جهرة.. الذين لا يعلمون قالوا لولا يكلمنا الله.. ولكن الذين قالوا أرنا الله جهرة كانوا يعلمون لأنهم كانوا يؤمنون بالتوراة.

فتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون..
 
لذلك قال الله تبارك وتعالى:
{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}..
أي قلوب أولئك الذين كانوا خاضعين للمنهج والذين لا يخضعون لمنهج قد تشابهت بمنطق واحد.
ولو أن الذين لا يعلمون قالوا ولم يقل الذين يعلمون لهان الأمر.. وقلنا جهلهم هو الذي أوحى إليهم بما قالوا.. ولكن ما عذر الذين علموا وعندهم كتاب أن يقولوا أرنا الله جهرة.. إذن فهناك شيء مشترك بينهم تشابهت قلوبهم في الهوى.. إن مصدر كل حركة سلوكية أو حركة جارحة إنما هو القلب الذي تصدر عنه دوافع الحركة.. ومادام القلب غير خالص لله فيستوى الذي يعلم والذي لا يعلم.

 
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:
{قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}..
ما هو اليقين؟
هو استقرار القضية في القلب استقراراً لا يحتمل شكا ولا زلزلة.. ولا يمكن أن تخرج القضية مرة أخرى إلى العقل.. لتناقش من جديد لأنه أصبح يقينا.. واليقين يأتي من إخبار من تثق به وتصبح أخباره يقينا.. فإذا قال الله قال اليقين.. وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فكلامه حق.. ولذلك من مصداقية الإيمان أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه.. عندما قيل له إن صاحبك يقول إنه صُعد به إلى السماء السابعة وذهب إلى بيت المقدس في ليلة واحدة.. قال إن كان قد قال فقد صدق.
 
إن اليقين عنده نشأ من إخبار من يثق فيه وهذا نسميه علم يقين.. وقد يرتقي الأمر ليصير عين يقين.. عندما ترى الشيء بعينك بعد أن حُدثت عن رؤية غيرك له.. ثم تدخل في حقيقة الشيء فيصبح حق يقين..
إذن اليقين علم إذا جاء عن إخبار من تثق به..
وعين يقين إذا كان الأمر قد شوهد مشاهدة العين..
وحق يقين هو أن تدخل في حقيقة الشيء..
والله سبحانه وتعالى يشرح هذا في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم} [التكاثر: 1-6].
هذه هي المرحلة الأولى أن يأتينا علم اليقين من الله سبحانه وتعالى..
ثم تأتي المرحلة الثانية في قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7].
أي أنتم ستشاهدون جهنم بأعينكم يوم القيامة.. هذا علم يقين وعين يقين.. يأتي بعد ذلك حق اليقين في قوله تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 92-95].

والمؤمن عافاه الله من أن يعاين النار كحق يقين.. إنه سيراها وهو يمر على الصراط.. ولكن الكافر هو الذي سيصلاها حقيقة يقين..
 
ولقد قال أهل الكتاب لأنبيائهم ما يوافق قول غير المؤمنين.. فاليهود قالوا لموسى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً}.. والمسيحيون قالوا لعيسى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} قال: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}.. وهكذا شجع المؤمنون بالكتاب غير المؤمنين بأن يطلبوا رؤية الله ويطلبوا المعجزات المادية.
 
نداء الايمان
 
image.png.4a6b5ac6e37baaa5e962c63a44dd7da6.png

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
🍃 عبارات نقدية مؤثرة 🍃

تفسير الآية رقم (119):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}

 
هنا لابد أن نلتفت إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يخبرنا عن قضية من فعله. يأتي دائما بنون العظمة التي نسميها نون المتكلم..
ونلاحظ أن نون العظمة يستخدمها رؤساء الدول والملوك ويقولون نحن فلان أمرنا بما هو آت.. فكأن العظمة في الإنسان سخرت المواهب المختلفة لتنفيذ القرار الذي يصدره رئيس الدولة.. فيشترك في تنفيذه الشرطة والقضاء والدولة والقوات المسلحة إذا كان قرار حرب.. تشترك مواهب متعددة من جماعات مختلفة تتكاتف لتنفيذ القرار.. والله تبارك وتعالى عنده الكمال المطلق.. كل ما هو لازم للتنفيذ من صفات الله سبحانه وتعالى.. فإذا تحدث الله جل جلاله عن فعل يحتاج إلى كمال المواهب من الله تبارك وتعالى يقول (إنا): {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولكن حين يتكلم الله عن ألوهيته وحده وعن عبادته وحده يستخدم ضمير المفرد..
مثل قوله سبحانه: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14].
ولا يقول فاعبدنا..
 
إذن ففي كل فعل يأتي الله سبحانه بنون العظمة..
وفي كل أمر يتعلق بالعبادة والتوحيد يأتي بالمفرد..
وذلك حتى نفهم أن الفعل من الله ليس وليد قدرته وحدها.. ولا علمه وحده ولا حكمته وحدها ولا رحمته وحدها.. وإنما كل فعل من أفعال الله تكاملت فيه صفات الكمال المطلق لله.
إن نون العظمة تأتي لتلفتنا إلى هذه الحقيقة لتبرز للعقل تكامل الصفات في الله.. لأنك قد تقدر ولا تعلم.. وقد تعلم ولا تقدر، وقد تعلم وتغيب عنك الحكمة. إذن فتكامل الصفات مطلوب.

قوله تعالى:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق}
يعني بعثناك بالحق رسولا.. والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتناقض.. فإذا رأيت حدثا أمامك ثم طلب منك أن تحكي ما رأيت رويت ما حدث.. فإذا طلب منك بعد فترة أن ترويه مرة أخرى فإنك ترويه بنفس التفاصيل.. أما إذا كنت تكذب فستتناقض في أقوالك.. ولذلك قيل إن كنت كذوبا فكن ذكورا.
 
إن الحق لا يتناقض ولا يتغير.. ومادام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل بالحق.. فإنَّ عليه لأن يبلغه للناس وسيبقى الحق حقا إلى يوم القيامة.
 
وقوله تعالى:
{بَشِيراً وَنَذِيراً}..
البشارة هي إخبار بشيء يسرك زمنه قادم.. والإنذار هو الإخبار بشيء يسوؤك زمنه قادم ربما استطعت أن تتلافاه..
بشير بماذا؟ ونذير بماذا؟
يبشر من آمن بنعيم الجنة وينذر الكافر بعذاب النار.. والبشرى والإنذار يقتضيان منهجا يبلغ.. من آمن به كان بشارة له.
ومن لا يؤمن كان إنذارا له.

 
ثم يقول الحق جل جلاله:
{وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم}..
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مسئولا عن الذين سيلقون بأنفسهم في النار والعذاب. إنه ليس مسئولا عن هداهم وإنما عليه البلاغ.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6].
ويقول جل جلاله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
فالله سبحانه وتعالى لو أرادنا أن نؤمن قسرا وقهرا.. ما استطاع واحد من الخلق أن يكفر.. ولكنه تبارك وتعالى يريد أن نأتيه بقلوب تحبه وليس بقلوب مقهورة على الإيمان.. إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختارين أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.. وليس لرسول أن يرغم الناس على الإيمان بالقهر.. لأن الله لو أراد لقهر كل خلقه.
أما أصحاب الجحيم فهم أهل النار. والجحيم مأخوذة من الجموح.. وجمحت النار يعني اضطربت، وعندما ترى النار متأججة يقال جمحت النار.. أي أصبح لهيبها مضاعفا بحيث يلتهم كل ما يصل إليها فلا تخمد أبدا.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم.. أنه لا يجب أن ينشغل قلبه بالذين كفروا لأنه قد أنذرهم.. وهذا ما عليه، وهذه مهمته التي كلفه الله بها.

تفسير الشعراوي للآية 119 من سورة البقرة | مصراوى


 
.تفسير الآية رقم (120):

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}

كان اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخل لؤم وكيد فيقولون هادنا، أي قل لنا ما في كتابنا حتى ننظر إذا كنا نتبعك أم لا.. يريد الله تبارك وتعالى أن يقطع على اليهود سبيل الكيد والمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم.. بأنه لا اليهود ولا النصارى سيتبعون ملتك.. وإنما هم يريدون أن تتبع أنت ملتهم.. أنت تريد أن يكونوا معك وهم يطمعون أن تكون معهم.. فقال الله سبحانه: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
 
نلاحظ هنا تكرار النفي
وذلك حتى نفهم أن رضا اليهود غير رضا النصارى.. ولو قال الحق تبارك وتعالى، ولن ترضى عنك اليهود والنصارى بدون لا.. لكان معنى ذلك أنهم مجتمعون على رضا واحد أو متفقون.. ولكنهم مختلفون بدليل أن الله تعالى قال: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113].
إذن فلا يصح أن يقال فلن ترضى عنك اليهود والنصارى.. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لن ترضى عنك اليهود ولن ترضى عنك النصارى.. وإنك لو صادفت رضا اليهود فلن ترضى عنك النصارى.. وإن صادفت رضا النصارى فلن ترضى عنك اليهود.

 
ثم يقول الحق سبحانه:
{حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}..
والملة هي الدين وسميت بالملة لأنك تميل إليها حتى ولو كانت باطلا.. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 3-6].
فجعل لهم دينا وهم كافرون ومشركون.. ولكن ما الذي يعصمنا من أن نتبع ملة اليهود أو ملة النصارى.. الحق جل جلاله يقول: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} [آل عمران: 73].
فاليهود حرفوا في ملتهم والنصارى حرفوا فيها.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه هدى الله.. والهدى هو ما يوصلك إلى الغاية من أقصر طريق.. أو هو الطريق المستقيم باعتباره أقصر الطرق إلى الغاية.. وهدى الله طريق واحد، أما هدى البشر فكل واحد له هدى ينبع من هواه.
ومن هنا فإنها طرق متشعبة ومتعددة توصلك إلى الضلال.. ولكن الهدى الذي يوصل للحق هو هدى واحد.. هدى الله عز وجل.

 
وقوله تعالى:
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ}
إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أن ملة اليهود وملة النصارى أهواء بشرية.. والأهواء جمع هوى.. والهوى هو ما تريده النفس باطلا بعيدا عن الحق.. لذلك يقول الله جل جلاله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
والله تبارك وتعالى يقول لرسوله لو اتبعت الطريق المعوج المليء بالشهوات بغير حق.. سواء كان طريق اليهود أو طريق النصارى بعدما جاءك من الله من الهدى فليس لك من الله من ولي يتولى أمرك ويحفظك ولا نصير ينصرك.

 
وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن نقف معه وقفة لنتأمل كيف يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه.. فالله حين يوجه هذا الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام.. فالمراد به أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتباع رسول الله الذين سيأتون من بعده.. وهم الذين يمكن أن تميل قلوبهم إلى اليهود والنصارى.. أما الرسول فقد عصمه الله من أن يتبعهم.
والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعلم يقينا أن ما لم يقبله من رسوله عليه الصلاة والسلام.. لا يمكن أن يقبله من أحد من أمته مهما علا شأنه.. وذلك حتى لا يأتي بعد رسول الله من يدعي العلم.. ويقول نتبع ملة اليهود أو النصارى لنجذبهم إلينا.. نقول له لا ما لم يقبله الله من حبيبه ورسوله لا يقبله من أحد.
إن ضرب المثل هنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقصود به أن أتباع ملة اليهود أو النصارى مرفوض تماما تحت أي ظرف من الظروف، لقد ضرب الله سبحانه المثل برسوله حتى يقطع على المغرضين أي طريق للعبث بهذا الدين بحجة التقارب مع اليهود والنصارى.

تفسير الشعراوي للآية 120 من سورة البقرة | مصراوى

.تفسير الآية رقم (121):


{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}

بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنصارى قد حرفوا كتبهم، أراد أن يبين أن هناك من اليهود والنصارى من لم يحرفوا في كتبهم.. وأن هؤلاء يؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام وبرسالته.. لأنهم يعرفونه من التوراة والإنجيل.
 
ولو أن الله سبحانه لم يذكر هذه الآية لقال الذين يقرأون التوراة والإنجيل على حقيقتيهما.. ويفكرون في الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لقالوا كيف تكون هذه الحملة على كل اليهود وكل النصارى ونحن نعتزم الإيمان بالإسلام.. وهذا ما يقال عنه قانون الاحتمال.. أي أن هناك عددا مهما قل من اليهود أو النصارى يفكرون في اعتناق الإسلام باعتباره دين الحق..
 
وقد كان هناك جماعة من اليهود عددهم أربعون قادمون من سيناء مع جعفر بن أبي طالب ليشهدوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قرأوا التوراة غير المحرفة وآمنوا برسالته.. وأراد الله أن يكرمهم ويكرم كل من سيؤمن من أهل الكتاب.. فقال جل جلاله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة: 121].
أي يتلونه كما أنزل بغير تحريف ولا تبديل.. فيعرفون الحقائق صافية غير مخلوطة بهوى البشر.. ولا بالتحريف الذي هو نقل شيء من حق إلى باطل.

 
يقول الله تبارك وتعالى:
{أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون}..
ونلاحظ أن القرآن الكريم يأتي دائما بالمقارنة.. ليكرم المؤمنين ويلقي الحسرة في نفوس المكذبين.. لأن المقارنة دائما تظهر الفارق بين الشيئين.
إن الله سبحانه يريد أن يعلم الذين آتاهم الله الكتاب فلم يحرفوه وآمنوا به.. ليصلوا إلى النعمة التي ستقودهم إلى النعيم الأبدي.. وهي نعمة الإسلام والإيمان.. مقابل الذين يحرفون التوراة والإنجيل فمصيرهم الخسران المبين والخلود في النار.

تفسير الشعراوي للآية 121 من سورة البقرة | مصراوى

تفسير الآية رقم (122):


{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}

لو رجعنا إلى ما قلناه عندما تعرضنا للآية (40) من سورة البقرة.. وقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فارهبون}..
 
فالحق سبحانه وتعالى لم ينه الجولة مع بني إسرائيل قبل أن يذكرهم بما بدأهم به.. إنه سبحانه لا ينهي الكلام معهم في هذه الجولة.. إلا بعد أن يذكرهم تذكيرا نهائيا بنعمه عليهم وتفضيله لهم على كثير من خلقه.. ومن أكبر مظاهر هذا التفضيل.. الآية الموجودة في التوراة تبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام وذلك تفضيل كبير.
 
التذكير بالنعمة هنا وبالفضل هو تقريع لبني إسرائيل أنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه مذكور عندهم في التوراة.. وكان يجب أن يأخذوا هذا الذكر بقوة ويسارعوا للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه تفضيل كبير من الله سبحانه وتعالى لهم.. والله جل جلاله قال حين أخذت اليهود الرجفة.. وطلب موسى عليه السلام من ربه الرحمة.. قال كما يروي لنا القرآن الكريم: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 156-157].

تفسير الشعراوي للآية 122 من سورة البقرة | مصراوى


.تفسير الآية رقم (123):

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}

هذه الآية الكريمة تشابهت مع الآية 48 من سورة البقرة.. التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}.

نقول إن هذا التشابه ظاهري..
ولكن كل آية تؤدي معنى مستقلا..
 
ففي الآية 48 قال الحق سبحانه: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}.. وفي الآية التي نحن بصددها قال: {لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}..
لماذا؟
لأن قوله تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً}.. لو أردنا النفس الأولى فالسياق يناسبها في الآية الأولى.. ولو أردنا النفس الثانية فالسياق يناسبها في الآية الثانية التي نحن بصددها..
فكأن معنا نفسين إحداهما جازية والثانية مجزي عنها..
والجازية هي التي تشفع..
فأول شيء يقبل منها هو الشفاعة.. فإن لم تقبل شفاعتها تقول أنا أتحمل العدل.. أي أخذ الفدية أو ما يقابل الذنب..
ولكن النفس المجزي عنها أول ما تقدم هو العدل أو الفداء.. فإذا لم يقبل منها تبحث عن شفيع.. ولقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل عند تعرضنا للآية 48 من سورة البقرة.

نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 123 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

صور البسملة بسم الله الرحمن الرحيم متحركة 2019

تفسير الآية رقم (124):


{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}

يأتي الحق سبحانه وتعالى إلى قصة إبراهيم عليه السلام.. ليصفي الجدل والتشكيك الذي أحدثه اليهود عند تغيير القبلة.. واتجاه المسلمين إلى الكعبة المشرفة بدلا من بيت المقدس.. كذلك الجدل الذي أثاره اليهود بأنهم شعب الله المختار وأنه لا يأتي نبي إلا منهم.
 
