اذهبي الى المحتوى
امانى يسرى محمد

تفسير الشيخ الشعراوى( سورة البقرة)

المشاركات التي تم ترشيحها

image.png.10bdc957b4463698a6643aaac821ff80.png

 

تفسير الآية رقم (212):

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}


يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع الإنسان في الكون، هذا الواقع الذي يدل على أنه سيد ذلك الكون، ومعنى ذلك أن كل الأجناس تخدمه. وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات، والجماد والنبات يخدمان الحيوان، والجماد والنبات والحيوان تخدم الإنسان، فالإنسان سيد هذه الأجناس.
وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه، فكما كانت الأجناس التي دونه في خدمته، فلابد أن يكون هذا الجنس الأعلى يناسب سيادته، ولن يجد شيئا في الوجود أبدا أعلى من الجنس الذي ينتسب إليه، لذلك كان المفروض أن يقول الإنسان: أنا أريد جنسا ينبهني عن نفسي؛ فأنا في أشد الاحتياج إليه. فإذا جاء الرسل وقالوا: إن الذي أعلى منك أيها الإنسان هو الله وليس كمثله شيء وتعالى عن كل الأجناس. كان يجب على الإنسان أن يقول: مرحبا؛ لأن معرفة الله تحل له اللغز. والرسل إنما جاءوا ليحلوا للإنسان لغزاً يبحث عنه، وكان على الإنسان أن يفرح بمجيء الرسل، وخصوصاً أن الله عز وجل لا يريد خدمة منه، إن الإنسان هو الذي يحتاج لعبادة الله ليسخر له الكائنات، ويعبده ليعزه. إذن فالمؤمن بين أمرين: بين خادم له مسخر وهو من دونه من الجهاد والنبات والحيوان، ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه. إنه هو الله.


فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الأدنى وترك الأعلى، فيقول له الحق: خذ الأعلى. فإذا كنت سعيداً بعطاء المخلوقات الأدنى منك، وتحب أن تستزيد منها فكيف لا تستزيد ممن هو أعلى منك؟.
إنه الله.


صوم رمضان - أركان الإسلام
والحق عندما يقول:
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين مقاييس هابطة نازلة؛ لأن الذي زُين لهم هو الأمر الأدنى. ومن خيبة التقدير أن يأخذ الإنسان الأمر الأدنى ويفضله على الأعلى. وكلمة {زُيِّنَ} عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم فاعله مثل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14].
هناك {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} وفي آية البقرة التي نحن بصددها {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} لماذا قال الحق هناك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} ولماذا قال هنا: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ}؟ لقد قال الحق ذلك لأن الذين كفروا ليس عندهم إلا الحياة الدنيا، فالأعلى لا يؤمنون به، ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} فهو سبحانه يقول للناس: خذوا الحياة على قدرها. وزُينت يعني حسُنت. فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها الله عز وجل.

 

فكيف تنسى الذي حسنها لك، وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك.
كان يجب أن تأخذها وسيلة للإيمان بمن رزقك إياها، وكلما ترى شيئا جميلا في الوجود تقول: (سبحان الله)، وتزداد إيمانا بالله، أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس النازل.
أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة الدنيا،

 

ونقول: هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه الغرائز؟ لا، لقد أعلى الغرائز وأعطى المنهج لتعلية الغرائز، فلا تأخذ هذه وتترك تلك. ولذلك يقول الحق: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ} [الكهف: 46] والحق عندما يقول: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} فهو يفضح من يعتقدون أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ونقول لهم: هذا مقياس نازل، وميزان غير دقيق، ودليل على الحمق؛ لأنكم ذهبتم إلى الأدنى وتركتم الأعلى. ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من اختار الأعلى هذه المفارقات. أنتم في الأدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى الأعلى، إن الحق يقول: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ}. لماذا يسخرون منهم.
لأن الذين آمنوا ملتزمون، ومادام الإنسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من غير حل، لكن هؤلاء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة.

 

لذلك تجد إنساناً يعيش في مستوى دخله الحلال، ولا يملك إلا حُلَّةً واحدة (بدلة)، وإنساناً آخر يسرق غيره، فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي الاثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلال، لماذا؟ لأنه يعتبر نفسه في مقياس أعلى منه، يرى نفسه حسن الهندام و(الشياكة) فيحسم الحق هذه المسألة ويقول: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة}. لماذا يوم القيامة، أليسوا فوقهم الآن؟
 

إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لأنهم لا ينظرون إلى الراحة النفسية وهي انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ولا سقطة خلقية، ولا يؤذي أحداً، ولا يرتشي، ولا ينم ولا يغتاب، كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله يومه قبل نومه؟ لابد أن يكون في سعادة لا تقدر بمال الدنيا.
ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس في المقارنة، وإنما أدخل المسألة التي لا يقدر عليها أحد. {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة}.

 

ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33].
ثم يقول الحق بعد ذلك: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34-36].
أي هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول: نعم يا رب. خصوصا أن ضحك الآخرة ليس بعده بكاء.

{والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة}

ولنلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف الأسلوب في هذه الآية، لقد كان المفروض أن يقول: والذين آمنوا فوقهم. لكنه قال: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ} لأنه قد يؤخذ الإيمان على أنه اسم، فقد شاع عنك أنك مؤمن، فأنت بهذا الوصف لا يكفي لتنال به المرتبة السامية إلا إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى.
فلا تقل: (أنا مؤمن) ويقول غيرك: (أنا مؤمن)، ويصبح المؤمنون مليارا من البشر في العالم، نقول لهؤلاء: أنتم لن تأخذوا الإيمان بالاسم وإنما تأخذون الإيمان بالالتزام بمنهج السماء. ولذلك لم يقل الله: (والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة) وإنما قال: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} ليعزل الاسم عن الوصف. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. ما هو الرزق؟ الرزق عند القوم: هو كل ما ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق. وطبقا لهذا التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقا، ولكنه رزق حرام.


صوم رمضان - أركان الإسلام
والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو (المال) نقول لهم: لا، إن الرزق هو كل ما يُنتفع به، فكل شيء يكون مجاله الانتفاع يدخل في الرزق: علمك رزق، وخُلُقُك رزق، وجاهك رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق. ساعة تقول: إن كل ذلك رزق تأخذ قول الله: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} [النحل: 71].


كأن الله يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم، وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه أن يردها على الناس، لكن الناس لا تفهم الرزق إلا على أنه مال، ولا يفهمون أنه يطلق على كل شيء ينتفعون به.
إذا كان الأمر كذلك فما معنى {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

كلمة {بِغَيْرِ حِسَابٍ} لابد أن نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب، ومُحَاسَب، ومُحَاسَب عليه. وعلى هذا يكون {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ممن ولمن وفي ماذا؟
إنه رزق بغير حساب من الله؛ فقد يرزقك الله على قدر سعيك. وربما أكثر، وهو يرزق بغير حساب، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا أعطيت فلانا أكثر مما يستحق.
وهو يرزق بغير حساب؛ لأن خزائنه لا تنفد. ويرزق بغير حساب؛ لأنه لا يحكمه قانون، وإنما يعطي بطلاقة القدرة. إنه جل وعلا يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول: يعطي الكافر ولا يعطي المؤمن لماذا؟
إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطي مقابلا للحسنة سبعمائة ضعف بغير حساب. إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدوداً، فإذا أخذت مثلا مائة من ألف فأنت طرحت معدوداً من معدود فلابد أن ينقص، وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء.
لكن الله بخلاف ذلك، إنه يعطي معدوداً من غير معدود.

 

إذن ساعة تقرأ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} فقل إن الحساب إن كان واقعا من الله على الغير، فهو لا يعطي على قدر العمل بل يزيد، ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد. {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
إذن {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد رُزق أكثر منه؛ لأنه لا يعلم حكمة الله فيها. وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم الله نعمة يقولون: ربنا أكرمنا، وعندما يسلبهم النعمة يقولون: ربنا أهاننا.

 

وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
كلا. مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من الله، وأنت مخطئ أيضاً يا مَن اعتبرت سلب النعمة إهانة من الله؛ إن النعمة لا تكون إكراما من الله إلا إذا وفقك الله في حسن التصرف في هذه النعمة، وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم، وعدم الانشغال بها عمن رزقك إياها.


ونحب أن نفهم أيضا أن قول الله سبحانه وتعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ينسحب على معنى آخر،

وهو أنه سبحانه لا يحب أن تُقَدِّر أنت رزقك بحساب حركة عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ. مثال ذلك الفلاح الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ من الأرض، وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلاحظ ونشاهد، ويصبح رزق الفلاح في ذلك الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبداً.
ولهذا فإن على الإنسان أن يعمل في الأسباب، ولكنه لا يأخذ حسابا من الأسباب، ويظن أن ذلك هو رزقه؛ لأن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ولا في حساباتك، وقال الحق في ذلك: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3].
وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة وموكب الرسالات في الأرض، بداية وتسلسلاً وتتابعاً في رسل متعاقبين، فقال الحق سبحانه وتعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...}.

نداء الايمان

image.png.e8891fd09752350fbee632f10300e41c.png

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
الفقرة التكتيكية .. تحليل .. ليفربول وليسترصراع الضغط وخلق خيارات التمرير

تفسير الآية رقم (213):


{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}

ولقائل أن يقول: إذا كان الناس أمة واحدة، وقد رتب الله بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ ونقول: لابد أن تُحمل هذه الآية المجملة على آية أخرى مفصلة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19].
لابد لنا إذن أن نأخذ هذه الآية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلام الله بجماع تفكيره، وأن يكون القرآن كله حاضراً في ذهنك، ويخدم بعضه بعضا.



فواصل لتزيين مواضيعك 2021 فواصل جديدة2021 فواصل مميزة , فواصل للمواضيع  المميزة - ام سيف 22
{كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين}.


فقبل بعث الله النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون آدم
وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه، وعلم آدم أبناءه منهج الله، فظل الناس من أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة، ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلاف أهوائهم، فالعالم كان واسعاً، وكانت القلة السكانية فيه هي آدم وأولاده فقط، وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا. إذن لا تطاحن على شيء، ومن يريد شيئاً يأخذه، وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لأنه لم تكن هناك ملكية لأحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا، ومن يريد أن يأكل فاكهة أو يأخذ ثمراً من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد.

والمثال على ذلك في حياتنا اليومية، هناك رب الأسرة الذي يأتي بعشرين كيلو برتقالاً ويتركها أمام أولاده، وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بلا حرج، لكن لو اشترى رب البيت كيلو برتقالاً واحداً فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط.

إذن كان الناس أمة واحدة، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حب الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون. إذن فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى.
وكان من المفروض في آدم عليه السلام بعد أن بلغه الله المنهج أن يبلغه لأولاده، وأن يتقبل أبناؤه المنهج، ولكن بعض أولاده تمرد على المنهج، ونشأ حب الاستئثار من ضيق المُسْتَأثر والمُنْتَفع به، ومن هنا نشأت الخلافات.


ولنا في قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك:
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27].
ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود، حواء تلد توأمين في كل مرة، وأراد آدم أن يزاوجهم فكيف تكون المزاوجة وهم جميعاً أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذي أمامه هو أخوه.
لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت، واعتبر أن البعد هو بعد البطن، أي أن الذي يولد مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه، أما الذي وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه، لذلك كان آدم وحواء يبادلان زواج الأبناء حسب ابتعاد البطون، وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة وكأنها أجنبية عن أخيها.
روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما:
(أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه. وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قرباناً فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين}).
إذن، كان ميلاد أول خلاف بين البشر حينما تنافس اثنان للاستئثار بمنفعة ما، وكان هذا مثالاً واضحاً لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الأطماع.

{كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}
لكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع، وأصبح لكل إنسان هوى. ولو شاء الله أن يجعل منهجه لآدم منهجاً دائماً إلى أن تقوم الساعة لفعل. لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه خلقنا، ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة، ونلتزم مرة، ونهمل مرة أخرى، فشاء الله أن يواصل لخلقه مواكب الرسل. ولذلك يأتي قول الحق:
{فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}.

ومهمة التبشير والإنذار هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة وناراً، ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من قومه بالجنة، وينذر مَنْ كفر من هؤلاء القوم بالنار. ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا على وحدانيته فقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172-173].

يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه فطرهم على ذلك: ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الأول وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الأهواء غير موجودة، فظل المنهج مطبقا بين بني آدم. وبعد ذلك تعددت الأهواء، وتعدد الأهواء إنما ينشأ عن الاستئثار بالمنافع، وذلك بسبب الخوف من استئثار الغير، فنشأ حب الذات، ولما كانت المنافع لا تتسع لأطماع الناس فقد استشرى حب الاستئثار والتملك.

ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر الأسواق.
وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب، وتجدها متوافرة، عند ذلك لا توجد أزمة، لكن الأزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس، فيتكالب الناس على الاستئثار بها. وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد، وتكون دون الأطماع هنا تتولد المشكلات.
ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق، ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم وأمام استئثارهم بالمنافع، أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا. {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} فكأن الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنما الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ} ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه. وما دام كل منا يريد أن يأخذ غير حقه فلابد أن ينشأ البغض.



{فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ}
أي أن الله يهدي الذين آمنوا من كل قوم بالرسول الذي جاء مبشرا ومنذرا وحاملا منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وبذلك يظل المنهج سائداً إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس، وتبدأ من خلالها المطامع ويحدث النسيان لمنهج الله، وتنشأ الأهواء، فيرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم، واستمر هذا الأمر حتى جاءت رسالة الإسلام خاتمة وبعث الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم للدنيا كافة، وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى ألا ينشأ خلاف في الأصل؛ لأننا لو كنا سنختلف في أصل العقيدة لجرى علينا ما جرى على الأمم السابقة. هم اختلفوا فأرسل الله لهم رسلا مبشرين ومنذرين، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الاختلاف في أصل العقيدة. وإن اختلف الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة.
ونعرف أن من مميزاته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء بحق، ولن تجد في الموكب الرسالي رسولا أوكل له الله أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب الله إلا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم. لقد أعطى الله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التفويض في أن يشرع عن الله؛ في ظل عصمة الله له فقد قال سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لأن ما يأمرهم به فيه الصلاح والخير، وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما ينهي عن الأمور التي ليس فيها خير لأمة المسلمين.

ويأمر الحق جل وعلا جماعة المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها من طاعة الله، فيقول جل وعلا: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80].
وهكذا نرى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، ومن يعرض عن طاعته فله العقاب في الآخرة. ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32].
هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. إذن فقد فوض الله رسوله أن يُشَرِّع للبشر. وهو عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى.

وميزة أخرى لأمة المسلمين هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك لنا حق الاجتهاد في المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ولا من السنة، أو ورد فيها نص ولكنه يحتمل أكثر من معنىً، ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمِنَ أمة محمد عليه الصلاة والسلام بأن تصل بالاجتهاد لما يحسم أي خلاف، وأن أي اختلاف لن يصل إلى الجوهر. فلو علم الله أزلا أننا سوف نختلف اختلافا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا رسلاً.
ونحن نجد كل الاختلافات بين طوائف المسلمين لا تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب والسنة.

ومعنى ذلك أننا لن نترك الأصل، ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد أن بعضا من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا حديثا ينسبونه إلى رسول الله ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه. وهؤلاء مأواهم النار؛ لأنهم نطقوا بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله الرسول الكريم لقد كذبوا عليه، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.

إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية، أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون الناس أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل الأحاديث المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو لا؟ إذن فحصافة الاجتهاد والرأي عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج. وأن الخلاف فيما بينهم لم يصل إلى ما وصلت إليه الأمم السابقة، ولكن عليهم أن ينتهوا ويرتقوا حتى يميزوا الأمور التي تكون من غير معطيات القرآن، ثم يريد قوم أن يحملوها على القرآن.

إن عليهم ألا يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قد أمِنَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم على القرآن وعلى رسالة الإسلام، والقرآن ورسالة الإسلام لن يصيبها التغيير أو التحريف، وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة وفطنة، فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة زمنية أو أن يجيء بحديث موضوع ليروج لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا الإنسان.

فنحن نفهم أن الله شاء بالإسلام حياة القيم، كما شاء بالماء حياة المادة، والماء حتى يظل ماء فلابد أن يظل بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فإذا أردت أن تجعل له طعماً خرج عن خاصيته؛ ربما أصبح مشروبا أو عصيراً أو غير ذلك، وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير، لكن كل الناس يحبون الماء؛ لأن به تُصان الحياة، فإذا رأيت ديناً قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن ذلك خارج عن نطاق الإسلام. وكل جماعة تريد أن تصبغ دين الله بلون إنما يخرجونه عن طبيعته الأصلية، ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم الإسلام بالأزهر الشريف وكل عالم من علماء الإسلام في أي بقعة من بقاع الأرض مدين للأزهر الشريف. ونجد أننا نحب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا نجد عندنا متشيعا واحدا، وفي الوقت نفسه لا نجد واحداً يكره أبا بكر وعمر، وهذا هو الإسلام الذي لا يتلون؛ لأنه إسلام الفطرة. {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138].

فالذين يحاولون في زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو هيئة خاصة نقول لهم: أنتم تريدون أن تُخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية التي أرادها الله له، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية، ولا تلونوا الإسلام هذا التلوين. وبذلك نحقق قول الله: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ونعرف أن الهداية معناها الأمر الموصل للغاية، وحين ترد الهداية من الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفهم أن الهداية من الله ترد على معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق الموصل، والمعنى الثاني هو المعونة.


وضربت من قبل المثل بشرطي المرور
الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي تريدها، فإن احترمت كلامه ونفذته فهو يعطي لك شيئاً من المعونة، بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان الذي تريد. فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى؟
إنه يهدي الجميع بمعنى يدلهم، فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى، وهي أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه. وبعضنا يدخله العجب عندما يسمع قول الحق: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} [فصلت: 17-18].

بعضنا يتعجب متسائلا: كيف يقول سبحانه: إنه هداهم، ثم استحبوا العمى على الهدى؟ ونقول: إن (هداهم) جاءت هنا بمعنى (دلّهم) لكنهم استحبوا العمى على الهدى، أما الذين استجابوا لهداية الدلالة وآمنوا فقد أعانهم الله وأنجاهم؛ لأنهم عرفوا تقواه سبحانه.


فواصل لتزيين مواضيعك 2021 فواصل جديدة2021 فواصل مميزة , فواصل للمواضيع  المميزة - ام سيف 22

ونحن نسمع بعض الناس يقولون: ما دام الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب الذي لم يهتد؟
نقول: إن الحق يهدي من شاء إلى صراط مستقيم؛ أي يبين الطريق إلى الهداية، فمن يأخذ بهداية الدلالة يزده الله بهداية المعونة وييسر له ذلك الأمر. ونحن نعلم أن الله نفى الهداية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آية، وأثبتها له في آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد. قال الحق نافيا الهداية عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
والحق يذكر للرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في موضع آخر فيقول له: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان:
هداية الدلالة، فهو (يهدي) أي يدل الناس على طريق الخير. وهناك هداية أخرى معنوية، وهي من الله ولا دخل للرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وهي هداية المعونة.
إذن قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} معناها: أنك تدل على الصراط المستقيم، ولكن الله هو الذي يعين على هذه الهداية. {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فعلينا أن نستحضر الآيات التي شاء الله أن يهدي فيها مؤمنا وألا يهدي آخر. ويقول الحق سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
معنى ذلك أن الله لا يهدي إلا الذين آمنوا به. وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على الاستمرار في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدلالة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة. والحق يقول في ذلك: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [التوبة: 109].

إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من الله ابتغاء الخير والجنة، وهو الذي جاءته هداية الدلالة فاتبعها، فجاءته هداية المعونة من الله. وبين ذلك الذي يؤسس بنيان حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان في نار جهنم، إنه الذي جاءته هداية الدلالة فتجاهلها، فلم تصله هداية المعونة، ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين. والحق تبارك وتعالى يقول: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 80].

إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر فلن يغفر الله لهم، لماذا؟ لأن هداية الدلالة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها، ولم تصلهم هداية المعونة؛ لأنهم يكفرون بالله ورسوله، والله لا يهدي مثل هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم عن منهج الله. وبعد ذلك يقول الحق: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم...}.

نداء الايمان

 
تفسير الشعراوي للآية 213 من سورة البقرة | مصراوى
 
 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

PPT - بسم الله الرحمن الرحيم PowerPoint Presentation - ID:3426895


{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}

والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً فقال: يا رسول الله، إن مالي كثير فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط، بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا، ولذلك جاءت الإجابة عامة لا تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين.

 
والسؤال عن {مَاذَا يُنْفِقُونَ}؛
فكأن الشيء المُنْفق هو الذي يسألون عنه، والإنفاق كما نعرف يتطلب فاعلاً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق هو المال؛ ومنفَقَاً عليه. وهم قد سألوا عن ماذا ينفقون، فكأن أمر الإنفاق أمر مُسَلَّمُ به، لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على هذه الوجه ويجيء الجواب حاملا الإجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد.

يقول الحق:
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}
هذا هو السؤال، والجواب {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ}.
إن الظاهر السطحي يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟
وأن الجواب جاء عن المنفق عليه. نقول: لا، لماذا نسيت قوله الحق: إن الإنفاق يجب أن كون من (خير) فالمال المُنفق منه لابد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير.
وبعد ذلك زاد وبيّن أنه: مادمتم تعتقدون أن الإنفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذي تنفقونه، ومَنْ الذي يستحق أن يُنْفَقَ عليه.
 
{قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ}.
والخير هو الشيء الحسن النافع. والمُنْفَق عليه هو دوائر الذي يُنْفِق؛ لأن الله يريد أن يُحَمّل المؤمن دوائره الخاصة، حتى تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع، لأنه سبحانه حين يُحَمّلني أسرتي ووالدي والأقربين، فهذه صيانة للأهل، وكل واحد منا له والدان وأقربون، ودائرتي أنا تشمل والديّ وأقاربي، ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين.
وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين، ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضاً، ولا يوجد بعد ذلك إلا العاجز عن العمل.
 
وعرفنا أن السائل هو (عمرو بن الجموح)، وكانت له قصة عجيبة؛ كان أعرج والأعرج معذور من الله في الجهاد، فليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج. (وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من غزوة فجاءه عمرو بن الجموح وقال: يا رسول الله لا تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من الخروج لعرجتي. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد عذرك فيمن عذر. قال: ولكني يا رسول الله أحب أن أطأ بعرجتي الجنة).

هذا هو مَنْ سأل عن ماذا ينفقون، فجاءت الإجابة من الحق: {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} أي ما أخرجتم من مال؛ لأن الإنفاق يعني الإخراج، والخير هنا هو المال، والإنفاق يقتضي إخراج المال عن ملكية الإنسان ببيع أو هبة أو صلة، وأصل كلمة (الإنفاق) مأخوذ من (نفقت السوق) أي راجت؛ لأن السوق تقوم على البضاعة، وحين تأتي إلى السوق ولا تجد سلعاً فذلك يعني أن السوق رائجة، ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لازالت قائمة.
إذن فمعنى (نفقت السوق) أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من الدابة، فعندما نقول: نفقت الدابة، أي ماتت.
 

فواصل واكسسوارات لتزيين المواضيع،احلى واجمل فواصل للمواضيع،فواصل  جديدة..مشاركتى. - حسناء
 
وأوجه الإنفاق بينها سبحانه في قوله:
{فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن علينا أن نفهم أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط، ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في أي زاوية من زوايا الضعف؛ لأن الطفل عندما يكون يتيماً ولديه ماله، ثم يراك تعطف عليه فهو يشعر أن أباه لم يمت؛ لأن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين، وبعد ذلك لا يشب على الحسد لأولاد آباؤهم موجودين، لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغولا بأبنائه عن أيتام مات أبوهم، هنا يظهر فيه الحقد، وتتربى فيه غريزة الاعتراض على القدر، فيقول (لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟)، ولكن حين يرى الناس جميعا آباءه، ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من له أب واحد يتركه الناس اعتماداً على وجود أبيه، لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه بالمودة والمحبة، ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع الإسلامي والألفة والرضا بقدر الله، ولا يعترض أحد على وفاة أبيه، فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء متعددين.

ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لأن والده ترك له ما يكفيه، لو علموا ما يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست المسألة مسألة حاجة مادية، وإنما هي حاجة معنوية.

 
وأنا أقول دائما: يجب أن نربي في الناشئة أن الله لا يأخذ أحداً من خلقه وفي الأرض حاجة إليه؛ وارقبوا هذا الأمر فيمن حولكم تجدوا واحداً وقد تُوفى وترك أولاداً صغاراً فيحزن أهله ومعارفه؛ لأنه ترك أولاده صغاراً، وينسون الأمر من بعد ذلك، وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن أولاد ذلك الرجل قد صاروا سادة الحي، وكأن والدهم كان محبسا على رزقهم، فحينما انتهى الأب فتح الله على الأبناء صنابير الرزق، وذلك حتى لا يُفتَن إنسان في سبب.

وبعد الإنفاق على اليتامى نجد الإنفاق على المساكين وابن السبيل، وقد عرفنا أن المسكين هو المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله.

 

فواصل واكسسوارات لتزيين المواضيع،احلى واجمل فواصل للمواضيع،فواصل  جديدة..مشاركتى. - حسناء
 
 
ويختم الحق هذه الآية بقوله:
{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
إن الله يريد أن يرد الطبع البشري إلى قضية هي: إياك أن تطلب جزاء الخير الذي تفعله مع هؤلاء من أحد من الخلق، ولكن اطلبه من الله، وإياك أن تحاول أن يعلم الناس عنك أنك مُنْفِق على الأقارب واليتامى وابن السبيل؛ لأن الذين تريدهم أن يعلموا لا يقدرون لك على جزاء، وعلمهم لن يزيدك شيئا، وحسبك أَنْ يعلم الله الذي أعطاك، والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته. فحين ينفق الناس لمرضاة الناس، يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق، واستبقى الشر ممن أنفقه عليهم.

ولو أن الإنسان المسلم قصد بالإنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق الأعلى عز وجل لاستبقى ما أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة، ولسخر الله له قلوب من تصدق عليهم بالمحبة والوفاء بالمعروف، وهذه عدالة من الله تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛ لأنهم يعطون وفي بالهم أنهم أعطوا له، ولو أعطوا الله لما أنكر الآخذ جميل العطاء. أنت أعطيته لمرضاته هو، فكأن الله يقول لك: سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق في السر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فمنهم: (...ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهذا هو الأفضل في صدقة التطوع، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وكذلك الحال بالنسبة للصلاة فالفريضة تكون إعلانها أفضل، والنافلة يكون إسرارها أفضل. لكن لو عملت وفي بالك الله فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ. فإياك أن تحاول ولو من طرف خفيّ أن يعلم الناس أنكم تفعلون الخير. وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال فيقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ...}.

نداء الايمان

تفسير الشعراوي للآية 215 من سورة البقرة | مصراوى


 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

شجرة التفاخ | شباب الإسلام Amino

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}

إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق الإنسان فهو سبحانه لا يعالج الأمر علاجا سوفسطائيا، بمعنى أن يقول: وماذا في القتال؟ لا، إن الخالق يقول: أعلم أن القتال مكروه. وحتى إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك. ولو لم يقل الحق إن القتال كره: لفهم الناس أن الله يصور لهم الأمر العسير يسيرا.

إن الله عز وجل يقول للذين آمنوا: اعلموا أنكم مقبلون على مشقات، وعلى متاعب، وعلى أن تتركوا أموالكم، وعلى أن تتركوا لذتكم وتمتعكم. ولذلك نجد كبار الساسة الذين برعوا في السياسة ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم كانوا لا يحبون لشعوبهم أن تخوض المعارك إلا مضطرين، فإذا ما اضطروا فهم يوضحون لجندهم أنهم يدرأون بالقتال ما هو أكثر شراً من القتال، ومعنى ذلك أنهم يعبئون النفس الإنسانية حتى تواجه الموقف بجماع قواها، وبجميع ملكاتها، وكل إرادتها.

والحق سبحانه وتعالى يقول:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}
إنه سبحانه يقول لنا: أعلم أن القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية، هذه القضية هي ألا تحكموا في القضايا الكبيرة في حدود علمكم؛ لأن علمكم دائما ناقص، بل خذوا القضايا من خلال علمي أنا؛ لأنني قد أشرع مكروها، ولكن يأتي منه الخير. وقد تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر. ولذلك ينبهنا الحق إلى أن كثيراً من الأمور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر، فيقول الواحد منا: (كنت أتوقع الخير من هذا الأمر، لكن الشر هو ما جاءني منه).

وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها، لكنها تأتي بالخير. ولذلك يترك الحق فلتات في المجتمع حتى يتأكد الناس أن الله سبحانه وتعالى لا يُجري أمور الخير على مقتضيات ومقاييس علم العباد، إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد. ولننظر إلى ما رواه الحق مثلا للناس على ذلك: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 60-64].

إن موسى عليه السلام يسير مع فتاه إلى مجمع البحرين، ويقال: إنه ملتقى بحرين في جهة المشرق، وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلان منه، لكن السفر والمشقة أنساهما الحوت وانطلق الحوت بآية من الله إلى البحر، وعندما وصل موسى إلى مجمع البحرين طلب من فتاه أن يأتي بالطعام بعد طول التعب، لكن الفتى يقول لموسى: إنه نسي الحوت، ولم ينسه إياه إلا الشيطان.
وإن الحوت اتخذ طريقه إلى البحر، فقال موسى: إن هذا ما كنا نطلبه علامة على وصولنا إلى غايتنا وهي مجمع البحرين، أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب، فإن الرجل الذي جئنا من أجله هناك في هذا المكان، وارتد موسى والغلام على آثارهما مرة أخرى.

فما الذي يحدث؟ يلتقي موسى عليه السلام بالعبد الصالح الخضر، وهو ولي من أولياء الله، علمه الله العلم الرباني الذي يهبه الله لعباده المتقين كثمرة للإخلاص والتقوى. ويطلب موسى عليه السلام من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلام أن يتعلم منه بعض الرشد. لكن العبد الرباني الذي وهبه الله من العلم ما يفوق استيعاب القدرة البشرية يقول لموسى عليه السلام: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 67-68].

لقد كان موسى على علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها خير؛ لأن ذلك هو السبيل والعلامة التي يعرف بها موسى كيف يلتقي بالعبد الصالح. ويستمر السياق نفسه في قصة موسى والعبد الصالح، قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير، سواء في قصة السفينة التي خرقها أو الغلام الذي قتله، أو الجدار الذي أقامه.

لقد كان علم العبد الصالح علماً ربانياً، لذلك أراد موسى أن يتعلم بعضاً من هذا العلم لكن العبد الصالح ينبه موسى عليه السلام أن ما قد يراه هو فوق طاقة الصبر؛ لأن الذي قد يراه موسى من أفعال إنما قد يرى فيها شراً ظاهراً، لكن في باطنها كل الخير.
وقَبِل موسى عليه السلام أن يقف موقف المتعلم بأدب مع العالم الذي وهبه الله العلم الرباني. ويشترط العبد الرباني على موسى ألا يسأل إلا بعد أن يحدثه العبد الرباني عن الأسباب. ويلتقي موسى والعبد الرباني بسفينة فيصعدان عليها، ويخرق العبد الرباني السفينة، فيقول موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71].
فيرد العبد الصالح: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 72].
ويتذكر موسى أنه وعد العبد الصالح بالصبر، لكن ما الذي يفعله موسى وقد وجد العبد الصالح يخرق سفينة تحملهم في البحر؟ إنه أمر شاق على النفس. ولذلك يقول موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 73].
إن موسى يعود إلى وعده للعبد الصالح، ويطلب منه فقط ألا يكلفه بأمور تفوق قدرته. وينطلق العبد الصالح ومعه موسى عليه السلام، فيجد العبد الصالح غلاما فيقتله، فيقول موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74]

ويُذكر العبد الصالح موسى أنه لن يستطيع الصبر معه، ويعتذر موسى عما لا يعلم.
ويمر العبد الصالح ومعه موسى بقرية فطلبا من أهل القرية الضيافة، لكن أهل القرية يرفضون الضيافة، ويجد العبد الصالح جدارا مائلا يكاد يسقط فيبدأ في بنائه، فيقول موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] ويكون الفراق بين العبد الصالح وموسى. ويخبر العبد الصالح موسى بما لم يعلمه ولم يصبر عليه. إن خرق السفينة كان لإنقاذ أصحابها من اغتصابها منهم؛ لأن هناك ملكا كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فأراد أن يعيبها ليتركها الملك لهؤلاء المساكين.
وقتل الغلام كان رحمة بأبويع المؤمنين، كان هذا الابن سيجلب لهما الطغيان والكفر، وأراد الله أن يبدله خيراً منه.

وأن الجدار الذي أقامه كان فوق كنز، وكان ليتيمين من هذه القرية وكان والد الغلامين صالحاً، لذلك كان لابد من إعادة بناء الجدار حتى يبلغ الغلامان أشدهم ويستخرجا الكنز ويقول العبد الصالح عن كل هذه الأعمال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82].

إن العبد الصالح لا ينسب هذا العمل الرباني لنفسه، ولكن ينسبه إلى الخالق الذي علمه. إذن فالحق يطلق بعضاً من قضايا الكون حتى لا يظن الإنسان أن الخير دائماً فيما يحب، وأن الشر فيما يكره، ولذلك يقول سبحانه:
{وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} فإن كان القتال كرهاً لكم، فلعل فيه خيراً لكم. وبمناسبة ذكر الكُره نوضح أن هناك (كَره) و(كُره). إن (الكَره) بفتح الكاف: هو الشيء المكروه الذي تُحمل وتُكْرَهُ على فعله، أما (الكُره) بضم الكاف فهو الشيء الشاق.

وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق، وقد يكون شاقاً ولكن غير مكروه. والحق يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}.


ولنلاحظ أن الحق دائماً حينما يشرع فهو يقول: {كُتِبَ} ولا يقول: (كَتبت)
ذلك حتى نفهم أن الله لن يشرع إلا لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أي تكاليف، وهل يكون من المنطقي أن يكلف الله مَنْ آمَن به ويترك الكافر بلا تكليف؟
نعم، إنه أمر منطقي؛ لأن التكليف خير، وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية أنه مُقيِّد، نقول لهم: لو كان التكليف الإيماني يقيد لكلف الله به الكافر، ولكن الله لا يكلف إلا مَنْ يحبه، إنه سبحانه لا يأمر إلا بالخير، ثم إن الله لا يكلف إلا مَنْ آمن به؛ لأن العبد المؤمن مع ربه في عقد الإيمان.
إذن فالله حين يقول:
(كُتب) فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره الموهوبة له، والله سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الاختيار في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.
ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع الله في عقد إيمان، وبمقتضى هذا العقد كتب الله عليه التكاليف. ومن هذه التكاليف القتال، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال}.
وقوله:
{عَلَيْكُمُ} يعني أن القتال ساعة يكتب لا يبدو من ظاهر أمره إلا المشقة فجاءت {عَلَيْكُمُ} لتناسب الأمر. وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم، وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا الجنة.

ويعبر الحق عن ظاهر الأمر في القتال فيقول عنه:
{وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}. إنها قضية عامة كما قلنا. لذلك فعلينا أن نرد الأمر إلى من يعلمه، {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة الله الذي أجراه؛ لأنه هو الذي يعلم.

وهناك قصة من التراث الإنساني تحكي قضية رجل من الصين،
وكان الرجل يملك مكانا متسعا وفيه خيل كثيرة، وكان من ضمن الخيل حصان يحبه. وحدث أن هام ذلك الحصان في المراعي ولم يعد، فحزن عليه، فجاء الناس ليعزوه في فقده الحصان، فابتسم وقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر لتعزوني فيه؟
وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه، فلما رأى الناس ذلك جاءوا ليهنئوه، فقال لهم: وما أدراكم أن ذلك خير، فسكت الناس عن التهنئة. وبعد ذلك جاء ابنه ليركب الجواد فانطلق به، وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه، فجاء الناس مرة أخرى ليواسوا الرجل فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك شر؟
وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو، وتركوا هذا الابن؛ لأن ساقه مكسورة، فجاءوا يهنئونه، فقال لهم: ومن أدراكم أن ذلك خير؟ فعلينا ألا نأخذ كل قضية بظاهرها، إن كانت خيراً أو شراً، لكن علينا أن نأخذ كل قضية من قضايا الحياة في ضوء قول الحق:
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد: 23].

والحق هو القائل:

{والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
ولله المثل الأعلى، سبق لنا أن ضربنا المثل من قبل بالرجل الحنون الذي يحب ولده الوحيد ويرجو بقاءه في الدنيا، لذلك عندما يمرض الابن فالأب يعطيه الدواء المر، وساعة يعطيه الجرعة فالابن يكره الدواء ولكنه خير له. وبعد ذلك يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن سؤال آخر يقول فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ...}.


تفسير الشعراوي للآية 216 من سورة البقرة | مصراوى




 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
 
فواصل لتزيين المواضيع - شبكة روايتي الثقافية


{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}

والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لأنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن السؤال عن القتال في الشهر الحرام،
فما جدوى السؤال إذن؟
إنه سؤال استفزازي،
والمسألة لها قصة.
ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهراً،
وقد جعل الله فيها أربعة أشهر حرم: شهر واحد فرد وهو رجب، وثلاثة سرد، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ومعنى أشهر حرم أي أن القتال محرم فيها.

لقد علم الله كبرياء الخلق على الخلق، لذلك جعل الله لخلقه ساترا يحمي كبرياءهم، ومن هذه السنن التي سنها الله هي حرمة القتال في الأشهر الحرم، والأماكن الحرم، فيجوز أن الحرب تضر المحارب، لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال، فيستمر في الحرب مهما كان الثمن، فيأتي الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين: ارفعوا أيديكم في هذه الشهور لأني حرمت فيها القتال. وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب، ولكن كبرياءهم يمنعهم من التراجع، وعندما يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع حفاظه على ماء الوجه. وكذلك جعل الله أماكن محرمة، يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن الله هو الذي حرمها، وتكون لهم ستاراً يحمي كبرياءهم.

إذن فالحق سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان أراد أن يصون الإنسان حتى يحقن الدماء، فإذا ظل الناس ثلاثة أشهر بلا حرب، ثم شهراً آخر، فنعموا في هذه الفترة بالسلام والراحة والهدوء، فربما يألفون السلام، ولا يفكرون في الحرب مرة أخرى، لكن لو استمرت الحرب بلا توقف لظل سعار الحرب في نفوسهم، وهذه هي ميزة الأشهر الحرم.
 
والأشهر الحرم حُرُمٌ في الزمان والمكان؛
لأن الزمان والمكان هما ظرف الأحداث، فكل حدث يحتاج زمانا ومكانا. وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفي القتال يأخذ فرصة للهدوء.

إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم الإسلام من كفار قريش واليهود أن يثيروها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض السرايا للاستطلاع، والسرية هي عدد محدود من المقاتلين، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل سرية على رأسها عبد الله بن جحش الأسدي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل معه ثمانية أفراد، وجعله أميرا عليهم، وأعطاه كتابا وأمره ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين، وذلك حتى لا يعلم أحد أين تذهب السرية، وفي ذلك احتياط في إخفاء الخبر.
فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد الله الكتاب وقرأه فإذا به: اذهب إلى (بطن نخلة) وهو مكان بين مكة والطائف واستطلع عير قريش، ولا تُكره أحدا ممن معك على أن يسير مرغما، بمعنى أن يكون لكل فرد في السرية حرية الحركة، فمن يفضل عدم السير فله هذا الحق.

وبينما هم في الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان، وذهبا يبحثان عن البعير، وبقى ستة مقاتلين مع عبد الله، وذهب الستة إلى (بطن نخلة) فوجدوا (عمرو بن الحضرمي) ومعه ثلاثة على عير لقريش، فدخلوا معهم في معركة، وكان هذا اليوم في ظنهم هو آخر جمادى الآخرة، لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب أي أنه أحد أيام شهر حرام.
وقتل المسلمون ابن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله من أصحاب عبد الله ابن جحش، وأسروا اثنين ممن معه، وفر واحد، فلما حدث هذا، وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول رجب، عند ذلك اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب.

 
وثارت المسألة أخذا وردّاً بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا: إن محمداً يدعي أنه يحترم المقدسات ويحترم الأشهر الحرم، ومع ذلك قاتل في الأشهر الحرم، وسفك دمنا، وأخذ أموالنا، وأسر الرجال. فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغنائم والأسرى حتى يفصل الله في القضية فنزل حكم السماء في القضية بهذا القول الحكيم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
 
نحن مُسلّمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير، ولكن انظروا يا كفار قريش إلى ما صنعتم مع عبادنا وقارنوا بين كِبْر هذا وكِبْر ذاك. أنتم تقولون: إن القتال في الشهر الحرام مسألة كبيرة، ولكن صدكم عن سبيل الله وكفركم به، ومنعكم المسلمين من المسجد الحرام، وإخراج أهل مكة منها أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فلا تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر الحرام، ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات.
فكأن الحق أراد أن يضع قضية واضحة هي: لا تؤخذوا من جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا فيها خلف كلمة حق وأنتم تريدون الباطل فالواقع يعرض الأشياء،
 
ونحن نقول: نعم إن القتال في الشهر الحرام كبير. ولكن يا كفار قريش اعلموا أن فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عن طريق الله، وكفركم به سبحانه وإهداركم حرمة البيت الحرام بما تصنعون فيه من عبادة غير الله، وإخراجكم أهله منه، إن هذه الأمور الآثمة هي عند الله اكبر جرماً وأشد إثماً من القتال في الأشهر الحرم لاسترداد المسلمين بعض حقهم لديكم.

ولهذا يرد الحق سهام المشركين في نحورهم
{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ}
أي إياكم أن تعتقدوا أنهم سيحترمون الشهر الحرام ولا المكان الحرام، بل {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي وسيصرون، ويداومون على قتالكم {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ}.
 
وتأمل قوله: {إِن اسْتَطَاعُواْ} إن معناها تحد لهم بأنهم لن يستطيعوا أبدا ف (إنْ) تأتي دائما في الأمر المشكوك فيه. ويتبع الحق {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سيظلون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
 
ثم يختم الحق الآية بقضية يقول فيها:
{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ}
هذه الآية يقابلها آية أخرى يقول الحق فيها: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5].
وإذا قارنّا بين الآيتين نجد أن الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد ورد فيها قوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وفي سورة المائدة لم يرد هذا وإنما ورد قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}
وقد اختلف العلماء في المسألة اختلافات جميلة.
ولكنهم اتفقوا أَوَّلا على أن أي إنسان يرتد عن الإسلام ثم يموت مرتداً فقد حبطت أعماله. ولكن اختلافهم تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية، أي لم يمت وهو كافر، بل رجع فآمن بعد ردته، فهل حبط عمله أم لم يحبط؟.
وللإمام الشافعي رأي يقول: إن الذي يرتد عن الدين تحبط أعماله إن مات على الكفر، أما إن عاد وأسلم مرة أخرى فإن أعماله التي كانت قبل الارتداد تكون محسوبة له. والإمام أبو حنيفة له رأي مختلف فهو يقول: لا، إن آية سورة المائدة ليس فيها {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وعليه فإننا نحملها على آية سورة البقرة التي ذكر فيها ذلك من باب حمل المطلق على المقيد، وعلى ذلك فالذي يكفر بعد إيمانه عمله محبط سواء رجع إلى الإيمان بعد ذلك أو لم يرجع، فلا يحتسب له عمل.

أين موضوع الخلاف إذن؟.
هي أن إنساناً آمن وأدى فريضة الحج ثم لا قدر الله كفر وارتد، ثم رجع فآمن أتظل له الحجة التي قام بها قبل الكفر أم تحبط ويطلب منه حج جديد؟ هذه هي نقطة الخلاف. فالشافعي يرى أنه لا يحبط عمله مادام قد رَجع إلى الإيمان لأن الله قال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فمعنى ذلك أنه إن لم يمت على الكفر فإن عمله لا يحبط. ولكن لا يأخذ ثوابا على ذلك الحج الذي سبق له أن أداه، لقد التفت الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى شيء قد يغفل عنه كثر من الناس، وهو أن الحج ركن من أركان الإسلام، فالذي لا يحج وهو قادر على الحج فالله يعاقبه على تقصيره، والذي حج لا يعاقب ويأخذ ثواب فعله.

فكأن الأعمال التي طلبها الحق سبحانه وتعالى إن لم تفعلها وكانت في استطاعتك عوقبت، وإن فعلتها يمر عملك بمرحلتين، المرحلة الأولى هي ألا تُعاقب، والمرحلة الثانية هي أن تُثاب على الفعل. فالشافعي قال: إن الشخص إذا فعل فعلاً يُثاب عليه الإنسان، ثم كفر، ثم عاد إلى الإسلام فهو لا يُعاقب، ولكنه يُثاب. أما الإمام أبو حنيفة فقد قال: إنه لا عبرة بعمله الذي سبق الردة مصداقا لقوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي أبطلت وزالت، وكأنها لم تكن. إن القرآن استخدم هنا كلمة (حبط)، وهي تستخدم تعبيرا عن الأمر المحسوس فيقال: (حبطت الماشية) أي أصابها مرض اسمه الحباط، لأنها تأكل لونا من الطعام تنتفخ به، وعندما تنتفخ فقد تموت. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم».

إنه صلى الله عليه وسلم يحذرنا من أن الخير قد يندس فيه شر، مثلما يحدث في الربيع الذي ينبت فيه من النبات الذي يعجب الماشية فتأكله فيأتيها مرض (الحُباط)، فتنتفخ ثم تموت، أو (يلم) أي توشك أن تموت، وكذلك الأعمال التي فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل انتفاخ البطن، وكل هذه العمليات الباطلة ستحبط كما تحبط الماشية التي أكلت هذا اللون من الخضر، ثم انتفخت فيظن المشاهد لها أنها سمنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض. لقد أعطانا الله من هذا القول المعنى المحسوس لتشابه الصورتين؛ فالماشية عندما تحبط تبدو وكأنها نمت وسمنت، لكنه نمو غير طبيعي إنه ليس شحماً أو لحما، لكنه ورم، كذلك عمل الذين كفروا؛ عمل حابط، وإن بدا أنهم قد قاموا بأعمال ضخمة في ظاهرها أنها طيبة وحسنة.
 

حب ما تعمل***: الفتاح

ويقول بعض الناس:
وهل يُعقل أن الكفار الذين صنعوا إنجازات قد استفادت منها البشرية، هل من المعقول أن تصير أعمالهم إلى هذا المصير؟.
لقد اكتشفوا علاجا لأمراض مستعصية وخففوا آلام الناس، وصنعوا الآلات المريحة والنافعة.
ونقول لأصحاب مثل هذا الرأي:
مهلاً، فهناك قضية يجب أن نتفق عليها وهي أن الذي يعمل عملاً؛ فهو يطلب الأجر ممن عمل له، فهل كان هؤلاء يعملون وفي بالهم الله أم في بالهم الإنسانية والمجد والشهرة، وما داموا قد نالوا هذا الأجر في الدنيا فليس لهم أن ينتظروا أجراً في الآخرة. لذلك يقول الحق: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].
إن الكافر يظن أن أعماله صالحة نافعة لكنها في الآخرة كالسراب الذي يراه الإنسان في الصحراء فيظنه ماء، ويجد نفسه في الآخرة أمام لحظة الحساب فيوفيه الله حسابه بالعقاب، وليس لهم من جزاء إلا النار، وينطبق عليهم ما ينطبق على كل الكافرين بالله، وهو {وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

هذا وإن الحق سبحانه وتعالى يوضح حقيقة الأمر للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يعطيهم مناعة إيمانية ضد آمال الكافرين في الإضرار بالمؤمنين، فيعلمنا أنهم لن يدخروا وسعا حتى يردوكم عن دينكم؛ لأن منهج الله دائماً لا يخيف إلا المبطلين؛ فالإنسان السوي الذي يريد أن يعايش العالم في سلام ويأخذ من الخير على قدر حركته في الوجود لا ترهقه سيادة مبادئ الإسلام، إنما تُرهق مبادئ الإسلام هؤلاء الذين يريدون أن يسرقوا عرق وكدّ غيرهم وهم يبذلون كل الجهد ويستخدمون كافة الأساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم، ولكن هل يُمكّنهم الله من ذلك؟ لا؛ فلا يزال هناك أمل في الخير إن تمسكت أمة الإسلام بالمنهج الحق.
 
إنه سبحانه يعطي المناعة للمؤمنين، والمناعة كما نعرف هي أن تنقل للسليم ميكروب المرض بعد إضعافه، وبذلك تأخذ أجهزة جسمه فرصة لأن تنتصر على هذا الميكروب؛ لذلك قال الحق: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}. إن الخلاف الجوهري بين المؤمن والكافر، هو أن المؤمن إنما يعمل العمل الصالح وفي نيته أن المكافئ هو الله، وهو يتجه بنية خالصة في كل عمل. ويأخذ بأسباب الله في العلم لينتفع به غيره من الناس؛ فتكون الفائدة عميمة وعظيمة، وعلى المؤمن أن يكون سباقاً إلى الاكتشاف والاختراع ونهضة العالم المسلم، وأن يكون المؤمن العالم منارة تشع بضوء الإيمان أمام الناس، لا أن يترك غيره من الكافرين يصلون إلى المكتشفات العلمية وهو متواكل كسلان.
 
إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب الله في الحياة؛ لأن الإسلام هو دين ودنيا، وهو دين العلم والتقدم، ويضمن لمن يعمل بمنهجه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. وإذا كان المؤمن يستمتع بإنتاج يصنعه الكافر فليعلم أن الكافر إنما أخذ أجره مُسخراً ممن عمل له، أما المؤمن فحين يتفوق في الصناعة والزراعة والعلم والاكتشاف فهو يأخذ الأجر في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الذي يعطي هنا هو الله.
 
أما عمل الكافر فهو عمل من مسخر كالمطايا وكالجماد والنبات والحيوان المسخر لخدمة الإنسان. وإذا كان الله قد ميز المؤمن على الكافر بالأجر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة، ألا يليق بالمؤمن أن يسبق الكافر في تنمية المجتمع الإسلامي، وأن يكون بعمله منارة هداية لمن حوله؟! ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله...}.

نداء الايمان




تفسير الشعراوي للآية 217 من سورة البقرة | مصراوى

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

Irene smirnoff | Wiki | امبراطورية الأنمي Amino
 

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}


إن الآية قد عددت ثلاثة أصناف:

الصنف الأول هم الذين آمنوا، والصنف الثاني هم الذين هاجروا، والصنف الثالث هم الذين جاهدوا. إن الذين آمنوا إيماناً خالصاً لوجه الله، وهاجروا لنصرة الدين، وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة الإسلام هؤلاء قد فعلوا كل ذلك وهم يرجون رحمة الله.

 

ولقائل أن يقول: أليست الرحمة مسألة متيقنة عندهم؟
ونقول: ليس للعبد عند الله أمر متيقن؛ لأنك قد لا نفطن إلى بعض ذنوبك التي لم تُحسن التوبة منها، ولا التوبة عنها. وعليك أن نضع ذلك في بالك دائماً، وأن تتيقن من استحضار نية الإخلاص لله في كل عمل تقوم به؛ فقد تحدثك نفسك بشيء قد يفسد عليك عملك، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الموصولين بربهم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يُرفع ودعاء لا يُسمع).
إن الرسول الكريم وهو سيد المحتسبين في كل أعماله يعلمنا أن النفس قد تخالط صاحبها بشيء يفسد الطاعة. وعلى المسلم أن يظل في محل الرجاء. والمؤمن الذي يثق في ربه لا يقول: إن على الله واجباً أن يعمل لي كذا؛ لأن أصل عبادتك لله سبق أن دفع ثمنها، وما تناله من بعد ذلك هو فضل من الله عليك، مدفوع ثمنها لك إيجاداً من عدم وإمداداً من عُدْم، ومدفوع ثمنها بأن متعك الله بكل هذه الأشياء، فلو قارنت بين ما طلبه الله منك على فرض أنك لا تستفيد منه فقد أفدت مما قدم لك أولا، وكل خير يأتيك من بعد ذلك هو من فضل الله عليك، والفضل يرجى ولا يُتيقن.

 

وعظمة الحق سبحانه وتعالى في أنك تدعوه خوفاً وطمعاً. ويقول هذا المثل ولله المثل الأعلى إن من عظمتك أمام والدك أنك تجد لك أباً تخاف منه، وترغب أن يحقق لك بعضاً من أحلامك، ولو اختلت واحدة من الاثنتين لاختلت الأبوة والبنوة.
 

كذلك عظمة الرب يُرغب ويُرهب: إن رغبت فيه ولم ترهبه فأنت ناقص الإيمان، وإن رهبت ولم ترغب فإيمانك ناقص أيضاً، لذلك لابد من تلازم الاثنتين: الرهبة والرغبة. ولو تبصّر الإنسان ما فرضه الله عليه من تكاليف إيمانية لوجد أنه يفيد من هذه التكاليف أضعافاً مضاعفة. فكل ما يجازي به الله عباده إنما هو الفضل، وهو الزيادة. وكل رزق للإنسان إنما هو محض الفضل. ومحض الفضل يُرجى ولا يُتيقن. وها هو ذا الحق يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 55-56].

 

image.png.56b0088121ba586a52164acc051b5273.png


 

إن الدنيا كلها مسخرة تحت قهر الرحمن ومشيئته وتسخيره، وله تمام التصرف في كل الكائنات وهو الخالق البديع، لذلك فليدع الإنسان الله بخشوع وخضوع في السر والعلانية، والحق لا يحب من يعتدي بالقول أو الرياء أو الإيذاء.
 

إن الإيمان يجب أن يكون خالصا لله، فلا يفسد الإنسان الأرض بالشرك أو المعصية؛ لأن الحق قد وضع المنهج الحق لصلاح الدنيا وهو القرآن، ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله قريبة من المطيعين للحق جل وعلا.
 

إن عظمة الرب في أنه يُرغب ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه فعملك غير مقبول، وإن رهبته ولم ترغبه فعملك غير مقبول. إن الرغب والرهب مطلوبان معاً، لذلك فالمؤمن المجاهد في سبيل الله يرجو رحمة الله.
والحق يقول: {أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله} ما هي الرحمة؟ الرحمة ألا تبتلى بالألم من أول الأمر، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
الشفاء هو أن تكون مصابا بداء ويبرئك الله منه، لكن الرحمة، هي ألا يأتي الداء أصلا {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

 

والله سبحانه وتعالى يعلم عن عباده أن أحداً منهم قد لا يبرأ من أن يكون له ذنب. فلو حاسبنا بالمعايير المضبوطة تماما فلسوف يتعب الإنسان منا، ولذلك أحب أن أقول دائما مع إخواني هذا الدعاء: (اللهم بالفضل لا بالعدل وبالإحسان لا بالميزان وبالجبر لا بالحساب). أي عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبإحسانك لا بالميزان، لأن الميزان يتعبنا.
 

ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة لا يكون بالأعمال وحدها، ولكن بفضل الله ورحمته ومغفرته. إن الرسول الكريم يقول: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. فقالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا حتى يتغمدني الله برحمته).
إذن فالمؤمن يرجو الله ولا يشترط على الله، إن المؤمن يتجه بعمله خالصا لله يرجو التقبل والمغفرة والرحمة، وكل ذلك من فضل الله. ويأتي الحق لسؤال آخر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ...}.

.
نداء الايمان
image.png.525e5f29d073ffee5f5d33801f8f1035.png
 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
bismillah.vks.gif


 


{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}


والخمر كما نعرف مأخوذة من الستر، ويقال: (دخل فلان خمرة) أي في أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها. و(الخِمار) هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها، وهو مأخوذ أيضا من نفس المادة. و(خامرة الأمر) أي خالطه. وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر. و(الميسر) مأخوذ من اليسر؛ لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب.

والخمر والميسر من الأمور التي كانت معروفة في الجاهلية. والإسلام حين جاء ليواجه نُظُما جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول الأمر، ورفع راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ثم جاء الإسلام في الأمور التي تُعتبر من العادات فبدأ يهونها؛ لأن الناس كانت تألفها، لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة. وكان هذا من حكمة الشرع، فلم يجعل الأحكام في أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي الوجود كله، وإنما أخذ الأمور بالهوادة.


وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر، فماذا تستر؟
إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب عن وعيه. ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذي كرمه الله بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة في الأرض ويستره ويغيِّبه، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التي أكرمه بها، وهذا هو الحمق.

ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا، ونسأل هؤلاء: وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ لا، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها بجماع عقلك، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن تنساها، لا، بل لابد أن توظف عقلك في مواجهتها، وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلات بعقلك فلا تأتي لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل، والذي يعينك على مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل.


وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل للخروج منها، فإذا كان الأمر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لأن الله يريد منك أن تريح عقلك في مثل هذه الأمور، وإن كان الأمر له حل وفي استطاعتك حله، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته.


13149974141347.gif

 

والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم، ويعطينا عطاء لنحكم نحن في الأمر قبل أن يطلب منا. إنه سبحانه يمتن علينا ويقول: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67].
فعندما ذكر الله {سَكَراً} مر عليها بلا تعليق.
وعندما قال: {رِزْقاً} وصفه بأنه {حَسَناً} فكان يجب أن نتنبه إلى أن الله يمهد لموقف الإسلام من الخمر؛ فهو لم يصف (السكر) بأي وصف، وجعل للرزق وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما يستخرجون من هذه الثمرات سكراً، فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن، لأن هناك فرقا بين أن تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساتراً للعقل.

وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح. فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له: سأدلك على طريق الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو لا تسير. وعندما تشرع وتضع الحكم، فأنت تأمر هذا الشخص أو ذاك بأن يفعل الأمر ولا شيء سواه.

والحق سبحانه وتعالى عندما قال:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر}،
ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها،
قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ولو لم يقل {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لاستغرب الناس وقالوا: نحن نأخذ من الخمر منافع، ونكتسب منها، وننسى بها همومنا، كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما، أي أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما، وهذا تقييم عادل، فلم تكن المسألة قد دخلت في نطاق التحريم، لأنها مازالت في منطقة النصح والإرشاد.

وقوله تعالى:
{وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}
يجعل فيهما نوعا من الذنب، لقد كان التدرج في الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإلف العادة، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة. والعادة شيء يقود إلى الاعتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك اضطراب. وما دامت المسألة تقود إلى الاعتياد، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد.
لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائياً، وجاء ليصلي، فقال: (قُلْ ياأيها الكافرون * أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) وبعدها نزل تأديب الحق بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ..} [النساء: 43].


وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها؛ فالإنسان الذي يصلي صدر عليه الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران، فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب الخمر حتى يصلي الصبح، ويقترب الظهر فيستعد للصلاة، ثم العصر بعد ذلك، ويليه المغرب فالعشاء، أي لن يصبح عنده وقت ليشرب في الأوقات التي ينتظر فيها الصلاة، إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا في آخر الليل، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط في نومه. ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه الخمر.


ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التي دفعتهم لأن يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهم حكماً فاصلاً في الخمر فنزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90-91].
فقالوا: انتهينا يا رب.


إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله؛ لأن العقل هو مناط التكليف للإنسان، وهو مناط الاختيار بين البدائل، فأراد الحق أن يصون للإنسان تلك النعمة.

 

إن هدف الدين في المقام الأول سلامة الضرورات الخمس التي لا يستغني عنها الإنسان: سلامة النفس، وسلامة العرض، وسلامة المال، وسلامة العقل، وسلامة الدين. وكل التشريعات تدور حول سلامة هذه الضرورات الخمس، ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ من سلامة العقل، فسلامة العقل تجعله يفكر في دينه. وسلامة العقل تجعله يفكر في حركة الحياة. وسلامة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض.

13149974141347.gif

إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة، والحق سبحانه وتعالى يريد ألا يخمر الإنسان عقله بأي شيء مُسكر. حتى لا يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس.
وقد جمع الله في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر، وهو جل وعلا يريد أن يحمي غفلة الناس. فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين يجلسان أمام بعضهما البعض، وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر، فأي أخوة تبقى بين هؤلاء؟ إن كلاًّ منهما حريص على أن يعيد الآخر إلى منزله خاوي الجيوب فأي أخوة تكون بين الاثنين؟
ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الأصحاب، ويحرص كل منهما على لقاء الآخر، فأي خيبة في هذه الصداقة؟!


ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله، يأخذ ماله ويبقى على صداقته، والعجيب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر. ولو لاحظت حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً، لماذا؟
لأن المال حين يُكتسب بيسر، يُصرف منه بلا احتياط، هذا هو حال من يكسب، أما بالنسبة للخاسر فتجده يعيش في الحسرة والألم على ما فقد، وتجده في فقر دائم، وربما اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه، إن لم يبع ملابسه، وأعز ما يملك، ويحدث كل ذلك بأمان زائفة، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين، الذي كسب والذي خسر، فالذي كسب يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر، والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب.


وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه، ويعتاد أن يعيش على الكسب السهل الرخيص، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس.
وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع، فهم الذين يرتشون ويسرقون ويعربدون، ولا أخلاق عندهم وليس لهم صاحب ولا صديق، وبيوتهم منهارة، وأسرهم مفككة، وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم.


ولذلك قال الحق:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}
وما دام الإثم أكبر من النفع، فقد رجح جانب الإثم. هذا في العملية الذاتية، أما في العملية الزمنية فقد قال سبحانه: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43].
وبعد ذلك أنهى سبحانه المسألة تماما بقوله الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].


ثم تمضي الآية إلى سؤال آخر هو
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو}
إنه السؤال نفسه من عمرو بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} وهنا جواب بشكل وصورة أخرى {قُلِ العفو} والعفو معناه الزيادة وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94-95].

إن الله جلت قدرته يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر، إنه سبحانه لم يرسل نبيًّا إلى قومٍ فقابلوه بالتكذيب والنكران إلاّ أخذهم وابتلاهم بالفقر والبؤس والمرض والضر لعلهم يتوبون إلى ربهم ويتذلّلون له سبحانه ليرفع عنهم ما ابتلاهم به، ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم وامتحنهم بالنعم؛ بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى كثروا وزادت أموالهم وخيراتهم، وقالوا وهم في ظل تلك النعم: إن ما يصيبنا من سراء وضراء وخير وشر إنما هو سنة الكون، وعادة الدهر، فأسلافنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما يصيبنا، ولما أصروا على كفرهم باغتهم الله بالعذاب، وأنزل بهم العقاب المفاجئ. قلبهم الله بين الشدة والرخاء، وعالجهم بالضر واليسر، حتى لا تكون لهم حجة على الله، ولما ظهرت خسة طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. ولنتأمل قوله تعالى في ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 42-44].

أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أتوا من النعمة والثروة وكثرة العدد، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} أي يائسون من رحمة الله أو نادمون متحسرون، ولا ينفعهم الندم حينئذ. فقد فاتت الفرصة وضيّعوها على أنفسهم.
إن الحق ينزل هذا الأمر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة، إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق عقاباً صاعقاً، كالذي يرفع كائناً في الفضاء ثم يتركه ليهوى على الأرض، والعفو هنا يمكن أن يكون بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان. وهناك معنى آخر للعفو فقد يأتي بمعنى الترك: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178].


أي فمن ترك له أخوه شيئا فليأخذه. إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة، وتارة أخرى يكون بمعنى الترك، والحق هنا يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} أي أن الإنفاق إنما يكون من الزائد عن الحاجة، فيكون معنى العفو هنا هو الزائد أو المتروك، وهكذا نرى أن العفو واحد في كلا الأمرين، فلا تظن أن المعاني تتضارب؛ لأن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية. فالعفو هو الزيادة، والعفو أيضا يؤخذ بمعنى الصفح.
إذن فالإنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع. فالذي يزرع أرضا وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد، فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم ينفق منه على قريبه أو جاره المحتاج؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق؟ وكان ذلك قبل أن يشرع الحق الزكاة بنظامها المعروف. وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة؟


لأن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك، فجعل حركته تخفف عنه ولا تثقل عليه. لأن حركة المتحرك تنفع المتحرك، أراد المتحرك أو لم يرد؛ ولذلك نجد (زكاة الركاز) وهي الزكاة المفروضة على ما يوجد في باطن الأرض من ثروات كالمعادن النفيسة والبترول وغيرها، لقد جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة، أي الخمس بينما الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر على ما أنتجته زراعته.
وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر. والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب للمنتج ويشتري منه، ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها، هذا نقول له: عليك اثنان ونصف في المائة (2.5%) فقط.


إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد، كأن الحق يحمي الحركة الإنسانية من حمق التقنين البشري. إن المتحرك القوي يدفعه الله ليزيد من حركته لينتفع المجتمع، وأوكل الله للحاكم الذي يتبع منهج الإسلام أن يأخذ من الأثرياء ما يقيم به كرامة الفقراء. إِنْ بَخِلَ الأغنياء بفضل الله عليهم، ولم ينفقوا على الفقراء من رزق الله؛ فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع، ومن فساد الكسل، ويريد الحياة مستقيمة وآمنة للناس.


13149974141347.gif

فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن. وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد دائرة الأمان، وهكذا لقد حمى الله بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر، فالمقنن من البشر يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه الأعباء، نقول له: إن هذا المتحرك إن لم يقصد أن ينفع المجتمع فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه؛ فالإنسان الذي يملك مالا يُلقي الله خاطرا في باله، فيقول: (ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار، وفي كل دور أربع شقق) ويحسب كم تعطيه تلك العمارة من عائد كل شهر. إن هذا الرجل لم يكن في باله إلا أن يربح، فنتركه يفكر في الربح، وعندما نراقب الفائدة التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل، ولنا أن نحسب كم فردا سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة؟ ابتداء من البنائين ومرورا بالنجارين والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم.

إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه مليم واحد؛ لقد ألقى الله في نفسه خاطراً، فأخرج كل ما في جيبه، وألقاه في جيوب الآخرين قبل أن توجد له عمارة. وهكذا يحمي الله حركة المتحرك لأن حركته ستفيد سواه قصد إلى ذلك أو لم يقصد.
أما إذا قلنا له: سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسراً فلابد أن يقول لنفسه: (سأجعل حركتي على قدر حاجتي ولا أزيد إلا قليلا). والحق عز وجل لا يريد أن يشيع هذا المنطق بين الناس، ولكن يريد لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلال، وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم، لأن الحركة لا يستفيد منها صاحبها فقط ولكن يستفيد منها الجميع، فبعضه يسكن، وآخر يزرع، وثالث يعمل، وخير للإنسان أن يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم.
عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده».
ويقول الحق من بعد ذلك: {فِي الدنيا والآخرة وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ...}.

نداء الايمان

 




2015_5_6_16_40_11_639.jpg
 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك



المفاتيح السحرية لقلب المرأة - منتديات ليلاس

{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}


إن الحق يبدأ هذه الآية بقوله: {فِي الدنيا والآخرة} وكأنه يقول لنا: إياك أن تعتقدوا أن كل تكليف من الله جزاؤه في الآخرة فقط، أبدا إن الجزاء سيصيبكم في الدنيا أيضا.

وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الأخلاق في حياتهم تجدهم قد أخذوا جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل: كيف ربى فلان أولاده، وكيف علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟
هم لا يعلمون أن يد الله معه بالبركة في كل حركات حياته. فلا تظن أن الجزاء مقصور على الآخرة فقط، بل يعجل الله بالجزاء في الدنيا، أما الآخرة فهي زيادة ونحن نأخذ متاع الآخرة بفضل الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة، ويرى كيف يعيشون وكيف ينفقون على أولادهم، ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم من المشاكل والعقد النفسية.
وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم، إنما جاء لينظم لنا حركة الحياة ويخرجنا من أهواء النفوس.

 

ونقول بعد أن استكمل الحق الكلام عن الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، بين لنا صنفين من المجتمع:

أما الصنف الأول فهو الصنف المنافق الذي لا ينسجم منطقه مع واقع قلبه ونفسه: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 204-205].
وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع، لا، إنه إذا قيل له من ناصح محب مشفق: (اتق الله) أخذته العزة بالإثم!!.

والصنف الآخر في المجتمع هو من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال فيكون شهيداً، وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون فيه الخير لمنهج الله. فقال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد} [البقرة: 207].
ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة، والدخول في السلم أي الإسلام يطلب منا أن ندخل جميعاً في كل أنواع السلم في الحياة، سلم مع نفسك فلا تتعارض ملكاتك، فلا تقول قولاً يناقض قلبك، وسِلمٌ مع المجتمع الذي تعيش فيه، وسلم مع الكون الذي يخدمك جماداً ونباتاً وحيواناً، وسلم مع أمتك التي تعيش فيها، فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208].
كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق، وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلامة والأمن في كل أطوار هذه الحياة، فإن رأيت خللاً أو اضطراباً في الكون، أو رأيت خوفاً أو قلقاً فاعلم أن منهجاً من مناهج الإسلام قد عُطل. والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج فإن الله عزيز حكيم فلا يغلبه أحد، ولا يقدر عليه أحد، فهو القادر القوي الذي يُجري كل شيء بحكمة، فلا تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى الله بالزلل عن منهجه، وإنما تسيئون إلى أنفسكم وإلى أبناء جنسكم؛ لأن الله لا يُغلب.

وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر، إنه يلفتنا إلى أننا لا نملك أمر الساعة، فالساعة تأتي بغتة ومفاجئة، وصاخة طامة، مرجفة مزلزلة. فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم في غفلة عنها. وكل ذلك لندخل أيضا في السلام في اليوم الآخر، وكأن الحق سبحانه يلفتنا إلى أن كلمات القرآن ليست مجرد كلمات نظرية، ولكنها كلمات الحكيم الخبير التي حكمت تاريخ الأمم التي سبقت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان، وشقوا هم، وشقي بهم المجتمع، إذن فالكلام ليس كلاماً نظرياً. ويريد الله لنا أن ننظر بعمق إلى أمور الحياة، وألا ننظر إلى سطحيات الأمور، فيجب ألا تخدعنا زينة الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الدنيا أَمَدُها قصير، وعلينا أن نقيس عمر الدنيا بأعمارنا منها، وأعمارنا فيها قصيرة؛ لأن منا من يموت كبيراً ومنا من يموت صغيراً.

ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملاً، وإنما أرسل لهم رسُلاً يبينون لهم منهج الله، فكان الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الأهواء في نفوسهم، ومع ذلك رحمهم الله فلم يسلمهم إلى الأهواء، بل استمر موكب الرسالات في البشر، وكلما غلبتهم الأهواء وطم الفساد، أرسل الحق برحمته رسولا لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذي ميزه الله بخلود منهجه، وجعل القيم في أمته. وصارت الأمة المحمدية هي حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة في الأرض؛ لأن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.

ثم نبهنا الله من بعد ذلك إلى أن نهاية الإنسان إلى نعيم الله في الجنة لن يأتي سهلاً ميسوراً، بل هو طريق محفوف بالمكارة، فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها وتدربوها على تحمل هذه المكاره، وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات».
ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للإنسان الخليفة في الأرض عقلاً يفكر به، وطاقة تنفذ تخطيط العقل، وكوناً مادياً أمامه يتفاعل معه في الحركة: فالعقل يخطط، والطاقة تنفذ في المادة المخلوقة المسخرة لله. إذن فكل أدوات الحركة موجودة لله، وليس لك أيها الإنسان أن تخلق شيئاً فيها إلا أن تُُُوجه طاقات مخلوقة للعمل في مادة مخلوقة، فأنت لا توجد شيئا.


مفارش كروشيه - عالم الكروشيه

وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة، بأن تقدر للعاجز عن هذه الحركة نصيباً من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك، وتسع من تعول، وتسع العاجز عن الحركة. وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة المتحركين من إخوانه المؤمنين، وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وأَمَّنْتَ العاجز، فهو جل وعلا يؤمنك حين يطرأ عليك العجز.

لقد جعل الله سبحانه حالة الحياة دولاً بين الناس، فلا يوجد قوم قادرون دائماً ولا قوم عاجزين دائماً، بل يجعل الحق من القادرين بالأمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين بالأمس قادرين اليوم؛ حتى تتوزع الحركة في الوجود. وحتى يعلم كل منا أن الله يطلب منك حين تقدر؛ ليعطيك حين تعجز. لذلك طلب منا أن ننفق، والنفقة على الغير لا تتأتى إلا بعد استيفاء الإنسان ضروريات حياته، فكأن الحق يقول لك: إن عليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من تعول، وإلا لو تحركت حركة على قدرك فقد لا تجد ما تنفقه.

وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية الإنفاق على الدائرة القريبة منه؛ ليتحمل كل موجود في الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا نَسَبِيّاً؛ كالوالدين والأقربين. وأن نجعل الضعفاء من الأيتام مشاعاً على المجتمع مطلوبين من الجميع. سواءٌ كانت تربطهم بنا قرابة أو لا تربطنا بهم قرابة فهم جميعاً أقاربنا؛ لأن الله كلفنا بأن نرعاهم.

 

ولكن هل يمكن أن يستقر منهج الله دون أن يعاديه أحد؟

طبعاً لا؛

لذلك ينبهنا الحق إلى أننا سنجد أقواماً لا يسعدهم أن يطبق منهج الله في الوجود؛ لأنهم لا يعيشون إلا على مظالم الناس، هؤلاء قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج الله، فلتنتبهوا لهؤلاء؛ ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع الفتنة بالكفر من الأرض؛ لأن الكفر يعدد الآلهة في الكون وسيتبع كل إنسان الهوى، ويصبح إلهه هواه وستتعدد الآلهة بتعدد الأهواء، ولذلك كتب الله على المؤمنين القتال وقال: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، كل ذلك ليضمن لنا الغاية التي يريدها، وهي الدخول في السلم والسلام والإسلام كافة. وبعد ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت إلى ذلك الحركة الإيمانية فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218].
 

ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطي في الإنسان ليحميه ويجعله جهازاً سليماً قادراً على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة، وهو العقل، ويلفتنا بضرورة أن نمنع عن العقل كل ما يخمره أي يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما يريده الله أداة الاختيار بين البدائل.
وما دام العقل هو الذي يخطط للطاقة الموجودة في الإنسان لتعمل في المادة الموجودة في الكون فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليماً، فلا يحاول الإنسان أن يستره، ولا يقل أحد: (إني أستره من فرط زيادة المشكلات)، لا: لأن المشكلات لا تريد عقلاً واحداً منك فقط، ولكنها تريد عقلين، فلا تأتي للعقل الواحد لتطمسه بالخمر، فمواجهة المشكلات تقتضي أن نخطط تخطيطاً قوياً.

 

وبعد ذلك يحذرنا الحق أن نأخذ من حركة الآخرين بغير عرق وبغير جهد، فيحذرنا من الميسر وهو الرزق السهل، والتحذير من الميسر إنما جاء ليضمن لكل إنسان أن يتحرك في الحياة حركة سليمة لا خداع فيها. وكأن كل ما تقدم هو من إشراقات قوله الحق: {فِي الدنيا والآخرة} ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220].
مفارش كروشيه - عالم الكروشيه
ونعرف أن اليتامى قد لا يدخلون في دائرة المحتاجين لكن الله ينبهنا إلى أن المسألة في اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات، ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل الإيماني عما فقده من الأب، وذلك يمنع عنه الحقد على الأطفال الذين لم يمت آباؤهم. وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان الأب ولا يعاني من نظرة الأسى التي ينظر بها إلى أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم، وبذلك تخلع منه الحقد.

 

وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم، وعلى أمر حركة اليتيم مئونة العمل، فلو أن يتيماً دخل تحت وصاية إنسان، وأراد هذا الإنسان أن يجعل لليتيم القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكاً مستقلاً في الحياة لشق ذلك على نفس الرجل، ولذلك أذن الله أن يخلط الوصي ماله بمال اليتيم، وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله، بما لا يوجد عند الوصي مشقة. ولما نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
وتحرج الناس، وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال:
{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10].
وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل الأمر، فأنزل القول الحق: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى إخوانكم واحذروا جيداً أن يكون في هذا الخلط شيء لا يكون فيه إصلاح لليتيم.

وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الاجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفاً على مال اليتيم دون حساب؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح. فلا يحاول أحد أن يقول أمام الناس: إنه قد فتح بيته لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما الأمر على غير ذلك؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح.

ويقول الحق:

{وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ}

والإعنات هو أن توقع غيرك وتدخله في أمر فيه مشقة، فلو لم يبح الله لكم مخالطتهم لأصابتكم مشقة فيسر الله للمؤمنين من الأوصياء أن يخالطوا اليتامى، ومعنى المخالطة: هو أن يُوحد الوصي حركة اليتيم مع حركته، وأن يوحد معاش اليتيم مع معاشه، بدلاً من أن يكون لليتيم على سبيل المثال أدوات طعام مستقلة، وقد كان هذا هو الحاصل.
وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الأطعمة مثل الثلاجات، وكان ذلك ضرراً باليتيم، وضرراً أيضا بمن يشرف عليه.

لكن حين قال:

{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ}،

فكان ذلك توفيرا للمشقة على الأوصياء. فالمخالطة هي المعاشرة التي لا يتعثر فيه التمييز.
وقد درسنا في طفولتنا درسا بعنوان (الخلط والمزج)

فالخلط هو أن تخلط على سبيل المثال حبوب الفول مع حبوب العدس، أو حبوب الأرز مع حبوب البندق.
وعندما تأتي لتمييز صنف من آخر، فأنت تستطيع ذلك، وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها.
أما المزج فهو في السوائل.

والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى لا أن نمزج مالهم بمالنا؛ لأن اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد، وسيكون على الوصي أن يفصل ماله عن مال اليتيم.

ويتابع الحق:

{والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح}

لأن الوصي قد يدعي أمام الناس أنه يرعى حق اليتيم، وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله، لكن الأمر قد يختلف في النية وهو سبحانه لم يكل الأمر إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصي مع اليتيم وعن المخالطة، بل نسب ذلك كله إلى رقابته سبحانه، وذلك حتى يحتاط الإنسان ويعرف أن رقابة الله فوق كل رقابة، ولو شاء الحق لأعنت الأوصياء وجعلهم يعملون لليتيم وحده، ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم. وفي ذلك مشقة شديدة على النفس. وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم، عربي ومن قريش يبلغكم رسالة الله سبحانه وتعالى. يحرص عليكم كيلا تقعوا في مشقة أو تعيشوا في ضنك الكفر، حريص على أن تكونوا من المهتدين.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتي من جنس الملائكة، ولكن جاء من جنس البشر، فلا يقولن أحد: إنه لا يصلح أسوة لي. إنه نشأ في مكة التي تعيش بها قريش، وتاريخه معروف لقومه: بدليل أنهم خلعوا عليه أول الأوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهي الأمانة، فالحق جاء به من البشر وليس بغريب عليهم، وبمجرد أن أخبر بالوحي وجد أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا، وقبل أن يأتيهم بتحدٍ. (فعندما جاءه المَلَكُ جبريلُ عليه السلام في غار حراء، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، - أي ضمني وعصرني، والحكمة فيه شغله عن الالتفات ليكون قلبه حاضراً - ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثالثة فغطني ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال لها: زملوني، زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. لكن خديجة رضي الله عنها بحسن استنباطها تقول: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
إن خديجة رضوان الله عليها تستنبط أن من فيه هذه الخصال إنما هو مهيأ للرسالة. {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128].

أي محب لكم يشق عليه ويتعبه ما يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولا بأمته. ويروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمتي، أمتي، أمتي». والحق سبحانه وتعالى يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بأمته. عن عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي..} الآية. وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى. فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك. فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».

إننا عندما نتأمل دقة الجواب النبوي نعرف أن الرسول الكريم مشغول بأمته، ولكنه ينظر إلى نفسه على أنه أخ لكل مؤمن. والأخ قد يتغير على أخيه؛ لذلك لم يشأ الرسول الكريم أن يُخرج أمر المسلمين من يد الله ورحمته وهو الخالق الكريم إلى أمره هو صلى الله عليه وسلم.
إن الرسول يعرف أن الله أرحم بخلقه من أي إنسان، حتى الرسول نفسه. نقول ذلك في معرض حديثنا عن العنت الذي يمكن أن يصاحب الإنسان أن لم يرع حق الله في مال اليتيم؛ لأن الله عزيز حكيم، وهو الحق الذي يغلب ولا يغلبه أحد. ونرى في قول الحق:
{إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أن صفة العزة متآزرة بصفة الحكمة.

وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها أساس أي حركة في الحياة وفي المجتمع، إنها مسألة الزواج. ويريد سبحانه أن يضمن الاستقرار والسعادة للكائن الذين كرمه وجعله خليفة في الأرض، وجعل كل الأجناس مسخرة لخدمته.
إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لأن الأهواء المتضاربة هي التي تفسد حركة الحياة، فأراد أن يصدر المجموع الإنساني كله عن ينبوع عقدي واحد، وأراد أن يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والأهواء، لذلك ينبهنا الحق إلى هذا الموقف. إنه سبحانه يريد سلامة الوعاء الذي سيوجد ذلك الإنسان، من بعد الزواج، فبالزواج ينجب الإنسان وتستمر الحياة بالتكاثر. ولذلك لابد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل. فهو سبحانه يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ...}.