يريد الله تبارك وتعالى أن يبين صلة العرب بإبراهيم وصلتهم بالبيت.. فيقول الحق جل جلاله:
{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}..
ومعناها اذكر إذا ابتلى الله إبراهيم.. وإذ هنا ظرف وهناك فرق بينها وبين إذا الشرطية في قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} [النصر: 1-2].
إذا هنا ظرف ولكنه يدل على الشرط.. أما إذ فهي ظرف فقط.. وقوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}..
معناها اذكر وقت أن ابتلى إبراهيم بكلمات.
ما معنى الابتلاء؟
الناس يظنون أنه شر ولكنه في الحقيقة ليس كذلك.. لأن الابتلاء هو إمتحان إن نجحنا فيه فهو خير وإن رسبنا فيه فهو شر.. فالابتلاء ليس شرا ولكنه مقياس لاختبار الخير والشر. الذي ابتلى هو الله سبحانه.. هو الرب.. والرب معناه المربي الذي يأخذ من يربيه بأساليب تؤهله إلى الكمال المطلوب منه..
ومن أساس التربية أن يمتحن المربي من يربيه
ليعلم هل نجح في التربية أم لا؟
 
والابتلاء هنا بكلمات والكلمات جمع كلمة.. والكلمة قد تطلق على الجملة مثل قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 4-5].
إذن فالكلمة قد تطلق على الجملة وقد تطلق على المفرد.. كأن تقول مثلا محمد وتسكت.. وفي هذه الحالة لا تكون جملة مفيدة..
والكلمة المرادة في هذه الآية هي التكليف من الله.

قوله سبحانه إفعل ولا تفعل..
فكأن التكليف من الله مجرد كلمة وأنت تؤدي مطلوبها أو لا تؤديه..
وقد اختلف العلماء حول الكلمات التي تلقاها إبراهيم من ربه..
نقول لهم أن هذه الكلمات لابد أن تناسب مقام إبراهيم أبي الأنبياء..
إنها ابتلاء يجعله أهلا لحمل الرسالة..
أي لابد أن يكون الابتلاء كبيراً..
ولقد قال العلماء إن الابتلاءات كانت عشرة وقالوا أربعين منها عشرة في سورة التوبة وهي قوله تعالى: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112].
وهذه رواية عبد الله بن عباس..
 
وعشرة ثانية في سورة المؤمنون. وفي قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أولئك هُمُ الوارثون} [المؤمنون: 1-10].
وبعد ذلك قال: {أولئك هُمُ الوارثون}.

 
وفي سورة الأحزاب يذكر منهم قوله جل جلاله: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35].

وفي سورة المعارج يقول: {إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 22-34].

 
نخرج من هذا الجدل، بأن نقول إن الله ابتلى إبراهيم بكلمات تكليفية افعل كذا ولا تفعل كذا.. وابتلاه بأن أُلقِي في النار وهو حي فلم يجزع ولم يتراجع ولم يتجه إلا لله وكانت قمة الابتلاء أن يذبح ابنه.
 
وكون إبراهيم أدى جميع التكليفات بعشق وحب وزاد عليه من جنسها.. وكونه يلقى في النار ولا يبالي يأتيه جبريل فيقول ألك حاجة فيرد إبراهيم أما إليك فلا.. وأما إلى الله فعلمه بحالي يغنيه عن سؤالي.. وكونه وهو شيخ كبير يبتلى بذبح ابنه الوحيد فيطيع بنفس مطمئنة ورضا بقدر الله.. يقول الحق: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 36-37].
أي وَفَّي كل ما طلب منه وأداه بعشق للمنهج ولابتلاءات الله.. لقد نجح إبراهيم عليه السلام في كل ما ابتلي به أو اختبر به.. والله كان أعز عليه من أهله ومن نفسه ومن ولده.. ماذا كافأه الله به؟ قال: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].

 
أي أن الحق تبارك وتعالى أئتمنه أن يكون إماماً للبشر.. والله سبحانه كان يعلم وفاء إبراهيم ولكنه اختبره لنعرف نحن البشر كيف يصطفي الله تعالى عباده المقربين وكيف يكونوا أئمة يتولون قيادة الأمور.. استقبل إبراهيم هذه البشرى من الله وقال كما يروي لنا القرآن الكريم: {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
ما هي الذرية؟
هي النسل الذي يأتي والولد الذي يجئ.. لأنه يحب استطراق الخير على أولاده وأحفاده وهذه طبيعة البشر، فهم يعطون ثمرة حركتهم وعملهم في الحياة لأولادهم وأحفادهم وهم مسرورون.
ولذلك أراد إبراهيم أن ينقل الإمامية إلى أولاده وأحفاده.. حتى لا يحرموا من القيم الإيمانية تحرس حياتهم وتؤدي بهم إلى نعيم لا يزول.. ولكن الله سبحانه وتعالى يرد على إبراهيم بقضية إيمانية أيضا هي تقريع لليهود.. الذي تركوا القيم وعبدوا المادة فيقول جل جلاله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
فكأن إبراهيم بأعماله قد وصل إلى الإمامية.. ولكن هذا لا ينتقل إلا للصالحين من عباده العابدين المسبحين.
وقول الحق سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} مقصود به اليهود الذين باعوا قيمهم الإيمانية بالمادة، وهو استقراء للغيب أنه سيأتي من ذرية إبراهيم من سيفسق ويظلم.

ومن العجائب أن موسى وهارون عليهما السلام كانا رسولين.. الرسول الأصيل موسى وهارون جاء ليشد أزره لأنه فصيح اللسان.. وشاءت إرادة الله سبحانه أن تستمر الرسالة في ذرية هارون وليس في ذرية موسى.. والرسالة ليست ميراثا.

 
وقوله تعالى:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}..
فكأن عهد الله هو الذي يجذب صاحبه أي هو الفاعل.. نأتي بعد ذلك إلى مسألة الجنس والدم واللون.. بنوة الأنبياء غير بنوة الناس كلهم فالأنبياء اصطفاؤهم اصطفاء قيم وأبناؤهم هم الذين يأخذون منهم هذه القيم وليسوا الذين يأخذون الجنس والدم واللون.. ولو رجعنا إلى قصة نوح عليه السلام حين غرق ابنه.. رفع يديه إلى السماء وقال: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45].
فرد عليه الحق سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46].
إن أهل النبوة هم الذين يأخذون القيم عن الأنبياء.. ولولا أن الحق سبحانه قال لنا {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.. لاعتقدنا أنه ربما جاء من رجل آخر أو غير ذلك.. ولكن الله يريدنا أن نعرف أن عدم نسبة ابن نوح إلى أبيه بسبب {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}.

تفسير الشعراوي للآية 124 من سورة البقرة | مصراوى

تفسير الآية رقم (125):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}

وضّحت لنا الآية التي سبقت أن اليهود قد انتفت صلتهم بإبراهيم عليه السلام.. بعد أن تركوا القيم والدين واتجهوا إلى ماديات الحياة.. أنتم تدعون أنكم أفضل شعوب الأرض لأنكم من ذرية إسحق بن إبراهيم والعرب لهم هذه الأفضلية والشرف لأنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم.. إذن فأنتم غير مفضلين عليهم.. فإذا انتقلنا إلى قصة بيت المقدس وتحول القبلة إلى الكعبة.. نقول إن ذلك مكتوب منذ بداية الخلق أن تكون الكعبة قبلة كل من يعبد الله.
 
الحق سبحانه وتعالى يقول:
{وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}..
تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة..
بيت مأخوذ من البيتوته وهو المأوى الذي تأوى إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك.. ولذلك سميت الكعبة بيتا لأنها هي المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله.. ومثابة يعني مرجعا تذهب إليه وتعود.. ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يحب أن يرجع مرات ومرات.. إذن فهو مثابة له لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربه.. وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته.. تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن ولا تتذكر أولادك ولا شئون دنياك ولو ظلت جاذبية بيت الله في قلوب الناس مستمرة لتركوا كل شئون دنياهم ليبقوا بجوار البيت.. ولذلك كان عمر بن الخطاب حريصا على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة.

ومن رحمة الحق سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه.. لأن الحجيج في بيت ربهم.. وكلما كربهم شيء أو همهم شيء توجهوا إلى ربهم وهم في بيته فيذهب عنهم الهم والكرب.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37].

 
أفئدة وليست أجساما وتهوى أي يلقون أنفسهم إلى البيت.. والحج هو الركن الوحيد الذي يحتال الناس ليؤدوه.. حتى غير المستطيع يشق على نفسه ليؤدي الفريضة.. والذي يؤديه مرة ويسقط عنه التكليف يريد أن يؤديه مرة أخرى ومرات.
إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله.. ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة.

 
وقوله تعالى:
{مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}..
أمنا يعني يؤمّن الناس فيه.. العرب حتى بعد أن تحللوا من دين إسماعيل وعبدوا الأصنام كانوا يؤمنون حجاج بيت الله الحرام.. يلقي أحدهم قاتل أبيه في بيت الله فلا يتعرض له إلا عندما يخرج.

والله سبحانه وتعالى يضع من التشريعات ما يريح الناس من تقاتلهم ويحفظ لهم كبرياءهم فيأتي إلى مكان ويجعله آمنا.. ويأتي إلى شهر ويجعله آمنا لا قتال فيه لعلهم حين يذوقون السلام والصفاء يمتنعون عن القتال.
والكلام عن هذه الآية يسوقنا إلى توضيح الفرق بين أن يخبرنا الله أن البيت آمن وأن يطلب منا جعله آمنا.. إنه سبحانه لا يخبرنا بأن البيت آمن ولكن يطلب منا أن نؤمّن من فيه.. الذي يطيع ربه يؤمن من في البيت والذي لا يطيعه لا يؤمنه.. عندما يحدث هياج من جماعة في الحرم اتخذته ستاراً لتحقيق أهدافها.. هل يتعارض هذا مع قوله تعالى: {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}.. نقول لا.
إن الله لم يعط لنا هذا كخبر ولكن كتشريع.. إن أطعنا الله نفذنا هذا التشريع وإن لم نطعه لا ننفذه.

 
وقوله تعالى:
{واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}..
وهنا نقف قليلا فهناك مَقام بفتح الميم ومُقام بضم الميم.. قوله تعالى: {ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13].
مَقام بفتح الميم إسم لمكان من قام.. ومُقام بضم الميم اسم لمكان من أقام.. فإذا نظرت إلى الإقامة فقل مُقام بضم الميم.. وإذا نظرت إلى مكان القيام فقل مقام بفتح الميم.. إذن فقوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} بفتح الميم اسم المكان الذي قام إبراهيم فيه ليرفع القواعد من البيت ويوجد فيه الحجر الذي وقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد.


ولكن لماذا أمرنا الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟
لأنهم كانوا يتحرجون عن الصلاة فيه.. فالذي يصلي خلف المقام يكون الحجر بينه وبين الكعبة.. وكان المسلمون يتحرجون أن يكون بينهم وبين الكعبة شيء فيخلون من الصلاة ذلك المكان الذي فيه مقام إبراهيم.. ولذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ وسؤال عمر ينبع من الحرص على عدم الصلاة وبينه وبين الكعبة عائق وهم لا يريدون ذلك.. ولما رأى عمر مكانا في البيت ليس فيه صلاة يصنع فجوة بين المصلين أراد أن تعم الصلاة كل البيت..
فنزلت الآية الكريمة:
{واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى.. فكأنه جل جلاله أقر وجود مكان إبراهيم في مكانه فاصلا بين المصلين خلفه وبين الكعبة.. وذلك لأن مقام إبراهيم له قصة تتصل بالعبادة وإتمامها على الوجه الأكمل، والمقام سيعطينا حيثية الإتمام لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97].

إذن هناك آيات واضحة يريدنا الله سبحانه أن نراها ونتفهمها.
فمقام إبراهيم هو مكان قيامه عندما أمره الله برفع القواعد من البيت.. والترتيب الزمني للأحداث هو أن البيت وُجد أولا.. ثم بعد ذلك رفعت القواعد ووضع الحجر الأسود في موقعه وقد وضعه إبراهيم عليه السلام.

 
إن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يعطينا التاريخ بقدر ما يريد أن يعطينا العبرة؛ فقصة بناء البيت وقع فيها خلاف بين العلماء..
متى بني البيت؟
 
بعض العلماء جعلوا بداية البناء أيام إبراهيم وبعضهم يرى أنه من عهد آدم وفريق ثالث يقول إنه من قبل آدم.. وإذا حكمنا المنطق والعقل وقرأنا قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127].
نسأل ما الرفع أولا؟
هو الصعود والإعلاء، فكل بناء له طول وله عرض وله ارتفاع.. ومادامت مهمة إبراهيم هي رفع القواعد فكأن هناك طولا وعرضا للبيت وإن إبراهيم سيحدد البعد الثالث وهو الارتفاع.. إن البيت كان موجودا قبل إبراهيم.. ثم جاء الطوفان الذي غمر الأرض في عهد نوح فأخفى معالمه.. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يظهره ويبين مكانه للناس.
والكعبة ليست هي البيت ولكنها هي المكين الذي يدلنا على مكان البيت.. إذن فالذين فهموا من قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت}.. بمعنى أن إبراهيم هو الذي بنى البيت.. نقول لهم إن البيت كان موجودا قبل إبراهيم وأن مهمة إبراهيم اقتصرت على رفع القواعد لإظهار مكان البيت للناس.. ودليلنا على ذلك أنه الآن وقد ارتفع البناء حول الكعبة.. من يصلي على السطح لا يسجد للكعبة ولكنه يسجد لجوّ الكعبة.. ومن يصلي في الدور الأسفل يصلي أيضا للكعبة لأن المكان غير المكين.
ولعل أكبر دليل على ذلك من القرآن الكريم.. أن إبراهيم حين أخذ هاجر وابنها إسماعيل وتركهما في بيت الله الحرام ولم يكن قد بنى الكعبة في ذلك الوقت.. ذكر البيت واقرأ قول الحق تبارك وتعالى في دعاء إبراهيم وهو يترك هاجر وطفلها الرضيع: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة} [إبراهيم: 37].

 
يعني أن البيت كان موجودا وإسماعيل طفل رضيع.. ولكن القواعد من البيت قد أقيمت بعد أن أصبح إسماعيل شابا يافعا يستطيع أن يعاون أباه في بناء الكعبة.. إذن فمكان بيت الله الحرام كان موجودا قبل أن يبني إبراهيم عليه السلام الكعبة.. ولكن مكان البيت لم يكن ظاهرا للناس، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى لإبراهيم مكان البيت حتى يضع له العلامة التي تدل الناس عليه.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج: 26].
إن كثيرا من المفسرين يخفى عليهم حقيقة ما جاء في القرآن. والمفروض أننا حين نتعرض لقضية بناء البيت لابد أن نستعرض جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول هذه القصة.. ومنها قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].

 
والكلام هنا عن البيت. والقول إنه وضع للناس. والناس هم آدم وذريته حتى تقوم الساعة.. وعلى ذلك لابد أن نفهم أن البيت مادام وضع للناس فالناس لم يضعوه.. ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعه وحدده، وعدل الله يأبى إلا أن يوجد البيت قبل أن يخلق آدم. ولذلك فإن الملائكة هم الذين وضعوه بأمر الله وحيث أراد الله لبيته أن يوضع.. والله مع نزول آدم إلى الأرض شرع التوبة وأعد هذا البيت ليتوب الناس فيه إلى ربهم وليقيموا الصلاة ويتعبدوا فيه.
 
وعندما أراد إبراهيم أن يقيم القواعد من البيت كان يكفي أن يقيمها على قدر طول قامته ولكنه أتى بالحجر ليزيد القواعد بمقدار ارتفاع الحجر.. ويريد الله سبحانه وتعالى بمقام إبراهيم واتخاذه مصلى أن يلفتنا إلى أن الإنسان المؤمن لابد أن يعشق التكليف.. فلا يؤديه شكلا ولكن يؤديه بحب ويتحايل ليزيد تطوعا من جنس ما فرض الله عليه.
 
إن الحجر الموجود في مقام إبراهيم إنما هو دليل على عشقه عليه السلام لتكاليف ربه ومحاولته أن يزيد عليها. وإن الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم به حفر على شكر قدميه.. وهما بين قائل أن الحجر لان تحت قدمي إبراهيم من خشية الله.. وبين قائل إن إبراهيم هو الذي قام بحفر مكان في الحجر على هيئة قدميه.. حتى إذا وقف عليه ورفع يده إلى أعلى ما يمكن ليعلي القواعد من البيت كان توازنه محفوظا.
 
وقوله تعالى:
{طَهِّرَا بَيْتِيَ}
دليل على البيت زالت معالمه تماما وأصبح مثل سائر الأرض فذبحت فيه الذبائح وألقيت المخلفات
فأمر الله سبحانه وتعالى أن يطهر هو وإسماعيل البيت من كل هذا الدنس ويجعله مكانا لثلاث طوائف:
(الطائفين) وهذه مأخوذة من الطواف وهو الدوران حول الشيء.. ولذلك يسمون شرطة الحراسة بالليل طوافة لأنهم يطوفون في الشوارع في أثناء الليل. والله جل جلاله يقول: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم} [القلم: 19-20].
وهذه هي قصة الحديقة التي منع أولاد الرجل الصالح بعد وفاته حق الفقراء والمساكين فيها فأرسل الله سبحانه من طاف بها.. أي مشى في كل جزء منها فأحرق أشجارها.. فالطائف هو الذي يطوف.. {والعاكفين} هم المقيمون
{والركع السجود} هم المصلون فتطهير البيت للطواف به والإقامة والصلاة فيه.. وهو مطهر أيضا لأنه سيكون قبلة للمسلمين لكل راكع أو ساجد في الأرض حتى قيام الساعة.


تفسير الشعراوي للآية 125 من سورة البقرة | مصراوى


.تفسير الآية رقم (126):


{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}

يقول الحق سبحانه وتعالى:
{وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}..
ومادام الله قد جعله أمنا فما هي جدوى دعوة إبراهيم أن تكون مكة بلدا آمنا.. نقول إذا رأيت طلبا لموجود فاعلم أن القصد منه هو دوام بقاء ذلك الموجود.. فكأن إبراهيم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يديم نعمة الأمن في البيت.. ذلك لأنك عندما تقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 136].
هو خاطبهم بلفظ الإيمان ثم طلب منهم أن يؤمنوا.. كيف؟ نقول إن الله سبحانه يأمرهم أن يستمروا ويداوموا على الإيمان.. ولذلك فإن كل مطلوب لموجود هو طلبٌ لاستمرار هذا الموجود.

وقول إبراهيم:
{رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً}..
أي يا رب إذا كنت قد جعلت هذا البيت آمنا من قبل فأمنه حتى قيام الساعة.. ليكون كل من يدخل إليه آمنا لأنه موجود في واد غير ذي زرع.. وكانت الناس في الماضي تخاف أن تذهب إليه لعدم وجود الأمان في الطريق.. أو آمنا أي أن يديم الله على كل من يدخله نعمة الإيمان.
وقوله تعالى: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} تكررت في آية أخرى تقول: {اجعل هذا البلد آمِناً}.. فمرة جاء بها نكرة ومرة جاء بها معرفة.. نقول إن إبراهيم حين قال: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً}.. طلب من الله شيئين.. أن يجعل هذا المكان بلدا وأن يجعله آمنا.

ما معنى أن يجعله بلدا؟
هناك أسماء تؤخذ من المحسات.. فكلمة غصب تعني سلخ الجلد عن الشاة وكأن من يأخذ شيئا من إنسان غصبا كأنه يسلخه منه بينما هو متمسك به.
كلمة بلد حين تسمعها تنصرف إلى المدينة.. والبلد هو البقة تنشأ في الجلد فتميزه عن باقي الجلد كأن تكون هناك بقعة بيضاء في الوجه أو الذراعين فتكون البقعة التي ظهرت مميزة ببياض اللون.. والمكان إذا لم يكن فيه مساكن ومبان فيكون مستويا بالأرض لا تستطيع أن تميزه بسهولة.. فإذا أقمت فيه مباني جعلت فيه علامة تميزه عن باقي الأرض المحيطة به.

 
وقوله تعالى:
{وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات}..
هذه من مستلزمات الأمن لأنه مادام هناك رزق وثمرات تكون مقومات الحياة موجودة فيبقى الناس في هذا البلد.. ولكن إبراهيم قال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}
فكأنه طلب الرزق للمؤمنين وحدهم.. لماذا؟
لأنه حينما قال له الله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124].
قال إبراهيم: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
قال الله سبحانه:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
فخشي إبراهيم وهو يطلب لمن سيقيمون في مكة أن تكون استجابة الله سبحانه كالاستجابة السابقة.. كأن يقال له لا ينال رزق الله الظالمون. فاستدرك إبراهيم وقال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}.. ولكن الله سبحانه أراد أن يلفت إبراهيم إلى أن عطاء الألوهية ليس كعطاء الربوبية.. فإمامة الناس عطاء ألوهية لا يناله إلا المؤمن،
 
أما الرزق فهو عطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر. لأن الله هو الذي استدعانا جميعا إلى الحياة وكفل لنا جميعا رزقنا.. وكأن الحق سبحانه حين قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}.. كان يتحدث عن قيم المنهج التي لا تعطى إلا للمؤمن ولكن الرزق يعطى للمؤمن والكافر.. لذلك قال الله سبحانه: {وَمَن كَفَرَ}.. وفي هذا تصحيح مفاهيم بالنسبة لإبراهيم ليعرف أن كل من استدعاه الله تعالى للحياة له رزقه مؤمنا كان أو كافرا. والخير في الدنيا على الشيوع. فمادام الله قد استدعاك فإنه ضمن لك رزقك.
إن الله لم يقل للشمس أشرقي على أرض المؤمن فقط، ولم يقل للهواء لا يتنفسك ظالم وإنما أعطى نعمة استبقاء الحياة واستمرارها لكل من خلق آمن أو كفر.. ولكن من كفر قال عنه الله سبحانه وتعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}.. التمتع هو شيء يحبه الإنسان ويتمنى دوامه وتكراره.

وقوله تعالى:
{فَأُمَتِّعُهُ}
دليل على دوام متعته، أي له المتعة في الدنيا. ولكل نعمة متعة، فالطعام له متعة والشراب له متعة والجنس له متعة.. إذن التمتع في الدنيا بأشياء متعددة. ولكن الله تبارك وتعالى وصفه بأنه قليل.. لأن المتعة في الدنيا مهما بلغت وتعدّدت ألوانها فهي قليلة.
 
واقرأ قوله تعالى:
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار}..
ومعنى أضطره أنه لا اختيار له في الآخرة، فكأن الإنسان له اختيار في الحياة الدنيا يأخذ هذا ويترك هذا ولكن في الآخرة ليس له اختيار.. فلا يستطيع وهو من أهل النار مثلا أن يختار الجنة بل إن أعضاءه المسخرة لخدمته في الحياة الدنيا والتي يأمرها بالمعصية فتفعل، لا ولاية له عليها في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
أي أن الجوارح التي كانت تطيع الكافر في المعاصي في الدنيا لا تطيعه يوم القيامة؛ فاللسان الذي كان ينطق كلمة الكفر والعياذ بالله يأتي يوم القيامة يشهد على صاحبه.. والقدم التي كانت تمشي إلى أماكن الخمر واللهو والفسوق تشهد على صاحبها، واليد التي كانت تقتل وتسرق تشهد على صاحبها. وقوله: (اضطره) معناه أن الإنسان يفقد اختياره في الآخرة ثم ينتهي إلى النار وإلى العذاب الشديد مصداقا لقوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير}.. أي أن الله سبحانه وتعالى يحذر الكافرين بأن لهم النار والعذاب في الآخرة ليس على اختيار منهم ولكن وهم مقهورون.




تفسير الشعراوي للآية 126 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

رسمة حصان | DIY عربي Amino


تفسير الآية رقم (127):

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}

يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم اذكر عندما كان إبراهيم يرفع القواعد من البيت.. وجاءت {يَرْفَعُ} هنا فعلا مضارعا لِتصويرِ الحدث الآن وفي المستقبل.
ولكن هل يرفع إبراهيم القواعد من البيت الآن؟
أم أنه رفع وانتهى؟
طبعا هو رفع وانتهى، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يستحضر حالة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت.. والله يريد من المؤمنين أن يتصوروا عملية الرفع، فلم يكن إبراهيم يملك سلما حتى يرفعه ويقف فوقه، ولم يكن يملك (سقالة).. ولكن غياب هذه النعم لم يمنع إبراهيم من أن يتحايل ويأتي بالحجر.
 
إن الله يريد منا ألا ننسى هذه العملية، وإبراهيم وابنه إسماعيل يذهبان للبحث عن حجر، ولابد أن يكون الحجر خفيف الوزن ليستطيعا أن يحملاه إلى مكان البناء.. ثم يقف إبراهيم على الحجر وإسماعيل يناوله الأحجار الأخرى التي سيتم بها رفع القواعد من البيت. ورغم المشقة التي يتحملها الاثنان.. هما سعيدان.. وكل ما يطلبانه من الله هو أن يتقبل منهما. والقبول والمقابلة والاستقبال كلها من مادة مواجهة.. أي أنهما يسألان الله في موقف المعرض عن عمله،
 
إنهما لا يريدان إلا الثواب:
{تَقَبَّلْ مِنَّآ}
أي أعطنا الثواب عما نعمله لأجلك وتنفيذا لأمرك.
 
وقوله تعالى:
{إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}..
أي أنت يا رب السميع الذي تسمع دعاءنا وتسمع ما نقول.. (والعليم).. العليم بنيتنا ومدى إخلاصنا لك.. وإننا نفعل هذا العمل ابتغاء لوجهك ولا نقصد غيرك.. ذلك أن الأعمال بالنيات، وقد يعمل رجلان عملا واحدا. أحدهما يثاب لأنه يعمله إرضاء لله وتقربا منه والآخر لا يثاب لأنه يفعله من أجل الدنيا.

والله سبحانه وتعالى عليم بالنية فإن كان العمل خاصا لله تقبله، وإذا لم يكن خالصا لوجهه لا يتقبله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» إذن فالعمل إن لم يكن خالصا لله فلا ثواب عليه.
.

تفسير سورة البقرة - الآية رقم 127 للشيخ الشعراوي - YouTube


تفسير الآية رقم (128):

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}

هناك فرق بين أن تُكَلَّفَ بشيء فتفعله بحب، وأن تفعل شكلية التكليف وتخرج من عملك خروج الذي ألقى عن كاهله عبء التكليف..
في هذه الآية الكريمة دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل وكانا يقولان يا رب أنت أمرتنا أن نرفع القواعد من البيت وقد فعلنا ما أمرتنا.. وليس معنى ذلك أننا اكتفينا بتكليفك لنا لأننا نريد أن نذوق حلاوة التكليف منك مرات ومرات..
{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}
نسلم كل أمورنا إليك.
إن الإنسان لا يمكن أن ينتهي من تكليف ليطلب تكليفا غيره إلا إذا كان قد عشق حلاوة التكليف ووجد فيه استمتاعا.. ولا يجد الإنسان استمتاعا في التكليف إلا إذا استحضر الجزاء عليه.. كلما عمل شيئا استحضر النعيم الذي ينتظره على هذا العمل فطلب المزيد.

إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بمجرد أن فرغا من رفع القواعد من البيت قالا:
{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}
ولم يكتفيا بذلك
بل أرادا امتداد حلاوة التكليف إلى ذريتهما من بعدهما.. فيقولان:
{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}..
ليتصل أمد منهج الله في الأرض ويستمر التكليف من ذرية إلى ذرية إلى يقوم القيامة..
ثم يقولان:
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}..
أي بين لنا يا رب ما تريده منا. بين لنا كيف نعبدك وكيف نتقرب إليك.. والمناسك هي الأمور التي يريد الله سبحانه وتعالى أن نعبده بها.
وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} ترينا أن إبراهيم يرغب في فتح أبواب التكليف على نفسه، لأنه لا يرى في كل تكليف إلا تطهيرا للنفس وخيرا للذرية ونعيما في الآخرة..
 
ولذلك يقول كما يروي لنا الحق:
{وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم}..
وتب علينا ليس ضروريا أن نفهمها على أنها توبة من المعصية.. وأن إبراهيم وإسماعيل وقعا في المعصية فيريدان التوبة إلى الله.. وإنما لأنهما علما أن من سيأتي بعدهما سيقع في الذنب فطلبا التوبة لذريتهما.. ومن أين عَلِما؟ عندما قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير}.

لقد طلبا من الله تبارك وتعالى التوبة والرحمة لذريتهما.. والله يحب التوبة من عباده وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة.. لأن المعصية عندما تأخذ الإنسان من منهج الله لتعطيه نفعا عاجلا فإن حلاوة الإيمان إن كان مؤمنا ستجذبه مرة أخرى إلى الإيمان بعيدا عن المعاصي.. ولذلك قيل إن انتفعت بالتوبة وندمت على ما فعلت فإن الله لا يغفر لك ذنوبك فقط ولكن يبدل سيئاتك حسنات.. وقلنا أن تشريع التوبة كان وقاية للمجتمع كله من أذى وشر كبير.. لأنه لو كان الذنب الواحد يجعلك خالدا في النار ولا توبة بعده لتجبر العصاة وازدادوا شرا.. ولأصيب المجتمع كله بشرورهم ولَيَئِسَ الناس من آخرتهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
لذلك فمن رحمة الله سبحانه أنه شرع لنا التوبة ليرحمنا من شراسة الأذى والمعصية.




قد تكون صورة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏نص مفاده '‏تفسير آية رقم 128 سورة البقرة للشيخ الشعراوي‏'‏‏

 
.تفسير الآية رقم (129):

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}

دعاء إبراهيم عليه السلام الله سبحانه وتعالى ليتم نعمته على ذريته ويزيد رحمته على عباده.. بأن يرسل لهم رسولا يبلغهم منهج السماء حتى لا تحدث فترة ظلام في الأرض تنتشر فيها المعصية والفساد والكفر ويبعد الناس فيها الأصنام كما حدث قبل إبراهيم.
 
كلمة
{رَسُولاً مِّنْهُمْ}
ترد على اليهود الذين أحزنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، وأن الرسالة كان يجب أن تكون فيهم.. ونحن نقول لهم إن جدنا وجدكم إبراهيم وأنتم من ذرية يعقوب بن اسحق. ومحمد صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وأخ لإسحاق.. ولا حجة لما تدعونه من أن الله فَضَّلَكم واختاركم على سائر الشعوب.. إنما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يسلب منكم النبوة لأنكم ظلمتم في الأرض وعهد الله لا يناله الظالمون.
أراد الحق تبارك وتعالى أن يقول لهم أن هذا النبي من نسل إبراهيم وأنه ينتمي إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

 
وقوله تعالى:
{يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}..
أي آيات القرآن الكريم.
 
وقوله تعالى:
{وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة}..
يجب أن نعرف أن هناك فرقا بين التلاوة وبين التعليم. فالتلاوة هي أن تقرأ القرآن، أما التعليم فهو أن تعرف معناها وما جاءت به لتطبقه وتعرف من أين جاءت.. وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم فإن الحكمة هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النبي: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
 
وقوله تعالى:
{وَيُزَكِّيهِمْ}
أي ويطهرهم ويقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان.
 
وقوله جل جلاله:
{إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}..
أي العزيز الذي لا يغلب لجبروته ولا يسأله أحد.. (والحكيم) الذي لا يصدر منه الشيء إلا بحكمة بالغة.


تفسير سورة البقرة - الآية رقم 129 للشيخ الشعراوي - YouTube


تفسير الآية رقم (130):

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}

ما ملة إبراهيم؟
إنها عبادة الله وحده لا شريك له وعشق التكاليف؛ فإبراهيم وَفَّى كل ما كلفه به الله وزاد عليه.. وقابل الابتلاء بالطاعة الصبر.. فعندما ابتلاه الله بذبح ابنه الوحيد لم يتردد وكان يؤدي التكاليف بعشق ويحاول أن يستبقي المنهج السليم في ذريته.

قوله تعالى:
{وَمَن يَرْغَبُ}
يعني يعرض ويرفض. ويقال رغب في كذا أي أحبه وأراده. ورغب عن كذا أي صَدَّ عنه وأعرض.. والذين يصدُّون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء هم السفهاء الجهلة، لذلك قال عنهم الله سبحانه وتعالى: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}.. دليل على ضعف الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار.. فعندما يكون هناك من ورثوا مالاً وهم غير ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء.. والسفيه هو من لم ينضج رأيه ولذلك تنقل قوامته على ماله إلى ولي أو وصي؛ لأنه بِسَفَهِهِ غيرُ قادر على أن ينفق المال فيما ينفع.

والقرآن الكريم يعالج هذه المسألة علاجا دقيقا فيقول: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء: 5].

نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى سمى أموال السفهاء بأموالي الولي ولم يعتبرها مال السفيه لأنه ليس أهلا للقيام عليها.. وجعل هذه الأموال تحت إشراف شخص آخر أكثر نضجا وحكمة.