تفسير الشعراوي للآية 220 من سورة البقرة | مصراوى

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
حديث أنس: إنكم تعملون أعمالًا أعينكم الشعر


{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}

إن الحق يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ}، وهذه أول لبنة في بناء الأسرة وبناء المجتمع، لأنها لو لم تكن مؤمنة، فماذا سوف يحدث؟
إنها ستشرف على تربية الطفل الوليد إشرافاً يتناسب مع إشراكها، وأنت مهمتك كأب ومرب لن تتأتى إلا بعد مدة طويلة تكون فيها المسائل قد غُرست في الوليد، فإياك أن يكون الرجل مؤمنا والمرأة مشركة؛ لأن هذا يخل بنظام الأسرة فعمل الأم مع الوليد يؤثر في أوليات تكوينه إنه يؤثر في قيمه، وتكوين أخلاقه. وهذا أمر يبدأ من لحظة أن يرى ويعي، والطفل يقضي سنواته الأولى في حضن أمه، وبعد ذلك يكبر؛ فيكون في حضن أبيه، فإذا كانت الأم مشركة والأب مؤمنا فإن الإيمان لن يلحقه إلا بعد أن يكون الشرك قد أخذ منه وتمكن وتسلط عليه.

ونعرف أن الطفولة في الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في الكائنات كلها، فهناك طفولة تمكث ساعتين اثنتين مثل طفولة الذباب، وهناك طفولة أخرى تستغرق شهراً، وأطول طفولة إنما تكون في الإنسان؛ لأن هذه الطفولة مناسبة للمهمة التي سيقوم بها الإنسان، كل الطفولات التي قبلها طفولات لها مهمة سهلة جدا، إنما الإنسان هو الذي ستأتي منه القيم، لهذا كانت طفولته طويلة؛ إنها تستمر حتى فترة بلوغ الحلم. والحق هو القائل: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59].

فكأن الطفل يظل طفلاً إلى أن يبلغ الحلم، فكم سنة إذن ستمر على الطفل؟. وكم سنة سوف يتغذى هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمه مشركة؟ إنها فترة طويلة لا يمكن له من بعد ذلك أن يكون مؤمنا غير مضطرب الملكات. وإن صلح مثل هذا الإنسان أن يكون مؤمنا فسيقوم إيمانه على القهر والقسر والولاية للأب وسيكون مثل هذا الإيمان عملية شكلية وليست مرتكزة ولا معتمدة على أساس صادق.
ونحن نعرف أن الثمرات التي ننعم نحن بأكلها لا يكون نضجها إلا حين تنضج البذرة التي تتكوّن منها شجرة جديدة، وقبل ذلك تكون مجرد فاكهة فِجة وليس لها طعم. وقد أراد الحق أن ينبهنا إلى هذا الأمر ليحرص الإنسان على أن يستبقى الثمرة إلى أن تنضج ويصير لها بذور.

فواصل متحركة لتزيين المواضيع
إن المرأة لا تكون ثمرة طيبة إلا إذا أنجبت مثلها ولداً صالحا نافعا، يريد الحق للنشء أن يكون غير مضطرب الإيمان؛ لذلك يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} أي إياكم أن تنخدعوا بالمعايير الهابطة النازلة، وعلى كل منكم أن يأخذ حكم الله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} لأن إعجاب الإنسان بالمرأة بصرف النظر عن الإيمان سيكون إعجابا قصير العمر.

إن عمر الاستمتاع بالجمال الحسي للمرأة إن جمعنا لحظاته فلن يزيد مجموعه عن شهر من مجموع سنوات الزواج. فكل أسبوع يتم لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها يذبل الجمال، وتبقى القيم هي المتحكمة، ونحن نجد المرأة حين تتزوج، ثم يبطئ الحمل فإنها تعاني من القلق وكذلك أهلها.

إن الرجل إن كان قد تزوجها للوسامة والقسامة والقوام والعينين، فهذا كله سيبرد ويهدأ بعد فترة، ثم توجد مقاييس أخرى لاستبقاء الحياة، وعندما يلتفت إليها الإنسان ولا يجدها فهو يغرق في الندم؛ لأنها لم تكن في باله وقت أن اختار.
لذلك تريد المرأة أن تُمكن لنفسها بأن يكون عندها ولد لتربط الرجل بها، وحتى يقول المجتمع: (عليك أن تتحملها من أجل الأولاد)! فالرجل بعد الزواج يريد قيماً أخرى غير القيم الحسية التي كانت ناشئة أولاً، لذلك يحذرنا الله قائلاً: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ}.
وجاء قوله {حتى يُؤْمِنَّ} لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ما دامت قد آمنت فقد انتهت المسألة.
 
وانظروا إلى دقة قوله سبحانه:
{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ}
أي إنّ الأمة المسلمة خير من حرة مشركة، {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} لقد جاء قول الحق هنا بمقاييس الإعجاب الحسي. ليلفتنا إلى أننا لا يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة وزائلة.
 
ثم يقول الحق:
(ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)
وهذا هو النظير في الخطاب وهو ليس متقابلا فهو لم يخاطب المؤمنات ألا ينكحن المشركين، إنما قال {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} وتلك دقة في الأداء هنا؛ لأن الرجل له الولاية في أن يُنْكح، فيأمره بقوله: لا تُنكح، لكن المرأة ليس لها ولاية أن تُنكح نفسها. فنحن نعرف القاعدة الشرعية التي تقول: (لا نكاح إلا بولي)، وهو لم يوجه حديثه للنساء؛ لأن المرأة تتحكم فيها عاطفتها لكن وليها ينظر للأمر من مجموعة زوايا أخرى تحكم الموقف.
صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي نضمن أن عاطفتها ليست مصدودة عن هذا الزواج، لكن الأب أو ولي الأمر الرجل يقيس المسائل بمقاييس أخرى، فلو تركنا للفتاة مقياسها لتهدم الزواج بمجرد هدوء العاطفة، وساعة تأتي المقاييس العقلية الأخرى فلن تجد ذلك الزواج مناسباً لها فتفشل الحياة الزوجية.
لذلك يطالبنا الإسلام أن نستشير المرأة، كي لا نأتيها بواحد تكرهه، ولكن الذي يزوجها إلى ذلك الرجل هو وليها؛ لأن له المقاييس العقلية والاجتماعية والخلقية التي قد لا تنظر إليها الفتاة؛
 
فقد يبهرها في الشاب قوامه وحسن شكله وجاذبية حديثه، لكن عندما تدخل المسألة في حركة الحياة ودوامتها قد تجده إنساناً غير جدير بها.
ولكي تكون المسألة مزيجاً من عاطفة بنت، وعقل أب، وخبرة أم، كان لابد من استشارة الفتاة، وأن يستنير الأب برأي الأم، ثم يقول الأب رأيه أخيراً، وكل زواج يأتي بهذا الأسلوب فهو زواج يحالفه التوفيق، لأن المعايير كلها مشتركة، لا يوجد معيار قد اختل؛ فالأب بنى حكما على أساس موافقة الابنة،
أما إذا رفضت الفتاة وكانت معايير الأب صحيحة، لكن الابنة ليس لها تقبل لهذا الرجل؛ لذلك فلا يصح أن يتم هذا الزواج.

فواصل متحركة لتزيين المواضيع
وكثير من الزيجات قد فشلت لأننا لم نجد من يطبق منهج الله في الدخول إلى الزواج. وحين لا يطبقون منهج الله في الدخول إلى الزواج ثم يُقَابَلون بالفشل فهم يصرخون منادين قواعد الإسلام لتنقذهم.

ونقول لهم: وهل دخلتم الزواج على دين الله؟ إنكم مادمتم قد دخلتم الزواج بآرائكم المعزولة عن منهج الله فلتحلوا المسألة بآرائكم. فالدين ليس مسئولاً إلا عمن يدخل بمقاييسه، لكن أن تدخل على الزواج بغير مقاييس الله ثم تريد من الله أو من القائمين على أمر الله أن يحلوا لك المشاكل فذلك ظلم منك لنفسك وللقائمين على أمر الله. وإن لم تحدث مثل هذه المشكلات لكنا قد اتهمنا منهج الله. ولقلنا: قد تركنا منهج الله وسعدنا في حياتنا. ولذلك كان لابد أن تقع المشكلات.

إذن فقول الحق سبحانه وتعالى:
{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ}
هذه قضية لها سبب، لكن العبرة فيها بعموم موضوعها لا بخصوص سببها، لقد كان السبب فيها هو ما روى أنه كان هناك صحابي اسمه مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين. وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها (عناق) وكانت تحبه، وساعة رأته أرادت أن تخلو به فقال لها: ويحك إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت له: تزوجني، فقال لها: أتزوجك لكن بعد أن أستأمر وأستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استأمره نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}.
 
وقيل إن قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل الله ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها.

ويتابع الحق فيقول: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْْ}. إن المقاييس واحدة في اختيار شريك الحياة، إنها الرغبة في بناء الحياة الأسرية على أساس من الخير، وغاية كل شيء هي التي تحدد قيمته، وليست الوسيلة هي التي تحدد قيمة الشيء، فقد تسير في سبيل وطريق خطر وغايته فيها خير، وقد تسير في سبيل مفروش بالورود والرياحين وغايته شر، ولذلك يقول الحق: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
والذين يدعون إلى النار هم أهل الشرك. أما الله فهو يدعو إلى الجنة، والمغفرة تأتي بإذن الله أي بتيسير الله وتوفيقه. ونعرف جميعاً الحكمة التي قالها الإمام (علي) كرم الله وجهه: لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.

وقوله الحق؛
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
ترد كثيراً،
هذا التذكر ماذا يفعل؟
إن التذكر يُشعرك بأن القضية كانت معلومة والغفلة هي التي طرأت، لكن الغفلة إذا تنبهت إليها، فهي تذكرك ما كنت قد نسيته من قبل، لكن إن طالت الغفلة، نُسى الأصل فهذه هي الطامة، التي تنطمس بها المسألة.
إذن فالتذكر يشمل مراحل:
المرحلة الأولى: أن تعرف إن لم تكن تعرف، أو تعلم إن كنت تجهل، والمرحلة الثانية: هي أن تتذكر إن كنت ناسياً، أو توائم بين ما تعلم وبين ما تعمل؛ فالتذكر يوحي لك بأن توائم ما بين معرفتك وسلوكك حتى لا تقع في الجهل، والجهل معناه أن تعلم ما يناقض الحقيقة. لقد أراد الله أن يصون الإنسان الذي اختار الإيمان عندما حرم عليه الزواج بواحدة من أهل الشرك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الأرض عقيدة واحدة يصدر عنها السلوك الإنساني؛ لأن العقائد إن توزعت حسب الأهواء فسيتوزع السلوك حسب الأهواء. وحين يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ولا تتساند.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء اللبنة الأولى للأسرة ألاّ ينكح مؤمن مشركة؛ لأن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل لمدة طويلة هي كما قلنا أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي. ولو كان الأب مؤمناً والأم مشركة فالأب سيكون مشغولاً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الأم معظم القيم التي تتناقض مع الإيمان.

 
وأراد الحق سبحانه وتعالى أيضا ألا تتزوج المؤمنة مشركاً؛ لأنها بحكم زواجها من مشرك ستنتقل إليه وإلى بيئته المشركة وإلى أسرته. وسينشأ طفلها الوليد في بيئة شركية فتتأصل فيه الأشياء القيمية التي تناقض الإيمان. ويريد الحق سبحانه وتعالى بهذه الصيانة، أي بعدم زواج المؤمن من مشركة، وبعدم زواج المؤمنة من مشرك، أن يحمي الحاضن الأول للطفولة. وحين يحمي الحاضن الأول للطفولة يكون الينبوع الأول الذي يصدر عنه تربية عقيدة الطفل ينبوعا واحداً، فلا يتذبذب بين عقائد متعددة.
 
لذلك جاء قول الحق:
{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221].
كل ذلك حتى يصون الحق البيئة التي ينشأ فيها الوليد الجديد.
وعلينا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى رخص للمؤمنين في أن ينكحوا أهل الكتاب بقوله الحق:
{اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5].
وقد وقف العلماء من مسألة ترخيص الحق للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين:
الموقف الأول: هو موقف مانع؛ لأن بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب قد ينحرفون في معتقداتهم إلى ما يجعلهم في الشرك، وقالوا: وهل هناك شرك أكثر من أن تُدعى الربوبية لبشر؟
والموقف الثاني: أجاز بعض العلماء أن يتزوج الإنسان من كتابية ويجب عليه أن يسألها أهي تدين بألوهية أحد من البشر أم تدين بالله الواحد القهار؟ فإن كانت المسألة مجرد الخلاف في الرسول فالأمر يهون، أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من البشر بجانب الله فقد دخلت في الشرك وعلى المؤمن أن يحتاط.

وإذا كان للرجل الولاية وله أن يتزوج بكتابية فهو غالباً ما ينقلها إلى بيئته هو وستكون البيئة المؤثرة واحدة، ووجود الولاية للأب مع الوجود في البيئة الإيمانية سيؤثر ويخفف من تأثير الأم الكتابية على أولادها، وإن كان على الإنسان أن يتيقظ إلى أن هناك مسالك تتطلف وتتسلل ناحية الشرك، فمن الخير أن يبتعد المسلم عن ذلك، وأن يتزوج ويعصم ويعفّ فتاة مسلمة.

 
وحين يحمي الحق سبحانه وتعالى الحضانة الأولى للطفل فهو يريد أن يربي في الطفل عدم التوزع، وعدم التمزق، وعدم التنافر بين ملكاته. وحين نضمن للطفل التواجد والنشأة في بيئة متآلفة فهو ينشأ طفلاً سوياً. والإسلام يريد أن يحافظ على سويَّة هذا الطفل. ويقول بعض الناس: ولماذا لا نوجد محاضن جماعية؟ وكأنهم بذلك يريدون أن يحلوا الإشكال.

نقول لهم: إن الإشكال لم يحل عند الذين فعلوا ذلك من قبلنا، ولذلك فعندما نقرأ مؤلفاتهم مثل كتاب (أطفال بلا أسر) فسنجد أن الطفولة عندهم معذبة. ولماذا نذهب بعيداً؟ إننا عندما نتتبع كيفية النشأة الجماعية للأطفال في إسرائيل فالبحوث العلمية تؤكد على أن الأطفال يعيشون في بؤس رهيب لدرجة أن التبول اللاإرادي ينتشر بينهم حتى سن الشباب.

 
وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل يظل حتى تصل سنه إلى عامين أو أكثر وهو يطلب ألا يشاركه في أمه أحد، حتى وإن كان أخاً له فهو يغار منه فما بالك بأطفال متعددين تقوم امرأة ليست أمهم برعايتهم؟ ولا يغني عن حنان الأم حنان مائة مربية؛ فليس للمربيات جميعاً قلب الأم التي ولدت الطفل، فالحنانُ الذي تعطيه الأم ليس حناناً شكلياً ولا وظيفياً، ولكنه طبيعة حياة خلقها الله لتعطي العطاء الصحيح، لذلك لابد من إعطاء الطفل فترة يشعر فيها بأن أمه التي ولدته له وحده، ولا يشاركه فيها أحد حتى لو كان أخا له، وتمر عليه فترة بعد أن يخرج من مهد الطفولة الأولى إلى الشارع ليجد حركة الحياة، ويجد القائمين على حركة الحياة هم الرجال وآباء أمثاله من الأطفال فيجب بعد ذلك أن ينسب إلى أب له كيان معروف في المجتمع الخارجي.
 
فمن مقومات تكوين الطفل أن يشعر أن له أمّاً لا يشاركه فيها أحد، وأن له أباً لا يشاركه فيه أحد. وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته ويضمهم ويشملهم جميعا حنان الأم ورعاية الأب. لقد اعترف أهل العلم بتربية الأطفال أن احتياج الطفل لأمه هو احتياج هام وأساسي للتربية لمدة عامين وبضعة من الشهور، والحق تبارك وتعالى حين أنزل على رسوله قبل أربعة عشر قرناً من الآن؛ القول الحكيم الصادق بين هذه الحقيقة واضحة في أجلى صورها: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} [الأحقاف: 15].
 
إن الأم هي الحاضنة الطبيعية للطفل كما أرادها الحق. إذن، فالحق يريد أن يحمي اللبنة الأولى في تكوين المجتمع وهي الأسرة في البناء العَقَدي من أن تتأثر بالشرك، ويريد أن يحفظ للأسرة كياناً سليماً.

ويعالج الحق بعد ذلك قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن هذه المسألة لأن الإسلام جاء وفي الجو الاجتماعي تياران: تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة، لذلك لا يمكن للزوج أن يأكل معها أو يسكن معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه. وتيار آخر يرى المرأة في فترة الحيض امرأة عادية لا فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر حياتها الزوجية مع زوجها دون تحوط أو تحفظ. كان الحال إذن متأرجحا بين الإفراط والتفريط، فجاء الإسلام ليضع حداً لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض...}.

نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 221 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

دانلود عکس بسم الله الرحمن الرحيم رنگی زیبا با کیفیت بالا


{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}

حين تقرأ {هُوَ أَذًى} فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الأحكام، ولا تناقش المسألة، مهما قال الطب من تفسيرات وتعليلات وأسباب نقل له: لا، الذي خلق قال: {هُوَ أَذًى}. والمحيض يطلق على الدم، ويراد به أيضاً مكان الحيض، ويراد به زمان الحيض.
وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لأن يتلقى حكما في هذا الأذى، وبذلك يستعد الذهن للخطر الذي سيأتي به الحكم. وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته.

 
إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب. وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لأن المحيض أذى لهم. لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لأن الآية أطلقت الأذى، ولم تحدد من المقصود به. والذي يدل على ذلك أن الحيض يعطي قذارة للرجل في مكان حساس هو موضوع الإنزال عنده، فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة.
 
والذي يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه وتعالى من البويضات، وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد لا يتم تلقيح البويضة، فإن بطانة الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التي كانت تثبت بطانة الرحم، وعندما تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض.
 
والحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية، وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيج، لأن منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة للالتهابات سواء للمرأة، أو للرجل إن جامع زوجته في فترة الحيض. والحيض يصيب المرأة بأذى في قوتها وجسدها؛ بدليل أن الله رخص لها ألاّ تصوم وألاّ تصلي إذن فالمسألة منهكة ومتعبة لها، فلا يجوز أن يرهقها الرجل بأكثر مما هي عليه.
 
إذن فقوله تعالى:
{هُوَ أَذًى}
تعميم بأن الأذى يصيب الرجل والمرأة. وبعد ذلك بين الحق أن كلمة (أذى) حيثية تتطلب حكما يرد، إما بالإباحة وإما بالحظر، وما دام هو أذى فلابد أن يكون حظراً.
 
يقول عز وجل:
{فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ}
والذي يقول: إن المحيض هو مكان الحيض يبني قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية، لكن ما فوق السرة وما فوق الملابس فهو مباح، فقوله الحق: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي لا تأتوهن في المكان الذي يأتي منه الأذى وهو دم الحيض. {حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}. و(يطهرن) من الطهور مصدر طهر يطهر،
 
وعندما نتأمل قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} نجد أنه لم يقل: (فإذا طهرن)،
فما الفرق بين (طهر) و(تطهر)؟
إنّ (يطهرن) معناها امتنع عنهن الحيض، و(تطهرن) يعني اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ خلاف بين العلماء، هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته، أم لابد من الانتظار حتى تتطهر المرأة بالاغتسال؟.
وخروجا من الخلاف نقول: إن قوله الحق: (تطهرن) يعني اغتسلن فلا مباشرة قبل الاغتسال.
 
ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر في استنباط الحكم،
ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 77-79].
ما المقصود إذن؟
هل المقصود أن القرآن لا يمسكه إلا الملائكة الذين طهرهم الله من الخبث، أو أن للبشر أيضا حق الإمساك بالمصحف لأنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال: إن المسألة لابد أن ندخلها في عموم الطهارة، فيكون معنى {إِلاَّ المطهرون} أي الذين طهرهم من شرع لهم التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث له أمران: التطهر والطهر.
فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الاغتسال، والطهر بتشريع الله، فكما أن الله طهر الملائكة أصلا فقد طهرنا معشر الإنس تشريعا، وبذلك نفهم الآية على إطلاقها ونرفع الخلاف. وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {حتى يَطْهُرْنَ} أي حتى يأذن الله لهن بالطهر، ثم يغتسلن استجابة لتشريع الله لهن بالتطهر.
 
{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}
يعني في الأماكن الحلال.

{إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين}
وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا، فكما أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضاً منك أن تتطهر معنويا بالتوبة، لذلك جاء بالأمر حسيا ومعنويا. وبعد ذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد، هذا الحكم ينهي إشكالا أثاره اليهود.
وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو في قُبلها بضم القاف جاء الولد أحول. (القُبل) هو مكان الإتيان، وليس معناه الإتيان في الدبر والعياذ بالله كما كان يفعل قوم لوط. ولّما كان هذا الإشكال الذي أثاره اليهود لا أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد على هذه المسألة فقال: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله...}.


تفسير الشعراوي الآية 222 من سورة البقرة | مصراوى
.


{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}

إن الحق سبحانه وتعالى يفسح المجال للتمتع للرجل والمرأة على أي وجه من الأوجه شريطة أن يتم الإتيان في محل الإنبات. وقد جاء الحق بكلمة {حَرْثٌ} هنا ليوضح أن الحرث يكون في مكان الإنبات. {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} وما هو الحرث؟ الحرث مكان استنبات النبات، وقد قال تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} [البقرة: 205].
فأتوا المرأة في مكان الزرع، زرع الولد، أما المكان الذي لا ينبت منه الولد فلا تقربوه.
 
وبعض الناس فهموا خطأ أن قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} معناه إتيان المرأة في أي مكان، وذلك خطأ؛ لأن قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} يعني محل استنبات الزرع، والزرع بالنسبة للمرأة والرجل هو الولد، فأتها في المكان الذي ينجب الولد على أي جهة شئت.

ويتابع الحق:
{وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ}
أي إياك أن تأخذ المسألة على أنها استمتاع جنسي فحسب، إنما يريد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللذة الجنسية أن يحمي متاعب ما ينشأ من هذه اللذة؛ لأن الذرية التي ستأتي من أثر اللقاء الجنسي سيكون لها متاعب وتكاليف، فلو لم يربطها الله سبحانه وتعالى بهذه اللذة لزهد الناس في الجماع.
 
ومن هنا يربط الحق سبحانه وتعالى بين كدح الآباء وشقائهم في تربية أولادهم بلذة الشهوة الجنسية حتى يضمن بقاء النوع الإنساني. ومع هذا يحذرنا الحق أن نعتبر هذه اللذة الجنسية هي الأصل في إتيان النساء فقال: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ}، يعني انظروا جيداً إلى هذه المسألة على ألا تكون هي الغاية، بل هي وسيلة، فلا تقلبوا الوسيلة إلى الغاية،
 
{وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ}
أي ادخروا لأنفسكم شيئاً ينفعكم في الأيام المقبلة.
إذن فالأصل في العملية الجنسية الإنجاب. {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي لا تأخذوا المتاع اللحظي العاجل على أنه هو الغاية بل خذوه لما هو آت. وكيف نقدم لأنفسنا أو ماذا نفعل؟ حتى لا نشقى بمَنْ يأتي، وعليك أن تتبين هذه العملية فقدم لنفسك شيئاً يريحك، وافعل ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ساعة تأتي هذه النعمة وتقترب من زوجتك لابد أن تسمي الله ويقول: (اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني)، وعندما يأتي المسلم أهله وينشأ وليده فلن يكون للشيطان عليه دخل. وقال بعض العلماء: لا يمكن أن يؤثر فيه سحر، لماذا كل ذلك؟.
لأنك ساعة استنبته أي زرعته، ذكرت المُنْبِتَ وهو الله عز وجل. وما دمت ذكرت المنبت الخالق فقد جعلت لابنك حصانة أبدية. وعلى عكس ذلك ينشأ الطفل الذي ينسى والده الله عندما يباشر أهله فيقع أولاده فريسة للشياطين.
{وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي قدموا لها ما يريحكم وما يطيل أمد حياتكم وأعمالكم في الحياة؛ لأنك عندما تقبل على المسألة بنية إنجاب الولد، وتذكر الله وتستعيذ من الشيطان فينعم عليك الخالق بالولد الصالح، هذا الولد يدعو لك، ويعلم أولاده أن يدعوا لك، وأولاده يدعون لك، وتظل المسألة مسلسلة فلا ينقطع عملك إلى أن تقوم الساعة، وهنا تكون قدمت لنفسك أفضل ما يكون التقديم.

 
وهب أنك رُزقت المولود ثم مات ففجعت به واسترجعت واحتسبته عند ربك، إنك تكون قد قدمته، ليغلق عليك بابا من أبواب النيران. إذن فكل أمر لابد أن تذكر فيه {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ}.
 
ويقول الحق:
{واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين}
معنى {اتقوا الله} أي إياكم أن تغضبوا ربكم في أي عمل من هذه الأعمال، وكن أيها المسلم في هذه التقوى على يقين من أنك ملاقي الله، ولا تشك في هذا اللقاء أبداً. وما دمت ستتقي الله وتكون على يقين أنك تلاقيه لم يبقى لك إلا أن تُبَشَّر بالجنة. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ...}.



تفسير الشعراوي للآية 223 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
2Q4soa48h_QrPhCT261aCKVz_zzDnB20PANQCWo_

تفسير الآية رقم (224):

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}

وفي الآية ثلاثة أشياء:

أولا: أن تبروا، أي أن تفعلوا البر. والبر قد يكرهه الإنسان لأنه شاق على النفس.
ثانيا: أن تتقوا، أي أن تتجنبوا المعاصي، والتقوى تكون أيضا شاقة في بعض الأحيان.
ثالثا: أن تصلحوا بين الناس، أي أن تصلحوا ذات البيْن، وقد يكون في الإصلاح بين الناس مئونة وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا الله عرضة للقسم.


2650100672_1_15_xexbpspa.gif


وحين يقول الحق:
{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}
فالعرضة هي الحجاب، وهي ما يعترض بين شيئين، {عُرْضَةً} هي أيضا الأمر الصالح لكل شيء، فيقال: (فلان عرضة لكل المهمات). أي صالح. والعرضة كما عرفنا هي ما اعترض بين شيئين، كأن يضع الإنسان يده على عينيه فلا يرى الضوء، هنا تكون اليد (عُرْضة) بين عيني الإنسان والشمس إن الإنسان يحجب بذلك عن نفسه الضوء.
كأن الحق يقول: (أنا لا أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين الإنسان وفعل الخير والبر والتقوى). فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول: (أنا أقسمت ألا أبر هذا الإنسان) إنك بذلك جعلت اليمين بالله مانعاً بينك وبين البر.


ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به لا يجوز في منع البر أو صلة الرحم أو إصلاح بين الناس..

ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن يمينه لماذا؟

لأن المؤمن عندما يحلف على ألا يفعل خيراً فهو يضع الله مانعاً بينه وبين الخير، وبذلك يكون قد ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بالله. إن الله هو صاحب الأمر بالبر والتقوى والإصلاح بين الناس. لذلك فالحق يقول: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}. أي أن الحق يريد أن يحمي عمليات البر والتقوى والإصلاح بين الناس.

إنك إن حلفت أيها المؤمن ألا تفعل هذه العمليات، فالحق يريد لك أن تحنث في هذا القسم وأن تفعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس حتى لا تتناقض مع تشريع الله. ونحن عندما نجد المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر، واتقى فيه كل إنسان المعاصي، ورأى فيه كل إنسان نزاعاً بين جماعتين فأصلح هذا النزاع، أليس هذا دخولا في السلم كافة. إذن فالحق يريد أن يستبقى للناس ينابيع الخير وألا يسدوها أمام أنفسهم.
إن الحق هو الآمر بألا يجعل المؤمن اليمين مانعاً بين الإنسان والبر، أو بين الإنسان والتقوى، أو بين الإنسان والإصلاح بين الناس. ويتساهل الإسلام في مسألة التراجع والحنث في البر فيقول السلف الصالح: (لا حنث خير من البر).


إذن فالمجتمع الذي فيه صنع البر، وتقوى المعاصي، والصلح بين المتخاصمين يدخل في إطار: {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} [البقرة: 208].
والإنسان قد يتعلل بأي سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الإصلاح بين الناس، بل يعمل شيئاً يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لأمر الله،


2650100672_1_15_xexbpspa.gif

ولنضرب لذلك مثلا.

سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا في الإفك الذي اتهموا فيه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها.

وخلاصة الأمر أن عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت قد خرجت مع الرسول الكريم في غزوة (بني المصطلق) وكان الأمر بالحجاب قد نزل لذلك خرجت عائشة رضي الله عنها في هودج.
وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة. وفقدت عائشة عقداً لها. وكانت رضي الله عنها خفيفة الوزن؛ لأن الطعام في تلك الأيام كان قليلا. راحت عائشة رضي الله عنها تبحث عن عقدها المفقود، وعندما حملوا هودج عائشة رضي الله عنها لم يفطنوا أن عائشة ليست به. ووجدت عائشة عقدها المفقود، وكان جيش رسول الله قد ابتعد عنها. وظنت أنهم سيفتقدونها فيرجعون إليها. وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمي وعرفته عائشة وأناخ راحلته وعادت عائشة إلى المدينة. ودار حديث الإفك بوساطة عبد الله بن أبَيّ بن سلول رأس النفاق.
وكان الغم والحزن يصيبان السيدة عائشة طوال مدة كبيرة وأوضح الحق كذب هذا الحديث. وذاع ما ذاع عن أم المؤمنين عائشة وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون بنت أبي بكر. وأبو بكر صديِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن غير عائشة حدث لها ما حدث لعائشة لكان موقف أبي بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة واشترك في حديث الإفك مع من اشتركوا ثم يبرئ الله عائشة وينزل القول الذي يثبت براءة أم المؤمنين في حديث الإفك،

وحين يبرئها الله يأتي أبو بكر وكان ينفق على مسطح فيقطع عنه النفقة ويقول: (والله لا أنفق عليه أبداً) لماذا؟
لأنه اشترك في حديث الإفك. والمسألة في ظاهرها ورع.
لذلك سيمتنع عن النفقة على مسطح بن أثاثة لأن مسطحاً خاض في الإفك. لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال والفضائل عند الله فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر،

فيقول سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].
فإذا كنت تحب أن يغفر الله لك، أفلا تغفر لمن فعل معك سيئة؟.

وما دمت تريد أن يغفر الله لك فاغفر للناس خطأهم.
قالها الحق عز وجل لأبي بكر؛ لأنه وقف موقفاً من رجل خاض في الإفك مع من خاض ومع ذلك يبلغه أن ذلك لا يصح.

قوله تعالى:
{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ}
لا تقل: إني حلفت بالله على ألا افعل ذلك الخير، لا افعله فالله يرضى لك أن تحنث وتكفر عن يمينك.

{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

إن الله عز وجل يبلغنا: أنا لا أريد أن تجعلوا الحلف بي عرضة، يعني حاجزاً أو مانعاً عن فعل الخير. مثلاً لو طُلب منك أن تبر شخصاً أساء إليك فلا تقل: حلفت ألا أبر به لأنه لا يستحق، عندها تكون قد جعلت اليمين بالله مانعاً للبر. وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك: لا، أنا متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت ألا تبر أو لا تتقي أو لا تصل رحماً أو لا تصلح بين اثنيْن، أنا تسامحت في اليمين.

والحديث يقول: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) وهكذا يحمي الله سبحانه وتعالى فعل البر ويحمي التقوى ويحمي عمليات الإصلاح بين الناس، ولو كنت قد حلفت بالله ألا تفعلها، لماذا؟ لأنك عندما تحلف بالله ألا تفعل، وتجعل الله سبحانه وتعالى هو المانع، فقد ناقضت التشريع نفسه؛ لأن الله هو الآمر بالبر والإصلاح والتقوى، فلا تجعل يمين البشر مانعاً من تنفيذ منهج رب البشر.

{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس}

إن حلفت على ترك واجب وجب أن ترجع في اليمين. احنث فيه وكفر عنه، والحكم نفسه يسري على الذي يمنع ممتلكاته كالدابة أو الماكينة أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف ألا يعيرها لأحد، وذلك أمر يحدث كثيراً في الأرياف.

2650100672_1_15_xexbpspa.gif



ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم:
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
إنه سبحانه سميع باليمين الذي حلفته، وعليم بنيتك إن كانت خيراً أو شراً فلا تتخذ اليمين حجة لأن تمنع البر والتقوى والإصلاح. والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن اليمين يعطينا أصلاً من أصول اعتبار اليمين هل هو يمين حقا أو لغو،

ومن رحمة الله أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إلا اليمين الذي عقد القلب عليه، أي الذي يقصد صاحبه ألا يحنث فيه، أما لغو اليمين فقد تجاوز الله عنه.

مثلاً، الأيمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم: (والله لو لم تفعل كذا لفعلت معك كذا)، (والله سأزورك)، (والله ما كان قصدي) أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك: (والله حدث هذا) وأنت غير متأكد من تمام حدوثه، لكن ليس في مقصدك الكذب.

أما اليمين الغموس فهي الحلف والقسم الذي تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف، كأن تكون قد شاهدت واحداً يسرق أو يقتل وتحلف بالله أنه لم يسرق أو لم يقتل. من أجل ذلك كله يحسم الله سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ...}.

2015_5_12_14_4_6_598.jpg

تفسير الآية رقم (225):


{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}


وكان من المناسب أن تأتي هذه الآية كل ما سبق لأنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي لا تقع وكأنه قال لنا: ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، فإذا كان قد قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلأن له مقابلا في فعل الخير. وقوله الحق: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو المعنى نفسه لقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89].

أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك، لكن الشيء الذي يمر على اللسان فلا يؤاخذنا الله به.

2650100672_1_15_xexbpspa.gif


{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}

والأيمان جمع يمين، واليمين: هو الحلف أو القسم، وسمى يميناً؛ لأنهم كانوا قديماً إذا تحالفوا صرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، وذلك لأن اليمين هو الجارحة الفاعلة.

وبالمناسبة، فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب، وإنما تفعل بالخلق أي كما خلقها الله، فهي مجبرة على الفعل حسب خلقتها.


ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى لا تعمل ويزاول أعماله باليسرى فلا تحاول أن تجعله يستخدم اليمنى بدلا من اليسرى؛ لأن محاولتك عبث لن يجدي؛ لأن السبب في أنه يستخدم اليسرى بدلا من اليمنى سبب خلقي، فالجهاز الخاص بالتحكم في الحركة في المخ هو الذي يقر هذا الأمر: إن كان مخلوقا في النصف الأيمن من المخ كانت اليد اليمنى هي الفاعلة، وإن كان مخلوقا في النصف الأيسر من المخ فاليد اليسرى هي التي تعمل.
لذلك تجد الذي يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذي يكتب باليمنى في بعض الأحيان، ومن هنا نقول: إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذي يعمل بيده اليسرى بدلاً من اليمنى؛ لأن ذلك عبث لن يصل لنتيجة.
وأحيانا تجد الجهاز المتحكم في حركة اليدين موجوداً في منتصف ووسط المخ فيرسل حركات متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معاً، ولذلك تجد شخصاً يكتب بيده اليمنى واليسرى معاً بالسرعة نفسها وبالإتقان نفسه، ويؤدي بها الأعمال بتلقائية عادية، ولله في خلقه شئون، فهو يعطينا الدليل على أنه لا تحكمه قواعد، فهو قادر على أن يجعل اليد اليمنى تعمل، وقادر على أن يجعل اليد اليسرى تعمل، أو يجعلهما يعملان معاً بالقوة نفسها، أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين للعمل. إنها ليست عملية آلية خارجة عن إرادة لله، بل كل شيء خاضع لإرادته سبحانه.


2650100672_1_15_xexbpspa.gif



{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}
المقصود به الحلف، والحلف من معانيه التقوية، وهي مأخوذة من الحِلْف، وهو أن يتحالف الناس على عمل ما. ونحن عندما نتحالف على عمل فنحن نقسِّم العمل بيننا، وعندما نفعل ذلك يسهل علينا جميعاً أن نفعله.

{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}
والكسب عملية إرادية. لأنك ساعة تقسم بالله دون أن تقصد فهو لا يؤاخذك، وهذا دليل على أن الله واسع حليم. ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

2015_5_12_14_8_8_783.jpg
 
تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
بنام خداوند بخشنده مهربان - ویسگون


.تفسير الآية رقم (226):

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}

 
يؤلون:
أي يحلفون ألا يقربوا أزواجهن في العملية المخصوصة، ويريد الرجل أحيانا أن يؤدب زوجته فيهجرها في الفراش بلا يمين، وبدون أن يحلف. وبعض الناس لا يستطيعون أن يمتنعوا عن نسائهم من تلقاء أنفسهم، فيحلفون ألا يقربوهن حتى يكون اليمين مانعا ومشجعا له على ذلك. وكان هذا الأمر مألوفا عند العرب قبل الإسلام.
كان الرجل يمتنع عن معاشرة زوجته في الفراش أي فترة من الزمن يريدها، وبعضهم كان يحلف ألا يقرب زوجته زمنا محدداً، وقبل أن ينتهي هذا الزمن يحلف يمينا آخر ليزيد المدة فترة أخرى، وهكذا حتى أصبحت المسألة عملية إذلال للمرأة، وإعضالا لها، وامتناعا عن أداء حقها في المعاشرة الزوجية. وكان ذلك إهداراً لحق الزوجة في الاستمتاع بزوجها.

 
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينهي هذه المسألة، وهو سبحانه لا ينهيها لحساب طرف على طرف، وإنما بعدل الخالق الحكيم الرحيم بعباده. وكان من الممكن أن يجرمها ويحرمها نهائيا ويمنع الناس منها. لكنه سبحانه عليم بخفايا وطبيعة النفوس البشرية، فقد ترى امرأة أن تستغل إقبال الرجل عليها، إما لجمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل، فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعطى الله للرجل الحق في أن يمتنع عن زوجته أربعة أشهر، أما أكثر من ذلك فالمرأة لا تطيق أن يمتنع زوجها عنها.
 
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
والإسلام يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي لا على أفكار مجنحة ومجحفة لا تثبت أمام الواقع، فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن لا يهدمها، ويعترف بالغرائز فلا يكتمها ولكن يضبطها.
 
وهناك فرق بين الضبط والكبت؛
فإن الكبت يترك الفرصة للداء ليستشري خفيا حتى يتفجر في نوازع النفس الإنسانية تفجرا على غير ميعاد وبدون احتياط، لكن الانضباط يعترف بالغريزة ويعترف بالميول، ويحاول فقط أن يهديها ولا يهدمها. ويخضع البشر في كل أعمالهم لهذه النظرية حتى في صناعتهم، فالذين يصنعون المراجل البخارية مثلا يجعلون في تلك المراجل التي يمكن أن يضغط فيها الغاز ضغطا فيفجرها يجعلون لها متنفسا حتى يمكن أن يخفف الضغط الزائد إن وجُد، وقد يصممون داخلها نظاما آليا لا يتدخل فيه العقل بل تحكم الآلة نفسها.
 

فواصل مواضيع متحركة روووعه ،فواصل مواضيع - بياض الثلج
والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما واضحا في خلقه الذين خلقهم، وشرع لهم تكوين الأسرة على أساس سليم. وبنى الإسلام هذا النظام أولا على سلامة العقيدة ونصاعتها ووحدتها حتى لا تتوزع المؤثرات في مكونات الأسرة، لذلك منع المسلم من أن يتزوج من مشركة، وحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا. وبعد ذلك علمنا معنى الالتقاء الغريزي بين الزوجين. ولقد أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يطلق العنان للغريزة في كل زمان التواجد الزوجي، فجعل المحيض فترة يحرم فيها الجماع وقال: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} [البقرة: 222].

وهكذا يضبط الحق العلاقة الجنسية بين الزوجين ضبطا سليما نظيفا.
الحق سبحانه وتعالى يعلم أن النفس البشرية ذات أغيار؛ لأن الإنسان حادث له بداية ونهاية، وكل ما يكون حادثا لابد أن يطرأ عليه تغيير. فإذا ما التقى الرجل بالمرأة. كان لابد من أن يتحدد هذا اللقاء على ضوء من منهج الله؛ لأن اللقاء إن تم على منهج البشر وعواطفهم كان المصير إلى الفشل؛ لأن مناهج البشر متغيرة وموقوتة، ولذلك يجب أن يكون لقاء الرجل بالمرأة على ضوء معايير الله.

 
فالله يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات، ومن الجائز جدا أن يحدث خلاف بين الزوجين، فيجعل الله سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والإبقاء، فشرع للرجل إن رأى في امرأته إذلالا له بجمالها وبحسنها، وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في هذه العملية؛ لذلك شرع الله له فترة من الفترات أن يحلف ألا يقرب امرأته، ولم يجعل الله تلك الفترة مطلقة، إنما قيدها بالحلف حتى يكون الأمر مضبوطا.

فالحق يريد العلاج لا القسوة. فلو لم يكن الرجل مضبوطا بيمين فقد يُغير رأيه بأن يأتي زوجته، ولذلك قال الحق: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي إنّ لك أيها الزوج أن تحلف ألا تقرب زوجتك أربعة أشهر لكن إن زادت المدة على أربعة أشهر فهي لن تكون تأديبا بل إضرارا. والخالق عز وجل يريد أن يؤدب لا أن يضر. فإذا ما تجاوزت المدة يكون الزوج متعديا ولا حق له.
 
إن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الميول والعواطف والغرائز ويقنن لها التقنين السليم. إنه عز وجل يترك لنا ما يدلنا على ذلك، ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يمر عمر في جوف الليل فيسمع امرأة تقول الأبيات المشهورة:
تطاول هذه الليل وأسود جانبه ** وأرقني إلا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه ** لزلزل من هذا السرير جوانبه

معنى ذلك أن المرأة تعاني من الوحشة إلى الرجل، وتوشك المعاناة أن تدفعها إلى سلوك غير قويم، لكن تقوى الله هي التي تمنعها من الانحراف. ومن الجائز أن نتساءل كيف سمع عمر هذه المرأة وهو يسير في الشارع، وأقول: إن المرأة تأتي عندها هذه الأحاسيس تترنم في سكون الليل، وعندما يسكن الليل لا تكون فيه ضجة فيسهل سماع ما يقال داخل البيوت، ألم يسمع عمر كلام المرأة التي تجادل ابنتها في غش اللبن؟

 
ولما سمع الفاروق كلام هذه المرأة التي تعاني من وحشة إلى الرجل، ذهب بفطرته السليمة وأَلمعيَّته المشرقة إلى ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقال لها: كم تصبر المرأة على بعد الرجل، فقالت: من ستة شهور إلى أربعة أشهر.
فسن عمر سنةً أصبحت دستورا فيما بعد،
وهي ألا يبعد جندي من جنود المسلمين عن أهله أربعة أشهر. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} سبق حادثة عمر، ثم ترك الحق لواقع الحياة أن يبين لنا صدق ما قننه لنا، ويأتي عمر ليستنبط الحكم من واقع الحياة.

{فَإِنْ فَآءُو}
أي فإن رجع الرجل، وأراد أن يقترب من زوجته قبل مضي الأربعة أشهر؛ فللرجل أن يكفر عن يمينه وتنتهي المسألة. ولكن إذا مرت الشهور الأربعة وتجاوزت المقاطعة مدتها يؤمر الزوج بالرجوع عن اليمين أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج طلقها الحاكم،
وقال بعض الفقهاء: إنّ مضي مدة الأربعة أشهر دون أن يرجع ويفئ يجعلها مطلقة طلقة واحدة بائنة.
ولذلك يقول الحق:
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}



حصري لمنتدى عيون مصر 2019 _سكرابز فواصل ورد روعة 2020 , سكرابز فواصل ورد  للفوتوشوب - منتدى عيون مصر
 
.تفسير الآية رقم (227):

{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}

 
واختلف العلماء؛ هل تطلق الزوجة طلقة بائنة أو طلقة رجعية؟
ومعنى (طلاق رجعي) مأخوذ من اللفظ نفسه، أي أن الزوج له الحق أن يراجع امرأته دون إذن منها أو رضاً. أما الطلاق البائن فإنه لا عودة إلا إذا عَقَد عليها عقدا جديداً بمهر جديد.
 
والطلقة في الإيلاء بينونة صغرى وهي التي تحتاج إلى عقد ومهر جديدين، هذا إذا لم يسبق طلاقان. والبينونة الكبرى وهي التي توصف بأنها ذات الثلاث، فالزوجة فيها تطلق ثلاث مرات، فلا يصح أن يعيدها الزوج إلا إذا تزوجت زوجا غيره، وعاشت معه حياة زوجية كاملة، ثم طلقها لأي سبب من الأسباب، وبعد ذلك يحق لزوجها القديم أن يراجعها ويعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، لكن بعد أن يكتوي بغيرة زواجها من رجل آخر.
 
والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المسألة فيقول:
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226-227].
فالإسلام دين واقعي يعطي الزوج المسلم أشياء تنفس عن غضبه، وأشياء تمكنه من أن يؤدب زوجته، ولكن الإسلام لا يحب أن يتمادى الرجل في التأديب. وإذا تمادى وتجاوز الأربعة الأشهر نقول له: لابد أن يوجد حد فاصل.


فواصل مواضيع متحركة روووعه ،فواصل مواضيع - بياض الثلج
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه وتعالى في التكليف إلى أن يتكلم عن الطلاق وقد تكلم من قبل عن الزواج والإيلاء حتى وصل الطلاق.
وعندما نتأمل موقف الإسلام من الطلاق نجده يتكلم كلاماً واقعياً يناسب الميول الإنسانية؛ لأننا ما دمنا أغياراً فمن الممكن أن يطرأ على حياة الزوجين أحداث أو مشاعر لم تكن في الحسبان ساعة الزواج. ويجوز أن يكون الإنسان في ساعة الزواج مدفوعا بحرارة ملكة واحدة، وبعد ذلك عندما يجئ واقع الحياة تتملكه ملكات متعددة، وقد تسيطر عليه المسألة الجنسية، وتدفعه للزواج، وفي سبيل إرضاء شهوته الجنسية قد يهمل بقية ملكات نفسه، فإذا ما دخل واقع الزواج وهدأت شِرّة وحرارة غرائز الإنسان تتنبه نفس الإنسان إلى مقاييس أخرى يريد أن يراها في زوجته فلا يجدها ويتساءل ما الذي أخفاها عنه؟
أخفاها سعار وعرامة النظرة الجنسية، فقد نظر للمرأة قبل الزواج من زاوية واحدة، ولم ينظر لباقي الجوانب. مثلا قد يجد الزوج أن أخلاق الزوجة تتنافر مع أخلاقه، وقد يجد تفكيرها وثقافتها تتنافر مع تفكيره وثقافته، وربما وجد عدم التوافق العاطفي بينه وبينها ولم يحدث تآلف نفسي بينهما، والعواطف كما نعلم ليس لها قوانين.

 
فمن الجائز أن يكون الرجل غير قادر على الاكتفاء بوليمة جنسية واحدة، فهو لذلك لا يبني حياته على طهر، وإنما يريد من امرأته أن تكون طاهرة عفيفة في حياتها معه، بينما يعطي لنفسه الحرية في أن يعدد ولائمه الجنسية مع أكثر من امرأة، وربما يحدث العكس، وذلك أن يجد الرجل أنّ امرأة واحدة تكفيه، لكن المرأة تريد أكثر من رجل.
 
وقد يكون الرجل طاهر الأسلوب في الحياة، وتكون زوجته راغبة في أن يأتيها بالمال من أي طريق، فيختلفان. وقد تكون المرأة طاهرة الأسلوب في الحياة فلا ترضى أن يتكسب زوجها من مال حرام.
من هنا يأتي الشقاق، إن الشقاق يأتي عندما يريد أحد الزوجين أن تكون حياتهما نظيفة طاهرة، مستقيمة، ولا يرى الآخر ذلك. مثل هذه الصورة موجودة في الواقع حولنا، فكم من بيوت تشقى عندما تختفي الوحدة الأسرية، وتختلف نظرة أحد الزوجين للأمور عن الآخر.

 
وهذا هو سبب الشقاق الذي يحدث بين الزوجين عندما لا يكتفي أحد الزوجين بصاحبه. ولو اتفق رجل وامرأته على العفاف، والطهر، والخيرية لاستقامت أمور حياتهما. ولذلك يأتي الإسلام بتشريعاته السامية لتناسب كل ظروف الحياة فيقول الحق سبحانه: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ...}.

نداء الايمان

تفسير سورة البقرة - الآيات رقم 226-227 للشيخ الشعراوي - YouTube

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك


 

bismillahir-rahmanir-raheem-pictures-6.j


{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.. [البقرة : 228].


الآية كلها تتضمن أحكاماً تكليفية، والحكم التكليفي الأول هو: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} ولنا أن نلحظ أن الحكم لم يرد بصيغة الأمر ولكن جاء في صيغة الخبر، فقال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء}، وحين يريد الحق سبحانه وتعالى حكماً لازماً لا يأتي له بصيغة الأمر الإنشائي، ولكن يأتي له بصيغة الخبر،
هذا آكد وأوثق للأمر كيف؟


معنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالأمر يصادف من المؤمنين به امتثالاً، ويُطبق الامتثال في كل الجزئيات حتى لا تشذ عنه حالة من الحالات فصار واقعا يُحكى وليس تكليفا يُطلب، وما دام قد أصبح الأمر واقعا يُحكي فكأن المسألة أصبحت تاريخا يُروى هو: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء}.

ويجوز أن نأخذ الآية على معنى آخر هو أن الله قد قال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فيكون كلاماً خبرياً.


وقلنا إن الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب، إن الله قد قال ذلك فمن أراد أن يصدق كلام الله فلينفذ الحكم، ومن أراد أن يبارز الله بالتكذيب ولا يصدقه فلا ينفذ الحكم، ويرى في نفسه آية عدم التصديق وهي الخسران المبين، أليس ذلك أكثر إلزاما من غيره؟


ومثل ذلك قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}..[النور: 26].
إن هذا وإن كان كلاما خبريا لكنه تشريع إنشائي يحتمل أن تطيع وأن تعصي ولكن الله يطلب منا أن تكون القضية هكذا {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} يعني أن ربكم يريد أن تكون {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} وأن تكون {الطيبات لِلطَّيِّبِينَ} وليس معنى ذلك أن الواقع لابد أن يكون كما جاء في الآية، إنما الواقع يكون كذلك لو نفذنا كلام الله وسيختلف إذا عصينا الله وتمردنا على شرعه. والمعنى نفسه في قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}.. [آل عمران: 97].


أي اجعلوا من يدخل البيت الحرام آمناً. ويحتمل أن يعصي أحد الله فلا يجعل البيت الحرام آمناً. إذن فقوله الحق: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} هو حكم تكليفي يستحق النفاذ لمن يؤمن بالله، وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} أي ينتظرن، واللفظ هنا يناسب المقام تماما، فالمتربصة هي المطلقة، ومعنى مطلقة أنها مزهود فيها، وتتربص انتهاء عدتها حتى ترد اعتبارها بصلاحيتها للزواج من زوج آخر. ولم ينته القول الكريم بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} وإنما قال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} مع أن المتربصة هي نفسها المطلقة؛ ذلك لأن النفس الواعية المكلفة والنفس الأمارة بالسوء تكونان في صراع على الوقت وهو {ثَلاَثَةَ قرواء}، (وقروء) جمع (قرء) وهو إما الحيضة وإما الطهر الذي بين الحيضتين.


وقوله الحق سبحانه وتعالى:{ثَلاَثَةَ قرواء}
وما المقصود به؟
هل هو الحيضة أو الطهر؟

إن المقصود به الطهر، لأنه قال: (ثلاثة) بالتاء، ونحن نعرف أن التاء تأتي مع المذكر، ولا تأتي مع المؤنث، و(الحيضة) مؤنثة و(الطهر) مذكر، إذن، {ثَلاَثَةَ قرواء} هي ثلاثة أطهار متواليات.
والعلة هي استبراء الرحم وإعطاء مهلة للزوجين في أن يراجعا نفسيهما، فربما بعد الطهر الأول أو الثاني يشتاق أحدهما للآخر، فتعود المسائل لما كانت عليه، لكن إذا مرت ثلاثة أطهار فلا أمل ولا رجاء في الرجوع.




13601051568.gif&key=4d907ff0fa8621cf7df4



ثم يقول الحق بعد ذلك:
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ}
وما معنى الخلق؟

الخلق هو إيجاد شيء كان معدوماً، وهذا الشيء الذي كان معدوما إما أن يكون حملاً وإما أن يكون حيضا، وللحامل عدة جاءت في قوله الحق. {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.. [الطلاق: 4].
أما المرأة الحائل وهي التي بدون حمل، فعدتها أن تحيض وتطهر ثلاث مرات وهناك حالة ثالثة هي: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ}.. [الطلاق: 4].
أي أن المرأة التي انقطعت عنها الدورة الشهرية فعدتها (ثلاثة أشهر) الحكم نفسه للصغيرة التي لم تحض بعد، أي عدتها ثلاثة أشهر. إذن فنظام العدة له حالات:
* إن كانت غير حامل فعدتها ثلاثة قروء أي ثلاثة أطهار إن كانت ممن يحضن.
* إن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها.
* وإن لم تكن حاملا وقد بلغت سن اليأس ولم تعد تحيض، أو كانت صغيرة لم تصل لسن الحيض، هذه وتلك عدتها ثلاثة أشهر.


وقوله تعالى:
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ}
يدل على أن المرأة لها شهادتها لنفسها في الأمر الذي يخصها ولا يطلع عليه سواها. وهي التي تقرر المسألة بنفسها، فتقول: أنا حامل أو لا، وعليها ألا تكتم ذلك، فقد يجوز أن تكون حاملا وبعد ذلك تكتم ما في بطنها حتى لا تنتظر طول مدة الحمل وتتزوج رجلاً آخر فينسب الولد لغير أبيه، فغالباً ما يستمر الحمل تسعة أشهر ولكن فيه استثناء، فهناك حمل مدته سبعة شهور، وأحيانا ستة شهور. وقد تتزوج المرأة المطلقة بعد ثلاثة شهور وتدعي أنها حامل من الزوج الجديد وأن حملها لم يستمر سوى سبعة أشهر أو ستة أشهر.


وبعضنا يعرف قصة الحامل في ستة شهور، فقد جاءوا بامرأة لسيدنا عثمان رضي الله عنه لأنها ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقيم عليها حد الزنى، فتدخل الإمام علي ابن أبي طالب وقال: كيف تقيم عليها الحد لأنها ولدت لستة أشهر، ألم تقرأ قول الحق سبحانه وتعالى؟ قال عثمان: وماذا قال الحق في ذلك؟ فقرأ الإمام علي قول الله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.. [البقرة: 233].
أي أنها ترضع الوليد لمدة أربعة وعشرين شهراً، وفي آية أخرى قال الحق: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}.. [الأحقاف: 15].
فإذا أخذنا من الآية الأولى أربعة وعشرين شهراً وهي مدة الرضاع وطرحناها من الثلاثين شهراً التي تجمع بين الحمل والرضاع في الآية الثانية فهمنا أن الحمل قد يكون ستة أشهر. هنا قال سيدنا عثمان متعجبا: والله ما فطنت لهذا.
إذن فحمل الستة الشهور أمر ممكن،


ومن هنا نفهم الحكمة في قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ}، حتى لا تدعي المرأة أنها ليست حاملا وتتزوج رجلا آخر وتنسب إليه ولداً ليس من صلبه ويترتب على ذلك أكثر من إشكال، منها ألا يرث الولد من الأب الأول، وأن محارمه لم تعد محرمة عليه، فأخته من أبيه لم تعد أخته، وكذلك عماته وخالاته وتنقلب الموازين، هذا من جانب الأب الأصلي.
أما من جانب الزوج الثاني فالطفل يكتسب حقوقا غير مشروعة له، سيرث منه، وتصبح محارم الرجل الثاني محارمه فيدخل عليهن بلا حق ويرى عوراتهن، وتحدث تداخلات غير مشروعة.
إذن فقوله الحق: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} هو قول يريد به الحق أن تقوم الحياة على طهر وعلى شرف وعلى عفاف، ولا يعتدي أحد على حقوق الآخر. هذا بالنسبة للحمل. فكيف يكون الحال بالنسبة للحيض؟


أيضا لا يحل لها أن تكتم حيضها لتطيل زمن العدة مع زوجها.
ويقول الحق:
{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر}.
فما علاقة الإيمان هنا بالحكم الشرعي؟
إنها علاقة وثيقة؛ لأن الحمل أو الحيض مسائل خفيفة لا يحكمها قانون ظاهر، إنما الذي يحكمها هو عملية الإيمان، ولذلك قيل: (الغيب لا يحرسه إلا غيب) وما دام الشيء غائباً فلن يحرسه إلا الغيب الأعلى وهو الله تعالى.


ويتابع الحق: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} والبعل هو الزوج، وهو الرب والسيد والمالك، وفي أثناء فترة التربص يكون الزوج أحق برد زوجته إلى عصمته، وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} هل يعني ذلك أن هناك أناساً يمكن أن يشاركوا الزوج في الرد؟ لأن الحق جاء بكلمة {أَحَقُّ} وفي ظاهرها تعطي الحق لغير الأزواج أن يراجعوا؟ لا، إنما المقصود هو أنه لا حق لأحد هنا إلا للزوج، فالرد خلال العدة من حق الزوج، فليس للزوجة أن تقول: لا، وليس لولي الزوجة أن يقول: لا. فالزوج إذا أراد مراجعة زوجته وأبت وامتنعت هي وجب إيثار وتقديم رغبته على رغبتها، وكان هو أحق منها، ولا ينظر إلى قولها، فإنه ليس لها في هذا الأمر حق فقد رضيت به أولاً. أما إذا انتهت العدة فالصورة تختلف، لابد من الولي، ولابد من عقد ومهر جديدين واشتراط موافقة الزوجة.



13601051568.gif&key=4d907ff0fa8621cf7df4


{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً}
هذا إن أرادوا إصلاحاً. والإرادة عمل غيبي، فكأنها تهديد للزوجين، إن التشريع يجيز لهما العودة، لكن إذا كان الزوج يريد أن يردها ليوقع بها الضرر لسبب في نفسه فالدين يقول له: لا، ليس لك ذلك. وإن كان القضاء يجيز له ردها، إلا أن الله يحرم عليه ذلك الظلم. إن من حق الزوج أن يرد زوجته رداً شرعياً للعفة من الإحصان ولغرض الزوجية لا لشيء آخر، أما غير ذلك كالإضرار بها والانتقام منها فلا يجيز له الدين ذلك.


أما قضائياً فالقضاء يعطيه الحق في ردها ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه مهما كانت الأسباب الكامنة في نفسه، لكن عليه أن يتحمل وزر ذلك العمل.


ويتابع الحق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} أي أن للزوجة مثل ما للزوج، لكن ما الذي لهن وما الذي عليهن؟
المثلية هنا في الجنس، فكل منهما له حق على الآخر حسب طبيعته، الزوج يقدم للزوجة بعضاً من خدمات، والزوجة تقدم له خدمات مقابلة؛ لأن الحياة الزوجية مبنية على توزيع المسئوليات، إن الرجل عليه مسئوليات تقتضيها طبيعته كرجل، والمرأة عليها مسئوليات تحتمها طبيعتها كأنثى. والرجل مطالب بالكدح والسعي من أجل الإنفاق. والمرأة مطالبة بأن توفر للرجل البيت المناسب ليسكن إليها عندما يعود من مهمته في الحياة. ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.. [الروم: 21].


والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك، ومعنى {لتسكنوا إِلَيْهَا} أي إنكم تتحركون من أجل الرزق طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم، فالرجل عليه الحركة، والمرأة عليها أن تهيئ له حسن الإقامة، وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة. فالمسئوليات موزعة توزيعاً عادلاً، فهناك حق لك هو واجب على غيرك، وهناك حق لغيرك وهو واجب عليك.



ويقول الحق:
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
وهي درجة الولاية والقوامة.
ودرجة الولاية تعطينا مفهوما أعم وأشمل، فكل اجتماع لابد له من قَيِّم، والقوامة مسئولية وليست تسلطاً، والذي يأخذ القوامة فرصة للتسلط والتحكم فهو يخرج بها عن غرضها؛ فالأصل في القوامة أنها مسئولية لتنظيم الحركة في الحياة.
ولا غضاضة على الرجل أن يأتمر بأمر المرأة فيما يتعلق برسالتها كامرأة وفي مجالات خدمتها، أي في الشئون النسائية، فكما أن للرجل مجاله، فللمرأة مجالها أيضاً.
والدرجة التي من أجلها رُفع الرجل هي أنه قوام أعلى في الحركة الدنيوية، وهذه القوامة تقتضي أن ينفق الرجل على المرأة تطبيقاً لقوله الحق: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.. [النساء: 34].


إذن فالإنفاق واجب الرجل ومسئوليته،
وليعلم أن الله عزيز لا يحب أن يستذل رجل امرأة هي مخلوق لله، والله حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته فوق المرأة هي للاستبداد، أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه، فلا استذلال في الزواج؛ لأن الزواج أساسه المودة والمعرفة. ويقول الحق بعد ذلك: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...}.


المصدر: موقع نداء الإيمان



2015_5_12_14_17_43_653.jpg&key=67515c8ae

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

p257584057597-1.jpg

تفسير الآية رقم (229):

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}


هنا يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق بعد أن تحدث عن المطلقة في عدتها وكيفية ردها ومراجعتها، وإنه سبحانه يتحدث عن الطلاق في حد ذاته. والطلاق مأخوذ من الانطلاق والتحرر، فكأنه حل عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح. وعقدة النكاح هي العقدة التي جعلها الله عقداً مغلظاً وهي الميثاق الغليظ، فقال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21].


إنه ميثاق غليظ لأنه أباح للزوجين عورات الآخر، في حين أنه لم يقل عن الإيمان إنه ميثاق غليظ، قال عنه: (ميثاق) فقط، فكأن ميثاق الزواج أغلظ من ميثاق الإيمان. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في الناس حل المشكلات بأيسر الطرق. لذلك شرع لنا أن نحل عقدة النكاح، ونهاية العقدة ليست كبدايتها، ليست جذرية، فبداية النكاح كانت أمراً جذريا، أخذناه بإيجاب وقبول وشهود وأنت حين تدخل في الأمر تدخله وأنت دارس لتبعاته وظروفه، لكن الأمر في عملية الطلاق يختلف؛ فالرجل لا يملك أغمار نفسه، فربما يكون السبب فيها هيناً أو لشيء كان يمكن أن يمر بغير الطلاق؛ فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل للناس أناة وروية في حل العقدة فقال: {الطلاق مَرَّتَانِ} يعني مرة ومرة، ولقائل أن يقول: كيف يكون مرتين، ونحن نقول ثلاثة؟

وقد سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله قال الله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} فلم صار ثلاثاً؟
فقال صلى الله عليه وسلم مبتسماً: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. فكأن معنى {الطلاق مَرَّتَانِ}، أي أن لك في مجال اختيارك طلقتين للمرأة، إنما الثالثة ليست لك، لماذا؟

لأنها من بعد ذلك ستكون هناك بينونة كبرى ولن تصبح مسألة عودتها إليك من حقك، وإنما هذه المرأة قد أصبحت من حق رجل آخر.. {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230].


أما قول الرجل لزوجته أنت (طالق ثلاثاً) يُعتبر ثلاث طلقات أم لا؟
نقول: إن الزمن شرط أساسي في وقوع الطلاق، يطلق الرجل زوجته مرة، ثم تمضي فترة من الزمن، ويطلقها مرة أخرى فتصبح طلقة ثانية، وتمضي أيضا فترة من الزمن وبعد ذلك نصل لقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ولذلك
فالآية نصها واضح وصريح في أن الطلاق بالثلاث في لفظ واحد لا يوقع ثلاث طلقات، وإنما هي طلقة واحدة،


صحيح أن سيدنا عمر رضي الله عنه جعلها ثلاث طلقات؛ لأن الناس استسهلوا المسألة، فرأى أن يشدد عليهم ليكفوا، لكنهم لم يكفوا، وبذلك نعود لأصل التشريع كما جاء في القرآن وهو {الطلاق مَرَّتَانِ}.
وحكمة توزيع الطلاق على المرات الثلاث لا في العبارة الواحدة، أن الحق سبحانه يعطي فرصة للتراجع. وإعطاء الفرصة لا يأتي في نفس واحد وفي جلسة واحدة.



إن الرجل الذي يقول لزوجته: أنت طالق ثلاثاً لم يأخذ الفرصة ليراجع نفسه ولو اعتبرنا قولته هذه ثلاث طلقات لتهدمت الحياة الزوجية بكلمة. ولكن عظمة التشريع في أن الحق سبحانه وزع الطلاق على مرات حتى يراجع الإنسان نفسه، فربما أخطأ في المرة الأولى، فيمسك في المرة الثانية ويندم.
وساعة تجد التشريع يوزع أمراً يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث، فلابد من وجود فاصل زمني بين كل مرة.

PNG ] فواصل ثابتة ومتحركة لتزيين المواضيع 3 2017 - مدرسة جرافيك مان

وبعض المتشدقين يريدون أن يبرروا للناس تهجمهم على منهج الله فيقولون: إن الله حكم بأن تعدد الزوجات لا يمكن أن يتم فقال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129].
ويقولون: إنّ الله اشترط في التعدد العدل، ثم حكم بأننا لن نستطيع أن نعدل بين الزوجات مهما حرصنا، فكأنه رجع في التشريع، هذا منطقهم. ونقول لهم: أكملوا قراءة الآية تفهموا المعنى، إن الحق يقول: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} ثم فرع على النفي فقال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} [النساء: 129].
وما دام النفي قد فُرِّع عليه فقد انتفى، فالأمر كما يقولون: نفي النفي إثبات. أن الاستطاعة ثابتة وباقية وكان قوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} إشارة إليها.


وكذلك الأمر هنا

{الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.

فما دام قد قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال: {الطلاق مَرَّتَانِ} أي أن لكل فعل زمناً، فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب، وإلا فالطلاق الثلاث بكلمة واحدة في زمن واحد، يكون عملية قسرية واحدة، وليس فيها تأديب أو إصلاح أو تهذيب،



وفي هذه المسألة يقول الحق:

{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}

لأن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع، فإذا ما حدث الطلاق لا يحل للمطلق أن يأخذ من مهره شيئاً، لكن الحق استثنى في المسألة فقال: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}.
فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجاً إن أريد بها الضرر وهي لا تقبل هذا الضرر. فيأتي الحق ويشرع: وما دام قد خافا ألا يقيما حدود الله، فقد أذن لها أن افتدي نفسك أيتها المرأة بشيء من مال، ويكره أن يزيد على المهر إلا إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها ومخالفة للزوج فلا كراهة إذن في الزيادة على المهر.



وقد جاء الواقع مطابقاً لما شرع الله عندما وقعت حادثة (جميلة) أخت (عبد الله ابن أبي) حينما كانت زوجة لعبد الله بن قيس، فقد ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (أنا لا أتهمه في دينه ولا خلقه ولكن لا أحب الكفر في الإسلام) وهي تقصد أنها عاشت معه وهي تبغضه، لذلك لن تؤدي حقه وذلك هو كفر العشير أي إنكار حق الزوج وترك طاعته.
وهي قد قالت: إنها لا تتهمه لا في دينه ولا في خلقه لتعبر بذلك عن معانٍ عاطفية أخرى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم منها ذلك، فقالت: لقد رفعت الخباء فوجدته في عدة رجال فرأيته أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «أتردين حديقته ؟ فقالت: وإن شاء زدته، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا بالزيادة، ولكن ردي عليه حديقته».

ويُسمى هذا الأمر بالخلع،

أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف ألا تؤدي له حقاً من حقوق الزوجية، إنها تخلع نفسها منه بمال حتى لا يصيبه ضرر، فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه.

ويتابع الحق سبحانه:
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}
وهذا الشيء هو الذي قال عنه الله في مكان آخر: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء: 20].

ويتابع الحق الآية بقوله:
{إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}
والمقصود هنا هما الزوجان، ومن بعد ذلك تأتي مسئولية أولياء أمر الزوجين والمجتمع الذي يهمه أمرهما في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}.


وحدود الله هي ما شرعه الله لعباده حداً مانعاً بين الحل والحرمة. وحدود الله إما أن ترد بعد المناهي، وإما أن ترد بعد الأوامر، فإن وردت بعد الأوامر فإنه يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أي آخر غايتكم هنا، ولا تتعدوا الحد، ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا}، لأن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس، فتلح عليها أن تفعل، فإن كنت بعيداً عنها فالأفضل أن تظل بعيداً.
وانظر جيداً فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه».



وما دامت الحدود تشمل مناهي الله وتشمل أوامر الله فكل شيء مأمور به وكل شيء منهي عنه يجب أن يظل في مجاله من الفعل في (افعل) ومن النهي في (لا تفعل). وإذا انتقل نظام (افعل) إلى دائرة (لا تفعل) وانتقل ما يدخل في دائرة (لا تفعل) إلى دائرة (افعل)، هنا يختل نظام الكون، وما دام نظام الكون أصابه الخلل فقد حدث الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق إنسان وتعطيه لإنسان آخر، وتشريع الطلاق حد من حدود الله، فإن حاولت أن تأتي بأمر لا يناسب ما أمر الله به في تنظيم اجتماعي فقد نقلت المأمور به إلى حيز المنهي عنه، وبذلك تُحْدِثُ ظلماً.


والحق سبحانه وتعالى حينما يعالج قضايا المجتمع يعالجها علاجاً يمنع وقوع المجتمع في الأمراض والآفات، والبشر إن أحسنا الظن بهم في أنهم يشرعون للخير وللمصلحة، فهم يشرعون على قدر علمهم بالأشياء، لكننا لا نأمن أن يجهلوا شيئاً يحدث ولا يعرفوه، فهم شرّعوا لِمَا عرفوا، وإذا شرعوا لما عرفوا وفوجئوا بأشياء لم يعرفوها ماذا يكون الموقف؟ إن كانوا مخلصين بحق داسوا على كبرياء غرورهم التشريعي وقالوا: نُعَدِّل ما شرعنا، وإن ظلوا في غلوائهم فمن الذي يشقى؟ إن المجتمع هو الذي يشقى بعنادهم.


والحق سبحانه وتعالى لا يتهم الناس جميعاً في أن منهم من لا يريد الخير، ولكن هناك فرق بين أن تريد خيراً وألا تقدر على الخير. أنت شرعت على قدر قدرتك وعلمك. ونعرف جميعاً أن شقاء التجارب في القوانين الاجتماعية النظرية تقع على المجتمع.

ونعرف جيداً أن هناك فرقاً بين العلم التجريبي المعملي والكلام النظري الأهوائي؛ فالعلم التجريبي يشقى به صاحب التجربة، إن العَالِم يكد ويتعب في معمله وهو الذي يشقى ويضحي بوقته وبماله وبصحته ويعيش في ذهول عن كل شيء إلا تجربته التي هو بصددها، فإذا ما انتهى إلى قضية اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه هو المجتمع. لكن الأمر يختلف في الأشياء النظرية؛ لأن الذي يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو المجتمع، إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل خطأ من سبقه.


أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمي البشر من الشقاء، فالله سبحانه يتركنا في العالم المادي التجريبي أحراراً. ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد تتفقون عليها، لكن إياكم واختلافات الأهواء؛ لذلك تولى الله عز وجل تشريع ما تختلف فيه الأهواء، حتى يضمن أن المجتمع لا يشقى بالخطأ من المشرعين، لفترة من الزمن إلى أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس ما أخطأ فيه غيره.


لذلك نجد في عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى، ويتمسك الناس فيها بأهوائهم، ثم تضغط عليهم الأحداث ضغطا لا يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم في الرمال، بل لابد أن يواجهوها، فإذا ما واجهوها فإنهم لا يجدون حلاً لها إلا بما شرعه الإسلام، ونجد أنهم التقوا مع تشريعات الإسلام.


إن بعضاً من الكارهين للإسلام يقولون:
أنتم تقولون عن دينكم: إنه جاء ليظهر على كل الأديان،
مرة يقول القرآن: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28].
ومرة يقول القرآن: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [الصف: 8-9].

ويستمر الكارهون للإسلام في قولهم ويضيفون:
إن إسلامكم ليظهر على الدين كله حتى الآن بدليل أن هناك الملايين لم يدخلوا الإسلام؟
ونقول لهم: أو يظهر على الدين كله بأن يؤمن الناس بالإسلام جميعاً، لا، لو فطنوا على قول الله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} لعلموا أن إظهار الإسلام على الدين لابد أن يلازمه وجود كافرين كارهين، وما دام الإسلام موجوداً مع كافرين كارهين، فهو لن يظهر كدين، ولكنه يظهر عليهم أي يغلبهم كنظام يضطرون إليه ليحلوا مشكلات مجتمعاتهم الكافرة، فسيأخذون من أنظمة وقوانين الإسلام وهم كارهون، ولذلك نجدهم يستقون قوانينهم وإصلاحاتهم الاجتماعية من تعاليم الإسلام.
ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} أو {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} لأنهم عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك. لكن حين يقول سبحانه: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} و{وَلَوْ كَرِهَ المشركون} فذلك يعني: أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذتم الإسلام ديناً، إن تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم، وصدق الله في تقنينه لكم، وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلامكم ليأخذوها كنظام يحلون بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد الإسلام.
 
PNG ] فواصل ثابتة ومتحركة لتزيين المواضيع 3 2017 - مدرسة جرافيك مان

وضربنا على ذلك مثلاً بما حدث في إيطاليا التي بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك الروحية؛ فقد اضطروا لأن يشرعوا قوانين تبيح الطلاق، وحدث مثل ذلك في أسبانيا وغيرها من الدول. انظر كيف تراجعوا في مبادئ كانوا يعيبونها على الإسلام! لقد اضطرتهم ظروف الحياة لأن يقننوا إباحة الطلاق تقنيناً بشرياً لا بتقنين إلهي. ومثل هذه الأحداث تبين لنا مدى ثقتنا في ديننا، وأن مشكلات البشرية في بلاد الكفر والشرك لن يحلها إلا الإسلام، فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون إلى أخذه كنظام.
ومن شرف الإسلام ألا يأخذوه كدين؛ لأنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم تطبيقا للإسلام من قوم مسلمين، ولكن أن يظلوا كارهين للإسلام ثم يأخذوا من مبادئ الدين الذي يكرهونه ما يصلح مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الأكبر للإسلام. إن هذا هو مفهوم قول الحق: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} و{وَلَوْ كَرِهَ المشركون} وإذا ما جاء لك أحد في هذه المسألة فقل: من شرف الإسلام أن يظل في الدنيا مشرك، وأن يظل في الدنيا هؤلاء الكفار ثم يرغموا ليحلوا مسائل مجتمعاتهم بقضايا الإسلام، والإسلام يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرناً إلى ما يلهثون وراءه الآن بعد مضي كل هذا الزمن. ويقول الحق بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ...}.



3dlat.com_17_19_ba83_c33b7890715b2.gif




تفسير الآية رقم (230):

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}


وسبق أن قال الحق: {الطلاق مَرَّتَانِ} وبعدها قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. وهنا يتحدث الحق عن التسريح بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. وذلك حتى يبين لنا أنه إن وصلت الأمور بين الزوجين إلى مرحلة اللا عودة فلابد من درس قاس؛ فلا يمكن أن يرجع كل منهما للآخر بسهولة. لقد أمهلهما الله بتشريع البينونة الصغرى التي يعقبها مهر وعقد جديدان فلم يرتدعا، فكان لابد من البينونة الكبرى، وهي أن تتزوج المرأة بزوج آخر وتجرب حياة زوجية أخرى. وبذلك يكون الدرس قاسياً.


وقد يأخذ بعض الرجال المسألة بصورة شكلية، فيتزوج المرأة المطلقة ثلاثاً زواجاً كامل الشروط من عقد وشهود ومهر، لكن لا يترتب على الزواج معاشرة جنسية بينهما، وذلك هو (المحلل) الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره الإسلام.
فمن تزوج على أنه محلل ومن وافقت على ذلك المحلل فليعلما أن ذلك حرام على الاثنين، فليس في الإسلام محلل، ومن يدخل بنية المحلل لا تجوز له الزوجة، وليس له حقوق عليها، وفي الوقت نفسه لو طلقها ذلك الرجل لا يجوز لها الرجوع لزوجها السابق، لأن المحلل لم يكن زوجاً وإنما تمثيل زوج، والتمثيل لا يُثبت في الواقع شيئاً.

PNG ] فواصل ثابتة ومتحركة لتزيين المواضيع 3 2017 - مدرسة جرافيك مان

ولذلك قال الحق:
{فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}.
والمقصود هنا النكاح الطبيعي الذي ساقت إليه الظروف دون افتعال ولا قصد للتحليل. وعندما يطلقها ذلك الرجل لظروف خارجة عن الإرادة وهي استحالة العشرة، وليس لأسباب متفق عليها، عندئذ يمكن للزوج السابق أن يتزوج المرأة التي كانت في عصمته وطلقها من قبل ثلاث مرات. {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي أن يغلب على الظن أن المسائل التي كانت مثار خلاف فيما مضى قد انتهت ووصل الاثنان إلى درجة من التعقل والاحترام المتبادل، وأخذا درساً من التجربة تجعل كلا منهما يرضى بصاحبه. وبعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ...}.

نداء الايمان


maxresdefault.jpg

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
صبح آمده است | کاوالا



.تفسير الآية رقم (231):


{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}

ولنلاحظ قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ونسأل: هل إذا بلغت الأجل وانتهت العدة، هل يوجد بعدها إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؟، هل يوجد إلا التسريح؟.
إن هناك آية بعد ذلك تقول:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} [البقرة: 232].
إذن نحن أمام آيتين كل منهما تبدأ بقوله:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}.
لكن تكملة الآية الأولى هو: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وتكملة الآية الثانية هو: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}. ما سر هذا الاختلاف إذن؟

نقول: إن البلوغ يأتي بمعنيين،
المعنى الأول: أن يأتي البلوغ بمعنى المقاربة مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ}. أي عندما تقارب القيام إلى الصلاة فافعل ذلك.
والمعنى الثاني: يطلق البلوغ على الوصول الحقيقي والفعلي. إن الإنسان عندما يكون مسافرا بالطائرة ويهبط في بلد الوصول فهو يلاحظ أن الطيار يعلن أنه قد وصل إلى البلد الفلاني. إذن مرة يطلق البلوغ على القرب ومرة أخرى يطلق على البلوغ الحقيقي.
 
وفي الآية الأولى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} هنا طلق الرجل زوجته لكن عدتها لم تنته بل قاربت على الانتهاء فربما يمكنه أن يسرحها أو يمسكها بإحسان، وأصبح للزوج قدر من زمن العدة يبيح له أن يمسك أو يسرح، لكنه زمن قليل. إن الحق يريد أن يتمسك الزوج بالإبقاء إلى آخر لحظة ويستبقي أسباب الالتقاء وعدم الانفصال حتى آخر لحظة، وهذه علة التعبير بقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن بلوغ الأجل. إن الحق يريدنا أن نتمسك باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع للإمساك، فهي لحظة قد ينطق فيها الرجل بكلمة يترتب عليها إما طلاق، وإما عودة الحياة الزوجية.
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فالله سبحانه وتعالى يريد أن يحصر مناقشة الأسباب في الانفصال أو الاستمرار بين الزوج والزوجة فقط فلا تتعدى إلى غير الزوج والزوجة؛ لأن بين الاثنين من الأسباب ما قد تجعل الواحد منهما يُلين جانبه للآخر.
لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست عنده هذه فسوف تكبر في نفسه الخصومة ولا توجد عنده الحاجة فلا يبقى على عشرة الزوجين. فإذا ما دخل الأب أو الأخ أو الأم في النزاع فسوف تشتعل الخصومة، وكل منهم لا يشعر بإحساس كل من الزوجين للآخر، ولا بليونة الزوج لزوجته، ولا بمهادنة الزوجة لزوجها، فهذه مسائل عاطفية ونفسية لا توجد إلا بين الزوج والزوجة، أما الأطراف الخارجية فلا يربطها بالزوج ولا بالزوجة إلا صلة القرابة. ومن هنا فإن حرص تلك الأطراف الخارجية على بقاء عشرة الزوجين لا يكون مثل حرص كل من الزوجين على التمسك بالآخر.
ولذلك يجب أن نفهم أن كل مشكلة تحدث بين زوج وزوجته ولا يتدخل فيها أحد تنتهي بسرعة بدون أم أو أب أو أخ، ذلك لأنه تدخل طرفٍ خارجي لا يكون مالكا للدوافع العاطفية والنفسية التي بين الزوجين، أما الزوجان فقد تكفي نظرة واحدة من أحدهما للآخر لأن تعيد الأمور إلى مجاريها. فقد يُعجب الرجل بجمال المرأة ويشتاق إليها، فينسى كل شيء. وقد ترى المرأة في الرجل أمراً لا تحب أن تفقده منه فتنسى ما حدث بينهما، وهكذا.
لكن أين ذلك من أمها وأمه، أو أبيها وأبيه؟ ليس بين هؤلاء وبين الزوجين أسرار وعواطف ومعاشرة وغير ذلك.