وقوله تعالى: (أموالكم) ليكون الولي أو الوصي حريصا عليها كَمَالِهِ أو أكثر ولكن هو قيم فقط.. فإذا بلغ الإنسان سن الرشد أو شفى السفيه من سفاهته يرد إليه ماله ليتصرف فيه.
ونحن نرى عددا من الأبناء يرفعون قضايا على آبائهم وأمهاتهم يتهمونهم فيها بالسفه لأنهم لا يحسنون التصرف في أموالهم.. ثم يأخذون هذه الأموال ويبعثرونها هم.. والذي يجب أن يعلمه كل من يقوم بهذه العملية أنه لا حق له في إنفاق المال وتبذيره لحسابه الخاص، ولكنّ هناك حكمين: إما أن يكون الشخص فقيرا فله أن يأكل بالمعروف.. وإما أن يكون غنيا فيجعل عمله في الولاية لله لا يتقاضى عنه شيئا.. أما أن يأخذ المال ويبعثره على نفسه وشهواته وعلى زوجته وأولاده فهذا مرفوض ويحاسب عليه.. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6].
إذن الذي يعرض عن ملة إبراهيم هو سفيه لا يملك عقلا يميز بين الضار والنافع.

ويقول الله سبحانه وتعالى:
{وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}..
اصطفاه في الدنيا بالمنهج وبأن جعله إماما وبالابتلاء.. وكثير من الناس يظن أن ارتفاع مقامات بعضهم في أمور الدنيا هو اصطفاء من الله لهم بأن أعطاهم زخرف الحياة الدنيا ويكون هذا مبررا لأن يعتقدوا أن لهم منزلةً عالية في الآخرة.. نقول لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا}..
وأضاف:
{وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}..
لنعلم أن إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا ونعيم في الآخرة أي الاثنين معا.

نداء الايمان

تفسير سورة البقرة - الآية رقم 130 للشيخ الشعراوي - YouTube

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

image.png.e215a3c7d69ee437fa6a9f4d03f001b2.png


تفسير الآية رقم (131):


{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}


والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه قال لإبراهيم أسلم فقال أسلمت.. إذن فمطلوب الحق سبحانه وتعالى من عبده أن يسلم إليه.. ولم يقل الحق أسلم إِليّ، لأنها مفهومة.. ولم يقل أسلم لربك لأن الإسلام لا يكون إلا لله. لأنه هو سبحانه المأمون علينا.. على أن إبراهيم عليه السلام قال في رده: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين}.
 

ومعنى ذلك أنه لن يكون وحده في الكون. لأنه إذا أسلم لله الذي سخر له ما في السماوات والأرض.. يكون قد انسجم مع الكون المخلوق من الله للإنسان.. ومَنْ أكثرُ نضجاً في العقل ممن يُسلم وجهه لله سبحانه.. لأنه يكون بذلك قد أسلمه إلى عزيز حكيم قوي لا يقهر، قادر لا تنتهي قدرته.. غالب لا يغلب، رزاق لا يأتي الرزق إلا منه. فكأنه أسلم وجهه للخير كله.

والدين عند الله سبحانه وتعالى منذ عهد آدم إلى يوم القيامة هو إسلام الوجه لله، ولماذا الوجه؟ لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان يعتز به ويعتبره سمة من سمات كرامته وعزته.. ولذلك فنحن حين نريد منتهى الخضوع لله في الصلاة نضع جباهنا ووجوهنا على الأرض.. وهذا منتهى الخشوع والخضوع أن تضع أشرف ما فيك وهو وجهك على الأرض إعلانا لخضوعك لله سبحانه وتعالى.

 

والله جل جلاله يريد من الإنسان أن يسلم قيادته لله.. بأن يجعل اختياراته في الدنيا لما يريده الله تبارك وتعالى.. فإذا تحدث لا يكذب، لأن الله يحب الصدق، وإذا كلف بشيء يفعله لأن التكليف في صالحنا ولا يستفيد الله منه شيئا.. وإذا قال الله تعالى تصدق بمالك أسرع يتصدق بماله ليرد له أضعافا مضاعفة في الآخرة وبقدرة الله.
 

وهكذا نرى أن الخير كله للإنسان هو أن يجعل مراداته في الحياة الدنيا طبقا لما أراده الله.. وفي هذه الحالة يكون قد انسجم مع الكون كله وتجد أن الكون يخدمه ويعطيه وهو سعيد.
أما من يسلم وجهه لغير الله فقد اعتمد على قوي يمكن أن يضعف، وعلى غني يمكن أن يفتقر.. وعلى موجود يمكن أن يموت ويصبح لا وجود له. ولذلك فهو في هذه الحالة يتصف بالسفاهة لأنه اعتمد على الضار وترك النافع.

تفسير سورة البقرة - الآية رقم 131 للشيخ الشعراوي - YouTube

.تفسير الآية رقم (132):


{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}


عندما تقرأ كلمة وصى فاعلم أن الوصية تأتي لحمل الإنسان على شيء نافع في آخر وقت لك في الدنيا؛ لأن آخر ساعات الإنسان في الدنيا إن كان قد عاش فيها يغش الناس جميعا فساعة يحتضر لا يغش نفسه أبدا ولا يغش أحدا من الناس لماذا؟ لأنه يحس إنه مقبل على الله سبحانه فيقول كلمة الحق.


النصح أو الوصية هي عظة تحب أن يستمسك بها من تنصحه وتقولها له مخلصا في آخر لحظة من لحظات حياته.. ولذلك سيأتي الله سبحانه وتعالى ليبين لنا ذلك في قوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} [البقرة: 133].

وهكذا يريد الله سبحانه أن يبين لنا أن الوصية دائما تكون لمن تحب.. وأن حب الإنسان لأولاده أكيد سواء أكان هذا الإنسان مؤمنا أم كافرا.. ونحن لا نتمنى أن يكون في الدنيا من هو أحسن منا إلا أبناءنا ونعمل على ذلك ليكون لهم الخير كله.


وصّى إبراهيم بنيه، ويعقوب وصى بنيه.. وكانت الوصية {يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} إذن فالوصية لم تكن أمرا من عند إبراهيم ولا أمرا من عند يعقوب. ولكن كانت أمرا اختاره الله للناس فلم يجد إبراهيم ولا يعقوب أن يوصيا أولادهما إلا بما اختاره الله.. فكأن إبراهيم ائتمن الله على نفسه فنفذ التكاليف وائتمنه على أولاده فأراد منهم أن يتمسكوا بما اختاره لهم الله.

قوله تعالى:

{ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}..

إبراهيم هو الأب الكبير وابنه اسحق وابن اسحق يعقوب.. ويعقوب هو الأب المباشر لليهود.. ويعقوب وصاهم كما يروي لنا القرآن الكريم: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ}.
 

أنت لا تنهى إنسانا عن أمر إلا إذا كان في إمكانه أن يتجنبه ولا تأمره به إلا إذا كان في إمكانه أن ينفذه.. فهل يملك أولاد يعقوب أن يموتوا وهم مسلمون؟ والموت لا يملكه أحد.. إنه يأتي في أي وقت فجأة.. ولكن مادام يعقوب قد وصى بنيه: {لاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} فالمعنى لا تفارقوا الإسلام لحظة حتى لا يفاجئكم الموت إلا وأنتم مسلمون.
والله سبحانه وتعالى أخفى موعد الموت ومكانه وسببه.. ليكون هذا إعلاما به ويتوقعه الناس في أي سن وفي أي مكان وفي أي زمان.. ولذلك قد نلتمس العافية في أشياء يكون الموت فيها.. والشاعر يقول:
إن نام عنك فكل طب نافع ** أو لم ينم فالطب من أسبابه

أي إن لم يكن قد جاء الأجل، فالطب ينفعك ويكون من أسباب الشفاء.. أما إذا جاء الأجل فيكون الطب سببا في الموت، كأن تذهب لإجراء عملية جراحية فتكون سبب موتك.. فالإنسان لابد أن يتمسك بالإسلام وبالمنهج ولا يغفل عنه أبدا.. حتى لا يأتيه الموت في غفلته فيموت غير مسلم.. والعياذ بالله.



68747470733a2f2f73332e616d617a6f6e617773

.تفسير الآية رقم (133):


{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}


هذا خطاب من يعقوب ينطبق ويمس اليهود المعاصرين لنزول القرآن الكريم.. يعقوب قال لأبنائه ماذا تعبدون من بعدي: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
هذا إقرار من الأسباط أبناء يعقوب بأنهم مسلمون وأن آباءهم مسلمون..

وتأمل دقة الأداء القرآني في قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ}.. فكأنه لم يحدث بعد موت إبراهيم وحين كان يعقوب يموت لم يحدث أن تغير المعبود وهو الله سبحانه وتعالى الواحد.. ولذلك قالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: {إلها وَاحِداً}.. وسنأخذ من هذه الآية لقطة تفيدنا في أشياء كثيرة لأن القرآن سيتعرض في قصة إبراهيم أنه تحدث مع أبيه في شئون العقيدة.. فقال كما يروي لنا القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74].

ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلالة إسماعيل ابن إبراهيم.. والرسول عليه الصلاة والسلام قال: «أنا سيد ولد آدم».
فإذا كان آزرُ أبو إبراهيم كافراً وعابداً للأصنام.. فكيف تصح سلسلة النسب الشريف؟ نقول إنه لو أن القرآن قال {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ} وسكت لكان المعنى أن المخاطب هو أبو إبراهيم.. ولكن قول الله: {لأَبِيهِ آزَرَ}.. جاءت لحكمة. لأنه ساعة يذكر اسم الأب يكون ليس الأب ولكن العم.. فأنت إذا دخلت منزلا وقابلك أحد الأطفال تقول له هل أبوك موجود ولا تقول أبوك فلان لأنه معروف بحيث لن يخطئ الطفل فيه.. ولكن إذا كنت تقصد العم فإنك تسأل الطفل هل أبوك فلان موجود؟ فأنت في هذه الحالة تقصد العم ولا تقصد الأب.. لأن العم في منزلة الأب خصوصا إذا كان الأب متوفيا.

إذن قول الحق سبحانه وتعالى:{لأَبِيهِ آزَرَ} بذكر الاسم فمعناه لعمه آزر.. فإذا قال إنسان هل هناك دليل على ذلك؟

نقول نعم هناك دليل من القرآن في هذه الآية الكريمة: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ}.. والآباء جمع أب، ثم حدد الله تبارك وتعالى الآباء، إبراهيم وهو الجد يطلق عليه أب.. وإسماعيل وهو العم يطلق عليه أب واسحق وهو أبو يعقوب وجاء إسماعيل قبل اسحق.
إذن ففي هذه الآية جمع أب من ثلاثة هم إبراهيم وإسماعيل واسحق.. ويعقوب الذي حضره الموت وهو ابن اسحق، ولكن أولاد يعقوب لما خاطبوا أباهم قالوا آباءك ثم جاءوا بأسمائهم بالتحديد.. وهم إبراهيم الجد وإسماعيل العم واسحق أبو يعقوب وأطلقوا عليهم جميعا لقب الأب.
فكأن إسماعيل أطلق عليه الأب وهو العم وإبراهيم أطلق عليه الأب وهو الجد واسحق أطلق عليه الأب وهو الأب.. فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أشرف الناس حسباً ولا فخر».

يقول بعض الناس كيف ذلك ووالد إبراهيم كان غير مسلم.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا سيد ولد آدم».
فإذا قال أحدهم كيف هذا وأبو إبراهيم عليه السلام كان مشركا عابدا للأصنام.. نقول له لم يكن آزر أبا لإبراهيم وإنما كان عمه، ولذلك قال القرآن الكريم {لأَبِيهِ آزَرَ} وجاء بالاسم يريد به الأبوة غير الحقيقية.. فأبوة إبراهيم وأبوة اسحق معلومة لأولاد يعقوب.. ولكن إسماعيل كان مقيما في مكة بعيدا عنهم، فلماذا جاء اسمه بين إبراهيم واسحق؟ نقول جاء بالترتيب الزمني لأن إسماعيل أكبر من اسحق بأربعة عشر عاما.
وكونه وصف الثلاثة بأنهم آباء.. إشارة لنا من الله سبحانه وتعالى أن لفظ الأب يطلق على العم.
والله تبارك وتعالى يريدنا أن نتنبه لمعنى كلمة آزر.. ويريد أن يلفتنا أيضا إلى أن تعدد البلاغ عن الله لا يعني تعدد الآلهة.. لذلك قال سبحانه: {إلها وَاحِداً}.

تفسير سورة البقرة - الآية رقم 132+133 للشيخ الشعراوي - YouTube

.تفسير الآية رقم (134):


{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}


وقوله تعالى: (خلت) أي انفردت. وخلا فلان بفلان أي انفرد به.. وخلا المكان من نزيله أي أصبح المكان منفردا، والنزيل منفردا ولا علاقة لأحدهما بالآخر.. الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
أي إنفردوا هم وشياطينهم ولم يعد في المكان غيرهم؛ ولقد قلنا إن كل حدث لابد أن يكون له محدث، ولا حدث يوجد بذاته، وكل حدث يحتاج إلى زمان ويحتاج إلى مكان.. فإذا قال الحق تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} فمعناه إنه انقضى زمانها وانفرد عن زمانكم.

 

والمقصود بقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي انتهى زمانها.. وتلك إسم إشارة لمؤنث مخاطب وأمة هي المشار إليه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولعامة المسلمين.. والله سبحانه وتعالى حين يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ} فكأنها مميزة بوحدة عقيدتها ووحدة إيمانها حتى أصبحت شيئا واحدا.. ولذلك لابد أن يخاطبها بالوحدة.. واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} [الأنبياء: 92].
 

وتلك هنا إشارة لأمة إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب.. هم جماعة كثيرة لهم عقيدة واحدة.
وقوله تعالى:
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ}.. أي تلك جماعة على دين واحد تحاسب عما فعلته كما ستحاسبون أنتم على ما فعلتم..

ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
وإبراهيم فرد وليس جماعة؟

نقول نعم إن إبراهيم فرد ولكن اجتمعت فيه من خصال الخير ومواهب الكمال ما لا يجتمع إلا في أمة.


وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} يراد بها إفهام اليهود ألا ينسبوا أنفسهم إلى إبراهيم نسبا كاذبا لأن نسب الأنبياء ليس نسباً دمويا أو جنسيا أو انتماء.. وإنما نسب منهج واتباع.. فكأن الحق يقول لليهود لن ينفعكم أن تكونوا من سلالة إبراهيم ولا اسحق ولا يعقوب.. لأن نسب النبوة هو نسب إيماني فيه اتباع للمنهج والعقيدة.. ولا يشفع هذا النسب يوم القيامة لأن لكل واحد عمله.

قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ}.. الكسب يؤخذ على الخير والاكتساب يؤخذ في الشر لأن الشر فيه افتعال.
إننا لابد أن نلتفت ونتنبه إلى آيات القرآن الكريم حتى نستطيع أن نرد على أولئك الذين يحاولون الطعن في القرآن.. فلا يوجد معنى لآية تهدمها آية أخرى ولكن يوجد عدم فهم.

 

يأتي بعض المستشرقين ليقول هناك آية في القرآن تؤكد أن الله سبحانه وتعالى يعطي بالأنساب وذلك في قوله جل جلاله: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21].
الأبناء مؤمنون، وقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} كلمة ألحقنا تأتي عندما تلحق ناقصا بكامل.
فإذا كان الاثنان مؤمنين فكأنك تزيد درجة الأبناء إكراما لآبائهم المؤمنين.. نقول إن الإيمان شيء والعمل بمقتضى الإيمان شيء آخر.. الأب والذرية مؤمنون ولكن الآباء تفانوا في العمل والأبناء ربما قصروا قليلا.. ولكن هنا رفع درجة بالنسبة للمؤمنين أي لابد أن يكون الأب والذرية مؤمنين.. ولكن غير المؤمنين مبعدون ليس لهم علاقة بآبائهم انقطعت الصلة بينهم بسبب الإيمان والكفر.. فالآباء لهم أعمال حسنة كثيرة.. والأبناء لهم أعمال حسنة أقل.. ينزل الله الأبناء في الجنة مع آبائهم لأن الإيمان واحد.
وقوله تعالى: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ} أي أنقصناهم من عملهم من شيء.. إذن فالآباء والذرية مأخوذون بإيمانهم، والله بفضله يلحق الأبناء بالآباء.
قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ}.. هذه عملية الإيمان في العقيدة..

قد يقول البعض إن الله تبارك وتعالى يقول: {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21].
ويقول سبحانه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39].
فكيف يأخذ الأبناء جزاء بدون سعي؟

نقول افهموا النصوص جيدا.

قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} تحدد العدل ولكنها لا تحدد الفضل الذي يعطيه الله سبحانه لمن شاء من عباده، وهذا يعطي بلا حساب.. ثم من الذي قال إن هذا ليس من سعيهم؟ إن إلحاق الأبناء المؤمنين بالمنزلة العالية لآبائهم تكريم لعمل الآباء وليس زيادة لعمل الأبناء.

ربما يأتي أحد ويقول الصلاة على الميت ما هو القصد الشرعي منها.. إن كانت تفيده فستكون الفائدة زيادة على عمله.. وإن لم تكن تعطيه أكثر من عمله فما فائدتها؟.
نقول مادام الشرع كلفنا بها فلها فائدة.