 
ولهذا فأنا أنصح دائما بأن يظل الخلاف محصوراً بين الزوج والزوجة؛ لأن الله قد جعل بينهما سيالا عاطفيا. والسيال العاطفي قد يسيل إلى نزوع ورغبة في شيء ما، وربما تكون هذه الرغبة هي التي تصلح وتجعل كلا من الطرفين يتنازل عن الخصومة والطلاق.
ولذلك شاءت إرادة الله عز وجل ألا يطلق الرجل زوجته وهي حائض، لماذا؟
لأن المرأة في فترة الحيض لا يكون لزوجها رغبة فيها، وربما ينفر منها، لكن يريد الحق عز وجل ألا يطلق الرجل زوجته إلا في طهر لم يسبق له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج زوجته وبعد أن تغتسل من الحيض، وذلك حتى لا يطلقها إلا وهو في أشد الأوقات رغبة لها.


مجموعة رائعة من الفواصل المتحركة اللامعة , فواصل متحركة , فواصل لامعة -  سارة سرسور - صفحة 2

إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن تكون الخلافات بين الزوج والزوجة في إطار الحياة الزوجية، حتى يحفظهما سياج المحبة والمودة والرحمة. لكن تدخل الأطراف الأخرى يحطم هذا السياج، أياً كان الطرف أما أو أبا أو أخا.

 
ويقول الحق:
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ}
أي لا تبق أيها الرجل على الحياة الزوجية من أجل الإضرار بالمرأة وإذلالها، ومعنى الضرار أنك تصنع شيئا في ظاهره أنك تريد الخير وفي الباطن تريد الشر. ولذلك أطلق اللفظ على (مسجد الضرار) فظاهر بنائه أنه مسجد بني للصلاة فيه، وفي الباطن كان الهدف منه هو الكفر والتفريق بين المؤمنين. وكذلك الضرار في الزواج؛ يقول الرجل أنا لا أريد طلاقها وسأعيدها لبيتها، يقول ذلك ويُبيت في نفسه أن يعيدها ليذلها وينتقم منها، وذلك لا يقره الإسلام؛ بل وينهى عنه.
 
إن الحق عز وجل يحذر من مثل هذا السلوك فيقول:
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
فإياك أن تظن أنك حين تعتدي على زوجتك بعد أن تراجعها أنك ظلمتها هي، لا، إنما أنت تظلم نفسك؛ لأنك حين تعتدي على إنسان فقد جعلت ربه في جانبه، فإن دعا عليك قِبل الله دعوته، وبذلك تحرم نفسك من رضا الله عنك، فهل هناك ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك بسخط الله عليك.
ويتابع الحق سبحانه وتعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} أي خذوا نظام الله على أنه نظام جاء ليحكم حركة الحياة حكما بلا مراوغة وبلا تحليق في خيال كاذب، إنما هو أمر واقعي، فلا يصح أن يهزأ أحد بما أنزله الله من أنظمة تصون حياة وكرامة الإنسان رجلاً كان أو امرأة.

 
{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ}
ونعمة الله عليهم التي يذكرهم الله بها في معرض الحديث عن الطلاق هي أنه سبحانه يلفتهم إلى ما كانوا عليه قبل أن يشرع لهم أين كان حظ المرأة في الجاهلية في أمور الزواج والطلاق، وما أصبحت عليه بعد نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها مصونة بالقرآن.
إن الحق عز وجل يمتن على المؤمنين ليلفت نظرهم إلى حالتهم قبل الإسلام؛ فقد كان الرجل يطلق امرأته ويعيدها، ثم يطلقها ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو رابط. وكان يحرم عليها المعاشرة الزوجية شهوراً ويتركها تتعذب بلوعة البعد عنه، ولا تستطيع أن تتكلم.

 
وكانت المرأة إذا مات زوجها تنفى من المجتمع فلا تظهر أبداً ولا تخرج من بيتها وكأنها جرثومة، وقبل ذلك كله كانت مصدر عار لأبيها، فكان يقتلها قبل أن تصل إلى سن البلوغ بدعوى الحرص على عرضه وشرفه.
باختصار كان الزواج أقرب إلى المهازل منه إلى الجد، فجاء الإسلام، فحسم الأمور حتى لا تكون فوضى بلا ضوابط وبلا قوانين. فاذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم بالإسلام، وانظروا إلى ما أنعم به عليكم من نظام أسري يلهث العالم شرقه وغربه ليصل إلى مثله.

 
كنتم أمة بلا حضارة وبلا ثقافة، تعبدون الأصنام وتقيمون الحرب وتشعلونها بينكم على أتفه الأسباب وأدونها، وتجهلون القراءة والكتابة، ثم نزل الله عليكم هذا التشريع الراقي الناضج الذي لم تصل إليه أية حضارة حتى الآن. أَلاَ تذكرون هذه النعمة التي أنتم فيها بفضل من الله؟ لذلك قال سبحانه: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} والكتاب هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
ويختتم الحق تلك الآية الكريمة بقول:
{واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم، فكل تشريع جاهز في الإسلام، لأن الله عليم بما تكون عليه أحوال الناس، فلا يستدرك كون الله في الواقع على ما شرع الله في كتابه، لأنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع. وبعد ذلك يقول الحق: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ...}.
.



فواصل للمواضيع منوعه _ فعاليه اكسبرس المنتدى - منتدى همسات الغلا



تفسير الآية رقم (232):


{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}

{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}
هنا أي فانتهت العدة، ولم يستنفد الزوج مرات الطلاق، ولم يعد للزوج حق في أن يراجعها إلا بعد عقد ومهر جديدين. هب أن الزوج أراد أن يعيد زوجته إلى عصمته مرة أخرى، وهنا يتدخل أهل اللدد والخصومة من الأقارب، ويقفون في وجه إتمام الزواج، والزوجان ربما كان كل منهما يميل إلى الآخر، وبينهما سيال عاطفي ونفسي لا يعلمه أحد، لكن الذين دخلوا في الخصومة من الأهل يقفون في وجه عودة الأمور إلى مجاريها، خوفا من تكرار ما حدث أو لأسباب أخرى، وتقول لهؤلاء: ما دام الزوجان قد تراضيا على العودة فلا يصح أن يقف أحد في طريق عودة الأمور إلى ما كانت عليه.

وقوله الحق:
{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}
نعرف منه أن العضل هو المنع، والكلام للأهل والأقارب وكل من يهمه مصلحة الطرفين من أهل المشورة الحسنة. و{أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أي الذين طلقوهن أولا.
والمعنى: لا تمنعوا الأزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللائي طلقوهن من قبل. وليعلم الأهل الذين يصرون على منع بناتهم من العودة لأزواجهن أنهم بالتمادي في الخصومة يمنعون فائدة التدرج في الطلاق التي أراد حكمة لله.

 
إن حكمة التشريع في جعل الطلاق مرة، ومرتين هي أن من لم يصلح في المرأة الأولى قد يصلح في المرة الثانية، وإذا كان الله العليم بنفوس البشر قد شرع لهم أن يطلقوا مرة ومرتين، وأعطى فسحة من الوقت لمن أخطأ في المرة الأولى ألا يخطئ في الثانية، لذلك فلا يصح أن يقف أحد حجر عثرة أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد.


مجموعة رائعة من الفواصل المتحركة اللامعة , فواصل متحركة , فواصل لامعة -  سارة سرسور - صفحة 2
وقوله الحق:
{أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى ينسب النكاح للنسوة، فقال: {يَنكِحْنَ} وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج فلا يمكن أن يطلقها أولا ثم لا يكون لها رأي في العودة إليه.
 
{إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف}
وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة كل منهم للآخر أفضل، فليبتعد أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين، وليتركوا الحلال يعود إلى مجاريه. {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} إن هذا تشريع ربكم وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بالله ربا حكيماً مشرعاً وعالماً بنوازع الخير في نفوس البشر.
 
وكلمة
{وَأَطْهَرُ}
تلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع لزوجها الذي طلقها ثم انتهت العدة، وأراد هو أن يتزوجها من جديد، إن الحق يبلغنا: ولا تقفوا في وجه رغبتهما في العودة لأي سبب كان،
لماذا يا رب؟
وتأتي الإجابة في قوله الحق:
{والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
تأمل جمال السياق القرآني وكيف خدم قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} المعنى الذي تريده الآيات. إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أن في عودة الأمور لمجاريها بين الزوجين أزكى وأطهر. ويقول الحق بعد ذلك: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة...}.

نداء الايمان



تفسير سورة البقرة - الآيات رقم 231-232 للشيخ الشعراوي - YouTube

 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بسم اللّه الرحمن الرحیم - ویسگون

 



{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}

انظر إلى عظمة الإسلام ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لأولادهن بعد عملية الطلاق، فالطلاق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة، والحق سبحانه وتعالى ينظر للمسألة نظرة الرحيم العليم بعباده، فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل أن يحدث الشقاق بين الأبوين، فيبلغنا: لا تجعلوا شقاقكم وخلافكم وطلاقكم مصدر تعاسة للطفل البريء الرضيع.

وهذا كلام عن المطلقات اللاتي تركن بيوت أزواجهن، لأن الله يقول بعد ذلك:
{وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} وما دامت الآية تحدثت عن {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} فذلك يعني أن المرأة ووليدها بعيدة عن الرجل، لأنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه. والحق سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع، وأمه لم تكن تستحقه لولا الرضاع. وبعض الناس فهموا خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم: لا. إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللاتي يرضعن فقط.
ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه، فشرع حق الطفل في أن يتكفله والده بالرزق والكسوة حتى يكون الأمر معلوما لديه حال الطلاق.

 
وقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} نلاحظ فيه أنه لم يأت بصيغة الأمر فلم يقل: يا والدات أرضعن، لأن الأمر عرضة لأن يطاع وأن يعصى، لكن الله أظهر المسألة في أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ولا يخالف.
ويقول الحق:
{وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولنتأمل عظمة الأداء القرآني في قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} إنه لم يقل: (وعلى الوالد)، وجاء ب {المولود لَهُ} ليكلفه بالتبعات في الرزق والكسوة، لأن مسئولية الإنفاق على المولود هي مسئولية الوالد وليست مسئولية الأم، وهي قد حملت وولدت وأرضعت والولد يُنسب للأب في النهاية يقول الشاعر:
فإنما أمهات الناس أوعية ** مستوعادت وللآباء أبناء
وما دام المولود منسوباً للرجل الأب، فعلى الأب رزقه وكسوته هو وعليه أيضا رزق وكسوة أمه التي ترضعه بالمعروف المتعارف عليه بما لا يسبب إجحافاً وظلما للأب في كثرة الإنفاق،
 
ويقول الحق:
{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}
هنا الحديث عن الأم والأب. فلا يصح أن ترهق المطلقة والد الرضيع بما هو فوق طاقته، وعليها أن تكتفي بالمعقول من النفقة.
ويتابع الحق:
{لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}
ولازال الحق يُذكرُ الأب بأن المولود له هو، وعليه ألا يضر والدة الطفل بمنع الإنفاق على ابنه، وألا يتركها تتكفف الناس من أجل رزقه وكسوته، وفي الوقت نفسه يُذَكرُ الأم: لا تجعلي رضيعك مصدر إضرار لأبيه بكثرة الإلحاح في طلب الرزق والكسوة.
إنه عز وجل يضع لنا الإطار الدقيق الذي يكفل للطفل حقوقه، فهناك فرق بين رضيع ينعم بدفء الحياة بين أبوين متعاشرين، ووجوده بين أبوين غير متعاشرين.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا لفتة أخرى هي أن والد المولود قد يموت فإذا ما مات الوالد فمن الذي ينفق على الوليد الذي في رعاية أمه المطلقة؟ هنا يأتينا قول الحق بالجواب السريع:
{وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}.


كلية الزراعة - وقاية
إن الحق يقرر مسئولية الإنفاق على من يرث والد الرضيع، صحيح أن الرضيع سيرث في والده، لكن رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية من يرث الوصاية وتكون له الولاية على أموال الأب إن مات. وهكذا يضمن الله عز وجل حق الرضيع عند المولود له وهو أبوه إذا كان حياً، وعند من يرث الأب إذا تُوفى.

 
وبذلك يكون الله عز وجل قد شَرَّع لصيانة أسلوب حياة الطفل في حال وجود أبويه، وشرع له في حال طلاق أبويه وأبوه حيٌّ وشرع له في حال طلاق أبويه ووفاة أبيه. ويتابع الحق: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
انظر إلى الرحمة في الإسلام؛ فطلاق الرجل لزوجته لا يعني أن ما كان بينهما قد انتهى، ويضيع الأولاد ويشقون بسبب الطلاق،
فقوله تعالى:
{عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ}
دليل على أن هناك قضية مشتركة مازالت بين الطرفين وهي ما يتصل برعاية الأولاد، وهذه القضية المشتركة لابد أن يلاحظ فيها حق الأولاد في عاطفة الأمومة، وحقهم في عاطفة الأبوة، حتى ينشأ الولد وهو غير محروم من حنان الأم أو الأب، وإن اختلفا حتى الطلاق.
إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور والتراضي في مسألة تربية الأولاد حتى يشعروا بحنان الأبوين، ويكبر الأولاد دون آلام نفسية، ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم وكذلك والدهم وبرغم وجود الشقاق والخلاف بينهما فقد اتفقا على مصلحة الأولاد بتراضٍ وتشاور.


إن ما يحدث في كثير من حالات الطلاق من تجاهل للأولاد بعد الطلاق هي مسألة خطيرة؛ لأنها تترك رواسب وآثارا سلبية عميقة في نفوس الأولاد، ويترتب عليها شقاؤهم وربما تشريدهم في الحياة. وما ذنب أولاد كان الكبار هم السبب المباشر في مجيئهم للحياة؟
أليس من الأفضل أن يوفر الآباء لهم الظروف النفسية والحياتية التي تكفل لهم النشأة الكريمة؟ إن منهج الله أمامنا فلماذا لا نطبقه لنسعد به وتسعد به الأجيال القادمة؟

والحق سبحانه وتعالى قال في أول الآية:
{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}
لكن ماذا يكون الحال إن نشأت ظروف تقلل من فترة الرضاعة عن العامين، أو نشأت ظروف خاصة جعلت فترة الرضاعة أطول من العامين؟
هنا يقول الحق:
{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
إنه جل وعلا يبين لنا أن الفصال أي الفطام يجب أن يكون عن تراض وتشاور بين الوالدين ولا جناح عليهما في ذلك.
ويقول الحق:
{وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم ما آتَيْتُم بالمعروف}،
و{أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ}
أي أن تأتوا للطفل بمرضعة، فإن أردتم ذلك فلا لوم عليكم في ذلك.
إن المطلق حين يوكل إلى الأم أن ترضع وليدها فالطفل يأخذ من حنان الأم الموجود لديها بالفطرة، لكن هب أن الأم ليست لديها القدرة على الإرضاع أو أن ظروفها لا تسعفها على أن ترضعه لضعف في صحتها أو قوتها، عند ذلك فالوالد مُطالب أن يأتي لابنه بمرضعة، وهذه المرضعة التي ترضع الوليد تحتاج إلى أن يعطيها الأب ما يُسخِّيها ويجعلها تقبل على إرضاع الولد بأمانة، والإشراف عليه بصدق.

ويختم الحق هذه الآية الكريمة بقوله:
{واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}،
إن الحق يحذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي بظاهر الأمر تطبيقها، لكنه غير حريص على روح هذه الأحكام، مثال ذلك الأب الذي يريد أن يدلس على المجتمع، فعندما يرى الأب مرضعة ابنه أمام الناس فهو يدعي أنه ينفق عليها، ويعطيها أجرها كاملا، ويقابلها بالحفاوة والتكريم بينما الواقع يخالف ذلك.
إن الله يحذر من يفعل ذلك: أنت لا تعامل المجتمع وإنما تعامل الله و{الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. ويقول الحق بعد ذلك:
{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً...}.


نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 233 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
قد تكون صورة لـ ‏نص‏

تفسير الآية رقم (234):


{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}

والعدة كما عرفنا هي الفترة الزمنية التي شرعها الله بعد زواج انتهى بطلاق أو بوفاة الزوج. والعدة إما أن تكون بعد طلاق، وإما بعد وفاة زوج، فإن كانت العدة بعد طلاق فمدتها ثلاثة قروء، والقرء كما عرفنا هو الحيضة أو الطهر، فإن كانت المطلقة صغيرة لم تخض بعد أو كانت كبيرة تعدت سن الحيض فالعدة تنقلب من القروء إلى الأشهر وتصبح (ثلاثة أشهر).

وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع زوجته بينه وبين نفسه دون تدخل الزوجة أو ولي أمرها، له ذلك في أثناء فترة العدة في الطلاق الرجعي، فإن انتهت عدتها فقد سقط حقه في مراجعة الزوجة بنفسه، وله أن يراجعها، ولكن بمهر وعقد جديدين ما دام قد بقى له حق أي لم يستنفد مرات الطلاق.

وقد قلنا: إن تعدت الطلقات اثنتين وأصبحت هناك طلقة ثانية فلابد من زوج آخر يتزوجها بالطريقة الطبيعية لا بقصد أن يحللها للزوج الأول.
 
وأما عدة المتوفى عنها زوجها
فقد عرفنا أن القرآن ينص على أنها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، هذا إن لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين، فإن كان الأجل الأبعد هو أربعة أشهر وعشرا فتلك عدتها، وإن كان الأجل الأبعد هو الحمل فعدتها أن ينتهي الحمل. لكن أليس من الجائز أن يموت زوجها وهي في الشهر التاسع من الحمل فتلد قبل أن يدفن؟ وهل يعني ذلك أن عدتها انتهت؟ لا، إنها تنتهي بأبعد الأجلين وهو في هذه الحالة مرور أربعة أشهر وعشرا، وإن قال بعض الفقهاء: إن عدة الحامل بوضع الحمل.
لكن إذا لم يكن زوجها متوفَّى عنها فعدتها أن تضع حملها، وإن شاءت أن تتزوج بعد ذلك فلها ذلك ولو بعد لحظة. وبعض الناس يفسرون الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجة أربعة أشهر وعشرا، فيقولون: لأنها إن كانت حاملا بذكر فسيظهر حملها عندما يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملا بأنثى فستتحرك بعد أربعة أشهر ونعطيها مهلة عشر ليالٍ.
ونقول لهم: جزاكم الله خيرا على تفسيركم،
لكن العدة ليست لاستبراء الرحم؛ لأنها لو كانت لاستبراء الرحم لانتهت عدة المرأة بمجرد ولادتها. ولو كان الأمر للتأكد من وجود حمل أو عدمه، لكانت عدتها ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، وإن كانت من غير ذوات الحيض لصغر أو لكبر سن لكانت عدتها ثلاثة أشهر. لكن الله اختصها بأربعة أشهر وعشر وفاءً لحق زوجها عليها وإكراما لحياتهما الزوجية.

إذن فالله عز وجل جعل المتوفى عنها زوجها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها المرأة.فالمرأة ساعة تكون متوفى عنها زوجها لا تخرج من بيتها ولا تتزين ولا تلقى أحداً وفاءً للزوج، فإذا انتهت عدتها أي مضت عليها الأربعة الأشهر والعشرة،
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ}
وهو يعني أن تتزين في بيتها وتخرج دون إبداء زينة وأن يتقدم لها من يريد خطبتها.
 
وقوله تعالى:
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}
والمقصود بهذه المدة أربعة أشهر وعشر ليال.
وهنا لفتة تشريعية إيمانية تدل على استطراق كل حكم شرعي في جميع المكلفين وإن لم يكن الحكم ماسا لهم؛ فالمتوفى عنها زوجها تربصت أربعة أشهر وعشرا وبلغتها في مدة العدة، وكان من حكم الله عليها ألا تتزين وألا تكتحل وألا تخرج من بيتها وفاءً لحق زوجها فإذا بلغت الأجل وانتهى قال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ}،
ولم يقل: فلا جناح عليهن. لقد وجه الخطاب هنا للرجال؛
لأن كل مؤمن له ولاية على كل مؤمنة، فإذا رأى في سلوكها أو أسلوب عنايتها بنفسها ما ينافي العدة فله أن يتدخل.
مثلا إذا رآها تتزين قال لها أو أرسل إليها من يقول لها: لماذا تتزينين؟
إن قول الله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يجعل للرجال قوامة على المتوفى عنها زوجها، فلا يقولون: لا دخل لنا؛ لأن الحكم الإيماني حكم مستطرق في كل مؤمن وعلى كل مؤمن. فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3].
إن قوله الحق: {وَتَوَاصَوْاْ} لا يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما آخرين يُوصيهم غيرهُم، بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر، هذا هو معنى {وَتَوَاصَوْاْ}.
فإذا رأيت في غيرك ضعفاً في أي ناحية من نواحي أحكام الله، فلك أن توصيه. وكذلك إن رأى غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك، وعندما نتواصى جميعاً لا يبقى لمؤمن بيننا خطأ ظاهر.
إذن فالآية لا تَخُصُ بالوصاية جماعة دون أخرى إنما الكل يتواصون، لأن الأغيار البشرية تتناوب الناس أجمعين. فأنت في فترة ضعفي رقيب علي، فتوصيني، وأنا في فترة ضعفك رقيب عليك، فأوصيك.
ولذلك جاء قول الحق:
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
إنه سبحانه لم يوجه الخطاب للنساء، ولكن خاطب به المؤمنين ولم يخص بالخطاب أولياء أمور النساء فحسب وإنما ترك الحكم للجميع حتى لا يقول أحد: لا علاقة لي بالمرأة التي توفى عنها زوجها ولتفعل ما تشاء. إن لها أن تتزين بالمتعارف عليه إسلاميا في الزينة، ولها أن تتجمل في حدود ما أذن الله لها فيه.

ويختتم الحق هذه الآية بقوله:
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
أي والله أعلم بما في نفسها وبما في نيتها. وهب أنها فعلت أي فعل على غير مرأى من أحد فلا تعتقد أن المجتمع وإن لم يشهد منها ذلك أن المسألة انتهت، لا، إن الله عليم بما تفعل وإن لم يطلع عليها أحد من الناس.
 
إن الحق سبحانه وتعالى قد حمى بكل التشريعات السابقة حق الزوج حتى تنتهي العدة، وحق المتوفى عنها زوجها في أثناء العدة، وحمى أيضا بكل التشريعات كرامة المرأة. وجعل المرأة حرما لا يقترب منه أحد يخدش حجابها، إنّ عليها عدة محسوبة في هذا الوقت لرجل آخر،
فلا يحق لأحد أن يقترب منها.
لماذا؟
لأن المرأة خاصة إذا كانت مطلقة قد تتملكها رغبة في أن تثأر لنفسها ولكرامتها، وربما تعجلت التزوج، وربما كانت مسائل الافتراق أو الخلاف ناشئة عن اندساس رغبة راغب فيها، وبمجرد أن يتم طلاقها وتعيش فترة العدة فقد يحوم حولها الراغبون فيها، أو تستشرق هي من ناحيتها من تراه صالحاً كزوج لها. ولذلك يفرض الحق سياجا من الزمن ويجعل العدة كمنطقة حرام ليحمي المرأة حماية موضوعية لا شكلية.
التشريع لأنه من إله رحيم لا يهدر عواطف النفس البشرية: لا من ناحية الذي يرغب في أن يتزوج، ولا من ناحية المرأة التي تستشرق أن تتزوج، فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم معا جل شأنه: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء...}.


فواصل للمواضيع متحركة

تفسير الآية رقم (235):


{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}

و{عَرَّضْتُمْ}
مأخوذة من التعريض. والتعريض: هو أن تدل على شيء لا بما يؤديه نصا، ولكن تعرض به تلميحا.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية، والتنفيس ليس مجرد تعبير عن العاطفة، ولكنه رعاية للمصلحة، فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع فرصة الزواج للمرأة، أو قد يفوت هذا المنع الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الاحتياط، وكأنه يقول لنا: أنا أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلاماً صريحاً وواضحاً فيها، لكن لا مانع من التلميح من بعيد.

 
مثلا يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلام لا يعد خروجا على آداب الإسلام مثل هذا الكلام هو تلميح وتعريض، وفائدته أنه يعبر عما في نفسه قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها، ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لإنفاذ ما في نفسه، ومنعه من أن يتقدم لخطبتها بعد انتهاء العدة، وقد يدفعه ذلك لأن يفكر تفكيرا آخر: للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ.

إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلان فيها حتى إن جاءها غيره لا توافق عليه مباشرة. وهكذا نرى قبساً من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي المرأة، وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك.

 
إن الحق يقول:
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء}
والخطبة مأخوذة من مادة (الخاء) و(الطاء) و(الباء) وتدل على أمور تشترك في عدة معالم: منها خُطبة بضم الخاء، ومنها خَطْب وهو الأمر العظيم، ومنها المعنى الذي نحن بصدده وهو الخِطبة بكسر الخاء. وكل هذه المعالم تدل على أن هناك الأمر العظيم الذي يُعالج، فالخطب أمر عظيم يهز الكيان، وكذلك الخُطبة لا يلقيها الخطيب إلا في أمر ذي بال، فيعظ المجتمع بأمر ضروري.
 
والخِطبة كذلك أمر عظيم؛ لأنه أمر فاصل بين حياتين: حياة الانطلاق، وحياة التقيد بأسرة وبنظام. وكلها معان مشتركة في أمر ذي بال، وأمر خطير. وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} أي لا جناح عليكم أن وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة، وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء، ولكن ما الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لابد أن تلمح وأن تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة.
 
ويقول الحق:
{عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}،
إن الذي خلقك يعلم أنها ما دامت في بالك، ومات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملا بالنسبة لك، فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك، ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة من بعد ذلك، ولهذا أباح الحق التعريض حتى لا يقع أحدكم في المحظور وهو {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} بأن تأخذوا عليهن العهد ألا يتزوجن غيركم، أو يقول لها: تزوجيني.
بل عليه أن يعرض ولا يفصح ولا يصرح. إن المواعدة في السر أمر منهي عنه، لكن المسموح به هو التعريض بأدب،
{إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}كأن يقول: (يا سعادة من ستكون له زوجة مثلك). ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة. ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده.

ويتابع الحق:
{وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}
وهكذا نرى أن مجرد العزم الأكيد أمر نهى عنه. والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد وأنهى، فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على الله، لكن لا تجعله أمرا مفروغا منه، إلا بعد أن تتم عدتها، فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا عقدة النكاح.
فكأن عقدة النكاح تمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وهي التعريض أي التلميح.
والمرحلة الثانية: هي العزم الذي لا يصح ولا يستقيم أن يتم إلا بعد انتهاء فترة العدة.
والمرحلة الثالثة: هي العقد.

والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا الأمر الجاد، فإن كان التفكير قد هدى إلى العزم فإن للإنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة، وإن كان التفكير قد اهتدى إلى الابتعاد وصرف النظر عن مثل هذا الأمر فللإنسان ما يريد.

ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الآخر أمرا لا يعجبه. وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد لا يكون إلا بعزم، فلا يوجد عقد دون عزم، إن الحق يريد من المسلم ألا يقدم على عقدة النكاح إلا بعد عزم. والعزم معناه التصميم على أنك تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته، وبكل مهر الزواج، ومشروعيته، وإعفافه؛ فالزواج بدون أرضية العزم مصيره الفشل.
ومعنى العزم: أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد، ثم لك أن تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا مجرد شهوة طارئة ليس لها أرضية من عزيمة النفس عليها.

 
ولذلك فإن الزواج القائم على غير رويّة، والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة لا يستمر ولا ينجح. ومثل ذلك زواج المتعة؛ فالعلة في تحريم زواج المتعة أن المقدم عليه لا يريد به الاستمرار في الحياة الزوجية، وما دام لا يقصد منه الديمومة فمعناه أنه هدف للمتعة الطارئة.
والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛
لأنهم يتناسون عنصر الإقبال بديمومة على الزواج،
فما الداعي لأن تقيد زواجك بمدة؟
إن النكاح الأصيل لا يُقيد بمثل هذه المدة. وتأمل حمق هؤلاء لتعلم أن المسألة ليست مسألة زواج، إنما المسألة هي تبرير زنى، وإلا لماذا يشترط في زواج المتعة أن يتزوجها لمدة شهر أو أكثر؟
إن الإنسان حين يشترط تقييد الزواج بمدة فذلك دليل على غباء تفكيره وسوء نيته؛ لأن الزواج الأصيل هو الذي يدخل فيه بديمومة، وقد ينهيه بعد ساعة إن وجد أن الأمر يستحق ذلك، ولن يعترض أحد على مثل هذا السلوك، فلماذا تقيد نفسك بمدة؟ إن المتزوج للمتعة يستخدم الذكاء في غير محله، قد يكون ذكيا في ناحية ولكنه قليل الفطنة في ناحية أخرى.

إن على الإنسان أن يدخل على الزواج بعزيمة بعد تفكير عميق وروية ثم ينفذ العزم على عقد. حذار أن تضع في نفسك مثل هذا الزواج المربوط على مطامع وأهداف في نفسك كعدم الديمومة أو لهدف المتعة فقط، فكل ما يفكر فيه بعض الناس من أطماع شهوانية ودنيوية هي أطماع زائلة. اصرف كل هذه الأفكار عنك؛ لأنك إن أردت شيئاً غير الديمومة في الزواج، وإرادة الإعفاف؛ فالله سبحانه يعلمه وسيرد تفكيرك نقمة عليك فاحذره.

 
إن الله سبحانه لا يحذر الإنسان من شيء إلا إذا كان مما يغضبه سبحانه.
لذلك يذيل الحق هذه الآية الكريمة بقوله:
{واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الأحيان، فإن كان قد حدث منها شيء فالله يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لأنه سبحانه هو الغفور الحليم. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً...}.

فواصل للمواضيع متحركة

.تفسير الآية رقم (236):


{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}

نحن نلاحظ أن الكلام فيما تقدم كان عن الطلاق للمدخول بها، أو عن المرأة التي دخل بها زوجها ومات عنها. ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلاق لامرأة غير مدخول بها. وتأتي هذه الآية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها، وهي إما أن يكون الزوج لم يفرض لها صداقاً، وإما أن يكون قد فرض لها صداقاً.
 
والطلاق قبل الدخول له حكمان:
فُرضت في العقد فريضة، أو لم تفرض فيه فريضة، فكأن عدم فرض المهر ليس شرطاً في النكاح، بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها مهر المثل والعقد صحيح. ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول للزوج بها.
 
ولنا أن نسأل ما هو المس؟
ونقول: فيه مس، وفيه لمس، وفيه ملامسة. فالإنسان قد يمس شيئا، ولكن الماس لا يتأثر بالممسوس، أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو بارد، وإلى غير ذلك.
أما اللمس فلابد من الإحساس بالشيء الملموس، أما الملامسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين.
 
إذن فعندنا ثلاث مراحل:
الأولى هي: مس. والثانية: لمس. والثالثة: ملامسة.
كلمة (المس) هنا دلت على الدخول والوطء، وهي أخف من اللمس، وأيسر من أن يقول: لامستم أو باشرتم، ونحن نأخذ هذا المعنى؛ لأن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصاً في معنى، ولذلك نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة (المس) هنا، فقد قالت السيدة مريم: {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20].
إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحداً من البشر لم يتصل بها ذلك الاتصال الذي ينشأ عنه غلام، والتعبير في منتهى الدقة، ولأن الأمر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها إعفافاً حتى في اللفظ، فنفى مجرد مس البشر لها، وليس الملامسة أو المباشرة برغم أن المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأن الآية بصدد إثبات عفة مريم.

 
ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الآية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير.
والحق يقول: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} وتعرف أن (أَوْ) عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني (إما هذا وإما ذاك)، فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟.

 
إن الأصل المقابل في {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} هو أن تمسوهن. ومقابل {تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} هو: أن لا تفرضوا لهن فريضة. كأن الحق عز وجل يقول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة. وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني.

 
ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلك:
{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}
أي إنّك إذا طلقت المرأة قبل الدخول، ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة. وقال العلماء في قيمة المتعة: إنها ما يوازي نصف مهر مثيلاتها من النساء؛ لأنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر، وما دام لم يُحَّدد لها مهرٌ فلها مثل نصف مهر مثيلاتها من النساء.
ويقول الحق:
{عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}
أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني: عليه أن يعطي ما يليق بعطاء الله له، والمقتر الفقير: عليه أن يعطي في حدود طاقته.

وقول القرآن: {الموسع} مشتق من (أوسع) واسم الفاعل (موسع) واسم المفعول (موسع عليه)، فأي اسم من هؤلاء يطلق على الزوج؟ إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو (موسع عليه)، وإن نظرت إلى أن الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك، وعلى قدر توسيعها يكون اتساع الله لك، فهو (موسع).
 
إذن فالموسع: هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة. والإقتار هو الإقلال، وعلى قدر السعة وعلى قدر الإقتار تكون المتعة. والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكماً تكليفياً لا يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب، ولكنه يوزع المسئولية في الحق الإيماني العام؛ فقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} يعني إذا وُجد من لا يفعل حكم الله فلابد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر الله في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها. والجمع في الأمر وهو قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} دليل على تكاتف الأمة في إنفاذ حكم الله. وبعد ذلك قال: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ...}.

فواصل للمواضيع متحركة

.تفسير الآية رقم (237):


{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}

أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع بها فلا تأخذ المهر كله، إنما يكون لها النصف من المهر. ولنعلم أن هناك فرقاً بين أن يوجد الحكم بقانون العدل، وبين أن يُنظر في الحكم ناحية الفضل، وأحكي هذه الواقعة لنتعلم منها:
 
ذهب اثنان إلى رجل ليحكم بينهما فقالا: احكم بيننا بالعدل. قال: أتحبون أن أحكم بينكما بالعدل؟ أم بما هو خير من العدل؟ فقالا: وهل يوجد خير من العدل؟ قال: نعم. الفضل.
إن العدل يعطي كل ذي حق حقه، ولكن الفضل يجعل صاحب الحق يتنازل عن حقه أو عن بعض حقه. إذن فالتشريع حين يضع موازين العدل لا يريد أن يحرم النبع الإيماني من أريحية الفضل؛ فهو يعطيك العدل،
 
ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك:
{وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ}؛
فالعدل وحده قد يكون شاقاً وتبقى البغضاء في النفوس، ولكن عملية الفضل تنهي المشاحة والمخاصمة والبغضاء.
والمشاحة إنما تأتي عندما أظن أني صاحب الحق، وأنت تظن أنك صاحب الحق، ومن الجائز أن تأتي ظروف تزين لي فهمي، وتأتي لك ظروف تزين لك فهمك، فحين نتمسك بقضية العدل لن نصل إلى مبلغ التراضي في النفوس البشرية. ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا وانتهينا.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي من قبل أن تدخلوا بهن {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني سميتم المهر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} والمقصود ب {يَعْفُونَ} هو الزوجة المطلقة.

 
إن بعض الجهلة يقولون والعياذ بالله: إن القرآن فيه لحن. وظنوا أن الصحيح في اللغة أن يأتي القول: إلا أن يعفوا بدلا من {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ}. وهذا اللون من الجهل لا يفرق بين (واو الفعل) و(واو الجمع) إنها هنا (واو الفعل) فقول الحق: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} مأخوذ من الفعل (عفا) و(يعفو).
وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو عن نصف مهرها وتتنازل عنه لزوجها.
 
ويتابع الحق:
{أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}
والمقصود به الزوج وليس الولي، لأن سياق الآية يفهم منه أن المقصود به هو الزوج، مع أن بعض المفسرين  قالوا: إنه ولي الزوجة. ولنا أن نعرف أن الولي ليس له أن يعفو في مسألة مهر المرأة؛ لأن المهر من حق الزوجة، فهو أصل مال، وأصل رزق في حياة الناس؛ لأنه نظير التمتع بالبضع.
ولذلك تجد بعض الناس لا يصنعون شيئاً بصداق المرأة، ويدخرونه لها بحيث إذا مرض واحد اشترت له من هذا الصداق ولو قرص اسبرين مثلا؛ لأنه علاج من رزق حلال، فقد يجعل الله فيه الشفاء.
فالمرأة تحتفظ بصداقها الحلال لمثل هذه المناسبات لتصنع به شيئا يجعل الله فيه خيراً، لأنه من رزق حلال لا غش فيه ولا تدليس.
وأراد المفسرين الذين نادوا بأن ولي الزوجة هو الذي يعفو وأقول: لماذا يأتي الله بحكم تتنازل فيه المرأة عن حقها وأن تعفو عن النصف، والرجل لا يكون أريحياً ليعفو عن النصف؟ لماذا تجعل السماء الغرم كله على المرأة؟ هل من المنطقي أن تعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقد النكاح يعني أولياء الزوجة، فنجعل العفو يأتي من الزوجة ومن أوليائها؛ أي من جهة واحدة؟

 
إن علينا أن نحسن الفهم لسياق الفضل الذي قال الله فيه: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ}، إن التقابل في العفو يكون بين الاثنين، بين الرجل والمرأة،
 
ونفهم منه المقصود بقوله تعالى:
{أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}
أنه هو الزوج، فكما أن للمرأة أن تعفو عن النصف المستحق لها فللزوج أن يعفو أيضا عن النصف المستحق له.

ويقول الحق:
{وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى}؛
لأن من الجائز جدا أن يظن أحد الطرفين أنه مظلوم، وإن أخذ النصف الذي يستحقه. لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك أقرب للتقوى وأسلم للنفوس. ولنا أن نتذكر دائما في مثل هذه المواقف قول الحق: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} فحتى في مقام الخلاف الذي يؤدي إلى أن يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها يقول الله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} أي لا تجعلوها خصومة وثأراً وأحقاداً، واعلموا أن الحق سبحانه يجعل من بعض الأشياء أسباباً مقدورة لمقدور لم نعلمه. وهذه المسألة تجعل الإنسان لا يعتقد أن أسبابه هي الفاعلة وحدها.
 
ومثال ذلك: قد نجد رجلا قد أعجب بواحدة رآها فتزوجها، أو واحدة أخرى رآها شاب ولم تعجبه، ثم جاء لها واحد آخر فأعجب بها، معنى ذلك أن الله عز وجل كتب لها القبول ساعة رأت الشاب أهلاً لها ورآها هي أهلاً له. ولذلك كان الفلاحون قديماً يقولون: لا تحزن عندما يأتي واحد ليخطب ابنتك ولا تعجبه؛ لأنه مكتوب على جبهة كل فتاة: أيها الرجال عِفّوا بكسر العين وتشديد الفاء عن نساء الرجال؛ فهي ليست له، ولذلك فليس هذا الرجل من نصيبها. وعلينا ألا نهمل أسباب القدر في هذه الأمور؛ لأن هذا أدعى أن نحفظ النفس البشرية من الأحقاد والضغائن.

ويختم الحق الآية بقوله:
{إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
إنه سبحانه يعلم ما في الصدور وما وراء كل سلوك. وبعد ذلك تأتي آية لتثبت قضية إيمانية، هذه القضية الإيمانية هي أن تكاليف الإسلام كلها تكاليف مجتمعة، فلا تستطيع أن تفصل تكليفاً عن تكليف، فلا تقل: (هذا فرض تعبدي) و(هذا مبدأ مصلحي) و(هذا أمر جنائي)، لا. إن كل قضية مأمور بها من الحق هي قضية إيمانية تُكَوِّنُ مع غيرها منهجا متكاملاً. فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطلاق يقول: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى...}.


نداء الايمان

قد تكون صورة لـ ‏‏‏٢‏ شخصان‏ و‏نص‏‏

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
مادرانه/ اصول تربيت ديني ـ فرهنگي 1


{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}
ثم يعود إلى الأسرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول:
{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240].

إذن فالحق سبحانه وتعالى فَصَلَ بآية:
{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات..}
بين قضية واحدة هي قضية الفراق بين الزوجين وقسمها قسمين، وأدخل بينهما الحديث عن الصلاة، وذلك لينبهنا إلى وحدة التكاليف الإيمانية، ونظرا لأن الحق يتكلم هنا عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري بالطلاق، وإما افتراق قدري بالوفاة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل الإنسان في العملية التعبدية التي تصله بالله الذي شرع الطلاق والصلاة وقدر الوفاة.
ولماذا اختار الله الصلاة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلام عن تشريع الطلاق والفراق؟
 
لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الاطمئنان، إن كانت أمور الزواج والطلاق حزبتهم وأهمتهم في شقاق الاختيار في الطلاقات التي وقعت أو عناء الافتراق بالوفاة. ولن يربط على قلوبهم إلا أن يقوموا لربهم ليؤدوا الصلاة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يفعل ذلك، كان إذا ما حزبه أمر قام إلى الصلاة.
 
إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلاق والفراق؛ ليسأله أن يخفف عنه الهم والحزن. ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري الأقدار فله أن يعرف أن الله الذي أجرى تلك الأقدار عليه لم يتركها بلا أحكام، بل وضع لكل أمر حكما مناسبا، وما على المؤمن إلا أن يأخذ الأمور القدرية برضا ثم يذهب إلى الله قانتا وخاشعا ومصليا. لأن المسألة مسألة الطلاق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري.


بين آيات القرآن تستريح النفوس المتعبة - بين آيات القرآن تستريح النفوس  المتعبة 🍀💙 - Wattpad
 
ويأتي قوله تعالى:
{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى}
فنفهم أن المقصود في الآية هي الصلوات الخمس،
فما المقصود بالصلاة الوسطى؟
ساعة يأتي خاص وعام مثل قوله تعالى: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} [نوح: 28].
فكم مرة دخل الأب والأمر هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى: {اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ}، وفي قوله: {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ}، وفي قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات}، أي دخلوا ثلاث مرات.
إذن فإيجاد عام بعد خاص، يعني أن يدخل الخاص في العام فيتكرر الأمر بالنسبة للخاص تكراراً يناسب خصوصيته.
وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} تفهم ذلك المعنى فإذا سألنا: ما معنى حافظوا؟ الجواب إذن يقتضي أن نفهم أن عندنا (حفظاً) يقابل (النسيان)، و(حفظا) يقابله (التضييع)، والاثنان يلتقيان، فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد ضيعه.
والذي حفظ مالا ثم بدده، لقد ضيعه أيضاً، إذن كلها معانٍ تلتقي في فقد الشيء، فالحفظ معناه أن تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا ما حفظت آية في القرآن فلابد أن تحفظها في نفسك، ولو أنعم الله عليك بمال فلابد أن تحافظ عليه.

وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} معناه لا تضيعوها. ويُحتمل أيضاً معنى آخر هو أنكم قد ذقتم حلاوة الصلاة في القرب من معية ربكم، وذلك أجدر وأولى أن تتمسكوا بها أكثر، وذلك القول يسري على الصلوات الخمس التي نعرفها.

بين آيات القرآن تستريح النفوس المتعبة - بين آيات القرآن تستريح النفوس  المتعبة 🍀💙 - Wattpad
 
قوله تعالى:
{والصلاة الوسطى}
ذكر للخاص بعد العام، فكأن الله أمر بالمحافظة على ذلك الخاص مرتين، مرة في دائرة العموم ومرة أخرى أفردها الله بالخصوص.
وما العلة هنا في تفرد الصلاة الوسطى بالخصوص؟
إن (وسطى) هي تأنيث (أوسط)، والأوسط والوسطى هي الأمر بين شيئين على الاعتدال، أي أن الطرفين متساويان، ولا يكون الطرفان متساويين في العدد وهي الصلوات الخمس إلا إذا كانت الصلوات وتراً؛ أي مفردة؛ لأنها لو كان زوجية لما عرفنا الوسطى فيها، ومادام المقصود هو وسط الخمس، فهي الصلاة الثالثة التي يسبقها صلاتان ويعقبها صلاتان، هذا إن لاحظت العدد، باعتبار ترتيب الأول والثاني والثالث والرابع والخامس.
 
وإذا كان الاعتبار بفريضة الصلاة فإن أول صلاة فرضها الله عز وجل هي صلاة الظهر، هذا أول فرض، وبعده العصر، فالمغرب، فالعشاء، فالفجر. فإن أخذت الوسطى بالتشريع فهي صلاة المغرب وهذا رأي يقول به كثير من العلماء.
وإن أخذت الوسطى بحسب عدد ركعات الصلاة فستجد أن هناك صلاة قوامها ركعتان هي صلاة الفجر وصلاة من أربع ركعات وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، وصلاة من ثلاثة ركعات هي صلاة المغرب. والوسط فيها هي الصلاة الثلاثية، وهي وسط بين الزوجية والرباعية فتكون هي صلاة المغرب أيضا. وإن أخذتها بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار والظهر بعده ثم العصر والمغرب والعشاء، فالوسطى هي العصر.

وإن أخذتها على أنها الوسط بين الجهرية والسرية فيحتمل أن تكون هي صلاة الصبح أو صلاة المغرب؛ لأن الصلوات السرية هي الظهر والعصر، والجهرية هي المغرب والعشاء والفجر. وبين العشاء والظهر تأتي صلاة الصبح، أو صلاة المغرب باعتبار أنها تأتي بين الظهر والعصر من ناحية، والعشاء والصبح من ناحية أخرى.

وإن أخذتها لأن الملائكة تجتمع فيها فهي في طرفي النهار والليل فذلك يعني صلاة العصر أو صلاة الصبح.
 
إذن، فالوسط يأتي من الاعتبار الذي تُحسب به إن كان عدداً أو تشريعا، أو عدد ركعات، أو سرية أو جهرية أو بحسب نزول ملائكة النهار والليل، وكل اعتبار من هؤلاء له حكم.

ولماذا أخفى الله ذكرها عنا؟
نقول: أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن هناك فرقا بين الشيء لذاته، والشيء الذي يُبهم في سواه؛ ليكون كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إلى المحافظة على جميع الصلوات.
فما دامت الصلاة الوسطى تصلح لأن تكون الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فذلك أدعى للمحافظة على الصلوات جميعا.
فإبهام الشيء إنما جاء لإشاعة بيانه. ولذلك أبهم الله ليلة القدر للعلة نفسها وللسبب نفسه، فبدل أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت ليال أقدار.

كذلك قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} أي على الصلوات الخمس بصفة عامة وكل صلاة تنفرد بصفة خاصة. ويريد الحق سبحانه أن نقوم لكل صلاة ونحن قانتون، والأمر الواضح هو {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وأصل القنوات في اللغة هو المداومة على الشيء، وقد حضر وحث القرآن الكريم على ديمومة طاعة الله ولزوم الخشوع والخضوع، ونرى ذلك في قول الحق الكريم: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الزمر: 9].
 
إن الحق سبحانه يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغنا نحن المسلمين المؤمنين برسالته أن نقارن بين الذي يخشع لله في أثناء الليل فيقضيه قائماً وساجداً يرجو رحمة ربه، وبين الذي يدعو ربه في الضراء وينساه في السراء، هل يستوي الذين يعلمون حقوق الله فيطيعوه ويوحدوه والذين لا يعلمون فيتركوا النظر والتبصر في أدلة قدرات الله؟ إن السبيل إلى ذكر الله هو تجديد الصلة به والوقوف بين يديه مقيمين للصلاة.


بين آيات القرآن تستريح النفوس المتعبة - بين آيات القرآن تستريح النفوس  المتعبة 🍀💙 - Wattpad
 
ونحن نتلقى الأمر بإقامة الصلاة حتى في أثناء القتال، لذلك شرع لنا صلاة الخوف، فالقتال هو المسألة التي تخرج الإنسان عن طريق أمنه،
فيقول سبحانه:
{فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}،
إننا حتى في أثناء القتال والخوف لا ننسى ذكر الله؛ لأننا أحوج ما نكون إلى الله أثناء مواجهتنا للعدو، ولذلك لا يصح أن نجعل السبب الذي يوجب أن نكون مع الله مبررا لأن ننسى الله.
وكذلك المريض، مادام مريضاً فهو مع معية الله، فلا يصح أن ينقطع عن الصلاة؛ لأنه لا عذر لتاركها، حتى المريض إن لم يستطع أن يصلي واقفا صلى قاعداً، فإن لم يستطع قاعدا؛ فليصل مضطجعا، ويستمر معه الأمر حتى لو اضطر للصلاة برموش عينيه. كذلك إن خفتم من عدوكم صلوا رجالا، يعني سائرين على أرجلكم أو ركبانا و(رجالا) جمع (راجل) أي يمشي على قدميه، ومثال ذلك قوله الحق: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} [الحج: 27] لقد كان الناس يؤدون فريضة الحج سيراً على الأقدام أو ركباناً على إبل يضمرها السفر من كل مكان بعيد. إذن فالراجل هو من يمشي على قدميه.

 
والأرجل مخلوقة لتحمل بني الإنسان: الواقف منهم، وتقوم بتحريك المتحرك منهم، فإن كان الإنسان واقفا حملته رجلاه، وإن كان ماشيا فإن رجليه تتحركان. والمقصود هنا أن الصلاة واجبة على المؤمنين سائرين على أقدامهم أو ركبانا.

هذه المسألة قد فصلها الحق سبحانه وتعالى في صلاة الخوف بأن قسم المسلمين قسمين: قسما يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى، ثم يتمون الصلاة وحدهم ويأتي القسم الآخر ليأتم بالرسول في الركعة التي بعدها حتى تنتهي الصلاة بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وينتظرهم حتى يفرغوا من صلاتهم ويسلم بهم، فيكون الفريق الأول أخذ فضل البدء مع الرسول، والفريق الآخر أخذ فضل الانتهاء من الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك في غزوة ذات الرقاع فكلٌ من الفرقتين كانت تقف في وجه العدو للحراسة في أثناء صلاة الفرقة الأخرى.

 
ولي رأي في هذه المسألة هو أن صلاة الخوف بالصور التي ذكرها الفقهاء إنما كانت للمعارك التي يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصح أن يكون هناك جيش يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحرم الباقي من أن يصلي خلفه، لذلك جعل الله بركة الصلاة مع رسول الله للقسمين.

لكن حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فمن الممكن أن يكون للواقفين أمام العدو إمام وللآخرين إمام، إذن كان تقسيم الصلاة وراء الإمام في صلاة الخوف إنما كان لأن الإمام هو الإمام الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشأ الله أن يحجب قوما عن الصلاة مع رسول الله عن قوم آخرين، فقسم الصلاة الواحدة بينهم. لكن في وقتنا الحالي الذي انتظمت فيه المسائل، وصار كل الناس على سواء، ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، لذلك يصح أن تُصلي كل جماعة بإمام خاص بهم.
 
وقوله الحق:
{فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}
نفهم منه الصلاة لا تسقط حتى عند لقاء العدو، فإذا حان وقت الصلاة فعلى المؤمن أن يصليها إذا استطاع فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين ويتابع الحق فيقول: {فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي اذكروا الله على أنه علمكم الأشياء التي لم تكونوا تعلمونها، فلو لم يعلمكم فماذا كنتم تصنعون؟
 
وبعد ذلك يعود الحق لسياق الحديث عن المتوفى عنها زوجها فيقول: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ...}.
 
 

تفسير سورة البقرة - الآيات رقم 238-239 للشيخ الشعراوي - YouTube

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

انتقام عجیب یک دختر از دوست پسر خیانتکارش - گفت و گو آزاد - تالار بازی های  ایواک


تفسير الآية رقم (240):

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}

في آية سابقة قال الحق: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234].
 
إذن نحن أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجا،
حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا،
وحكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي بأن تظل الزوجة في بيته حولا كاملا لا تُهاج،
وتكون الأربعة الأشهر والعشر فريضة وبقية الحول والعام وصية،
إن شاءت أخذتها وإن شاءت عدلت عنها.
 
{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً}
هذه وصية من الزوج عندما تحضره الوفاة. إذن فالمتوفى عنها زوجها بين حكمين: حكم لازم وهو فرض عليها بأن تظل أربعة أشهر وعشراً، وحكم بأن يوصي الزوج بأن تظل حولا كاملا لا تُهاج إلا أن تخرج من نفسها. و{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي لا يخرجها أحد.
{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
إن لها الخيار أن تظل عاما حسب وصية زوجها، ولها الخيار في أن تخرج بعد الأربعة الأشهر والعشر.


programalershad

.تفسير الآية رقم (241):

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}

إن لكل المطلقات في أي صورة من الصور متاعاً، ولكنه سبحانه قد بين المتاع في كل واحدة بدليل أنه أوضح لنا: إن لم تفرضوا لهن فريضة فقال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}. وإن كنتم فرضتم لها مهراً فنصف ما فرضتم، فكأن الله قد جعل لكل حالة حكما يناسبها، ولكل مطلقة متعة بالقدر الذي قاله سبحانه.

programalershad

.تفسير الآية رقم (242):

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}

فنحن نعرف مما سبق أن الآيات هي الأمور العجيبة، والحق سبحانه وتعالى حين ينبه العقل إلى استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا الموضوع فلن ينتهي إلا إلى هذا الحكم. ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض المشادات في التعامل والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع الله في أي شيء من الأشياء التي تقدمت، ثم يصيب المجتمع شر من المخالفة، وكأنه بذلك يؤكد حكمته في تشريع ما شرع. وإلا لو لم تحدث من المخالفات شرور لقال الناس: إنه لا داعي للتشريع. ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر.
 
إذن فحين لا نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لأنه لو لم تحدث الشرور لاتهم الناس منهج الله وقالوا: إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك، ومع ذلك لا شرور عندنا. فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق الله وكمال حكمته في تحديد منهجه. وهكذا يكون المخالفون لمنهج الله مؤيدين لمنهج الله. وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علاج قضية إيمانية وهو أن الله حين يقدر قدرا لا يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر،


programalershad
.تفسير الآية رقم (243):


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}

بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالأسرة المسلمة في حالة علاج الفراق في الزواج إما بالطلاق وإما بالوفاة، أراد الحق سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تعرف أن أحداً لن يفر من قدر الله إلا إلى قدر الله، فالأمة الإسلامية هي الأمة التي أمنها على حمل رسالة ومنهج السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلم يعد محمد صلى الله عليه وسلم بأتى ولا نبي يُبعث. ولابد لمثل هذه الأمة أن تُربى تربية تناسب مهمتها التي حملها الله إليها. ولابد أن يضع الحق سبحانه وتعالى بين يدي هذه الأمة كل ما لاقته وصادفته مواكب الرسل في الأمة السابقة ليأخذوا العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج لا من نظريات تُتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في المجتمع.

أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ولا أحد غيره، وواهب الحياة هو الذي يأخذها. ولم يضع لهبة الحياة سبباً عند الناس. وإنما هو سبحانه الذي يحيى ويميت. وفي الحياة والموت استبقاء للنوع الإنساني، ولكن استبقاء حياة الأفراد إنما ينشأ من التمول.

ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلام مع قومه وهم بنو إسرائيل، ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لأنها الأمة التي أتعبت الرسل، وأتعبت الأنبياء، وكان لابد أن يعرض الحق هذا الأمر برمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من واقع ما حدث، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت}. ونعرف من هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا. أما عن سبب هذا الموت فلم تتعرض له الآيات، وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلاما طويلاً، فمنهم من قال: إنهم خرجوا هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا، وبعضهم قال: إنهم خرجوا فِراراً من عدو قد سُلط عليهم ليستأصلهم، المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت.

إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم، ولكن ما هو السبب ولماذا الخروج؟ فذلك أمر لا يهم؛ لأن القرآن لا يعطي تاريخا، فلم يقل متى كانت الوقائع ولا زمنها، ولا على يد من كان هذا، ولا يحدد أشخاص القضية، كل ذلك لا يهتم به القرآن. والذين يتعبون أنفسهم في البحث عن تفاصيل تلك الأمور في القصص القرآني إنما يحاولون أن يربطوا الأشياء بزمن مخصوص، ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة.

ونقول لهم: إن القرآن لو أراد ذلك لفعل، ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة لبيّنه الحق لنا، وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لأن مدلول القصة إن تحدد زمنها، فربما قيل: إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة والزمن الآن لم يعد يحتملها، وربما قيل: إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل حدوثها، إنما الأمكنة الأخرى لا تحتمل.
وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل: إنّ القصص لا يمكن أن تحدث إلا على يد هذه الشخصيات؛ لأنها فلتات في الكون لا تتكرر.

 
إن الله حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والأشخاص وعمومية الأمكنة إنه سبحانه يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها مشخصة. وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل الكهف ومكان أهل الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف. نقول لهؤلاء: أنتم لا تثرون القصة، لأنكم عندما تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال: إنها لا تنفع إلا للزمان الذي وقعت فيه.
ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم،
وإن أراد أن يحدد فهو يشخِّص
ومثال ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10].
لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين، بل ذكر فقط الأمر المهم وهو أن كلا منهما كانت زوجة لرسول كريم، ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته، ولم يستطع لوط عليه السلام أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته، بل كانت كل من المرأتين تتآمر ضد زوجها- وهو الرسول- مع قومها، لذلك كان مصير كل منهما النار،
 
والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للإنسان، فحرية العقيدة أساس واضح من أسس المنهج.

وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعون: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].
لم يذكر اسمها؛ لأنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى الألوهية، ومع ذلك لم يستطع أن يقنع امرأته بأنه إله. لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها السلام: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12].

لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها، ذلك لأن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة أخرى. فالذين يحاولون أن يُقَوّوا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم: أنتم تُفقرون القصة؛ فالمهم هو أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول: إنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.

 
ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق:
{أَلَمْ تَرَ}.
أنت تقول لإنسان: {أَلَمْ تَرَ} يعني ألم ير بعينيه، وبالله هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم الساعة رأوا هذه المسألة؟ لا. لقد وصلتهم بوسيلة السماع وليس بالرؤية. ونحن نعلم أن الرؤية تكون بالعين، والسماع يكون بالأذن، والتذوق يكون باللسان، والشم يكون بالأنف، واللمس يكون باليد، إن هذه هي الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات، وفي ذلك اقرأ قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس، وسيدة الحواس هي العين؛ لأنه من الممكن أن تسمع شيئا من واحدٍ بتجربته هو، لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك، ولذلك يقال: (ليس مَن رأى كمن سمع)، فإذا أراد الحق أن يقول: ألم تعلم يا من أخاطبك بالقرآن خبر هؤلاء القوم؟
فهو سبحانه يأتي بها على هذه الصورة:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ}
ويعني ألم تعلم والعلم هنا بأي وسيلة؟
بالسمع.
ولماذا لم يختصر سبحانه المسافة ويقول:
(ألم تسمع) بدلا من {أَلَمْ تَرَ}؟.
إنه في قوله: {أَلَمْ تَرَ} يخبرك بشيء سابق عن وجودك أو بشيء متأخر عن وجودك، فعليك أن تستقبله استقبالك لما رأيته؛ لأن الله الذي خلق الحواس هو سبحانه أصدق من الحواس، ولذلك جاء قوله تعالى في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1].
إننا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل ولم ير هذه الحادثة فكيف يقول الله له ألم تر؟
إن المعنى من ذلك هو (ألم تعلم)؟ (ألم تسمع مني) ولم يقل (ألم تسمع)؟ لكي يؤكد له أنه سيقول له حدثاً هو لم يره ولكن الحق سيخبره به، وإخبار الحق له كأنه يراه. فكأن الله يقول: إن هذه مسألة مفروغ منها وساعة أخبرك بها فكأنك رأيتها.
ونحن نسمع في حياتنا قول الناس: إن فلانا ألمعي. ومعنى ذلك أنه يحدثك حديثاً كأنه رأى أو سمع.
الألمعي الذي يظن بك الظن ** كأن قد رأى وقد سمعا

ويحدثنا الحق عن هؤلاء القوم فيقول:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
إنه سبحانه يخبرنا بأن الأمر الذي يفرون منه لاحق بهم، لأنه لا يَحتاط من قدر الله أحد، لذلك أماتهم الله ثم أحياهم ليتعظوا. ولو أخر الله الإحياء إلى يوم البعث فلن تؤثر العبرة؛ لأنه بعد يوم القيامة لا اعتبار ولا تكليف، وكل ذلك لا قيمة له.

وقوله تعالى:
{حَذَرَ الموت}
بيان لعلة الخروج، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لهم أن هذه قضية لا ينفع فيها الحذر، أنتم خرجتم خوفا من الموت سأميتكم والذي كنتم تطلبونه بعد الموت سأحدث لكم غيره، لذلك أحياهم إحياءً آخر حتى يتحسروا، ويأخذوا أجلهم المكتوب {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} حتى يبين لكم أن أمر الموت بيده سبحانه سواءً كان خوفهم من الموت نابعاً من أعدائهم أو من وباء وطاعون، فالأمر في جوهره لا يختلف، ولو أن الآية ذكرت أنهم خرجوا خوفا من وباء ما كنا فهمنا منها احتمال خروجهم خوفاً من أعدائهم. إذن إبهام السبب المباشر في القضية أعطاها ثراءً.
وقوله تعالى:
{وَهُمْ أُلُوفٌ} يبين لنا مدى الخيبة والغباء الذي كانوا فيه، لأنهم كيف يخرجون خائفين من الأعداء وهم ألوف مؤلفة. ولم يظهر واحد من هؤلاء الألوف ليقول لهم: إن الموت والحياة بيد الله.
 
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ}.
وساعة تأمر مأمور منك بأمر فلابد أن يكون عندك طلاقة قدرة أن تفعل، وهل إذا قلت لأحد: مت، سيموت؟ إذا أمات نفسه فقد قتلها، وفرق كبير بين الموت والقتل. إنما الموت يأتي بلا سبب من الميت، ولكن القتل ربما يكون بسبب الانتحار أو بأي وسيلة أخرى، المهم أنه قتل للنفس وليس موتا.
ويوضح لنا الحق الفرق بين القتل والموت حين يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].
ولقد جاءت هذه الآية في مجال استخلاص العبر من هزيمة أحد حين شاع بين المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ففكر بعض منهم في الارتداد، وجاء قول الحق موضحاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج، والأمة المسلمة التي أمنها الله على تمام المنهج لا يصح أن يهتز الإيمان فيها بموت الرسول الكريم؛ لأن من ينقلب ويرتد فلن يضر الله شيئاً، إنما الجزاء سيكون للشاكرين العارفين فضل منهج الله.

 
ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل، وأوضح في الآية التالية أمر الموت حين قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 145].
إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة الله وطلاقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله، فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها، ومن عمل للآخرة فسيجزيه الله في دنياه وآخرته.

 
لذلك يصدر الأمر من الحق بقوله:
{فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}
فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا موتهم، أو أمر عودتهم إلى الحياة، لكنه أمر تسخيري. إنهم يموتون بطلاقة قدرته المتمثلة في (كن فيكون). ويعودون إلى الحياة بتمام طلاقة القدرة المتمثلة في (كن فيكون). فليس لهم رأي في مسألة الموت أو العودة للحياة، إنه أمر تسخيري، كما قال الحق من قبل للأرض والسماء: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11].
لقد شاءت قدرته أن يخلق السماء على هيئة دخان فوُجدت، وخلقه للسماوات والأرض على وفق إرادته وهو هين عليه بمنزلة ما يقال للشيء احضر راضيا أو كارها، فيسمع الأمر ويطيعه. وهذه أمور تسخيرية من الخالق الأكرم، وليس للمخلوق من سماوات وأرض وما بينهما إلا الامتثال للأمر التسخيري من الخالق عز وجل. فعندما يقول الحق سبحانه: {مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فهذا أمر تسخيري بالموت، وأمر تسخيري بعودتهم إلى الحياة.

وأليس الموت هو ما خافوه وفروا منه واحتاطوا بالهرب منه؟
نعم، لكن لا أحد بقادر على أن يحتاط على قدر الله؛ لأن الحق أراد لهم أن يعرفوا أن أحداً لا يفر من قدر الله إلا لقدر الله. ولذلك فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد للناس ألا تذهب إلى أرض فيها الطاعون. قالوا له: أتفر من قدر الله؟
قال عمر: نعم: نِفرُّ من قدر الله إلى قدر الله.

 
إن ذلك يجعل الإنسان في تسليم مطلق بكل جوارحه لله. صحيح على الإنسان أن يحتاط، ولكن القدر الذي يريده الله سوف ينفذ. والمؤمن يأخذ بالأسباب، ويسلم أمره إلى الله.
وقد يقول قائل: لماذا لم يترك الله هؤلاء القوم من بني إسرائيل ليموتوا وإلى أن يأتي البعث يوم القيامة ليحاسبهم.

وأقول: لقد أراد الحق سبحانه بالأمر التسخيري بالإحياء ثانية أن توجد العبرة والعظة، ولتظل ماثلة أمام أعين الخلق ومحفوظة في أكرم كتاب حفظه الله منهجا للناس وهو القرآن الكريم. إن الحق أراد بالأمر عظة واعتبارا وتجربة يموتون بأمر تسخيري، ويعودون إلى الحياة بأمر تسخيري آخر، ثم يعيشون الحياة المقدرة لهم ويموتون بعدها حتف أنوفهم، ولتظل عبرة ماثلة أمام كل مؤمن حق، فلا يخاف الموت في سبيل الله.
لقد أراد الله بهذه التجربة أن نستخدم قضية الجهاد في سبيل الله، فلا يظن ظان أن القتال هو الذي يسبب الموت، إنما أمر الموت والحياة بيد واهب الحياة. وهاهو ذا قول خالد بن الوليد على فراش الموت باقياً ليعرفه كل مؤمن بالله:
لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي شبرا إلا وفيه ضربة سيف أو طعنه برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء.

إذن فأمر الحياة والموت ليس مرهونا بقتال أو غيره، إنما هو محدد بمشيئة الله.

ولننظر إلى تذييل الآية حين يقول الحق:
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ}.
وما الفضل؟
إنه أن تتلقى عطاءً يزيد على حاجتك. والحق سبحانه وتعالى لا يعطي الناس فقط على قدر حاجتهم إنما يعطيهم ما هو أكثر من حاجتهم. إذن فلو مات هؤلاء القوم الذين خرجوا من ديارهم خوفاً من وباء أو عدو لكان هذا الموت فضلا من عند الله؛ لأنهم لو ماتوا بالوباء لماتوا شهداء، وهذا فضل من الله. ولو ماتوا في لقاء عدو وحاربوا في سبيل الله لنالوا الشهادة أيضا، وذلك فضل من الله.
لماذا يكون مثل هذا الموت فضلا من الله؟
لأننا جميعا سوف نموت، فإن مات الإنسان استشهادا في سبيله فهذا عطاء زائد. لكن أكثر الناس لا يشكرون؛ لأنهم لا يعلمون مدى النعمة فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى عليهم من أمور؛ لأن الناس لو علمت مدى النعمة فيما يجريه الحق عليهم من أحداث بما فيها الإحياء والإماتة، لشكروا الله على كل ما يجريه عليهم، فالحق سبحانه وتعالى لا يجري على البشر، وهم من صنعته إلا ما يصلح هذه الصنعة، وإلا ما هو خير لهذه الصنعة.
لقد استبقى الحق سبحانه هذه العبرة بما أجراه على بعض من بني إسرائيل لنرى أن القتال في سبيل الله هو من نعم الله على العباد، فلا مهرب من قضاء الله. وهاهو ذا الشاعر العربي يقول:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغي ** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ** فدعني أبادرها بما ملكت يدي

إن الشاعر يسأل من يوجه له الدعوة لا إلى القتال، ولكن إلى الاستمتاع بملذات الحياة قائلاً: ما دمت لا تملك لي خلوداً في هذه الحياة ولا أنت بقادر على رد الموت عني فدعني أقاتل في سبيل الله بما تملكه يداي.
وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر الله فأجرى عليهم الموت تسخيراً وأعادهم إلى الحياة تسخيرا، وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي إليهم الأمر بالقتال في سبيل الله. فلا تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم الموت؛ لأن الموت يأتي في أي وقت. بعد ذلك يقول الحق: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}.


May be an image of ‎‎راجي الفردوس‎‎

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

 


متحرک بسم الله الرحمن الرحيم زیبا برای پاورپوینت
تفسير الآية رقم (244):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}

إنه الأمر الواضح بالقتال في سبيل الله دون مخافة للموت. لماذا؟
لأن واهب الحياة وكاتب الأجل سميع عليم، سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه.
وكان الجهاد قديما عبئاً ثقيلاً على المجاهد؛ لأنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة حصاناً أو جملاً ويتحمل سلاحه، كان كل مجاهد يُعِدّ عدته للحرب، فكان ولابد إذا سمح لنفسه أن تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله، وأن يجهز عدته للحرب، وعلى ذلك كان القتال بالنفس والمال أمراً ضروريا.

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى الأموال فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً...}.

تفسير الشعراوي للآية 244 من سورة البقرة | مصراوى

.تفسير الآية رقم (245):


{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}

ساعة تسمع {يُقْرِضُ الله} فذلك أمر عظيم؛ لأنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض الله، ولكن المسألة لا تكون واضحة، لماذا؟
لأن ذلك الإنسان سيستفيد استفادة مباشرة، لكن عندما تنفق في سبيل الله فليس هناك إنسان بعينه تعطيه، وإنما أنت تعطي المعنى العام في قضية التدين، وتعاملك فيها يكون مع الله. كأنك تقرض الله حين تنفق من مالك لتعد نفسك للحرب.

والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على النفس البشرية، وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس. والقرض في اللغة معناه قضم الشيء بالناب، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية الإقراض هي مسألة صعبة، وحتى يبين للناس أنه يعلم صعوبتها جاء بقوله: {يُقْرِضُ}، إنه المقدر لصعوبتها، ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة.

 
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً}.
وما هو القرض الحسن؟
وهل إذا أقرضت عبداً من عباد الله لا يكون القرض حسنا؟
أولا إذا أقرضت عبداً من عباد الله فكأنك أقرضت الله، صحيح أنت تعطي الإنسان ما ييسر له الفرج في موقف متأزم، وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد لا تعطي إنساناً بعينه وإنما تعطي الله مباشرة، وهو سبحانه يبلغنا: أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني. كيف؟ لأن الله هو الذي استدعى كل عبد له للوجود، فإذا احتاج العبد فإن حاجته مطلوبة لرزقه في الدنيا، فإذا أعطى العبد لأخيه المحتاج فكأنه يقرض الله المتكفل برزق ذلك المحتاج.
وقوله تعالى: {يُقْرِضُ الله} تدلنا على أن القرض لا يضيع؛ لأن القرض شيء تخرجه من مالك على أمل أن تستعيده، وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي سيقترض منك، وأنه سيرد ما اقترضه، لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة أضعافا مضاعفة، إن الأصل محفوظ ومستثمر،
ولذلك يقول:
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}
إنها أضعاف كثيرة بمقاييس الله عز وجل لا بمقاييسنا كبشر.
والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لابد أن يكون من حلال، ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا: (ليتها لم تزن ولم تتصدق).

والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص، لذلك فالله يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة هذا القرض، وذلك مناسب تماماً لقوله تعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} التي جاء بها في قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال الذي تقرض منه ينقص في ظاهر الأمر ولكن الله سبحانه يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة وفي الآخرة يكون الجزاء جزيلا.

ثم ينتقل الله عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} تأكيدا للخبر الذي سيأتي بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي، يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى...}.

تفسير الشعراوي للآية 245 من سورة البقرة | مصراوى

.تفسير الآية رقم (246):


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}

إن الحق سبحانه يبلغنا بوسيلة السماع عنه، وعلينا أن نتلقى ذلك الأمر كأننا نراه بالعين، فماذا نرى؟
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ}،
ما معنى الملأ؟
هي من ملأ يعني ازدحم الإناء، ولم يعد فيه مكان يتحمل زائداً. وأن الظرف قد شُغل بالمظروف شغلا لم يعد يتسع لسواه. وكلمة (ملأ) تُطلق على أشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا يستطيع غيرهم أن يزاحمهم. و{الملإ} من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى} أي ألم يأتك خبر وجوه القوم وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام مثلا في عصر (يوشع) أو (حزقيل أو شمويل) أو أي واحد منهم، ولا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا، المهم أنهم كانوا بعد موسى عليه السلام. {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله}.
لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصراً لهم وقالوا له: ابعث لنا ملكا.
ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك.
وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم وعدم وجود ملك لهم؟
نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال. ولو كانت النبوة تباشر أعمالاً لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضه للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في تصريف بعض الأمور، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك. ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعاً للحق، ولا تكون موطناً للوم في أي شيء.

الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل: أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ أي أشراف القوم وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم. إذن علة طلب القتال موجودة، ومع ذلك قال لهم النبي: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال: إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون.

لكنهم قالوا:
{وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا}..
انظر إلى الدقة في قولهم: {فِي سَبِيلِ الله} وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا: إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في سبيله.
وكان إخراجهم من ديارهم أمراً معقولاً، لكن كيف يخرجون من أبنائهم؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو، وربما أخذهم العدو أسرى. لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء قول الشاعر:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ** ألا تفارقهم فالراحلون همو

وانظر إلى التمحيص، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له: ابعث لنا ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله} يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟

 
وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى:
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ}
إن قوله: {كُتِبَ} لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء التعبير ب {كُتِبَ} ولم يأت ب (كَتبَ)، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال.
لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال، ويقول لهم:
{هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ}.
ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟
لا؛ فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول الشاعر:
إن الذي جعل الحقيقة علقماً ** لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً

لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا انحسرت الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول: (إني قليل)؛ لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى.
وقد يكون عدوك كثيراً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً}. كلمة {إِلاَّ قَلِيلاً} جاءت لتخدم قضية، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249].

أي أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. أنت ترى زهرة جميلة، والرؤية قدر مشترك عند الجميع، ورآها غيرك، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك، بينما رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال مِلْكُ من هي، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن المواجيد تختلف. أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري رآهم كثيرين وقال: لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب.

{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين}
إذن فالتولي ظلم للنفس؛ لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه، وأنت أخرجت من ديارك وظللت على هذا الحال، إذن فقد ظلمت نفسك، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك، وفوق ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية.
إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا ظالمين لأنفسهم ولأهليهم ولمجتمعهم وللقضية العقدية.
 
وقوله الحق:
{والله عَلِيمٌ بالظالمين}
هو إشارة على أن الله مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سراً، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر (الطابور الخامس) الذين يفتتون الروح المعنوية دون أن يراهم أحد ولكن الله يعرفهم.

لقد طلب هؤلاء القوم من بني إسرائيل من نبيهم أن يبعث لهم ملكا، وكان يكفي النبي المرسل إليهم أن يختار لهم الملك ليقاتلوا تحت رايته، لكنهم يزيدون في التلكؤ واللجاجة ويريدون أن ينقلوا الأمر نقلة ليست من قضايا الدين. ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا...}.

تفسير الشعراوي للآية 246 من سورة البقرة | مصراوى

تفسير الآية رقم (247):


{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}

هم الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وكان يكفي إذن أن يختار نبيهم شخصا ويوليه الملك عليهم. لكن نبيهم أراد أن يغرس الاحترام منهم في المبعوث كملك لهم. لقد قال لهم: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}. والنبي القائل ذلك ينتمي إليهم، وهو منهم، وعندما طلبوا منه أن يبعث لهم ملكاً كانوا يعلمون أنه مأمون على ذلك.
ويتجلى أدب النبوة في التلقي، فقال: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}. إنه يريد أن يطمئنهم على أن مسألة اختيار طالوت كملك ليست منه؛ لأنه بشر مثلهم، وهو يريد أن ينحي قضيته البشرية عن هذا الموضوع، فقال: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}. فماذا كان ردهم؟ {قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال}. وهذه بداية التلكؤ واللجاجة ونقل الأمر إلى مسألة ليست من قضايا الدين.

إنهم يريدون الوجاهة والغنى. وكان يجب عليهم أن يأخذوا المسألة على أن الملك جاء لصالحهم، لأنهم هم الذين طلبوه ليقودهم في الحرب. إذن فأمر اختيار الملك كان لهم ولصالحهم،
فلماذا يتصورون أن الاختيار كان ضدهم وليس لمصلحتهم؟

شيء آخر نفهمه من قولهم:
{أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا}،
إن طالوت هذا لم يكن من الشخصيات المشار إليها؛ فمن العادة حين يَحزُب الأمر في جماعة من الجماعات أن تفكر فيمن يقود، فعادة ما يكون هناك عدد من الشخصيات اللامعة التي يدور التفكير حولها، وتظن الجماعة أنه من الممكن أن يقع على واحد منهم الاختيار، وكان اختيار السماء لطالوت على عكس ما توقعت تلك الجماعة. لقد جاء طالوت من غمار القوم بدليل أنهم قالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك} أي لم يؤت الملك من قبل.

ولقد كانوا ينتمون إلى نسلين: نسل أخذ النبوة وهو نسل بنيامين، ونسل أخذ الملوكية وهو نسل لاوى بن يعقوب. فلما قال لهم: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}، بدأوا يبحثون عن صحيفة النسب الخاصة به فلم يجدوه منتمياً لا لهذا ولا لذاك، ولذلك قالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا}. وهذا يدلنا على أن الناس حين يريدون وضعاً من الأوضاع لا يريدون الرجل المناسب للموقف،
ولكن يريدون الرجل المناسب لنفوسهم، بدليل قولهم:
{أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ}.
 
وهل الملك يأتي غطرسة أو كبرياء؟
ومادام طالوت رجلا من غمار الناس فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضع قضية كل مؤمن وهي أنك حين تريد الاختيار فإياك أن يغشك حسب أو نسب أو جاه، ولكن اختر الأصلح من أهل الخبرة لا من أهل الثقة.
لقد تناسوا أن القضية التي طلبوها من نبيهم تحتاج إلى صفتين: رجل جسيم ورجل عليم، والله اختار لهم طالوت رجلا جسيماً وعليما معا.

وعندما نتأمل سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية:
{بَعَثَ لَكُمْ}
حتى لا يحرج أحداً منهم في أن طالوت أفضل منه، ولكن عندما حدث لجاج قال لهم: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} وهو بهذا القول يؤكد إنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم. وكذلك لا يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة والجسامة {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم}. وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء الله طالوت للملك بالقبول والرضى فما بالك وقد زاده بسطة في العلم والجسم؟
والبسطة في العلم والجسم هي المؤهلات التي تناسب المهمة التي أرادوا من أجلها ملكا لهم. ولذلك يقول الحق: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} وكأن الحق يقول لهم: لا تظنوا أنكم أنتم الذين ترشحون لنا الملك المناسب، يكفيكم أنكم طلبتم أن أرسل لكم ملكا فاتركوني بمقاييسي اختر الملك المناسب.

ويختم الحق الآية بقوله:
{والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
أي عنده لكل مقام مقال، ولكل موقع رجل، وهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذه المهمة. ومن يصلح لتلك، لا عن ضيق أو قلة رجال، ولكن عن سعة وعلم.
لقد استقبلوا هذا الاختيار الإلهي باللجاج، واللجاج نوع من العناد ولا ينهيه إلا الأمر المشهدي المرئي الذي يلزم بالحجة، لذلك كان لابد من مجيء معجزة. لذلك يأتي قوله الحق: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ...}.

نداء الايمان



تفسير الشعراوي للآية 247 من سورة البقرة

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

دانلود وکتور زیبای بسم الله الرحمن الرحیم با کیفیت عالی

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}

لقد أرسل الحق مع الملك طالوت آية تبرهن على أنه ملك من اختيار الله فقال لهم نبيهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} أي إن العلامة الدالة على ملكه هي {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} وهذا القول نستدل منه على أن التابوت كان غائباً ومفقوداً، وأنه أمر معروف لديهم وهناك تلهف منهم على مجيئه.

وما هو التابوت؟
إن التابوت قد ورد في القرآن في موضعين:
أحدهما في الآية التي نحن بصددها الآن، والموضوع الآخر في قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38-39].
إذن فالتابوت نعرفه من أيام قصة موسى وهو رضيع، عندما خافت عليه أمه؛ فأوحى لها الله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} فهل هو التابوت نفسه الذي تتحدث عنه الآيات التي نحن بصددها؟
غالب الظن أنه هو؛ لأنه مادام جاء به على إطلاقه فهو التابوت المعروف، انظر إلى التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون وتحمله الملائكة. إن هذا دليل على أنه شيء كبير ومهم.

لقد كان التابوت مفقوداً، وذلك دليل على أن عدواً غلب على البلاد التي سكنوها، والعدو عندما يغير على بلاد يحاول أولاً طمس المقدسات التي تربط البلاد بالعقيدة. فإذا كان التابوت مقدساً عندهم بهذا الشكل، كان لابد أن يأخذه الأعداء. هؤلاء الأعداء هم الذين أخرجوهم من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. وإذا كانوا قد أخرجوهم من ديارهم فمن باب أولى أنهم أجبروهم على ترك التابوت.
والله سبحانه وتعالى يطمئنهم بأن آية الملك لطالوت هي مجيء التابوت الذي تتلهفون عليه، وترتبط به مقدساتكم. {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فكأن الاستقرار النفسي سيأتيكم مع هذا التابوت؛ لأن الإنسان حين يجد التابوت الذي نجا به نبي، وفي الأشياء التي سنعرفها فيما بعد، إن الإنسان يستروح صلته بالسماء، وهي صلة مادية تجعل النفس تستريح.