وهل تظن أن الصلاة على الميت ليست من عمله؟

هي داخلة في عمله لأنه مؤمن وإيمانه هو الذي دفعك للصلاة عليه.. والذي تدعو له بالخير وبالرحمة وبالمغفرة ويتقبلها الله.. أيقال أنه أخذ غير عمله؟ لا؛ إنك لم تدع له إلا بعد أن أصابك الخير منه.. ولكنك لا تدعو مثلا لإنسان أخذ بيدك إلى خمارة أو إلى فاحشة أو إلى منكر.. بل تدعو لمن أعطاك خيرا فإن استجاب الله لك فهو من عمله.
الله سبحانه وتعالى يقول إن ما كان يعمله من سبقكم من الأمم لا تسألون عنه.. وإن كنتم تدعون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا نقل لكم أنتم لن تسألوا عما كان يعمل إبراهيم ولكن عليكم أنفسكم.. السؤال يكون عن عملكم.


image.jpeg.35feb6229515fed9dce0d444c83dfad7.jpeg

 

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
image.png.a2610b86925cdfe72ab38308d344d62e.png


تفسير الآية رقم (135):

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
عندما تأتي قالوا فمعناها إن الذين قالوا جماعة.. الذين قالوا هم اليهود والنصارى. ولكن كلا منهم قال قولا مختلفا عن الآخر.. قالت اليهود كونوا هودا. وقالت النصارى كونوا نصارى.
 
ونحن عندنا عناصر ثلاثة: اليهود والنصارى والمشركون.
ويقابل كل هؤلاء المؤمنون..
{وَقَالُواْ كُونُواْ}
من المقصود بالخطاب؟
المؤمنين.. أو قد يكون المعنى وقالت اليهود للمؤمنين والمشركين والنصارى كونوا هودا.. وقالت النصارى لليهود والمشركين والمؤمنين كونوا نصارى.. لأن كل واحد منهما لا يرى الخير إلا في نفسه..
ولكن الإسلام جاء وأخذ من اليهودية موسى وتوراته الصحيحة، وأخذ من المسيحية عيسى وإنجيله الصحيح.. وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى ذلك أن الإسلام أخذ وحدة الصفقة الإيمانية المعقودة بين الله سبحانه وبين كل مؤمن.. ولذلك تجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285].

ونلاحظ أن المشركين لم يدخلوا في القول لأنهم ليسوا أهل كتاب.
قوله تعالى:
{بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}..
أي رد عليهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنني سأكون تابعا لدين إبراهيم وهو الحنيفية.. وهم لا يمكن أن يخالفوا في إبراهيم فاليهود اعتبروه نبيا من أنبيائهم.. والنصارى اعتبروه نبيا من أنبيائهم ولم ينفوا عنه النبوة ولكن كلا منهم أراد أن ينسبه لنفسه.
ما معنى حنيفا؟
إن الاشتقاقات اللفظية لابد أن يكون لها علاقة بالمعنى اللغوي.. الحنف ميل في القدمين أن تميل قدم إلى أخرى.. هو تقوس في القدمين فتميل القدم اليمنى إلى اليسار أو اليسرى إلى اليمين هذا هو الحنف.. ولكن كيف يؤتي بلفظ يدل على العوج ويجعله رمزا للصراط المستقيم؟.
لقد قلنا إن الرسل لا يأتون إلا عندما تعم الغفلة منهج الله.. لأنه مادام وجد من أتباع الرسول من يدعو إلى منهجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يكون هناك خير.

 
النفس البشرية لها ألوان.. فهناك النفس اللوامة تصنع شرا مرة فيأتي من داخل النفس ما يستنكر هذا الشر فتعود إلى الخير.. ولكن هناك النفس الأمارة بالسوء وهي التي لا تعيش إلا في الشر تأمر به وتغري الآخرين بفعله.. إذا فسد المجتمع وأصبحت النفوس أمارة بالسوء ينطبق عليها قول الحق سبحانه: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79].

تتدخل السماء برسول يعالج اعوجاج المجتمع.. ولكن الله تبارك وتعالى وضع عنصر الخيرية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110].

 
إذن فقد ائتمن الله تبارك وتعالى أمة محمد على المنهج.. ومادام فيها من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فلن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
 
نعود إلى قوله تعالى حنيفا..
قلنا إن الحنف هو الاعوجاج.. ونقول إن الاعوجاج عن المعوج اعتدال.. والرسل لا يأتون إلا بعد اعوجاج كامل في المجتمع.. ليصرفوا الناس عن الاعوجاج القائم فيميلون إلى الاعتدال.. لأن مخالفة الاعوجاج اعتدال.
وقوله تعالى: (حنيفا) تذكرنا بنعمة الله على الوجود كله لأنه يصحح غفلة البشر عن منهج الله ويأخذ الناس من الاعوجاج الموجود إلى الاعتدال.. والهداية عند اليهود والنصارى مفهومها تحقيق شهوات نفوسهم لأن بشرا يهدي بشرا.. والله سبحانه وتعالى قال: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
ولقد تعايش رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة مع اليهود ولكنهم حاربوه ولم يرضوا عنه.. وإبراهيم عليه السلام كان مؤمنا حقا ولم يكن مشركا.


فواصل متحركة لتزيين المواضيع - اكبر مكتبة فواصل متحركة 2021 - فواصل متحركة  روع - نسيم آڸدکَريآت

تفسير الآية رقم (136):


{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}

 
هذه الآية الكريمة تعطينا تفسيرا لقوله تعالى:
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}..
إيمان بالله وحده لا شريك له.. إيمان بما أنزل إلينا وهو القرآن وما أنزل لإبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى أي التوراة وما أوتي عيسى أي الإنجيل وما أوتي النبيون بالإجمال.. فالبلاغ الصحيح عن الله منذ عهد آدم حتى الآن هو وحدة العقيدة بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ووحدة الكون بأن الله هو الخالق وهو المدبر وكل شيء يخرج عن الألوهية لله الواحد الأحد.. وأن كل شيء يخرج عن ذلك يكون من تحريف الديانات السابقة هو افتراء على الله سبحانه لا نقبله.

قوله تعالى:
{قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
وهو القرآن الكريم. ولا يمكن أن يعطف عليه ما يصطدم معه.. ولذلك فإن ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط هذه ملة إبراهيم.. وهذا يؤكد لنا أن ملة إبراهيم من وحي الله إليه.. والرسالات كلها كما قلنا تدعو لعبادة الله الواحد الواحد الذي لا شريك له.
 
وقوله تعالى:
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}..
أي أن إبراهيم كان مسلما وكل الأنبياء كانوا مسلمين وكل ما يخالف ذلك من صنع البشر..
ومعنى الإسلام
أن هناك مسلما ومسلما إليه هو الله عز وجل. ونحن نسلم له في العبودية سبحانه وفي اتباع منهجه.. والإنسان لا يسلم وجهه إلا لمن هو أقدر منه وأعلم منه وأقوى منه ولمن لا هوى له.. فإن تشككت في أحد العناصر فإسلامك ليس حقيقة وإنما تخيل.. وأنت لا تسلم زمامك لله سبحانه وتعالى إلا وأنت متأكد أن قدراته سبحانه فوق قدرات المخلوقين جميعا، وأنه سبحانه غني عن العالمين، ولذلك فإنه غير محتاج إلى ما في يدك بل هو يعطيك جل جلاله من الخير والنعم ولا يوجد إلا الوجود الأعلى لتسلم وجهك له.


فواصل متحركة لتزيين المواضيع - اكبر مكتبة فواصل متحركة 2021 - فواصل متحركة  روع - نسيم آڸدکَريآت
تفسير الآية رقم (137):


{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}

 
نقول إن السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة لهذه الآية..
هل لِما آمنا به مثل حتى يؤمنوا به؟
إنك لكي تؤمن لابد أن تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.. فهل إذا قالها أحد بعدك يكون قال ما قلته أم مثل ما قلته؟
يكون قال مثل ما قلت. أي إنني حين أعلن إيماني وآخذ الشهادة التي قلتها أنت أكون قد قلت مثلها لأن ما نطقت به لا يفارقك أنت.. ولكني إذا صنعت شيئا وقلت لغيري إصنع مثله، هو سيصنع شيئا جديدا ولن يصنع ما صنعته أنا.

الشيء نفسه حين تقول لي: تصدق بمثل ما تصدق به فلان. لن تكون الصدقة هي المال نفسه بل تكون مثله. نقول لمن يردد هذا الكلام: إنك لم تفهم المعنى إيمانهم أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وإيمان غيرهم أن يقولوا مثل هذه العبارة أي أن يعلنوا إيمانهم مثلنا بالله ورسوله.. فالمثل هنا يرتبط بالشهادة وكل من آمن بالإسلام نطق بالشهادتين مثل من سبقوه في الإيمان. فالمثلية هنا في العبارة وإيمانهم هو أن يقولوا مثل ما قلنا.

يقول الحق تبارك وتعالى:
{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا}
أي اهتدوا إلى الحق.
. {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}
وتولوا يعني أعرضوا. وشقاق يعني خلافا معكم وخلافا مع بعضهم البعض؛ فلكل منهم وجهة نظر يدعيها، وهداية اخترعها.. حتى إذا التقوا في الكفر فلن يلتقوا في أسباب الكفر كل واحد اتخذ سببا ولذلك اختلفوا.. والشقاق من المشقة والنزاع والمشاجرة، والشق هو الفرقة بين شيئين.
 
وقوله تعالى:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله}
أي لا تلتفت إلى معاركهم ولا إلى حوارهم فالله يكفيك بكل الوسائل عمن سواه واقرأ قوله سبحانه: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36].

الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم إذا حاول اليهود والنصارى والمنافقون أن يكيدوا لك ويؤذوك والمؤمنين، فالله سبحانه وتعالى يكفيك لأنه عليم سميع بصير لا يخفى عليه شيء.. ولقد حاول اليهود قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة وحاولوا إيذاءه بالسحر فأبطل الله كيدهم وأظهر ما خفي منه وأطلع رسوله عليه.. فمهما استخدموا من وسائل ظاهرة أو خفية فسيكفيك الله شرها
 
ولذلك قال تعالى:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السميع العليم}..
أي سميع بما يقال، عليم بما يدبرونه. بل يعلم ما في صدورهم قبل أن ينطقوا به.. فلا تعتقد أن شيئا يفوت على الله سبحانه أو يفلت منه. إن كل حركة قبل أن تحدث يعلمها سبحانه، وكل كيد قبل أن يتم هو محبطه. فإذا كان الله سبحانه وتعالى معك فماذا تخشى؟ وممن تخاف؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصل إليك؟. وأنت معك عليم بكل ما سيحدث حتى يوم القيامة وبعد يوم القيامة.. ومادام معك القوي الذي لا يضعف أبدا والحي الذي لا يموت أبدا والعليم بكل شيء فلا تخشى أحدا لأنك في أمان الله سبحانه.
فواصل متحركة لتزيين المواضيع - اكبر مكتبة فواصل متحركة 2021 - فواصل متحركة  روع - نسيم آڸدکَريآت

تفسير الآية رقم (138):


{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}

ما هي الصبغة؟ الصبغة هي إدخال لون على شيء بحيث يغيره بلون آخر.. تصبغ الشيء أحمر أو أزرق أو أي لون تختاره. والصبغ ينفذ في المصبوغ خاصة إذا كان المصبوغ له شعيرات مسام كالقطن أو الصوف.. ولذلك فإن الألياف الصناعية لا يمكن أن تصبغ لماذا؟ لأن شعرة القطن أو الصوف أشبه بالأنبوبة في تركيبها.

وإذا جئنا بقنديل من الزيت ووضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون رأس الفتيل في الزيت ثم تشغله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الأنابيب ويشعل الفتيل.. فإذا جربنا هذا في الألياف الصناعية فلا يمكن أن يسري فيها الزيت وإنما النار تأكل الألياف لأنه ليس فيها أنابيب شعرية كالقطن والصوف.. ولذلك تجد الألياف الصناعية سهلة في الغسيل لأن العرق لا يدخل في مسامها بينما الملابس القطنية تحتاج لجهد كبير لأن مسامها مشبعة بالعرق والتراب.

إذن الصبغة لابد أن تتدخل مادتها من مسام القماش.. أما الطلاء فهو مختلف. إنه طبقة خارجية تستطيع أن تزيلها.. ولذلك فإن الذين يفتون في طلاء الأظافر بالنسبة للسيدات ويقولون إنه مثل الحناء نقول لهم لا.. الحناء صبغة تتخلل المادة الحية وتبقى حتى يذهب الجلد بها أي لا تستطيع أن تزيلها عندما تريد.. ولكن الطلاء يمكن أن تزيله في أي وقت ولو بعد إتمامه بلحظات.. إذن فطلاء الأظافر ليس صبغة.

قوله سبحانه:
{صِبْغَةَ الله}
فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري..
ولماذا كلمة صبغة؟
حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله.. إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
فكأن الإيمان صبغة موجودة بالفطرة.. إنها صبغة الله.. فإن كان أبواه مسلمين ظل على الفطرة. وإن كان أبواه من اليهود أو النصارى يهودانه أو ينصرانه أي يأخذانه ويضعانه في ماء ويقولون صبغناه بماء المعمودية.. هذا هو معنى صبغة الله.

ويريد الحق سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا.. هذا الاختلاف في اللون من صبغة الله.. اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين.. فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر، هذه هي صبغة الله.. وما يفعلونه من تعميد للطفل لا يعطي صبغة.
لأن الإيمان والدين لا يأتي من خارج الإنسان وإنما يأتي من داخله.. ولذلك فإن الإيمان يهز كل أعضاء الجسد البشري. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
هذا هو التأثير الذي يضعه الله في القلوب.. أمر داخلي وليس خارجيا.. أما إيمان غير المسلمين فهو طلاء خارجي وليس صبغة لأنهم تركوا صبغة الله.. ونقول لهم: لا. هذا الطلاء من عندكم أنتم، أما ديننا فهو صبغة الله.

 
وقوله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً}..
استفهام لا يمكن أن يكذبوه ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة.

وقوله تعالى:
{وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}
أي مطيعون لأوامره والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه.
والأوامر دائما تأتي بأمر فيه مشقة يطلب منك أن تفعله والنهي يأتي عن أمر محبب إلى نفسك هناك مشقة أن تتركه.. ذلك أن الإنسان يريد النفع العاجل، النفع السطحي، والله سبحانه وتعالى يوجهنا إلى النفع الحقيقي.. النفع العاجل يعطيك لذة عاجلة ويمنحك نعيما دائما في الآخرة وتمتعا بقدرات الله سبحانه وتعالى.

 
وأنت حين تسمع المؤذن ولا تقوم للصلاة لأنها ثقيلة على نفسك قد أعطيت نفسك لذة عاجلة كأن تشغل نفسك بالحديث مع شخص أو بلعب الطاولة أو بغير ذلك.. وتترك ذلك النفع الحقيقي الذي يقودك إلى الجنة.. ولذلك قال الله سبحانه: {إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 45-46].
إذن العبادة أمر ونهي.. أمر يشق على نفسك فتستثقله، ونهى عن شيء محبب إلى نفسك يعطيك لذة عاجلة ولذلك تريد أن تفعله.
إذن فقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}.. أي مطيعون لأوامره لأننا آمنا بالآمر إلها وربا يعبد.. فإذا آمنت حبب الله إليك فعل الأشياء التي كنت تستثقلها وسهل عليك الامتناع عن الأشياء التي تحبها لأنها تعطيك لذة عاجلة.. هذه هي صبغة الله التي تعطينا العبادة.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان أولئك هُمُ الراشدون} [الحجرات: 7].

وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى بصبغة الإيمان يحبب إلينا الخير ويجعلنا نبغض الشر.. لا عن رياء ونفاق خارج النفس كالطلاء ولكن كالصبغة التي تتخلل الشيء وتصبح هي وهو شيئا واحدا لا يفترقان.
فواصل متحركة لتزيين المواضيع - اكبر مكتبة فواصل متحركة 2021 - فواصل متحركة  روع - نسيم آڸدکَريآت
تفسير الآية رقم (139):


{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}

تحديد الأمر بِقُلْ إيقاظ لمهمة التكليف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والله سبحانه وتعالى حين يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام قل كان يكفي أن يقول ما يريده سبحانه..
 
فأنت إذا قلت لابنك اذهب إلى أخيك وقل له أبوك يأمرك بكذا فيذهب الولد ويقول هذا الكلام دون أن يقول كلمة قل.. ولكن خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة قل تلفتنا إلى أن هذا الأمر ليس من عنده ولكنه من عند الله سبحانه، ومهمة الرسول هي البلاغ.
 
إن تكرار كلمة (قل) في الآيات هي نسبة الكلام المقول إلى عظمة قائله الأول وهو الله تبارك وتعالى.. فالكلام ليس من عند رسول الله ولكن قائله هو الله جل جلاله.
 