وعلى سبيل المثال تأمل مشاعرك عندما يقال لك: (هذا هو المصحف الذي كان يقرأ فيه سيدنا عثمان).
إنه مصحف مثل أي مصحف آخر، ولكن ميزته أنه كان يقرأ فيه سيدنا عثمان؛ إنك تستريح نفسياً عندما تراه. وأيضاً حين تذهب إلى دار الخلافة في تركيا، ويقال لك: (هذا هو السيف الذي كان يحارب به الإمام علي). فتنظر إلى السيف، وتجد أن وزنه وثقله يساوي عشرة سيوف، وتتعجب كيف كان يحمله سيدنا علي كرم الله وجهه وكيف كان يحارب به.
وكذلك عندما يقال لك: (هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المكحلة التي كان يكتحل بها)، لاشك أن مثل هذه المشاهد ستترك إشراقاً وطمأنينة في نفسك. وعندما يراها إنسان به بعض الشكوك والمخاوف فإن العقيدة تستقر في نفسه.

وانظر إلى حديث القرآن عن التابوت. إن الحق سبحانه لم يقل: إن التابوت سيأتي كاملاً، ولم يقل كذلك إنه التابوت الذي وُضع فيه موسى، وإنما قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} كأن آل موسى وهارون قد حافظوا على آثار أنبيائهم، وأيضا قوله تعالى: {تَحْمِلُهُ الملائكة} يؤكد لنا أنه لا شك أن الأثر الذي تحمله الملائكة لابد أن يكون شيئاً عظيماً يوجب العناية الفائقة {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت}.

ونلحظ في قوله: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} إنه سبحانه قد نسب الإتيان إلى التابوت، فهل كان من ضمن العلامة أن يأتيهم التابوت وهم جالسون ينتظرون ولأن التابوت تحمله الملائكة فلن يراهم القوم لأنهم كائنات غير مرئية، فلن يراهم أحد وإنما سيرى القوم التابوت آتياً إليهم، ولذلك أسند الحق أمر المجيء للتابوت.
وهذا المشهد يخلع القلوب ويجعل أصحاب أشد القلوب قساوة يخرون سجدا ويقولون (طالوت أنت الملك، ولن نختلف عليك). ونريد الآن أن نعرف الأشياء التي يمكن لآل موسى أن يحافظوا عليها من آثار موسى عليه السلام، والآثار التي يحافظ عليها آل هارون من هارون عليه السلام.

قال بعض الناس إنها عصا موسى، وهي الأثر الذي تبقى من آل موسى، وذلك أمر معقول؛ لأنها أداة من أدوات معجزة موسى عليه السلام. ألم تكن هي المعجزة التي انقلبت حية تسعى وابتلعت بسرعة ما صنعه السحرة؟ إن مثل هذه الأداة المعجزة لا يمكن أن يهملها موسى، أو يهملها المؤمنون به بعد ما حدث منها. وليس من المعقول أن يفرط آل موسى في عصا تكلم الله فيها وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 17-18].
إن هناك قصة طويلة استغرقها الحديث عن هذه العصا، فكيف يفرط فيها موسى وقومه بسهولة؟
لاشك أنهم حافظوا عليها، وقدسوها، وجعلوها من أمجادهم.

ويرينا الحق سبحانه وتعالى أن هؤلاء القوم أهل لجاج وأهل جدل وأهل تلكؤ، فهم لا يؤمنون بالأمور إلا إذا كانت حسية كالتابوت الذي يأتيهم وحدهم، صحيحا تحمله الملائكة، لكنهم لا يرون الملائكة؛ وإنما رأوا التابوت يسير إليهم، {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الملائكة إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} وليس هناك آيات أعجب من مجيء التابوت حتى يثبت صدق النبي في أن الله قد بعث طالوت ملكاً، فإن لم يؤمنوا بهذه المسألة فعليهم أن يراجعوا إيمانهم.

والسياق القرآني يدل على أن الله بهتهم بالحجة، وبهتهم بالآية، وبهتهم بالقرآن، بدليل أنه حذف ما كان يجب أن يقال وهو: فقبلوا طالوت ملكاً. ونظم طالوت الحرب فقام وقسم الجنود ورتبهم، وكل هذه التفاصيل لم تذكرها الآيات. والحق يقول بعد ذلك: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ...}.


تفسير الشعراوي للآية 248 من سورة البقرة | مصراوى

.تفسير الآية رقم (249):


{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}

الفصل هو أن تعزل شيئا عن شيء آخر، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94].
{فَصَلَتِ العير} أي غادرت مصر وخرجت منه. ونحن نستخدم كلمة (فصل) في تبويب الكتب، ونقصد به قدراً من المعلومات المترابطة التي تكون وحدة واحدة، وعندما تنضم الفصول مع بعضها في الكتب تصير أبواباً، وعندما تنظم الأبواب الموضوعة في مجال علم واحد مع بعضها نقول عنها: هذا (كتاب).
ونحن نستخدم كلمة (فصل) في وصف مجموعة من التلاميذ المتقاربين في العمر والمستوى الدراسي ونقسمهم إلى فصل أول وثانٍ وثالث، على حسب سعة الفصول وعدد التلاميذ. وهكذا نفهم معنى قول الحق: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي فصلهم عن بقية غير المقاتلين، وقسمهم إلى جماعات مرتبة، وكل جماعة لها مهمة.

وكلمة (جنود) هي جمع (جند) وهي مفردة لكنها تدل على جماعة، وأصل الكلمة من (جَنَد) وهي الأرض الغليظة الصلبة القوية، ونظرا لأن الجنود مفروض فيهم الغلظة والقوة فقد أُطلق عليهم لفظ: جُنْد. وبرغم أن كلمة (جند) مفرد؛ إلا أنها تدل على القوم مثل (رهط) و(طائفة) ويسمونها اسم جمع. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أي عندما خرج إلى مكان إقامة الجيش بدأ في مباشرة أولى مهماته كملك، لقد أراد أن يختبرهم، فهم قوم وقفوا ضد تعيينه ملكاً، لذلك أراد أن يدخل الحكم على أرض صلبة. فقال لهم عن الحق: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}.

لقد أوضح لهم: أنتم مقبلون على مهمة لله في سبيل الله، وهو سبحانه الذي سيجري عليكم الاختبار، ولست أنا لأن الاختبار يكون على قدر المهمة؛ أنا مشرف فقط على تنفيذ الأمر، والله مبتليكم بنهر من يشرب منه فليس منا إلا من اغترف غرفة بيده.
وساعة تسمع كلمة {مُبْتَلِيكُمْ} فلا تفسرها على أنها مصيبة، ولكن فسرها على أنها اختبار، قد ينجح من يدخل وقد يفشل. والاختبار هنا بنهر. ومادام كان الاختبار بنهر فلابد أن لهذه الكلمة موقعاً وأثراً نفسيا عندهم، لابد أنهم كانوا عِطاشاً، وإلا لو لم يكونوا عطاشاً لما كان النهر ابتلاء. {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}.
إنهم عطاش، وساعة يُرى الماء فسيقبلون عليه بنهم شرباً ورياً، ومع ذلك يختبر الحق صلابتهم فيطالبهم بأن يمتنعوا عن الشرب منه، لقد جاء الاختبار في منعهم مما تصبو إليه نفوسهم.
{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} لماذا؟
لأنهم ساعة يرون ما يحبونه ويشتهونه فسيندفعون إليه وينسون أمر الله. ومن ينس أمر الله ويفضل نفسه، فهو غير مأمون أن يكون في جند الله. لكن الذي يرى الماء ويمتنع عنه وهو في حاجة إليه، فهو صابر قادر على نفسه، وسيكون من جند الله، لأنه آثر مطلوب الله على مطلوب بطنه، وهو أهل لأن يُبتلى.

ومع ذلك لم يَقْسُ الله في الابتلاء، فأباح ما يفك العطش ولم يحرمهم منه نهائياً. {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} لقد سمح لهم بغرفة يد تسد الرمق وتستبقي الحياة، أباح لهم ما تقتضيه الضرورة.


لكن ما صلة هذا الابتلاء بالعملية التي سيقبلون عليها؟
إن العملية الحربية التي سيدخلونها سيقابلون فيها الويل وسيعرضون لنفاذ الزاد وهم أيضا عرضة لأن يحاصرهم عدوهم، وعلى الإنسان المقاتل في مثل هذه الأمور أن يقوى على شهوته ويأخذ من زاده ومائه على قدر ضرورة استبقاء الحياة، لذلك تكفي غرفة واحدة لاستبقاء الحياة. كأن التدريب هنا ضرورة للمهمة. فهل فعلوا ذلك؟

يأتينا الخبر من الحق {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}. وهكذا تتم التصفية، ففي البداية سبق لهم أن تولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا، وهنا امتنع عن الشرب قليل من القليل، وهذه غرابيل الاصطفاء أو مصافي الاختبار، فقد يقوى واحد على نصف المشقة، ويقوى آخر على ثلث المشقة، ويقوى ثالث على ربعها. لقد بقي منهم القليل، لكنه القليل الذي يصلح للمهمة؛ إنّه الذي ظل على الإيمان.
وانظر كيف تكون مصافي الابتلاء في الجهاد في سبيل الله؟ حتى لا يحمل راية الجهاد إلا المأمون عليها الذي يعرف حقها. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي عندما عبروا النهر واجتازوا كل الاختبارات السابقة قال بعضهم: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لقد خاف بعض منهم من الاختبار الأخير، ولكن الذين آمنوا بالله لم يخافوا، ويقول الحق: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين}.

لقد اختلفت المواجيد وإن اتحدت المرائي. فالذين جاوزوا النهر انقسموا قسمين، قسم رأى جالوت وجنوده، والقسم الآخر رأوه أيضا، ولم ينقسموا عند الرؤية لكنهم انقسموا عند المواجيد التابعة للرؤية، فقسم خاف وقسم لم يخف، والذين خافوا قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لقد وجد الخوف من جالوت وجنوده في نفوسهم فقالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}


لقد مروا بثلاث مراحل
المرحلة الأولى: هي إدراك لجالوت وجنوده،
والثانية: هي وجدان متوجس من قوة جالوت وجنوده،
والأخيرة: هي نزوع إلى الخوف من جالوت وجنوده،
لكن القسم الذي لم يخف رأوا المشهد أيضا وجاء فيهم قول الله:
{قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.
كأنهم أدخلوا ربهم في حسابهم فاستهانوا بعدوهم، لكن الفئة السابقة عزلت نفسها عن ربها فرأوا أنفسهم قلة فخافوا. لقد كان مجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقو الله قد جعل لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين}.

ونعرف أن هناك معارك يفوز فيها الأقدر على الصبر، ودليلنا على ذلك قول الحق: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} [آل عمران: 124].
هذا هو الوعد لكن إذا صبرتم كم يكون المدد؟ يقول الحق: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].

فكأن البدء بثلاثة آلاف لمساندة أهل الإيمان ويزيد العدد في المدد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. إذن فالمدد يأتي على قدر الصبر؛ لأن حنان القدرة الإلهية عليك يزداد ساعة يجدك تتحمل المشقة فيحن عليك ويعطيك جزءا أكبر. فالله يريد من عبده أن يستنفد أسباب قوته الخاصة، وحين تستنفد الأسباب برجولة وثبات، تأتيك معونة الله، ويقول الله لملائكته: هذا يستحق أن يعان فأعينوه. ولذلك جاء قوله الحق على ألسنة المؤمنين: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين}. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}



تفسير الشعراوي للآية 249 من سورة البقرة | مصراوى

.تفسير الآية رقم (250):


{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}

هذه هي الشحنة الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه فهو ينادي قائلا: {رَبَّنَآ} إنه لم يقل: يا الله، بل يقول: {رَبَّنَآ}؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء، بينما مطلوب (الله) هو العبودية والتكاليف؛ لذلك ينادي المؤمن ربه في الموقف الصعب (يا ربنا) أي يا من خلقتنا وتتولانا وتمدنا بالأسباب، قال المؤمنون مع طالوت: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}.
وعندما نتأمل كلمة {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} تفيدنا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} حتى يواجهوا العدو بإيمان، وعند نهاية الصبر وتثبيت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله الحق: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله...}.

نداء الايمان



تفسير الشعراوي للآية 250 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

بسم الله الرحمن الرحیم به خط ثلث


{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}

إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به. ويجيء الحق بكلمة {هَزَمُوهُمْ} وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجما. والمحارب يجب أن يكون مهاجما كاراً دائما، فحين يلجأ إلى أن يفر، هنا نتوقف لنتبين أمره، هل هذا الفِرار تحرفا لقتال وانعطافا وميلا إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة، لكن إذا كان الفِرار لغير كَرٍ ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة.

وقول الله:
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله}
يدل على أن جنود جالوت لم يُقتلوا كلهم، ولكن الذين قُتلوا هم أئمة الكفر فيهم، بدليل قوله بعد ذلك: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}. وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب، فطارده داود وقتله. ولأول مرة يظهر لنا اسم {دَاوُدَ} في هذه القصة الطويلة، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11].

إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت،
وكان {دَاوُدَ} أخاً لعشرة وهو أصغرهم، وقال النبي للقوم: إن من يدخل المعركة ضد جالوت لابد أن يأتي درع موسى على مقاسه، وهنا استعرض والد {دَاوُودَ} الدرع على جميع أبنائه، فلم يأتي على مقاس أي واحد منهم إلا على أصغرهم، وهو {دَاوُودَ}. جاء الدرع على مقاسه، ودخل {دَاوُودَ} المعركة فقتل جالوت قائد المشركين، وشاءت حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين.

كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه، كل ذلك نتيجة قتل جالوت. وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلمه الله صناعة الدروع، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع. وجعل الله له الحديد ليناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].

وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه. ولقد كان قتل جالوت هو البداية لداود. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الوجود، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس. وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة في الكون لفسد.

فالذي يعمر الكون هو أن توجد فيه قوى متكافئة؛ قوة تقابلها قوة أخرى. ولذلك نجد العالم دائما محروسا
بالقوتين العظميين، ولو كانت قوة واحدة لعم الضلال. ولو تأملنا التاريخ منذ القدم لوجدنا هذه الثنائية في القوى تحفظ الاستقرار في العالم.

في بداية الإسلام كانت الدولتان العظميان هما الفرس في الشرق، والروم في الغرب. والآن سقطت قوة روسيا من كفة ميزان العالم، وتتسابق ألمانيا واليابان ليوازنا قوة أمريكا.


كلمات من ذهب - منتديات شموخ مسندم

إن قول الله تعالى:
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}
جاء تعقيبا على قصة الصراع بين بني إسرائيل وبين أعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وعندما نتأمل هذه القصة من بدايتها نجد أنهم طلبوا أولا من الله الإذن بالقتال. وبعث الله لهم ملكا ليقاتلوا تحت رايته؛ وكانت علامة هذا الملك في الصدق أن يأتي الله بالتابوت. ثم جاءت قضية اجتماعية ينتهي إليها الناس عادة بحكيم الرأي ولو بدون الوحي، وهي أن الإنسان إذا ما أقبل على أمر يجب أن يعد له إعداداً بالأسباب البشرية، حتى إذا ما استوفى إعداده كل الأسباب لجأ إلى معونة الله، لأن الأسباب كما قلنا هي من يد الله، فلا ترد أنت يد الله بأسبابها، لتطلب معونة الله بذاته، بل خذ الأسباب أولا لأنها من يد ربك.

ويعلمنا الحق أيضا أن من الأسباب تمحيص الذين يدافعون عن الحق تمحيصا يبين لنا قوة ثباتهم في الاختبار الإيماني؛ لأن الإنسان قد يقول قولاً بلسانه؛ ولكنه حين يتعرض للفعل تحدثه نفسه بألا يوفي، وقد نجح قلة من القوم في الابتلاءات المتعددة. وفعلا دارت المعركة؛ وهزم هؤلاء المؤمنون أعداءهم، وانتصر داود بقتل جالوت.

إذن فتلك قضية دفع الله فيها أناسا بأناس، ويطلقها الحق سبحانه قضية عامة {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}، فالدفع هو الرد عن المراد، فإذا كان المراد للناس أن يوجد شر، فإن الله يدفعه. إذن فالله يدفع ولكن بأيدي خلقه، كما قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
إنه دفع الله المؤمنين ليقاتلوا الكافرين، ويعذب الحق الكافرين بأيدي المؤمنين.
 
وعندما نتأمل القول الحكيم:
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}
فإننا نجد مقدمة سابقة تمهد لهذا القول، لقد أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم، فكان هذا هو مبرر القتال. وتجد آية أخرى أيضا تقول: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
والسياق مختلف في الآيتين، السياق الذي يأتي في سورة البقرة عن أناس يحاربون بالفعل، والسياق الذي يأتي في سورة الحج عن أناس مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم المستضعفون من مكة لينضموا إلى أخوتهم المؤمنين في دار الإيمان ليعيدوا الكرة، ويدخلوا مكة فاتحين.

صحيح أننا نجد وحدة جامعة بين الآيتين. وهو الخروج من الديار. إذن فمرة يكون الدفاع بأن تَفِرَّ لَتِكِرّ.. أي أن تخرج من ديار الكفر مهاجراً لتجمع أمر نفسك أنت ومن معك وتعود إلى بلدك مقاتلاً فاتحاً، ومرة يكون الدفاع بأن تقاتل بالفعل، فالآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هنا تفيد أنهم قاتلوا بالفعل، والآية الثانية تفيد أنهم خرجوا من مكة ليرجعوا إليها فاتحين، فالخروج نفسه نوع من الدفع، لماذا؟ لأن المسلمين الأوائل لو مكثوا في مكة فربما أفناهم خصومهم فلا يبقى للإسلام خميرة، فذهبوا إلى المدينة وكوّنوا الدولة الإسلامية ثم عادوا منتصرين فاتحين: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1].

إن السياق في الآيتين واحد ولكن النتيجة تختلف،
هنا يقول الحق:
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}
لماذا تفسد الأرض؟
لأن معنى دفع الله الناس بعضهم ببعض أن هناك أناساً ألفوا الفساد، ويقابلهم أناس خرجوا على من ألف الفساد ليردوهم إلى الصلاح. ويعطينا الحق سبحانه وتعالى في الآية الثانية السبب فيقول: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} [الحج: 40].
والصوامع هي ما يقابل الآن الدير للنصارى وكانوا يتعبدون لله فيها، لأن فيه متعبداً عَمِلَ بالتكليف العام؛ ومتعبداً آخر قد ألزم نفسه بشيء فوق ما كلفه الله به. فالذين يعبدون الله بهذه الطريقة يجلسون في أماكن بعيدة عن الناس يسمونها الصوامع، وهي تشبه الدير الآن. والمعنى العام في التعبد للنصارى هو التعبد في الكنائس وهو المقصود بالبيع، والمعنى الخاص هو التعبد في الصوامع.
إذن {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} هذه لخاصة المتدينين، وكنائس أو بيع لعامة المتدينين. وقول الحق: {وَصَلَوَاتٌ}، من صالوت، وهي مكان العبادة لليهود، و{وَمَسَاجِدُ} وهي مساجد المسلمين.



كلمات من ذهب - منتديات شموخ مسندم

 
إن قوله تعالى: {لَفَسَدَتِ الأرض} في هذه الآية، وقوله تعالى هناك {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} أي أنه ستفسد الأرض إذا لم تقم الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؛ لأنها هي التي تربط المخلوق بالخالق. وما دامت تلك الأماكن هي التي تربط المخلوق بالخالق فإن هدمت.. يكون الناس على غير ذكر لربهم وتفتنهم أسباب الدنيا.

فالأديرة والكنائس والصوامع حين كانت والمساجد الآن هي حارسة القيم في الوجود، لأنها تذكرك دائما بالعبودية وتمنع عنك الغرور، وهي من السجود الذي هو منتهى الخضوع للرب، نخضع بها لله خمس مرات في اليوم والليلة؛ فإن كان عند العبد شيء من الغرور لابد أن يذوب، ويعرف العبد أن الكون كله فضل من الله على العباد؛ فلا يدخلك أيها المسلم شيء من الغرور.
فإذا لم يدخلك شيء من الغرور استعملت أسباب الله في مطلوبات الله. أما أن تأخذ أنت أسباب الله في غير مطلوبات الله فهذه قحة منك. فإذا كان الله قد أقدر يدك على الحركة فلماذا تعصى الله بها وتضرب بها الناس؟ والله أقدر لسانك على الكلام، فلماذا تؤذي غيرك بالكلمة؟ إن الله قد أعطاك النعمة فلا تستعملها في المعصية.

قال الله تعالى في هذه الآية:
{لَفَسَدَتِ الأرض} وشرح ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} فهذه الأماكن هي التي تبقى أصول القيم في التدين. (وأصول القيم في التدين) غير (كل القيم في التدين)، ولذلك نحن قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى جعل للإسلام خمسة أركان، وهي التي بني عليها الإسلام. ولابد أن نقيم بنيان الإسلام على هذه الأركان الخمسة، فلا تقل: إن الإسلام هو هذه الأركان الخمسة، لا؛ لأن الإسلام مبني عليها فقط فهي الأعمدة أو الأسس التي بني عليها الإسلام. فأنت حين تضع أساسا لمنزل وتقيم الأعمدة فهذا المنزل لا يصلح بذلك للسكن، بل لابد أن تقيم بقية البنيان، إذن فالإسلام مبني على هذه الأسس.
والحق سبحانه وتعالى يوضح ذلك فيأمر بالمحافظة على أماكن هذه القيم؛ لأن المساجد ونحن نتكلم بالعرف الإسلامي هي ملتقى فيوضات الحق النورانية على خلقه، فالذي يريد فيض الحق بنوره يذهب إلى المسجد. إذن لكيلا تفسد الأرض لابد أن توجد أماكن العبادة هذه، فمرة جاء الحق بالنتيجة ومرة جاء بالسبب.

ولماذا يدفع الله الناس بعضهم ببعض؟
لأن هناك أناساً يريدون الشر وأناساً يريدون الخير، فمن يريد الشر يدفع من يريد الخير، وإذا وقعت المعركة بهذا الوصف فإن يد الله لا تتخلى عن الجانب المؤمن الباحث عن الخير، فهو سبحانه القائل: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

أي إن المعركة لا تطول. ولذلك قلنا سابقا: إن المعارك التي نراها في الكون لا نجد فيها معركة بين حقين؛ لأنه لا يوجد في الوجود حقان، فالحق واحد، فلا يقولن أحد: إنه على حق وخصمه على حق. لا، إن هناك حقاً واحداً فقط. والمعركة إن وجدت توجد بين حق وباطل، أو بين باطل وباطل. والمعركة بين الحق والباطل لا تطول؛ لأن الباطل زهوق. والذي يطول من المعارك هي المعارك بين الباطل والباطل؛ فليس أحدهما أولى بأن ينصره الله. فهذا على فساد وذاك على فساد، وسبحانه يدك هذا الفساد بذاك الفساد. وحين يندك هذا الفساد بذاك الفساد، فجناحا الفساد في الكون ينتهيان. ويأتي من بعد ذلك أناس ليس عندهم فساد ويعمرون الكون.
والمعارك التي تدور في أي مكان تجد أن هذا الطرف له هوى والآخر له هوىً مختلف.

ولا يقف الله في أي جانب منهما؛ لأنه ليس هناك جانب أحمق بالله من الآخر؛ لذلك يتركهم يصطرع بعضهم مع بعض، ومادام الحق قد تركهم لبعضهم البعض فلابد أن تطول المعركة. ولو كان الله في بال جانب منهم لوقف سبحانه في جانبه. وكذلك نرى في معارك العصر الحديث أن المعركة تطول وتطول؛ لأننا لا نجد القسم الثالث الذي جاء في قوله سبحانه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9].
إن الحق سبحانه وتعالى يأمر عند اقتتال طائفتين من المؤمنين أن يصلح بينهما قوم مؤمنون، فإن تعدت إحداهما على الأخرى، ورفضت الصلح فالحق يأمر المؤمنين بأن يقاتلوا الفئة التي تتعدى إلى أن ترجع إلى حكم الله، فإن رجعت إلى حكم الله فالإصلاح بين الفئتين يكون بالإنصاف؛ لأن الله يحب العادلين المنصفين.

 
ونحن نجد الباطل يتقاتل مع الباطل؛ لذلك لا نجد من يصلح بين الباطلين، بل نجد أهواءً تتعارك، وكل جانب ينفخ في الطائفة التي تناسب هواه.
وهذه هي الخيبة في الكون المعاصر؛ إن المعارك تطول لأنه ليس في بال المتقاتلين شيء جامع، ولو كان في بالهم شيء جامع، لما حدثت الحرب. وماداموا قد غفلوا عن هذا الشيء الجامع، فمن المفروض أن تتدخل الفئة القادرة على الإصلاح، ولكن حتى هؤلاء لم يدخلوا للإصلاح، وهذا معناه أن الخيبة في العالم كله. وسيظل العالم في خيبة إلى أن يرعووا ويرتدعوا. إنهم يطيلون على أنفسهم أمد التجربة وسيظلون في هذه الخيبة حتى يفطنوا إلى أنه لا سبيل إلى أن تنتهي هذه المشاكل إلا أن يرجعوا جميعاً عن أهوائهم إلى مراد خالقهم.


{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}،
نعم تفسد الأرض فيما جعل الله للإنسان يداً فيه، أما الشيء الذي لم يجعل الله للإنسان يداً فيه فستظل النواميس كما هي لا يؤثر فيها أحد، فلا أحد يؤثر في الشمس أو القمر أو الهواء أو المطر، إنما الفساد جاء فيما للإنسان فيه يد.
انظر إلى الكون، إنك تجد المسائل التي لا دخل للإنسان فيها مستقيمة على أحسن ما يكون، وإنما يأتي الفساد من النواحي التي تدخل فيها الإنسان بغير منهج الله. ولو أن الإنسان دخل فيها بمنهج الله لاستقامت الأمور كما استقامت النواميس العليا تماما.
في سورة الرحمن قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7].

ومادام الحق قد رفع السماء ووضع الميزان، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام محكم تماما، الشمس تطلع من الشرق وتغرب في الغرب، والقمر والنجوم تسير في منتهى الدقة والإبداع، لأنه لا دخل لأحد من البشر فيه.
فإن أردتم أن تصلح حياتكم، وأن تستقيم أموركم كما استقامت هندسة السماء والأرض فخذوا الميزان من السماء في أعمالكم، واتبعوا القول الحق: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 7-9].
ومادمتم قد رأيتم أن الأمور الموجودة التي تسير بنظام لا تتحكمون فيه تعمل باستقامة وترون أن الفساد قد جاء من ناحية الأمور التي دخلتم فيها، فلماذا لا نتبع منهج الله في الأمور التي لنا دخل فيها؟ إنك إن عملت في الحياة بمنهج الله الذي خلق الحياة فإن أمورك تستقيم لك كما استقامت الأمور العليا في الكون. واحفظ جيداً قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 7-8].
ليحفظ كل منا هذا القول لنعرف أن الأمور العليا موزونة لأن يد الإنسان لا تدخل فيها. إن السماء لا تقع على الأرض لأنها محكومة بنظام محكم تماماً.
والأرض لا تدور بعيداً عن فلكها؛ لأن خالقها قد قدر لها النظام المحكم تماماً. ولهذا يقول الحق سبحانه عن نظام الكواكب في الكون: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

إنه نظام دقيق محكم لأنه لا دخل للإنسان فيه. اصنعوا ميزاناً في كل الأمور التي لكم فيها اختيار حتى لا تطغوا في الميزان.
ومادام الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ومنحه الاختيار، وبعض الناس اختار مذهباً، والبعض الآخر اختار مذهبا مضادا، وكلٌّ من المذهبين خارج عن منهج الله، فالحق سبحانه وتعالى يترك الفئتين للتقاتل والتناحر. ولأنه سبحانه ذو رحمة على العالمين، يبقى عناصر الخير في الوجود، لعل أحداً يرى ويتنبه ويتلفت ويذهب ليأخذها. فعندما تطغى جماعة يأتي لهم الحق بجماعة يردونهم، حتى تبقى عناصر الخير في الوجود لعل إنساناً يأتي ليأخذ عنصراً منها يحرك به حياته، وصاحب الخير إنما يأتي من فضل الله على العالمين. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}



تفسير الشعراوي للآية 251 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

قد تكون صورة لـ ‏نص‏


{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}

ونعرف أن {تِلْكَ} إشارة يخاطب الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى الآيات التي سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته، فقد قال الحق من قبل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243].
وساعة طلبوا أن يقاتلوا، وأن يبعث لهم ملكاً، وبعثه لهم، وبعث لهم التابوت فيه سكينة، أليست هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملاق الضخم على يد داود الصبي الصغير. أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة بإقرارهم حيث قالوا: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة، أليست هذه آية؟

وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الآيات التي سبقت رسالته؟
لا،
ولكنها من إخبار الله له مع إقرار الجميع، وخاصة الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه لا قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم، ولا أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها للتجارة كان يصحبه فيها أناس غيره، ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا، لأذاعوا أن محمداً قد جلس مع فلان، وتعلم منه كذا وكذا. ولكن هذا لم يقله أحد؛ لأنه لم يحدث أصلا، ولذلك كان إخباره صلى الله عليه وسلم بما يعلمونه هم عندهم هو بعضاً من أسرار معجزته، إنه قد عرف الأخبار السابقة رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق علماً من أحد. وقد تماحك بعض المشركين وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الأخبار، فنزل القول الحق يدحض هذا الافتراء: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة، وزعم كاذب من ناحيتهم. لأن الذي ادّعوا أنه علم الرسول كان أعجميا.

ويقول الحق سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم:

{تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}.
إن كلمة {آيَاتُ الله} تعني الأشياء العجيبة، و{نَتْلُوهَا} أي نجعل كلمة بعد كلمة، وهي من (ولي) أي جاء بعده بلا فاصل. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} والحق هو الشيء الذي وقع موقعه حيث لا يتغير عنه، فلا يتضارب أبداً.

فهب أن حادثة وقعت أمامك، ثم سُئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن يختلف عليها أبداً؛ لأنك تحكي واقعاً رأيته، لكن لو كانت الحكاية كذباً؛ فستجد أن روايتك لها في المرة الثانية تتغير؛ لأنك لا تذكر ماذا قلت في المرة الأولى؛ لأنك لا تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به، وكذلك الحق لا يتغير، ولا يتضارب، ولا يتعارض.



فواصل ورود للمواضيع

{تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}


ومادام الحق سبحانه هو الذي يقولها، فسيقولها لك حقيقة، وعندئذ يعرف الآخرون أنك عرفت ما عندهم مما يخفونه في كتبهم يقوله بعضهم لبعض، هنا يعرفون أنك من المرسلين، ولذلك نحن نجد في (ماكانات القرآن) التي يقول فيها تعالى: (ما كُنت)، (ما كُنت)، و(ما كنت) ومثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44].
أي ما كنت يا محمد حاضراً مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة، ولم تكن معاصراً لموسى ولا شاهداً تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك وأنت تتلو عليهم أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].

إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الأخبار الجليلة عمن اصطفاهم الله هي من الغيب الذي أوحى الله به إليك. وما كنت حاضراً معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون مريم، وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل. ومثال ذلك قوله الحق سبحانه: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً ما أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46].

أي ما كنت أيها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات وكلمه ربه وناجاه، ولكن الله أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك، ولتبلغه لقوم لم يأتهم رسول من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون. ومثال ذلك قوله الحق: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].



إن القرآن هو وحي منزل من عند الله، يُعرِّف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف الحق، ويهدي من اختار الهدى، وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم. إن كل {مَا كُنتَ} في القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولاً من عند الله إليك، وحاملا للوحي من الله هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة وعلى نهج مخصوص، رغم أنك لم تقرأ كتاباً ولم تجلس إلى معلم. وما تخبرهم به من آيات هي موافقة لما معهم، وكان من الواجب أن يقولوا إن الذي علمك هذا هو الله سبحانه وتعالى، وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ...}.




نداء الايمان


تفسير الشعراوي للآية 252 من سورة البقرة | مصراوى

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
 
i054831829985-300x300.jpg

تفسير الآية رقم (253):


{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}

إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله: {تِلْكَ الرسل} و{الرسل} هي جمع لمفرد هو (رسول). والرسول هو المكلف بالرسالة. والرسالة هي الجملة من الكلام التي تحمل معنى إلى هدف. ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق (هؤلاء الرسل)
وقال
{تِلْكَ الرسل}؟
ذلك ليدلك القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد.
وكما عرفنا من قبل أن الإشارة ب (تلك) هي إشارة لأمر بعيد.
فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا نقول: (ذا)، وعندما نستخدم صيغة الإشارة مع الخطاب نقول: (ذاك). وعندما نشير إلى مؤنث فنقول: (ت) وعندما نشير إلى خطاب مؤنث: (تيك). و(اللام) كما عرفنا هنا للبعد أو للمنزلة العالية.
إذن فقوله الحق: {تِلْكَ الرسل} هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني. والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى عليه السلام، وعن عيسى عليه السلام، وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل.

إن أردت الترتيب القرآني هنا، فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة، وإن أردت ترتيب النزول تكون الإشارة إلى من عَلِمَهُ الرسول من الرسل السابقين، والمناسبة هنا أن الحق قد ختم الآية السابقة بقوله هناك: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}، ولما كانت {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} تفيد بعضيته صلى الله عليه وسلم لكلية عامة، كأنه يقول: إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في أنهم مرسلون أو أنهم رسل الله، أنهم أيضا متساوون في المنزلة، لا، بل كل واحد منهم له منزلته العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل. إنهم جميعا رسل من عند الله، ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل.

فلماذا كان قول الله:

{وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}
يؤكد لنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الرسل فلا تأخذ هذا الأمر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة، وتقول إنهم متماثلون في الفضل. لا. إن الله قد فضل بعضهم على بعض.
وما هو التفضيل؟
إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة، وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول لك إنسان ما (هذه محاباة)، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقة، ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة، فمثلاً إذا أردنا أن نختار أحداً من الناس لمنصب كبير، فنحن نختار عدداً من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول: (هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح) و(هذا فيه ميزات عن ذاك) وهكذا، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل، ولكن إن اخترنا واحداً لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة.

إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية، ولكن لهوى في نفسك. فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري، وجلس مكان السائق وأخذ يسوق. ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباة منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباة لكانت لابنك، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير. إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم.
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما.
وحينما قال الحق:

{وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}
جاء بعدها بالقول الكريم:
{تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}

وأعطانا نماذج التفضيل فقال:
{منهم من كلم الله}. وساعة تسمع {منهم من كلم الله} يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة.
وبعد ذلك يقول الحق: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. ثم قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام بالوصف الغالب فقال: {كَلَّمَ الله} وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه قد وهبه الآيات البينات. وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} والخطاب في الآيات لمحمد عليه الصلاة والسلام. إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضية، ولكن ساعة أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله: (ورفعنا بعضهم درجات) بحق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت في الوسط، وإنما جاء آخر الأنبياء،
ولكنك تجد أن منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسط. فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا روحانية، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية،
فجاء محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن محمداً صلى الله عليه وسلم قطب الميزان في قضية الوجود.

وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل، فإننا نجد رسولا يرسله الله إلى قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود، ولَكِنْ هناك رسول واحد قيل له: أنت مرسل للإنس والجن، ولكل من يوجد من الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة إنّه هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرنا إلى المعجزات التي أنزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد أن كل المعجزات قد جاءت معجزاته كونية، أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها، فالذي رأى عصا موسى وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى، والذي رأى عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الآن وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود.
لكن محمد صلى الله عليه وسلم حينما يشاء الله أن يأتيه بالمعجزة لا يأتي له بمعجزة من جنس المحسات التي تحدث مرة وتنتهي، إنه سبحانه قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، فرسالته غير محدودة، ولابد أن تكون معجزته صلى الله عليه وسلم غير محسة وإنما تكون معقولة؛ لأن العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القرآن. ويستطيع كل واحد الآن أن يقول: محمد رسول الله وتلك معجزته.

إن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي واقع محسوس. وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن الرسل ما جاءوا ليشرعوا، إنما كانوا ينقلون الأحكام عن الله، وليس لهم أن يشرعوا، أما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
فهو صلى الله عليه وسلم قد اختصه الله بالتشريع أيضا، أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلافة في الأرض، وتلك القوانين نوعان:
نوع جاء من الله، وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء،
ولكنْ هناك نوع ثانٍ من القوانين فوض الله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع من التشريع ليلائم ما يرى، وهذا تفضيل للرسول صلى الله عليه وسلم.

إذن حين يقول الله تعالى:

{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
فهذا لا ينطبق إلا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا أكثر من التصريح بالاسم.

وأضرب هنا المثل ولله المثل الأعلى
أنت أعطيت لولدك قلماً عادياً، ولولدك الثاني قلماً مرتفع القيمة، ولولدك الثالث ساعة، أما الولد الرابع فاشتريت له هدية غالية جداً، ثم تأتي للأولاد وتقول لهم: أنا اشتريت لفلان قلماً جافاً، ولفلان قلم حبر، واشتريت لفلان ساعة، وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة.
ف (بعضهم) هذا قد عُرف بأنه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه، فيكون قد تعين وتحدد.


فواصل لتزيين المواضيع

{تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله}
وحين تقول كلم الله إياك أن تغفل عن قضية كلية تحكم كل وصف لله يوجد في البشر، فأنا أتكلم والله يتكلم، لكن أكلامه سبحانه مثل كلامي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي مثل وجوده فاجعل كلامي ككلامه، وإن كان وجودي ليس كوجوده فكيف يكون كلامي ككلامه؟
ربما يقول أحد: إن الكلام صوت وأحبال صوتية وغير ذلك، نقول له: لا، أنت لا تأخذ ما يخص الله سبحانه إلا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحن نأخذ كل وصف يرد عن الله بواسطة الله، ولا نضع وصفاً من عندنا، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف للبشر. فلله حياة ولك حياة. لكن أحياة أي منا كحياته سبحانه؟ لا، إن حياته ذاتية، وحياة كل منا موهوبة مسلوبة، فليست مثل حياته.

وعندما يقول الحق: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4].
فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟
أو هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا لا. ونحن المؤمنين نأخذ كل صفة عن الله في نطاق التنزيه: سبحان الله وليس كمثله شيء، فليس استواء الله مثل استواء البشر، وليس جلوس الحق مثل جلوس الإنسان.

ونضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد هب أن صاحباً لك دعاك لتأكل عنده، ثم دعاك أحد كبراء القوم لتأكل عنده، لابد أنك تجد الطعام متفاوتا في جودته وأصنافه بين كل مائة من موائد من دعوك، فإذا كان البشر أنفسهم تتفاوت بينهم الأمور الوصفية تبعاً لمقاماتهم وقدراتهم وإمكاناتهم، فإذا ما ترقيت بالصفة إلى خالق كل الأشياء أيقنت أنه سبحانه مُنزه عن كل من سواه، وليس كمثله شيء.

إذن

{كَلَّمَ الله}
تعني أنه أعلم رسوله بأي وسيلة من وسائل الإعلام.
{مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}
والحق سبحانه وتعالى يؤكد دائما في الكلام عن سيدنا عيسى أنّ عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس؛ لأن المسائل التي تعرض لها سيدنا عيسى تتطلب أن تكون روح القدس دائما معه، ولذلك يقول الحق سبحانه عنه: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33].
ففي الميلاد سيدنا عيسى تعرض لمشكلة؛ لأنه ولد على غير طريقة ميلاد الناس، واتهمت فيها أمه، وجاء القرآن فنزهها، وبرأها، ووضع الأمر في نصابه الحق، وأيضا في موته عندما أرادوا أن يقتلوه.
وحين ننظر إلى الرسل نجد أن مقتضى أن يرسل الله رسلاً إلى العالم هو أنه سبحانه قد خلق الخلق غير مكرهين على فعل، ولا مسخرين كما تسخر بقية الأجناس في الكون، ودونه مباشرة الحيوان الذي ينقص عنه العقل، وبعد الحيوان يأتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركة، وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات، تلك هي أجناس الوجود. والإنسان هو سيد هذه الأجناس. والسيادة جاءت له من ناحية أن الأجناس كلها مسخرة لخدمته لا بالاختيار، ولكن بالقهر والقسر.