قوله تعالى:
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}..
المحاجة معناها
حوار بالحجة، كل من المتحاورين يأتي بالحجة التي تؤيد رأيه أو وجهة نظره.. وإذا قرأت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258].
أي قال كل منهما حجته.. ولابد أن يكونا خصمين كل منهما يعاند رأيه الرأي الآخر وكل يحاول أن يأتي بالحجة التي تثبت صدق كلامه فيرد عليه خصمه بالحجة التي تهدم هذا الكلام وهكذا.

قوله تعالى:
{أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}..
ومادام الله رب الجميع كان من المنطق أن نلتقي لأنه ربي وربكم حظنا منه سواء.. ولكن مادامت قد قامت الحجة بيننا فأحدنا على باطل.. واقرأ قوله سبحانه: {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16].
والمحاجة لا يمكن أن تقوم بين حق وحق وإنما تقوم بين حق وباطل وبين باطل وباطل.. لأن هناك حقا واحدا ولكن هناك مائة طريق إلى الباطل.. فمادامت المحاجة قد قامت بيننا وبينكم ونحن على حق فلابد أنكم على باطل..
 
وليحسم الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة
ويمنع الجدل والجدال قال سبحانه:
{وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}..
أي لا نريد جدلا لأن الجدل لن يفيد شيئا.. نحن لنا أعمالنا وأنتم لكم أعمالكم وكل عمل سيجازى صاحبه عليه بمدى إخلاصه لله.. ونحن أخلصنا العبادة لله وحدة وأنتم اتجهتم بعبادتكم إلى ما تحبه أهواؤكم.

إن الله سبحانه وتعالى الذي هو ربنا وربكم لا يفضل أحدا على أحد إلا بالعمل الصالح المخلص لوجه الله.. ولذلك فنحن نضع الإخلاص أولا وقد يكون العمل واحدا أمام الناس.. هذا يأخذ به ثوابا وذلك يأخذ به وزرا وعذابا فالمهم هو أن يكون العمل خالصا لله.

 
قد يقول إنسان إن الإخلاص في العمل والعمل مكانه القلب.. ومادام الإنسان لا يؤذي أحدا ولا يفعل منكرا فليس من الضروري أن يصلي مادامت النية خالصة..
نقول إن المسألة ليست نيات فقط ولكنها أعمال ونيات.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات».
فلابد من عمل بعد النية.. لأن النية تنتفع بها وحدك والعمل ويعود على الناس.. فإذا كان في نيتك أن تتصدق وتصدقت انتفع الفقراء بمالك.. ولكن إذا لم يكن في نيتك فعل الخير وفعلته لتحصل على سمعة أو لترضي بشرا انتفع الفقراء بمالك ولن تنتفع أنت بثواب هذا المال.. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقترن عملك بنية الإخلاص لله.. والعمل حركة في الحياة. والنية هي التي تعطي الثواب لصاحبه أو تمنع عنه الثواب ولذلك يقول الله جل جلاله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نتصدق.. والفقير سينتفع بالصدقة سواء كانت نيتك أن يقال عنك رجل الخير المتصدق.. أو أن يقال عنك رجل البر والتقوى أو أن تخفي صدقتك.. فالعمل يفعل فينتفع به الناس سواء أردت أو لم ترد.

إذن فكل عمل فيه نفع للناس أردت أو لم ترد.. ولكن الله لا يجزي على الأعمال بإطلاقها وإنما يجزي على النيات بإخلاصها.. فإن كان عملك خالصا لله جزاك الله عليه.. وإن كان عملك لهدف آخر فلا جزاء لك عند الله لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك.
 
أنت إذا قررت أن تبني عمارة، النية هنا هي التملك. ولكن انتفع ألوف الناس بهذا العمل ابتداء من الذي باع لك قطعة الأرض والذي أعد لك الرسم الهندسي وعمال الحفر والذي وضع الأساس ومن قام بالبناء وغيرهم وغيرهم.. هؤلاء انتفعوا من عملك برزق لهم.. سواء أكان في بالك الله أم لم يكن في بالك الله فقد انتفعوا.

إن الذين يتعجبون من أن إنسانا كافرا قدم كشفاً هاماً للبشرية ولكنه لم يكن مؤمنا بالله.. يتعجبون أيعذب في النار؟
نقول نعم لأنه عمل وليس في قلبه الله.. ولذلك يجازى في الحياة الدنيا، فتقام له التماثيل ويطلق اسمه على الميادين ويخلد اسمه في الدنيا التي عمل من أجلها.. ولكن مادام ليس في نيته الله فلا جزاء له عند الله.

نداء الايمان

الشيخ الشعراوي | تفسير سورة البقرة، (آية ١٣٥-١٣٩) - YouTube

 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

مهم جداً الدخول - منتديات درر العراق
.تفسير الآية رقم (140):


{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}

اليهود والنصارى إدعوا أن الأنبياء السابقين لموسى وعيسى كانوا يهودا أو نصارى. فاليهود ادعوا أنهم كانوا يهودا. والنصارى ادعوا أنهم كانوا نصارى، الله سبحانه وتعالى يرد عليهم بقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله}.

والسؤال هنا لا يوجد له إلا رد واحد لأنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم من الله.. وقلنا إنه إذا طرح سؤال في القرآن الكريم فلابد أن يكون جوابه مؤيدا بما يريده الحق سبحانه وتعالى ولا يوجد له إلا جواب واحد.. ولذلك فإن قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} والله لاشك أعلم وهذا واقع.

إذن فكأن الله بالسؤال قد أخبر عن القضية.. ولكن يلاحظ في هذه الآية الكريمة ذكر إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط.. وفي ذكر إسماعيل دائما مع اسحق ويعقوب يدل على وحدة البلاغ الإيماني عن الله؛ لأن إسماعيل كان في أمة العرب واسحق ويعقوب كانا في بني إسرائيل.

والحق سبحانه وتعالى يتحدث عن وحدة المصدر الإيماني لخلقه؛ لأنه لا علاقة أن يكون إسماعيل للعرب واسحق لغير العرب بوحدة المنهج الإلهي. ولذلك تقرأ قول الحق تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].

والله الذي بعث إسماعيل هو الله الذي بعث اسحق إله واحد أحد.. ومادام الإله واحداً فالمنهج الإيماني لابد أن يكون واحدا.. فإذا حدث خلاف فالخلاف من البشر الذين يحرفون المنهج ليحققوا شهوات ومكاسب لهم.. وكل نفس لها ما كسبت فلن ينفعكم نسبكم إليهم ولن يضيف إليكم شيئا في الآخرة.. إن كانوا مؤمنين فلن ينفعكم أن تكفروا وأن تقولوا نحن ننتسب إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق.. وإن كانوا غير ذلك فلا يضركم شيئا.



فواصل مواضيع 2021 - اكسسوارات مواضيع 2021 - فواصل متحركة 2021 ... - قصة شتا
.تفسير الآية رقم (141):


{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}

بعض الناس يقول إن هذه الآية مكررة فقد تقدمتها آية تقول: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 133-134].

بعض السطحيين يقولون إن في هاتين الآيتين تكرارا..
نقول إنك لم تفهم المعنى..

الآية الأولى تقول لليهود إن نسبكم إلى إبراهيم واسحق لن يشفع لكم عند الله بما حرفتموه وغيرتموه في التوراة.. وبما تفعلونه من غير ما شرع الله. فاعملوا أن عملكم هو الله ستحاسبون عليه وليس نسبكم.
أما في الآية التي نحن بصددها فقد قالوا إن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى.. الله تبارك وتعالى لا يجادلهم وإنما يقول لهم لنفرض وهذا فرض غير صحيح إن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى فهذا لن يكون عذرا لكم.. لأن لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم، فلا تأخذوا ذلك حجة على الله يوم القيامة.. ولا تقولوا إننا كنا نحسب أن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى أي كانوا على غير دين الإسلام لأن هذه حجة غير مقبولة.. وهل أنتم أعلم أم الله سبحانه الذي يشهد بأنهم كانوا مسلمين.

إياك أن تقول إن هناك تكراراً..
فإن السياق في الآية الأولى يقول لا شفاعة لكم يوم القيامة في نسبكم إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق.. والسياق في الآية الثانية يقول لا حجة لكم يوم القيامة في قولكم إنهم كانوا هودا أو نصارى.. فلن ينفعكم نسبكم إليهم ولن يقبل الله حجتكم.. وهكذا فإن المعنى مختلف تماما يمس موقفين مختلفين يوم القيامة.



تفسير سورة البقرة - الآية رقم 140+141 للشيخ الشعراوي - YouTube

.تفسير الآية رقم (142):


{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}

هذه الآية نزلت لتصفي مسألة توجه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.. وهذا أول نسخ في القرآن الكريم.. يريد الله سبحانه وتعالى أن يعطيه العناية اللائقة؛ لأنه سيكون مثار تشكيك وجدل عنيف من كل من يعادي الإسلام؛ فكفار قريش سيأخذون منه ذريعة للتشكيك وكذلك المنافقون واليهود.

الله تبارك وتعالى يريد أن يحدد المسألة قبل أن تتم هذه التشكيكات.. فيقول جل جلاله: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}.. حرف السين هنا يؤكد إنهم لم يقولوا بعد.. ولذلك قال سبحانه: {سَيَقُولُ السفهآء} فقبل أن يتم تحويل القبلة قال الحق تعالى: إن هذه العملية ستحدث هزة عنيفة يستغلها المشككون.

وبرغم أن الله سبحانه وتعالى قال: {سَيَقُولُ السفهآء}.. أي أنهم لم يقولوها إلا بعد أن نزلت هذه الآية.. مما يدل على أنهم سفهاء حقا؛ لأن الله جل جلاله أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم في قرآن يتلى ويصلى به ولا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.. قال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس}.. فلو أنهم امتنعوا عن القول ولم يعلقوا على تحويل القبلة لكان ذلك تشكيكا في القرآن الكريم.. لأنهم في هذه الحالة كانوا يستطيعون أن يقولوا: إن قرآنا أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.. قال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ}.. ولم يقل أحد شيئا.

ولكن لأنهم سفهاء فعلا.. والسفه جهل وحمق وطيش قالوها.. فكانوا وهم الكافرون بالقرآن الذين يريدون هدم هذا الدين من المثبتين للإيمان الذين تشهد أعمالهم بصدق القرآن. لأن الله سبحانه قال: {سَيَقُولُ السفهآء} وهم قالوا فعلا.. ولقد قال كفار مكة عن الكعبة إنها بيتنا وبيت آبائنا وليست بيت الله.. فصرف الله رسوله في أول الإسلام ووجهه إلى بيت المقدس.. وعندئذ قال اليهود: يسفه ديننا ويتبع قبلتنا.. والله سبحانه وتعالى أراد أن يحتوي الإسلام كل دين قبله فتكون القداسة للكل.. ولذلك أسرى برسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس.. حتى يدخل بيت المقدس في مقدسات الإسلام لأنه أصبح محتوى في الإسلام.
ولم يشأ الله أن يجعل القبلة إلى الكعبة أول الأمر لأنهم كانوا يقدسونها على أنها بيت العرب وكانوا يضعون فيها أصنامهم.. ووضع الأصنام في الكعبة شهادة بأن لها قداسة في ذاتها.. فالقداسة لم تأت بأصنامهم بل هم أرادوا أن يحموا هذه الأصنام فوضعوها في الكعبة.
لماذا لم يضعوها في مكان آخر؟
لأن الكعبة مقدسة بدون أصنام.


والله سبحانه وتعالى حين قال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}.. وَلاّه يعني حرفه ورده.. والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس.. وهنا يأتي الحق برد جامع هو أن أوامر الله الإيمانية لا ترتبط بالعلة.. إنما علة التنفيذ فيما يأمرنا الله سبحانه به جل جلاله أن الله هو الآمر.. ولو أن الحق تبارك وتعالى بين لنا السبب أو العلة في تغيير القبلة لما كان الأمر امتحانا للإيمان في القلوب.. لأن الإيمان والعبادة هي طاعة معبود فيما يأمر وما ينهي.. يقول لك الله عظم هذا الحجر وهو الحجر الأسود الموجود في الكعبة وتعظمه بالاستلام والتقبيل.. ويقول لك: ارجم هذا الحجر الذي يرمز إلى إبليس فترجمه بالحصى، ولا يقول الله سبحانه لماذا؟ لأنه لو قال لماذا ضاع الإيمان هنا وأصبح الأمر مسألة إقناع واقتناع.
فأنا حين أقول لك لا تأكل هذا لأنه مر وكل هذا لأنه حلو يكون السبب واضحا.. ولكن الله تبارك وتعالى يقول لك كل هذا ولا تأكل هذا.. فإن أكلت مما حرمه تكون آثما. وإن امتنعت تكون طائعا وتثاب.

إذن العلة الإيمانية هي أن الأمر صادر من الله سبحانه.. ولو أنك امتنعت عن شرب الخمر لأنها ضارة بالصحة أو تفسد الكبد فلا ثواب لك، ولو امتنعت عن أكل لحم الخنزير لأن فيه كمية كبيرة من الكولسترول وله مضار كثيرة فلا ثواب لك.. ولكنك لو امتنعت عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير لأن الله حرمهما.. فهذه هي العبادة وهذا هو الثواب.

الله سبحانه وتعالى أراد أن يرد على هؤلاء السفهاء فقال: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.. أي أنك إذا اتجهت إلى بيت المقدس أو اتجهت إلى الكعبة أو اتجهت إلى أي مكان في هذا الكون فالله موجود فيه.. فبيت المقدي ليس له خصوصية بذاته، والكعبة ليس لها خصوصية بذاتها.. ولكن أمر الله تبارك وتعالى هو الذي يعطيهما هذه الخصوصية.. فإذا اتجهنا إلى بيت المقدس فنحن نتجه إليه طاعة لأمر الله.. فإذا قال الله سبحانه اتجهوا إلى الكعبة اتجهنا إليها طاعة لأمر الله.

قوله تعالى: {يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.. الصراط هو الطريق المستقيم لا التواء فيه بحيث يكون أقرب المسافات إلى الهدف. والله سبحانه وجهنا لبيت المقدس فهو صراط مستقيم نتبعه.. وجهنا إلى الكعبة فهو صراط مستقيم نتبعه.. فالأمر لله.


نداء الايمان



تفسير سورة البقرة - الآية رقم 142 للشيخ الشعراوي - YouTube

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
إستقبال الأرضية الجزائرية HD ألكوم سات PROGRAMME NATIONALE HD بالمغرب
 
تفسير الآية رقم (143):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}

ساعة ترى كذلك فهناك تشبيه.. الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتنبه إلى نعمته في أنه جعلنا أمة وسطاً.. فكل ما يشرعه الله يدخل في باب النعم على المؤمنين.. وإذا كان الاتجاه إلى الكعبة هو اختبار لليقين الإيماني في نفوس المسلمين.. فإنه سبحانه جعلنا أمة وسطا نعمة منه، ومادمنا وسطا فلابد أن هناك أطرافا حتى يتحدد الوسط.. هذا طرف ثم الوسط ثم طرف آخر.. ووسط الشيء منتصفه أو ما بين الطرفين.

ولكن ما معنى أمة وسطا؟
وسط في الإيمان والعقيدة. فهناك من أنكروا وجود الإله الحق.. وهناك من أسرفوا فعددوا الآلهة.. هذا الطرف مخطئ وهذا الطرف مخطئ.. أما نحن المسلمين فقلنا لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد.. وهذه بديهية من بديهيات هذا الكون.. لأن الله تبارك وتعالى خلق الكون وخلق كل ما فيه وقال سبحانه إنه خلق.. ولم يأت ولن يأتي من يدعي الخلق.. إذن فالدعوى خالصة لله تبارك وتعالى.. ولو كان في هذا الكون آلهة متعددة لادعى كل واحد منهم الخلق.. ولذلك فإن الله جل جلاله يقول: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
أي لتنازع الخلق ولاضطرب الكون.. فالإسلام دين وسط بين الإلحاد وتعدد الآلهة.. على أن هناك أناساً يسرفون في المادية ويهملون القيم الروحية.. وأناساً يهملون المادة ويؤمنون بالقيم الروحية وحدها.

واقع الحياة أن الماديين يفتنون الروحانيين لأن عندهم المال والقوة.. الإسلام جاء وسطا فيه المادة والروح.. وإياك أن تقول أن الروح أحسن من المادة أو المادة أحسن من الروح.. فالمادة وحدها والروح وحدها مسخرة وعابدة ومسبحة لله تعالى.. لكن حين تختلط
المادة بالروح فإنه توجد النفس، والنفس هي التي لها اختيار تطيع أو تعصي.. تعبد أو تكفر والعياذ بالله.


الله سبحانه يريد من المؤمنين أن يعيشوا مادية الحياة بقيم السماء.. وهذه وسطية الإسلام، لم يأخذ الروح وحدها ولا المادة وحدها.. وإنما أوجد مادية الحياة محروسة بقيم السماء.. فحين يخبرنا الله سبحانه أنه سيجعلنا أمة وسطا تجمع خير الطرفين نعرف أن الدين جاء ليعصم البشر من أهواء البشر.
الله تبارك وتعالى يريدنا أن نبحث في ماديات الكون بما يخلق التقدم والرفاهية والقوة للبشرية.. فما هو مادي معملي لا يختلف البشر فيه.. لكن ما يدخل فيه أهواء البشر ستضع السماء لكم قانونه.. فإذا عشتم بالأهواء ستشقون.
وإذا عشتم بنظريات السماء ستسعدون.

قد يتساءل البعض هل الشيوعية التي جاءت منذ أكثر من نصف قرن ارتقت بشعوبها أم لا؟
نقول انظروا إليها الآن لقد بنت ما ادعته من ارتقاءات على الكذب والزيف.. ثم تراجعت ثم انهارت تماما.. وكما انهارت الشيوعية ستنهار الرأسمالية لأنهما طرفان متناقضان إنما نحن أمة وسطا.. ولذلك أعطانا الله سبحانه خيري الدنيا والآخرة.


الحق سبحانه يقول:

{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}..
أي أن الحجة ستكون لكم في المستقبل.. وسيضطر العالم إلى الرجوع إلى ما يقننه دينكم.. والله تبارك وتعالى قال: {أُمَّةً وَسَطاً} ولم يقل الوسط بكسر الواو أي المنتصف حتى لا يقال إن هؤلاء الرأسماليين والشيوعيين سيتراجعون إلى الحق تماما.. ولكن بعضهم سيميل قليلا إلى هذه الناحية أو تلك بحيث يتم اللقاء..
ولذلك عندما يقولون نأخذ أموال الأغنياء ونوزعها على الفقراء.. نقول لهم وعندما يأتي فقير في المستقبل.. م
ن أين تعطيه بعد أن قضيت على الأغنياء؟.


وقد سمعت من شخص له تجربة في السياسة والحكم.. قال إن الذي كان يعمل معي وأضاع ماله كله على الخمر والقمار والنساء كان أحسن مني.. لأنني احتفظت بأموالي ونميتها فقالوا إنك إقطاعي وصادروها.. بينما ذلك الذي أسرف لم يفعلوا به شيئا.. قلت إن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تنمي مالك.. لأنك إن لم تنمه ودفعت عنه زكاة 2.5% فالمال يفنى خلال أربعين سنة.. ولكن إذا نميت مالك وجاءوا إلى ناتج عملك وأخذوه بدعوى أنك إقطاعي فإنهم يقضون على العمل في المجتمع.. لأنه إذا كنت ستأخذ ناتج عمله بدون حق فلماذا يعمل؟ إن الإسلام جاء ليزيد مجال حركة الحياة ويضمن مال المتحرك.. ليأخذ من ماله زكاة ويعين غير القادر حتى لا يحقد على المجتمع.. هذا وسط.

وقوله تعالى:

{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}..
فكأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه ستحدث في الكون معركة لن يفصل فيها إلا شهادة هذه الأمة.. فاليمين أو الرأسمالية على خطأ، والشيوعية على خطأ.. أما منهج الله الذي وضع الموازين القسط للكون ولحياة الإنسان فهو الصواب.. ثم يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون شهيدا علينا.. هل كان عملنا وتحركنا مطابقا لما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وبلغه الرسول عليه الصلاة والسلام لنا؟ أم أننا اتبعنا أهواءنا وانحرفنا عن المنهج.
الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون شهيداً علينا في هذه النقطة.. تلك الآية وإن كانت قد بشرت الأمة الوسط بأن العالم سيعود إلى حكمها، فذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا سادت شهادة الحق والعدل فيها:

وقوله تعالى:

{وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ}.
هذه عودة إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.. الله تبارك وتعالى لا يفضل اتجاها على اتجاه.. ولذلك فإن الذين يتجهون إلى الكعبة ستختلف اتجاهاتهم حسب موقع بلادهم من الكعبة.. هذا يتجه إلى الشرق. وهذا يتجه إلى الشمال الشرقي.. وهذا يتجه إلى الجنوب الغربي.
إنه ليس هناك عند الله اتجاه مفضل على اتجاه.. ولكن تغيير القبلة جعله الله سبحانه اختبارا إيمانيا ليس علم معرفة ولكن علم مشهد.. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم.. ولكنه جل جلاله يريد أن يكون الإنسان شهيدا على نفسه يوم القيامة.. ولكنه اختبار إيماني ليعلم الله مدى إيمانكم ومن سيطيع الرسول فيما جاءه من الله ومن سينقلب على عقبيه.. فكأن أمر تحويل القبلة سيحدث هزة إيمانية عنيفة في المسلمين أنفسهم.. فيعلم الله من يستمر في إيمانه واتباعه لرسول الله.. ومن سيرفض ويتحول عن دين الإسلام.

وقوله تعالى:

{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله}..
والله يريد هنا العلم الذي سيكون شهيدا على الناس يوم القيامة.. وعملية الابتلاء أو الاختبار في تغيير القبلة عملية شاقة.. إلا على المؤمنين الذين يرحبون بكل تكليف.. لأنهم يعرفون أن الإيمان هو الطاعة ولا ينظرون إلى علة الأشياء.
ولكن الكفار والمنافقين واليهود لم يتركوا عملية تحويل القبلة تمر هكذا فقالوا: إن كانت القبلة هي الكعبة فقد ضاعت صلاتكم أيام اتجهتم إلى بيت المقدس.. وإن كانت القبلة هي بيت المقدس فستضيع صلاتكم وأنتم متجهون إلى الكعبة.

نقول لهم لا تعزلوا الحكم عن زمنه.. قبلة بيت المقدس كانت في زمنها والكعبة تأتي في زمنها.. لا هذه اعتدت على هذه ولا هذه اعتدت على هذه.. ولقد مات أناس من المؤمنين وهم يصلون إلى بيت المقدس فقام المشككون وقالوا صلاتهم غير مقبولة.. ورد الله سبحانه بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.. لأن الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس كانوا مطيعين لله مؤمنين به فلا يضيع الله إيمانهم.
وقوله تعالى:

{إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}..
أي تذكروا أنكم تؤمنون برب رءوف لا يريد بكم مشقة.. رحيم يمنع البلاء عنكم.

فواصل جليتر مميزه ،Dividers - Glitterلتنسيق المواضيع وتزينها - الحوراء25
.تفسير الآية رقم (144):


{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}

نحن نعلم أن (قد) للتحقيق.. و(نرى).. فعل مضارع مما يدل على أن الحدث في زمن التكلم.. الحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. أنه يحب ويشتاق أن يتجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.. وكان عليه الصلاة والسلام قد اعتاد أن يأتيه الوحي من علو.. فكأنه صلى الله عليه وسلم كان يتجه ببصره إلى السماء مكان إيتاء الوحي.. ولا يأتي ذلك إلا إذا كان قبله متعلقا بأن يأتيه الوحي بتغيير القبلة.. فكأن هذا أمر شغله.

إن الله سبحانه يحيط رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد رأى تقلب وجه رسوله الكريم في السماء وأجابه ليتجه إلى القبلة التي يرضاها.. فهل معنى ذلك أن القبلة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس لم يكن راضيا عنها؟ نقول لا.. وإنما الرضا دائما يتعلق بالعاطفة، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل.. ولذلك لا يقول أحد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن راضيا عن قبلة بيت المقدس.. وإنما كان يتجه إلى بيت المقدس وفي قلبه عاطفة تتجه إلى الكعبة.. هذا يدل على الطاعة والالتزام.

الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام:

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}
أي تحبها بعاطفتك.. ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان يتطلع إلى هذا التغيير، فكأن عواطفه صلى الله عليه وسلم اتجهت لتضع مقدمات التحويل.

قال الله تعالى:

{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}..
والمراد بالوجه هو الذات كلها
وكلمة شطر معناها الجهة، والشطر معناه النصف
..
وكلا المعنيين صحيح لأنه حين يوجد الإنسان في مكان يصبح مركزاً لدائرة ينتهي بشيء اسمه الأفق وهو مدى البصر.. وما يخيل إليك عنده أن السماء انطبقت على الأرض.

إن كل إنسان منا له دائرة على حسب نظره فإذا ارتفع الإنسان تتسع الدائرة.. وإذا كان بصره ضعيفا يكون أفقه أقل، ويكون هو في وسط دائرة نصفها أمامه ونصفها خلفه.
إذن الذي يقول الشطر هو النصف صحيح والذي يقول أن الشطر هو الجهة صحيح.

وقوله تعالى:

{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}..
أي اجعل وجهك جهة المسجد الحرام أو اجعل المسجد الحرام في نصف الدائرة التي أمامك.. وفي الزمن الماضي كانت العبادات تتم في أماكن خاصة.. إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الله له الأرض كلها مسجدا.
إن المسجد هو مكان السجود ونظراً لأن السجود هو منتهى الخضوع لله فسمي المكان الذي نصلي فيه مسجدا.
ولكن هناك فرق بين مكان تسجد فيه ومكان تجعله مقصورا على الصلاة لله ولا تزاول فيه شيئا آخر. المسجد مخصص للصلاة والعبادة.. أما المكان الذي تسجد فيه وتزاول حركة حياتك فلا يسمى مسجداً إلا ساعة تسجد فيه.. والكعبة بيت الله. باختيار الله. وجميع مساجد الأرض بيوت الله باختيار خلق الله.. ولذلك كان بيت الله باختيار الله قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله.

وقوله تعالى:

{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ}
يعني أينما كنتم..
{فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}..
لأن الآية نزلت وهم في مسجد بني سلمة بالمدينة فتحول المسلمون إلى المسجد الحرام.. وحتى لا يعتقد أحد أن التحويل في هذا المسجد فقط وفى الوقت الذي نزلت فيه الآية فقط قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}.

وقوله جل جلاله:

{وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}..
أي أن الذين أوتوا الكتاب ويحاولون التشكيك في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يعلمون أن رسول الله هو الرسول الخاتم ويعرفون أوصافه التي ذكرت في التوراة والإنجيل.. ويعلمون أنه صاحب القبلتين.. ولو لم يتجه الرسول صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس إلى الكعبة.. لقالوا إن التوراة والإنجيل تقولان إن الرسول الخاتم محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي إلى قبلتين فلماذا لم تتحقق؟ ولكان هذا أدعى إلى التشكيك.

إذن فالذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم.. لأنه في التوراة أن الرسول الذي سيجيء وسيتجه إلى بيت المقدس ثم يتجه إلى البيت الحرام.. فكأن هذا التحويل بالنسبة لأهل الكتاب تثبيت لإيمانهم بالرسول عليه الصلاة والسلام وليس سببا في زعزعة اليقين.
وقوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.. يريد الحق تبارك وتعالى أن يطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشكيكهم لا يقدم ولا يؤخر.. فموقفهم ليس لطلب الحجة ولكن للمكابرة.. فهم لا يريدون حجة ولا دليلا إيمانياً.. ولكنهم يريدون المكابرة.



فواصل جليتر مميزه ،Dividers - Glitterلتنسيق المواضيع وتزينها - الحوراء25

تفسير الآية رقم (145):


{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}

اتباع القبلة مظهر إيماني في الدين، فمادمت آمنت بدينك فاتبع قبلتك.. لا أؤمن بدينك لا اتبع قبلتك.

وقوله تعالى:

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ}
ساعة تسمع (ولئن) واو ولام وإن.. هذا قسم. فكأن الحق تبارك وتعالى أقسم أنه لو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب بكل آية ما آمنوا بدينه ولا اتبعوا قبلته.. لماذا؟ لأنهم لا يبحثون عن دليل ولا يريدون الاقتناع بصحة الدين الجديد.. ولو كانوا يريدون دليلا أو اقتناعا لوجدوه في كتبهم التي أنبأتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم وأعطتهم أوصافه.. فكأن الدليل عندهم ولكنهم يأخذون الأمر سفها وعنادا ومكابرة.

وقوله تعالى:

{وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}.
. فكأنه حين جاءت الآية بتغير القبلة أعلمنا الله أن المسلمين لن يعودوا مرة أخرى إلى الاتجاه نحو بين المقدس ولن يحولهم الله إلى جهة ثالثة.. ولكي يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن اليهود والنصارى سيكونون في جانب ونحن سنكون في جانب آخر.. وأنه ليس هناك التقاء بيننا وبينهم. قال سبحانه: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}.. فالخلاف في القبلة مستمر إلى يوم القيامة.
وقول الحق: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}.. حين يخاطب اللهُ سبحانه وتعالى رسوله وحبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآية.. وهو يعلم أن محمدا الرسول المعصوم لا يمكن أن يتبع أهواءهم.. نقول إن المقصود بهذه الآية هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

إن الله يخاطب أمته في شخصه قائلا:

{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}..
ما هي أهواء أهل الكتاب؟
هي أن يهادنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يقول إن ما حرفوه في كتبهم أنزله الله.. وهكذا يجعل هوى نفوسهم أمراً متبعا.. فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفت أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. إلى أن كل من يتبع أهواء أهل الكتاب وما حرفوه سيكون من الظالمين مهما كانت درجته من الإيمان.. وإذا كان الله تبارك وتعالى لن يقبل هذا من رسوله وحبيبه فكيف يقبله من أي فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
إن الخطاب هنا يمس قمة من قمم الإيمان التي تفسد العقيدة كلها.. والله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أنه لا يتسامح فيها ولا يقبلها حتى لو حدثت من رسوله ولو أنها لن تحدث.. ولكن لنعرف أنها مرفوضة تماما من الله على أي مستوى من مستويات الإيمان حتى في مستوى القمة فتبتعد أمة محمد عن مثل هذا الفعل تماما.



فواصل جليتر مميزه ،Dividers - Glitterلتنسيق المواضيع وتزينها - الحوراء25
.تفسير الآية رقم (146):


{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}

الله تبارك وتعالى يقول إن الذين جاءهم الكتاب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفونه..
يعرفون ماذا؟

هل يعرفون أمر تحويل القبلة؟
أم يعرفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه ورسالته التي يحاولون أن يشككوا فيها؟
الله سبحانه وتعالى يشرح لنا ذلك في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89].


فكأن اليهود والنصارى يعرفون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومكتوب في التوراة والإنجيل أنه الحق ومطلوب منهم أن يؤمنوا به.. إن كعب الأحبار كان جالسا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان موجودا فسأله عمر أكنتم تعرفونه يا كعب؟ أي أكنتم تعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ورسالته وأوصافه؟ فقال كعب وهو من أحبار اليهود.. أعرف كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.. فلما سألوه لماذا؟ قال لأن ابني أخاف أن تكون امرأتي خانتني فيه أما محمد (صلى الله عليه وسلم) فأوصافه مذكورة بالدقة في التوراة بحيث لا نخطئه.

إذا فأهل الكتاب يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرفون زمنه ورسالته.. والذين أسلموا منهم وآمنوا فعلوا ذلك عن اقتناع، أما الذين لم يؤمنوا وكفروا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا ولكنهم كتموا ما يعرفونه.. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.. وساعة تقول كتم الشيء.. فكأن الشيء بطبيعته كان يجب أن يبرز وينتشر.. والحق بطبيعته لابد أن يبرز وينتشر ولكن إنكار الحق وكتمه يحتاج إلى مجهود.

إن الذين يحققون في القضايا الدقيقة يحاولون أن يمنعوا القوة أن تكتم الحق.. فيجعلون من يحققون معه لا ينام حتى تنهار قواه فينطق بالحقيقة.. لأن النطق بالحق لا يحتاج إلى مجهود، أما كتم الحق فهو الذي يحتاج إلى كجهود وقوة، وعدم النطق بالحق عملية شاقة.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.. أي أنهم ليسوا جاهلين ولكنهم على علم بالحقيقة.. والحق من الله فهل يستطيع هؤلاء كتمانه؟ طبعا لا، لابد أن يظهر.. فإذا انتشر الكذب والباطل فهو كالألم الذي يحدث في الجسد.. الناس تكره الألم ولكن الألم من جنود الشفاء لأنه يجعلك تحس أن هناك شيئا أصابه مرض فتتجه إليه بأسباب العافية.

إن أخطر الأمراض هي التي لا يصاحبها ألم ولا تحس بها إلا بعد أن يكون قد فات وقت العلاج.. والحق دائما غالب على أمره ولذلك لا توجد معركة بين حقين.. أما الباطل فتوجد معركة بين باطل وباطل. وبين حق وباطل. لأنه لا يوجد إلا حق واحد أما الباطل فكثير.

والمعارك بين الحق والباطل تنتهي بهزيمة الباطل بسرعة.. ولكن الذي يطول هو معركة بين باطلين.. ولذلك فإن معارك العصر الحديث تطول وتتعب الدنيا.. فمعارك الحرب العالمية الثانية مثلا لازالت آثارها ممتدة حتى الآن في الحرب الباردة وغير ذلك من الحروب الصغيرة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

 
 
نداء الايمان
 
الشيخ الشعراوي | تفسير سورة البقرة، (آية ١٤٣-١٤٦) - YouTube

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 

hi-isl18.jpg


.تفسير الآية رقم (147):


{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}

الحق من الله سبحانه وتعالى.. ومادام من الله فلا تكونن من الذين يشكون في أن الحق سينتصر.. ولكن الحق لابد من قوة تحميه.. وكما يقول الشاعر:
السيف إن يزهى بجوهره ** وليس يعمل إلا في يدي بطل

فما فائدة أن يكون معك سيف بتار.. دون أن توجد اليد القوية التي ستضرب به.. ونحن غالبا نكون مضيعين للحق لأننا لا نوفر له القوة التي ينتصر بها.

 

وقوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين}.. الممتري هو الذي يشك في حدوث الشيء.. والشك معناه أنه ليست هناك نسبة تتغلب على نسبة.. أي أن الاحتمالين متساويان.. ولكن الحق من الله ولا توجد نسبة تقابله.. ولذلك لا يجب أن نشك ولا ندخل في جدل عقيم حول انتصار الحق.


Large-Blue-Divider.gif

.تفسير الآية رقم (148):


{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}

شاء الله سبحانه أن يجعل الإنسان مختارا.. ومن هنا فإن له الاختيار في أن يؤمن أو لا يؤمن.. أن ينصر الحق أو ينصر الباطل.. أن يفعل الخير أو يفعل الشر.. كل هذه اختبارات شاء الله أن يعطيها للإنسان في الدنيا بحيث يستطيع أن يفعل أو لا يفعل.. ولكن هذا لن يبقى إلى الأبد. إن هذا الاختيار موجود في الحياة الدنيا.


ولكن بشرية الإنسان تنتهي ساعة الاحتضار فعند مواجهة الموت ونهاية العمر يصبح الإنسان مقهورا وليس مختارا.. فهو لا يملك شيئا لنفسه ولا يستطيع أن يقول لن أموت الآن..

 

انتهت بشريته وسيطرته على نفسه حتى أعضاؤه تشهد عليه.. ففي الحياة الدنيا كل واحد يختار الوجهة التي يتجه إليها، هذا يختار الكفر وهذا يختار الإيمان.. هذا يختار الطاعة وهذا يختار المعصية، فمادام للإنسان اختيار فكل واحد له وجهة مختلفة عن الآخر.. والذي يهديه الله يتجه إلى الخيرات وكأنه يتسابق إليها.. لماذا؟ لأنه لا يعرف متى يموت ولذلك كلما تسابق إلى خير كان ذلك حسنة أضافها لرصيده.


إن المطلوب من المؤمنين في الحياة الدنيا أن يتسابقوا إلى الخيرات قبل أن يأتيهم الأجل ولا يحسب واحد منهم أنه سيفلت من الله.. لأنه كما يقول عز وجل: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً}.. أي أنه ليس هناك مكان تستطيعون أن تختفوا فيه عن علم الله تبارك وتعالى بل هو يعرف أماكنكم جميعا واحدا واحدا وسيأتي بكم جميعا مصداقا لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47].
 

وقوله سبحانه: {ففروا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50].
أي أن الحق جل جلاله يريدنا أن نعرف يقينا أننا لا نستطيع أن نفر من علمه. ولا من قدره ولا من عذابه.. وأن الطريق الوحيد المفتوح أمامنا هو أن نفر إلى الله.. وأنه لا منجاة من الله إلا إليه.. ولذلك لا يظن كافر أو عاص أنه سيفلت من الله.. ولا يظن أنه لن يكون موجودا يوم القيامة أو أنه لن يحاسب أو أنه يستطيع أن يختفي.


إن غرور الدنيا قد يركب بعض الناس فيظنون أنهم في منعة من الله وأنهم لن يلاقوه.. نقول لهم إنكم ستفاجأون في الآخرة حين تعرفون أن الحساب حق والجنة حق والنار حق. ستفاجأون بما سيحدث لكم.. ومن لم يؤمن ولم يسارع إلى الخير سيلقى الخزي والعذاب الأليم.. إن الله ينصحنا أن نؤمن وأن نسارع في الخيرات لننجوا من عذابه، ويقول لنا لن يفلت واحد منكم ولا ذرة من ذرات جسده من الوقوف بين يدي الله للحساب..

 

ولذلك ختم الله هذه الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. أي أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء ولا يخرج عن طاعته شيء.. إنه سبحانه على كل شيء قدير.


.
Large-Blue-Divider.gif


 

تفسير الآية رقم (149):

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}


لابد أن نتأمل كم مرة أكد القرآن الكريم قضية تحويل القبلة..

أكدها ثلاث مرات متقاربة..

لأن تحويل القبلة أحدث هزة عنيفة في نفوس المؤمنين.. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُذهب هذا الأثر ويؤكد تحويل القبلة تأكيدا إيمانيا.
لقد جاء بثلاث آيات التي هي أقل الجمع.. واحدة للمتجه إلى الكعبة وهو داخل المسجد.. والثانية للمتجه وهو خارج المسجد.. والثالثة للمتجه من الجهات جميعا.


قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}.. هو رد على المنافقين واليهود والنصارى الذين حاولوا التشكيك في الإسلام.. بأن واجهوا المسلمين بقضية تغيير القبلة.. على أساس أنها قضية ما كان يجب أن تتم لأنه ليس فيها زيادة في التكليف ولا مشقة زائدة تزيد ثواب المؤمن.. فالجهد الذي يبذله المؤمن في الاتجاه إلى المسجد الأقصى هو نفس الجهد الذي يبذله في الاتجاه إلى البيت الحرام.. فأنت إذا اتجهت في صلاتك يمينا أو شمالا أو شرقا أو غربا فإن ذلك لا يضيف إليك مشقة.

فما هو سبب التغيير؟.
نقول لهم إن هذه ليست حجة للتشكيك في تحويل القبلة لأن الاتجاه إلى المسجد الحرام هو طاعة الله.. ومادام الله سبحانه وتعالى قد قال فعلينا أن نطيع طاعة إيمانية.. يقول المولى جل جلاله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.. أي أن ما فعلتموه من تحويل القبلة هو حق جاءكم من الله تبارك وتعالى.. والله عز وجل ليس غافلا عن عملكم بحيث تكونون قد اتجهتم إلى البيت الحرام. بل الله يعلم ما تبدون وما تكتمون.. فاطمئنوا أنكم على الحق وولوا وجوهكم تجاه المسجد الحرام.. واعملوا أن الله سبحانه محيط بكم في كل ما تعملون.


Large-Blue-Divider.gif

 

تفسير الآية رقم (150):

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}


الحق تبارك وتعالى يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوجه هو والمسلمون إلى المسجد الحرام.. سواء كانوا في المدينة أو في خارج المدينة أو في أي مكان على الأرض.. وتلك هي قبلتهم في كل صلاة بصرف النظر عن المكان الذين يصلون فيه.
 

وقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}.. الناس هنا المقصود بهم المنافقون واليهود والنصارى.. حجة في ماذا؟ لأن المسلمين كانوا يتجهون إلى بيت المقدس فاتجهوا إلى المسجد الحرام.. وليس لبيت المقدس قدسية في ذاته ولا للمسجد الحرام قدسية في ذاته كما قلنا.. ولكن نحن نطيع الأمر من الآمر الأعلى وهو الله.. إن الله تبارك وتعالى أطلق على المنافقين واليهود والنصارى كلمة (ظلموا) ووصفهم بأنهم الذين ظلموا.. فمن هو الظالم؟ الظالم هو من ينكر الحق أو يغير وجهته. أو ينقل الحق إلى باطل والباطل إلى حق.. والظلم هو تجاوز الحد وكأنه سبحانه وصفهم بأنهم ق تجاوزوا الحق وأنكروه يقول سبحانه: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي لا تخشوا الذين ظلموا: {واخشوني وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.. أي أن الخشية لله وحده والمؤمن لا يخشى بشرا.. لأنه يعلم أن القوة لله جميعا.. ولذلك فإنه يقدم على كل عمل بقلب لا يهاب أحدا إلا الحق.
 

وقوله سبحانه:

{وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}..

تمام النعمة هو الإيمان. وتمام النعمة هو تنفيذ مطلوبات الإيمان..

فإذا هدانا الله للإيمان فهذا من تمام نعمة علينا. ولكي يكونُ الإيمان صحيحا ومقبولا فلابد أن أؤدي مطالبه والمداومة على تنفيذ تكليفات الله لنا، فلا نجعل التكليف ينقطع. لأن التكليف نعمة بغيرها لا تصلح حياتنا ولا تتوالى نعم التكليف من الله سبحانه وتعالى إلا إذا أقبلنا على منهج الله بعشق.. وأنت حينما تأتي إلى المنهج قد يكون شاقا، ولكن إذا تذكرت ثواب كل طاعة فإنك ستخشع وتعشق التكليف.. لأنك تعرف العمل الصالح بثوابه والعمل في المعصية بعقابه..

ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45-46].
إذن الخاشعون هم الذين يقرنون الطاعة بالثواب والمعصية بالعقاب والعذاب، لأن الذي ينصرف عن الطاعة لمشقتها عزل الطاعة عن الثواب فأصبحت ثقيلة، والذي يذهب إلى المعصية عزل المعصية عن العقاب فأصبحت سهلة.. فمن تمام النعمة أن يديم الله علينا فعل مطلوبات الإيمان.. ولذلك في حجة الوداع نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3].

 

وكان ذلك إخبارا بتمام رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأحكام التكليفية قد انتهت.. ولكن الذين يستثقلون التكليف تجدهم يقولون لك لقد عم الفساد والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. كأنه يحكم بأن هذا في وسعه وهذا ليس في وسعه وعلى ضوئه يأخذ التكليف.. نقول له أَكَلَّفَ الله أم لم يُكلِّف، إن كان قد كَلّف فيكون التكليف في وسعك.. لأنه سبحانه حين يجد مشقة يأمر التخفيف مثل إباحة قصر الصلاة للمسافر وإباحة الإفطار في رمضان للمريض والمسافر فهو سبحانه قد حدد ما في وسعك.
 

قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.. الهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية وهو أقصر الطرق، وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة.. الله أعطاك في الدنيا الأسباب لتحكم حركة حياتك ولكن هذه ليست غاية الحياة.. بل الغاية أن نذهب إلى حياة بلا أسباب وهذه هي عظمة قدرة الله سبحانه وتعالى.. والله جل جلاله يأتي ليعلمنا في الآخرة أنه خلقنا لنعيش في الدنيا بالأسباب وفي الآخرة لنعيش في كنفه بلا أسباب.
 

إذن قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.. أي لعلكم تنتبهون وتعرفون الغاية المطلوبة منكم.. ولا يظن أحدكم أن الحياة الدنيا هي الغاية أو هي النهاية أو هي الهدف.. فيعمل من أجل الدنيا فيأخذ منها ما يستطيع حلالا أو حراما باعتبارها المتعة الوحيدة المخلوقة له.. نقول لا، إنه في هذه الحالة يكون قد ضل ولم يهتد لأنه لو اهتدى لعرف أن الحياة الحقيقية للإنسان هي في الآخرة. ولعرف أن نعيم الآخرة الذي لا تفوته ولا يفوتك.. يجب أن يكون هدفنا في الحياة الدنيا فنعمل ما نستطيع لنصل إلى النعيم بلا أسباب في الجنة.



Large-Blue-Divider.gif

 

تفسير الآية رقم (151):

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}


الله جل جلاله بعد أن حدثنا عن الهداية إلى منهجه وإلى طريقه. حدثنا عن نعمته علينا بإرسال رسول يتلو علينا آيات الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ستأتي على يديه قمة النعم وهو القرآن والدين الخاتم.
قوله تعالى: {رَسُولاً مِّنْكُمْ} أي ليس من جنس آخر.

ولكنه صلى الله عليه وسلم رسول منكم تعرفونه قبل أن يكلف بالرسالة وقبل أن يأتي بالحجة.. لماذا؟

لأنه معروف بالخلق العظيم وبالقول الكريم والأمانة وبكل ما يزيد الإنسان رفعة وعلوا واحتراما.. إن أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولئك الذين يعرفونه أكثر من غيرهم.. كأبي بكر الصديق وزجته صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة وابن عمه علي بن أبي طالب.. هؤلاء آمنوا دون أن يطلبوا دليلا لأنهم أخذوا الإيمان من معرفتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلف بالرسالة.. فهم لم يعرفوا عنه كذبا قط. فقالوا إن الذي لا يكذب على الناس لا يمكن أن يكذب على الله فآمنوا.. فالله سبحانه وتعالى من رحمته أنه أرسل إليهم رسولا منهم أميا ليعلمه ربه.. ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].


الحق سبحانه يقول: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ}.. الآيات هي القرآن الكريم والتزكية هي التطهير ولابد أن يكون هناك دنس ليطهرهم منه.. فيطهرهم من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والربا.. ومعنى التزكية أيضا سلب الضار فكأنه جاءهم بالنفع وسلب منهم الضر.
 

وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة}.. الكتاب على إطلاقه ينصرف إلى القرآن الكريم والحكمة هي وضع الشيء في موضعه.. والكتاب يعطيك التكليف إما أن يأمرك بشيء وإما أن ينهاك عن شيء.
 

إذن فهي دائرة بين الفعل والترك.. والحكمة أن تفعل الفعل الذي يحقق لك خيرا ويمنع عنك الشر. وهي مأخوذة من الحكمة أو الحديدة التي توضع في فم الجواد لتحكم حركته في السير والوقوف، وتصبح كل حركة تؤدي الغرض منها والحكمة أيضا هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله تعالى: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
 

وقوله سبحانه: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} لأنكم أمة أمية. فإن بهرتكم الدنيا بحضارتها فستبهرونهم بالإشعاعات الإيمانية التي تجعلكم متفوقين عليهم.. فكل ما يأتيكم من السماء هو فوق كل حضارات الأرض.. لذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما عمر لولا الإسلامتعلم اساليب التأمل

فواصل للمواضيع متحركة

 

 

تفسير الآية رقم (152):

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}


قوله تعالى: (فاذكروني) أي كل هذه النعم والفضل عليكم يجب ألا تنسوها.. أن تعيشوا دائما في ذكر من أنعم عليكم.. فالله سبحانه وتعالى يريد من عباده الذكر وهم كلما ذكروه سبحانه وشركوه شكرهم وزادهم.. والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).


هذه هي رغبة الكريم في أن يعطي بشرط أن نكون أهلا للعطاء لأنه يريد أن يعطيك أكثر وأكثر.. فقوله تعالى: (اذكروني) أي اذكروا الله في كل شيء. في نعمه. في عطائه. في ستره. في رحمته. في توبته. يقول بعض الصالحين: سمعت فيمن سمع عن حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك إذا ما أقبلت على شرب الماء فقسمه ثلاثا.. أول جرعة قبل باسم الله واشربها، ثم قل الحمد لله وابدأ شرب الجرعة الثانية وقل باسم الله وبعد الانتهاء منها قل الحمد لله.. ثم قل باسم الله واشرب الجرعة الثالثة واختمها بقولك الحمد لله. فمادام هذه الماء في جوفك فلن تحدثك ذرة من جسدك بمعصية الله. جربها يوما في نفسك وقل باسم الله واشرب، وقل الحمد لله وكررها ثلاث مرات فإنك تكون قد استقبلت النعمة بذكر المنعم وأبعدت عن نفسك حولك وقوتك، وأنهيت النعمة بحمد الله. ولكن لماذا الماء؟ لأن الماء في الجوف أشبع من أي شيء آخر.
 

قوله تعالى: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} الشكر على النعمة يجعل الله سبحانه وتعالى يزيدك منها. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
 

وشكر الله يذهب الغرور عن نفسك فلا تفتنك الأسباب وتقول أوتيته على علم مني. {وَلاَ تَكْفُرُونِ} أي لا تستروا نعم الله بل اجعلوها دائما على ألسنتكم.. فإن كل نعمة من نعم الله لو استقبلت بقولك (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) لا ترى في النعمة مكروها أبدا لأنك حصنت النعمة بسياج المنعم.. أعطيت لله حقه في نعمته فإن لم تفعل وتركتها كأنها منك وأنت موجدها ونسيت المنعم وهو الله سبحانه وتعالى فإن النعمة تتركك.

نداء الايمان


163355832_1354395284913754_2209676612756

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×