فالشمس لم تجيء مرة لتقول: لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن أشرق لهم اليوم ولا الهواء امتنع عن أن يهب، ولا المطر امتنع عن أن ينزل، ولا الأرض امتنعت عن أن تعطي النبات عناصر غذائه، إن الإنسان يركب الدابة ويسيرها كما يحب وكما يريد، لا شيء يتأبى أبدا على الإنسان. وأنت أيها الإنسان الجنس الوحيد الذي وهبك الله الاختيار لتمارس مهمتك في الوجود، فإن شئت فعلت كذا، وإن شئت لم تفعل كذا.
ولكن الله لم يدعك هكذا على إطلاقك، بل إنّ فيه أموراً تصير برغم أنفك وأنت مسخر فيها، لا تستطيع مثلا أن تتحكم في يوم ميلادك، ولا في يوم وفاتك، ولا فيما ينزل عليك من الأحداث الخارجة عنك، ولا فيما يدور من الحركة في بدنك، كل ذلك أنت مسخر فيه فلا تنفلت من قبضة ربك. ولكنك مختار في أشياء.

ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناساً على أن تكون كما يريد، وكما يحب، وتلك صفة القدرة؛ لأن صفة القهر تفيد السيطرة. فإذا ما ترك جنساً يختار أن يؤمن، ويختار ألا يؤمن، وإن آمن يختار أن يطيع ويختار أن يعصي، فهذه تثبت المحبوبية لله سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة الله على المعصية.
ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه لا يخضع القلب. فأنت تستطيع أن تهدد إنساناً بمسدس وتقول له: (اسجد لي) فيسجد لك، لكنك لا تستطيع أن تقول له وهو تحت التهديد (أحبني). فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا الإيمان بالاختيار، ويترك لنا الطاعة والمعصية اختياراً، ليعلم من يأتيه حباً ومن يأتيه قهراً.

والعالم كله يأتي لله قهراً. وأنت أيها الإنسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها. ومن هنا ثبتت لله تعالى القدرة. وبقى أن تثبت له الحب. والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب. ونحن قد سبق لنا أن ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والآخر اسمه سعيد، سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائلا: (يا سعد) فهل لسعد ألا يجيء؟ لا.
لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية، وعندما يناديه فهو يأتيه.
إذن، أيهما يحبه، الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن، فمن كرامة الإنسان أن يثبت لله صفة المحبة إن آمن بالله؛ لأنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعاً ما استطاع أي واحد منهم أن يكفر به، ولو شاء أن يكون مطاعاً دائماً ما استطاع واحد أن يعصيه أبداً. ولذلك قلنا: إن إبليس كان عالماً حينما قال أمام الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].


فواصل لتزيين المواضيع

أقسم الشيطان لله بعزته سبحانه عن خلقه، وكأنه قال: أنت يا رب لو كنت تحتاج عباد فأنا لا أستطيع أن آخذهم، لكن لأنك عزيز عليهم، إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا، وإن أرادوا ألا يؤمنوا لم يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سأدخل منه. ولذلك استثنى الشيطان بعضاً من العباد لأنه لن يستطيع أن يجد لوسوسته لديهم مدخلا: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].

أي إن الذي يريد الله أن يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان أن يقترب منه. إذن فإبليس ليس داخلاً في معركة مع الله تعالى، ولكنه في معركة معنا نحن. ولقد أوضح الحق ذلك حين جاء على لسان إبليس في القرآن: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
إذن لو أراد الله أن نكون طائعين جميعاً، أيستطيع واحد أن يعصي؟ لا يستطيع. ولو أرادنا مؤمنين جميعاً، أيستطيع واحد أن يكفر؟ لا يستطيع. إنما شاء الله تعالى لبعض الأمور والأفعال أن يتركها لاختيارك؛ لأنه يريد أن يعرف من الذي يأتيه طوعاً وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد».

ولهذا فإن مطلوب الارتفاع الإيماني، والارتفاع اليقيني أن تحب الله لذات الله. وهو سبحانه يجري عليك من الأحداث ما يشاء، وتظل تحبه فيباهي الله بك الملائكة فتقول الملائكة: يا رب يحبك لنعمتك عليه فيقول لهم: وأسلب نعمتي ولا يزال يحبني، ويسلب الحق النعمة لكن العبد لا يزال يحب الله، فهو يحب الله ولا يحب نعمته لأنه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن أنه يعطينا النعم.

إذن الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل يحملون منهج الله لمَنْ يريد أن يعلن حبه لله، وأن يكون خليفة في الأرض بحق، وأن يُصلح في الكون ولا يفسده. ونعرف أن الإصلاح له مرتبتان: أن تترك الصالح بطبيعته فلا تفسده، أو أن تزيد الصالح صلاحاً. فلا تأتي على عين الماء التي تتدفق للناس وتردمها، ولكنك تتركها على صلاحها إن لم تستطع أن تزيدها إصلاحاً.

وقد تستطيع أن تزيد عين الماء صلاحاً؛ فبدلاً من أن يذهب الناس متعبين إلى العين ويحملون منها الماء، قد تصنع لهم مضخة عالية لها خزان ترفع إليه الماء وتمد (المواسير) وتوصل المياه إلى منازلهم. فأنت بذلك تزيد الأمر الصالح صلاحاً، وهذه خلافة وعمارة في الوجود. فإن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فجنبنا شر إفسادك، ودع الحال كما هي عليه، واقعد كما أنت عالة في الكون.

ولو أن الإنسان كان منصفاً في الكون لسأل نفسه: مَنْ الذي اهتدى إلى صناعة الرغيف الذي نأكله الآن؟ وسيعرف أنه قد أخذ تجارب الناس من أول آدم حتى وصل إلى صناعة هذا الرغيف، فهناك إنسان زرع القمح، وهناك إنسان آخر هداه الله أن يطحن هذا القمح، وهو سبحانه هدى الإنسان أن يصنع منخلاً ليفصل الدقيق عن النخالة، ثم هداه أن يعجن الدقيق حتى يجد له طعماً أفضل. ولاشك أنه ترك مرة قطعة من العجين ثم شُغل عنها بأي شاغل أو بأي سبب ثم رجع لها مرة أخرى فوجدها متخمرة، فلما خبزها خرج له العيش أفضل طعماً، إنه سبحانه قدر فهدى، وإلا كيف تأتي هذه التجربة الطويلة؟

ومثال آخر: إن الإنسان حين ينظف ثوبه، لو أنه استعرض أعمال من سبقوه في هذا الموضوع منذ آدم، لعلم أن كل واحد سبقه في الوجود أعطاه مرحلة من النفعية إلى أن وصل للغسالة الكهربائية التي تغسل له بدون تعب، كل هذه الأشياء جاءت له بهدايات من الله. وقد قلت مرة: لماذا طبخت الناس (الكوسة) ولم تطبخ (الخيار)؟ إن هذه دليل على أن هناك تجارب كثيرة مرت على الإنسان حتى يميز طعم الكوسة المطبوخة عن الخيار، وكذلك طبخ الناس الملوخية ولم يطبخوا النعناع، مع أن النعناع أحسن منها، حدث ذلك؛ لأن هناك تجارب وصلتنا بأن النعناع لا يُستساغ طعمه مطبوخا.

وأنت لو نظرت إلى أي شيء تستفيد به اليوم، وقدرت الأعمال التي تداولته من يوم أن وُجد، ستجد أن الحق قد قدر لكل إنسان عملاً ومجالاً، وظل يخدمك أنت. ومادمت قد خُدمتَ بهؤلاء الناس كلهم من أول آدم وحتى اليوم، فلابد أن تنظر لترى ماذا ستقدم لمن يأتي من بعدك، فلا تكن كسولاً في الحياة؛ تأخذ خير غيرك كله في الوجود، وبعد ذلك لا تعطي أي شيء، بل لابد أن يكون لك عطاء، فكما أخذت من بيئتك لابد أن تعطي هذه البيئة، ولو لم يوجد هذا لما ارتقت الحياة؛ لأن معنى ارتقاء الحياة أن إنساناً أخذ خبرة من سبقوه، وحاول أن يزيد عليها، أي أن يأخذ أكبر ثمرة بأقل مجهود.

فلو قدر الناس جهد الإنسان الذي ابتكر (العجلة) مثلا التي تسير عليها السيارة لكان عليهم أن يستغفروا الله له بمقدار ما أراحهم، فبعد أن كان الإنسان يحمل على أكتافه قصارى ما يحمل، وَفَّر عليه مَن اختراع هذا أن يحمل ويتعب، وجعله يحمل أكبر كمية وينقلها بأقل مجهود.
إذن لابد أن تنظر إلى النعم التي تستفيد بها الآن وترى كم مرحلة مرت بها، وهل صنعها الناس هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود على الأرض، وعرف الإنسان جيلا بعد جيل كيفية تطوير تلك الأشياء، وقد يحدث خطأ في مرحلة معينة فيبدأ الإصلاح أو التحسين وهكذا. فأنت عندما تجد أن العالم قدم لك كل هذه المنتجات، لابد أن تسأل نفسك: ما الذي ستقدمه أنت لهذا العالم، وبذلك تظل الحلقة الإنسانية مرتقية ومتصلة.

والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج: (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، حتى تستقيم حياة الناس على الأرض، لكن الناس غلبت عليهم الغفلة عن أمر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود فسادات بقدر الغفلة، وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسولا جديدا يذكرهم بالمنهج مرة أخرى، وعندما يأتي الرسول يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه، وينتصر الرسول وتستقر مبادئ الله في الأرض، ثم تمر فترة وتأتي الغفلة فيحدث الخلاف، فهناك أناس يتمسكون بمنهج الله، وأناس يفرطون في هذا المنهج، ويحدث الخلاف وتقوم المعارك.

ولو كان الحق سبحانه وتعالى يريد الكون بلا معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطراً سيطرة تسخير. لكن الله تعالى أعطانا تمكيناً، وأعطانا اختباراً؛ لذلك نجد من ينشأ مؤمناً، ومن ينشأ كافراً، نجد الطائع، ونجد العاصي، هذا فريق، وهذا فريق. وإياك أن تفهم أن وجود الكافرين في الأرض، أو وجود العصاة في الكون دليل على أنهم غير داخلين في حوزة الله، لا. بل إن الله تعالى هو الذي أعطاهم هذا الاختيار، ولو شاء الله أن يجعل الناس أمة واحدة لما استطاع إنسان أن يخرج على مراد الله.

وفي الآية التي نحن بصددها جاء الحق بأولي العزم من الرسل:
سيدنا موسى عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدنا عيسى عليه السلام وبعد ذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
إذن ما الذي جعل الناس تقتتل فيما بينها؟
إنه الاختلاف بين الناس، لقد اختلفوا فاقتتلوا. لكن ألا يمكن أن يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟
إن ذلك لو حدث لكان إجماعاً على الفساد. والحق سبحانه لا يريد أن يحدث الإجماع على الفساد، فإن لم يسيطر الخير على أمور البشر فلا أقل من أن يظل عنصر الخير موجوداً، ويأتي واحد ليجد عنصر الخير وينميه.

إن الحق سبحانه لا يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والأفعال الحسنة، بل يستبقي سبحانه معالم الخير والأفعال الحسنة ليذهب إليها أي إنسان يريد الخير، وقد يكون الخير ضعيفاً، ولكن الله لا يمحوه؛ لأنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق، وإن بدأوا ضعفاء. ولذلك نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول:
«لولا عباد الله ركع وصبية رُضّع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا».
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا ألا ننظر إلى الضعفاء على أنهم عالة وأننا أقوياء لمجرد أنهم يعيشون في أكنافنا. بل قد يكونون سياج لطف ورحمة كما في الحديث السابق.

إن الله سبحانه وتعالى رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا، لأن في الضعاف يوجد شيء من الخير، ولتظل في الوجود خلية من الخير حتى إذا ما أراد الوجود أن يفيق إلى الرشد فإنه سيجد من الخير ما يرشده. إذن لولا الاقتتال لعم الفساد، وانتهت المسألة. لكن الناس اختلفت فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} أي لظلوا على منهج واحد من الكفر أو من الفساد، لكن الله يفعل ما يريد. وفي الاقتتال كما نعرف هناك تضحيات بالنفس، وتضحيات من أجل أن تظل القيم السماوية على الأرض.

وتقتضي التضحية إما أن يجود الإنسان بنفسه وإما أن يجود بماله، ولذلك فمن المناسب هنا أن نتكلم عن النفقة وهي الجود بالمال، وخاصة أنه في الزمن القديم كان المقاتل هو الذي يجهز عدة قتاله: فرسه، رمحه، سيفه، سهامه، لذلك فهو يحتاج إلى إنفاق، ويتكلم الحق عن هذه المسألة لأن الأمر بصدد استبقاء خلية الإيمان المصورة في المنهج السماوي الذي جاء به الرسل؛ ليظل هذا المنهج في الأرض حتى يفيء إليه الناس إن صدمهم الشر أو صدمهم الباطل فيقول: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم...}.

2015_6_14_16_21_34_127.jpg

.تفسير الآية رقم (254):


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}

ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى:
{ياأيها الذين آمنوا}
إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله، وليس تكليفاً للناس على إطلاقهم؛ لأن الله لا يكلف من كفر به، إنما يكلف الله من آمن به، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له: يا من آمن بي إلها حكيما قادرا مشرعاً لك، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر.
إذن الإيمان هو حيثية كل حكم، فأنت تفعل ذلك لماذا؟
لا تقل: لأن حكمته كذا وكذا. لا.
ولكن قل: لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته.

ولو أن إنساناً قال له الطبيب: إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا، وبعد ذلك امتنع عن الخمر، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله، لكن هل هو امتنع لأن الله قال؟ لا، لم يمتنع لأن الله قال، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب. أما المؤمن فيقول: أنا لا أشرب الخمر؛ لأن الله قد حرمها، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب: إن كبدك سيضيع بسبب الخمر، فالرحمة هي ألا يجيء الداء.


فواصل لتزيين المواضيع

إن الحق يقول:

{ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم}
أي أنا لا أطلب منكم أن تنفقوا علي، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان، وحركة الإنسان تحتاج طاقة تتحرك في شيء أو مادة، وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر، وهذا الفكر رتبه من خلقه، والجوارح التي تنفعل، واليد التي تتحرك، والرِّجل التي تمشي خلقها الله، والمادة التي تفعل بها مخلوقة لله. وسنأخذ الزارع نموذجا، نجد أن الأرض التي فيها العناصر مخلوقة لله، إذن فالإنسان يعمل بالعقل الذي خلقه الله، ويخطط بالجوارح التي خلقها الله لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في المادة التي خلقها الله لتعطي للإنسان خيرها.. فأي شيء للإنسان إذن؟

ومع ذلك إن حصل للإنسان خير من هذا كله فهو سبحانه لا يقول: (إنه لي) بل أمنحه لك أيها الإنسان، ولكن أعطني حقي فيه، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين، والحق يقول: {ما أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
وإياك أن تقول: ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أنّ المسكنة عَرَض، والعرض من الممكن أن يلحق بك أنت.
فلا تُقدِّر أنك معطٍ دائما، ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لاَ أنْ تعطي. الحق يقول لك: أعط المسكين وأنت غني؛ لأنه سبحانه سيقول للناس: أن يعطوك وأنت فقير، فقدِّر حكم الله ساعة يُطلب منك، ليحميك ساعة أن يُطلب لك، وبذلك تتوازن المسألة.

ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق، فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا، حتى تُمحى الضغائن من قلوبكم؛ لأن الإنسان الضعيف ضعفا طبيعياً وليس ضعف التسول أو الكسل أو الاحتراف، بل ضعف عدم القدرة على العمل هو مسئولية المؤمنين، فسبحانه وتعالى يجعل القوي مسئولا أن يساعدك وأنت ضعيف.

وأنت حين ترى وأنت ضعيف لا تقدر الأقوياء الذين قدروا لم ينسوك، وذكروك بما عندهم، عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير، فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت لا تحسدها أبداً، ولا تحقد على معطيها، بل تتمنى من حلاوة وقعها في نفسك لأنها جاءتك عن حاجة تتمنى لو أن الله قدرك لتردها، فيكون المجتمع مجتمعاً متكافلاً متضامناً.

فحين يقول الله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم، ومن فضل الله عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك، فهو سبحانه يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل الله هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل رزق. وحتى نفهم معنى النفقة أقول: قد قلنا من قبل: إن الكلمة مأخوذة من مادة (النون والفاء والقاف)، ويقال: نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالأثمان المقررة لها، ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان. والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة. والثمن ما لا يستفاد به مباشرة.

فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟
إن هذا الجبل من الذهب أنت لا تستفيد منه مباشرة، أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة، وكذلك كوب الماء الممتلئ، تستفيد منه مباشرة، والملابس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة. إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه سلعة، والذي لا يستفاد منه مباشرة نسميه ثمناً. ولذلك يقول لنا الحق إنذاراً وتحذيراً من الاعتزاز بالمال: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254].

إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه؛ أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس، وأيضا لا يكون في هذا اليوم
(خُلة)،
ومعنى {خلة}
هي الود الخالص، وهي العلاقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلاً بالآخر بالمحبة؛ لأن كُلاًّ منكما منفصل عن الآخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الآخرة سيكون كل إنسان مشغولا بأمر نفسه.

إن اليوم الآخر ليس فيه بيع ولا شراء ولا فيه خلة ولا شفاعة، وهذه هي المنافذ التي يمكن للإنسان أن يستند عليها. فأنت لا تملك ثمنا تشتري به، ولا يملك غيرك سلعة في الآخرة، إذن فهذا الباب قد سد. وكذلك لا يوجد خلة أو شفاعة، والشفاعة هذه مأذون فيها. إن كانت ممن أذن له الله أن يشفع فهي في يد الله، ومعنى (شفيع) مأخوذة من الشفع والوتر. الوتر واحد والشفع اثنان، فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلان. فيتشفع الإنسان بإنسان له جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب. ولكن هذه الوسائل في الآخرة غير موجودة. فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم، فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.

وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تُغلق في هذا اليوم العظيم. وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا الموقف، فأنا لم أظلمهم. لذلك يذيل الحق الآية بقوله:

{والكافرون هُمُ الظالمون}.
وبعد أن تكلم الله سبحانه وتعالى عن الرسل، وعن الاختلاف، وعن القتال لتثبيت منهج الحق، وعن الإنفاق، يوضح لنا التصور الإيماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل. فقد جاء موكب الرسالات كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم...}.

نداء الايمان


 
2015_6_15_10_28_21_537.jpg
 
 

 

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك
باسم الله صور متحركة لمواضيعكم - منتديات المروج المشرقـــة

 
تفسير سورة البقرة - الآية رقم 255
للشيخ الشعراوي
(آية الكرسي)

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}

ونقف بالتأمل الآن عند قوله الحق:
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ}.
إن كلمة {الله} هي عَلَمٌ على واجب الوجود. وعندما نقول: (الله) فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود.
ما معنى (واجبة الوجود)؟
إن الوجود قسمان: قسم واجب، وقسم ممكن.
والقسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجودا، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه {الله} أعطانا فكرة على أن كلمة {الله} هذه يتحدى بها سبحانه أن يُسمى بها سواه. ولو كنا جميعاً مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من الإيمان. ولكنْ هنا كافرون بالله ومتمردون وملحدون يقولون: (الله خرافة)، ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه {الله}؟
لم يفعل أحد هذا؛ لأن الله تحدى بذلك، فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة. وعدم جرأة الكفار والملاحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم، فلو كان كفرهم صحيحاً لقالوا: سنسمي ونرى ما يحدث، ولكن هذا لم يحدث.
إذن {الله} علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال. وبعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وهنا نجد النفي ونجد الإثبات، النفي في {لاَ إله}، والإثبات في {إِلاَّ هُوَ}. والنفي تخلية والإثبات تحلية.
خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته. و(لا إله إلا الله) أي لا معبود بحق إلا الله

. ونعرف أن بعضنا من البشر في فترات الغفلة قد عبدوا أصناماً وعبدوا الكواكب. ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت آلهة بباطل. ودليل صدق هذه القضية التي هي (لا إله إلا الله)، أي لا معبود إلا الله أن أحدا من تلك الآلهة لم يعترض على صدق هذه القضية. إذن فهذا الكلام هو حق وصدق.
وإن ادعى أحد غير ذلك، نقول له: إن الله قد أخبرنا أنه لا معبود بحق غيره؛ لأنه هو الذي خلق وهو الذي رزق، وقال: أنا الذي خلقت. إن كان هذا الكلام صحيحاً فهو صادق فيه، فلا نعبد إلا هو. وإن كان هذا الكلام غير صحيح، وأن أحداً غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الأحد الذي خلق، ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول: (أنا الذي خلق الكون)؟ إنه أمر من اثنين، الأمر الأول: هو أنه ليس هناك إله غيره. فالقضية إذن منتهية. والأمر الآخر: هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى، وبعد ذلك جاء واحد وقال: (أنا الإله وليس هناك إله إلا أنا).
فأين هذه الآلهة الأخرى؟ ألم تعلم بهذه الحكاية؟
إن كانوا لم يعلموا بها، فهم لا يصلحون أن يكونوا آلهة، وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا: لا. نحن الآلهة، وهذا الكلام كذب؟ وكما بعث الله رسلا بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسولا بمعجزات. فصاحب الدعوة إذا ادّعاها ولم يوجد معارض له، تثبت الدعوى إلى أن يوجد مُنازِع.

إذن كلمة (لا إله إلا الله) معها دليل الصدق؛ لأنه إما أن يكون هذا الكلام حقا وصدقا فتنتهي المسألة، وإن لم يكن حقا فأين الإله الذي خلق والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه هذه القضية؟ وبعد ذلك لا نسمع له حساً ولا حركة، ولا يتكلم، ولا نعلم عنه شيئا، فما هو شأنه؟ إما أنه لم يعلم فلا يصلح أن يكون إلها؛ لأنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة. ولذلك ربنا سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 42-43].
فلو كان عند تلك الآلهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته، ولو كان هناك إله غير الله لحدثت معركة بين الآلهة، ولكن هذا لم يحدث. فالكلمة (لا إله إلا الله) صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوى؛ لأنه إن لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه لا إله إلا الله. وإن وجد المنازع نقول: أين هو؟
وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى هب أننا في اجتماع، وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود، فعرضناها على الموجودين، فلم نجد لها صاحباً، ثم جاء واحد كان معنا وخرج، وقال: يا قوم بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي. ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته

إذن (لا إله إلا الله) هي قضية تمتلئ بالصدق والحق، والله هو المعبود الذي يُتَوَجّه إليه بالعبادة، والعبادة هي الطاعة. فمعنى عابد أي طائع، وكل طاعة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، ومادامت العبادة تقتضي أمراً وتقتضي نهياً، فلابد أن يكون المأمور والمنهي صالحاً أن يفعل وصالحاً ألاّ يفعل. فعندما نقول له: افعل كذا كمنهج إيمان، فهو صالح لئلا يفعل. وعندما نقول له: لا تفعل فهو صالح لأن يفعل، وإلا لو لم يكن صالحا ألا يفعل أيقول له (افعل)؟ لا، لا يقول له ذلك. ولو كان صالحا ألا يفعل أيقول له (لا تفعل)؟ إن ذلك غير ممكن.
إذن لابد أن يكون صالحاً لهذه وتلك وإلا لكان الأمر والنهي عبثاً ولا طائل من ورائهما. لذلك عندما أرادوا أن يقصروا الإسلام في العبادات الطقسية التي هي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، قالوا: هل هذا هو كل الإسلام، وقالوا: إنه دين يعتمد على المظاهر فقط، قلنا لهم: لا، إن الإسلام هو كل حركة في الحياة تناسب خلافة الإنسان في الأرض؛ لأن الله يقول في كتابه الكريم: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
{واستعمركم فِيهَا} أي طلب منكم أن تعمروها، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الأرض فهي من العبادة، فلا تأخذ العبادة على أنها صوم وصلاة فقط؛ لأن الصوم والصلاة وغيرهما هي الأركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سَيُبني عليها الإسلام، فلو جعلت الإسلام هو هذه الأركان فقط لجعلت الإسلام أساسا بدون مبنى، فهذه هي الأركان التي يُبني عليها الإسلام، فإذن الإسلام هو كل ما يناسب خلافة الإنسان في الأرض يبيّن ذلك ويؤكده قول الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
ويخرج إلينا أناس يقولون: نحن ليس لنا إلا أن نعبد ولا نعمل. ونقول لأي منهم: كم تأخذ الصلاة منك في اليوم؟ ساعة مثلا. والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوماً واحداً في العام؟ والصوم كم يأخذ منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد. وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟ فبالله عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك لا تأخذ أكثر من ساعة في اليوم للصلاة، ولا تأخذ أكثر من يوم في السنة لإخراج الزكاة، وتقضي شهراً في السنة تصوم نهاره. وتحج مرة واحدة في عمرك، فماذا تفعل في بقية الزمان، ستأكل وتلبس، ستطلب رغيف الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها. ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة.
إن المحل الذي يبيعه فقط ولا يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره، ولابد أن يعمل فيه من يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز، وينقله إلى المحل ويبيعه وإذا نظرت إلى الفرن فسوف تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق، ثم إلى العجين، وإلى النار التي توقد بالمازوت، ويقوم بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم، وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب، وتم طحنها لتصير دقيقاً، وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن، ويعملون على صيانتها، وبعد ذلك الأرض التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها، وتهيئتها للزراعة، وريها، وتسميدها، وزرعها، وحصدها، وكيف دُرِسَ القشر والسنابل، وكيف تتم تذريته من بعد ذلك، لفصل الحبوب عن التبن، وتعبئة الحبوب، إلى غير ذلك؟
انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله، وكم من الطاقات وكم رجال للعمل، فكيف تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك، وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ لا، إياك أن تأخذ عمل غيرك دون جهد منك.
مثال آخر، أنت تلبس جلبابا، كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فلا تقعد، وتنتفع بحركة المتحرك في الحياة، وتقول: أنا مخلوق للعبادة فقط، فليست هذه هي العبادة، ولكن العبادة هي أن تطيع الله في كل ما أمر، وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} إن كل عمل يعتبر عبادة، وإلا ستكون (تنبلاً) في الوجود. والإيمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ولا تعتمد على عمل غيرك.

 
إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الأرض من أجل أن نعمرها. ومن حسن العبادة أن نتقن كل عمل وبذلك لا نقيم أركان الإسلام فقط، ولكن نقيم الأركان والبنيان معا. ونكون قد أدينا مسئولية الإيمان، وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا: (لا إله إلا الله).

ولقد عرفنا أن كلمة
{الله} هي علَم على واجب الوجود، وهي الاسم الذي اختاره الله لنفسه وأعلمنا به، ولله أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل الله بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحداً من خلقه أي خصّه به أو استأثر به في علم الغيب عنده، فلا تظنن أن أسماء الله هي كلها هذه الأسماء التي نعرفها، ولكن هذه الأسماء هي التي أذن الله سبحانه وتعالى بأن نعلمها.
ومن الجائز، أو من لفظ الحديث نعلم أن الله قد يُعلّم بعضا من خلقه أسماء له، ويستأثر لنفسه بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه، وحين نتكلم عن الأسماء الأخرى نجد أنها ملحوظ فيها الصفة، ولكنها صارت أسماء لأنها الصفة الغالبة، فإذا قيل: (قادر) نجد أننا نستخدم هذه الكلمة لوصف واحد من البشر، ولكن القادر إذا أطلق انصرف إلى القادر الأعلى وهو الله. وكذلك السميع ، والبصير. والعليم.
إننا نجد أن بعضاً من أسماء الله سبحانه وتعالى له مقابل، ومن أسماء الله الحسنى ما لا تجد له مقابلاً. فإذا قيل: المحيي. تجد المميت والمعز تجد المذل، لأنها صفة يظهر أثرها في الغير، فهو مميت لغيره، ومعزّ لغيره، ومذل لغيره، لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها صفة ذات، فهو حي ولا نأتي بالمقابل إنما مُحيي نأتي بالمقابل وهو المميت، فهذه اسمها صفة فعل.
فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لأنها في الغير. لكن صفة الذات لا يتصف إلا بها.

 
وحينما قال الحق: {الله} فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات الله في أسمائه، فقال: (الله لا إله إلا هو) ليحقق لنا صفة التوحيد، ويجب أن نعلم أن (إلا) هنا ليست أداة استثناء، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح. وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له، وأنه لا معبود بحق إلا هو فكلمة (إلاّ) ليست للاستثناء وإنما هي بمعنى غير، أي لا إله غير الله.
وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها، وإلا فلو كان هناك إله آخر لقال لنا: إنه موجود. لكن لا إله إلا هو سبحانه أبلغنا {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ}. وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام رحمة الله عليه وكان متأثرا بالشاعر الباكستاني (إقبال)، كان للشاعر إقبال شيء اسمه (المثاني)، أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى، وبيتين من الشعر في معنى، وكان يغلب على شعر إقبال الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال فجعل له مثاني أيضا يناظر فيها (إقبال)، فيقول:
إنما التوحيد إيجاب وسلب ** وفيهما للنفس عزم ومضاء

وقوله: (إنما التوحيد إيجاب وسلب) هو قول متأثر بالقضية الكهربية. فيقول: إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء. فأنت عندما تقول (لا إله)، ف (لا) للنفي، وعندما تكمل قولك: (إلا الله) ف (إلا) للإثبات، ويكمل الدكتور عزام قوله: لا وإلا قوة قاهرة. فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب. فالإيجاب في (إلا) والسلب في (لا). ومادام فيه إيجاب وسلب، إذن ففيه شرارة كهرباء.

همسة المساء • منتديات أنا الأردن


{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}،
و{الحي}
هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، لأن القدرة بعد الحياة، والعلم بعد الحياة. فكل صفة لابد أن تأتي بعدها الذكر وإلا فليست صفة من صفات الله أسبق من صفة ولا متقدمة عليها فكلها قديمة لا أول لها، فلو كان عدماً فكيف تأتي الصفات على العدم؟، وكلمة (حيّ) عندما نسمعها نقول: ما هو الحي؟. إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها. فمنهم من قال: الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدْرِكاً إن وُجِدَ ما يُدْرَكْ.
كأن الفيلسوف الذي قال ذلك: يعني بالحياة حياتنا نحن، وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك.
ونقول لصاحب هذا الرأي: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلابد أن تقول: الحياة هي أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلاحيته لمهمته هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف، ف {الحي}: هو الذي يكون على صفة تُبقى له صلاحيته لمهمته، مثال ذلك النبات، مادمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته. فلو قطع لانتهت الصلاحية. ومثال الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، هذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا.
أنت مثلاً ترى (الزلط) الناعم الأملس، تجده على مقدار واحد؟ لا، إن أشكاله مختلفة، وهذا دليل على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها، ولو استمرت تلك الأحجار في بيئتها الطبيعية فلا شك أن هذه الكبيرة تتفتت يوماً وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى، لكن الإنسان حين يستخدم هذه الأحجار تكون قد خرجت من بيئتها. ومن حكمة الله أنه لا يوجد شيء تنتهي جدواه أبداً، بل هو سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى.
إذن فكل كائن يكون على صفة تُبقى له صلاحيته لمهمة، وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة. نحن لا نأتي بهذا الكلام من عندنا، ولكننا نأتي بهذا الكلام لأننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر، ونقول: ماذا يقابل الحياة في القرآن؟ إنه الهلاك بدليل أن الله قال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

 
إذن فالحياة مقابلة للهلاك. و{الحي} غير هالك. والهالك لا يكون حياً، ويقول تعالى في الآخرة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها، سواء الإنسان، أو الملائكة، أو الحيوان أو النبات، كلها ستكون هالكة، ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك، وله حياة مناسبة له. أليست الحجارة شيئاً، وستدخل في الهلاك يوم القيامة؟. إذن فهي قبل ذلك غير هالكة. لكننا نحن البشر لا نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة. مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران، ولها حياة. وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات، وترى ما بها من خضر وخلايا، وتشاهد العمليات التي تحدث بها، وتقول: هذه حياة أرقى من حياتنا، وأدق منها.
إذن فكل شيء له حياة، إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها، فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول: إنك أذهبت من الأحجار الحياة المناسبة لها، أنت فقط قد حولت مهمتها من حجر صلب، وصارت لها مهمة أخرى، فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها.
وانظر إلى مهمة الحق، ما شكلها؟ إنها الحياة العليا، وهو الحي الأعلى وحي لا تُسلب منه الحياة، لأن أحدا لم يعطه الحياة، بل حياته سبحانه ذاتية، فهذا هو الحي على إطلاقه.
إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى قال: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي} وأثر صفة هذه موجود في كل الصفات الأخرى فقال: {القيوم}. والقيوم هو صفة مبالغة في قائم. ومثلها قولنا: (الله غفور) لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد غافر، لكن (غفور) هي صفة مبالغة.

وقد يقول قائل: هل صفات الله فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟. نقول: لا، فصفات الله لا يصح أن توصف بالضعف أو بالقوة، صفات الله نظام واحد. وحتى نفهم ذلك فنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى نحن نقول: كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا، فكل واحد منا (آكل)، لكن عندما نقول: فلان أكول، فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الأكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه: (أكّال) أو (أكول).
من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفاً وهو يأكل رغيفين أو ثلاثة، إذن فالحدث له في الأكل أثر كبير، فنقول عليه: أكول. وقد يأكل معك رغيفا في الوجبة الواحدة، لكنه يأكل خمس وجبات بدلا من ثلاث وجبات؛ فيكون أيضا أكولا، إذن ف (أكول) إما مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث.

 
ونحن ننظر إلى صفات الله ونقول: إنها لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث، إنما في تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعاً، فالله غافر لهذا، وغافر لذاك، وغافر لكل عاص يتوب، إذن فالحدث يتكرر، فيكون {غفوراً} و{غفاراً} . وهذا ما يحل لنا الإشكال في كثير من الأمور، فعندما يقول سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
 
فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول: إنك إذا جئت بصيغة المبالغة، وأثبتها، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة، مثال ذلك عندما نقول: (فلان علاّم) أو (عالم) ، فما دمت أثبت له الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة، لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة الأخرى موجودة، فهو ليس علامة (لكنه قد يكون) علاماً (أو عالما)، فإذا قلت: فلان (علامة) فقد أثبت له الأدنى أيضاً، فيكون (علاَّما) أو (عالما). لكن إذا نفيت عنه (علامة) انتفى عنه الباقي؟ لا، إذن فنفي الأكثر لا ينفي الأقل.
لكن إذا أُثبت الأكثر ثبت الأقل، وإذا نفيت الأكثر فلن ينتفي الأقل، فإذا قلت: الله ليس بظلام للعبيد، نفيت الأكثر.
صحيح أنه غير مبالغ في الظلم، فهل يمكن أن يكون ظالماً؟ على حسب ما قلنا: إذا نفينا الأكثر لا ينتفي الأقل نقول: لا، لأننا هنا يجب أن نأخذ القضية الأولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث، ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون معاذ الله ظلاَّماً، ولذلك لم يقل: بظلاّم للعبد، بل قال: بظلاّم للعبيد.
إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً، والعبد الآخر يحتاج ظالماً، وذاك يحتاج ظالماً! فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلاماً، ولذلك نفاها سبحانه وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.

همسة المساء • منتديات أنا الأردن

والحق هنا يقول:
(قيوم) وهذه صفة مبالغة من قائم، فالأصل فيها: القائم على أمر بيته، والقائم على أمر رعيته، والقائم على أمر المدرسة، والقائم على أمر هذه الإدارة، ومعنى قائم على أمرها: أنه متولي شئونها، فكأن القيام هو مظهر الإشراف. فنحن لا نقول: (قاعد على إدارتها). وعندما نقول (قيوم) فمعناها أنه أوسع في القيام. كيف جاء هذا الاتساع؟. لأن القائم قد يكون قائماً بغيره، لكن حين يكون قائما بذاته، وغيره يستمد قيامه منه، فهو قائم على كل نفس وهو سبحانه القائل: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].

 
إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا لله شركاء في العبادة، فهل يستطيع أحد أن يبلغ تلك المرتبة العالية، مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه، صغر أو كبر؟. إنه الحافظ المراقب لكل نفس، العالم بكل ما خفي وظهر، وهذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فكيف تتوهمون يا من أشركتم بالله له نداً، إن الحق مُنزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق. لكن أهل الضلال أغواهم ضلالهم فلم يعد لهم هاد بعد الله.
 
إن الحق سبحانه قائم بذاته، وقائم على غيره. والغير إن كان قائماً إنما يستمد منه القيام. فلابد أن يكون (قيوماً)، ومن قيومته أنه {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}، وقيل في كتب العلم: إن قوم بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: أينام ربنا؟.
فأوحى الله إليه: أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان، ودعه إلى أن ينام، ثم انظر الجواب. فلما وضع في يده الزجاجتين ونام. انكسرت الزجاجتان فقال: هو كذلك، هو قائم على أمر السماء والأرض، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا.
همسة المساء • منتديات أنا الأردن
 

وهو سبحانه
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}.
و(السنة) هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم الخفيف، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو، لكن النوم هو (السُباتْ العميق)، فلما قال: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قالوا: إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟.
فقال الحق عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}. وعرفنا أن السنة هي: النعاس الذي يأتي في أول النوم، ومظهرها يبدو أولاً في العين وفي الجفن، فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك يظهر في عينيه، ولذلك يقولون: إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال الإنسان، وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين لا يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إلا من العين. فالفتور الذي يأتي في العين أولاً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه: النعاس.

 
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} أتريدون تطميناً من إله لمألوه، ومن معبود لعابد، ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق: (نم أنت ملء جفونك، واسترح؛ لأن ربك لا ينام). ماذا تريد أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك، وأنك تحتاج إلى النوم، وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل. أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ لا، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله. فمن الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟
إذن فأنت تنام وهو لا ينام. وبالله هل هذه عبودية تُذلنا أو تُعزنا؟ إنها عبودية تُعزنا؛ فالذي نعبده يقول: ناموا أنتم؛ لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم. وإياك أن تفهم أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن شيئا في كونه يخرج على مراده، لا؛ لأن كل ما في السماوات والأرض له، فلا شيء ولا أحد يخرج عن قدرته. ولذلك يقول الحق: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}.
همسة المساء • منتديات أنا الأردن

ويتابع سبحانه بقوله:
{مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}
إنّه سبحانه وتعالى يوضح: أنا أعطيتك الراحة في الدنيا، وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي، ولم أجعل الأسباب تضن عليه، وأعطيته مادام قد اجتهد في تلك الأسباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة، قلت للأسباب: يا أسباب من يُحسنك يأخذك ولو كان كافراً بي. لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إلا العذاب، لأنه ما دام قد عمل في الدنيا وأحسن عملاً فقد أخذ جزاءه، فإياكم أن تظنوا كما قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، وجاء فيهم قول الحق: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
 
إن هؤلاء الذين افتروا على الله بالشرك به، واتخذوا أصناما باطلة لا تضرهم ولا تنفعهم.
يقولون عن هذه الأصنام: إنها تشفع لهم عند الله في الآخرة، ويأمر الحق سبحانه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المشركين: قل لهم يا محمد: هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجودا في السموات ولا في الأرض، وهو الخالق لكل ما في السموات والأرض ومُنزه سبحانه عن أن يكون له شريك في الُملك.
لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا لله شركاء ويقولون: إن هؤلاء الشركاء هم الذين سيشفعون لنا عند الله. فيقول الحق سبحانه: إن الشفاعة لا يمكن أن تكون عندي إلا لمن أذنت له أن يشفع. إن الشفاعة ليست حقا لأحد. ولكنها عطاء من الله، لذلك يقول: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
همسة المساء • منتديات أنا الأردن

ويقول الحق:
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
. ساعة يتعرض العلماء إلى: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك، وما خلفك أي ما وراءك، وما بين يدي الإنسان يكون: مواجها لآلة الإدراك الرائدة وهي العين، فهو أمر يُشهد.
والذي في الخلف يكون غيباً لا يراه، كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به الغيب، فهو {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم مشهدهم وغيبهم، ويطلق (ما بين اليد) إطلاقا آخر. إننا قد نسأل عمّا بين يديك. هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر، فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟
إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم، ومن وراءك سيأتي من بعدك. أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل. فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم، أي العالم المشهود ويسمونه (عالم الملك)، وما خلفهم أي الغيب، ويسمونه (عالم الملكوت). إنه يعلم المشهود لهم والخفي عنهم. وكما يقول الحق: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].

 
إن عند الله علم جميع الغيب ويحيط علمه بكل شيء، ولا تخفى عليه خافية. إنها إحاطة من كل ناحية. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ}. إنه الحق يعلم مطلق العلم. وكون الحق يعلم فإن ذلك لا ينفي أن يكون غيره يعلم أيضا، لكن علم البشر هو بعض علم موهوب من الخالق لعباده.
فعندما يقول واحد: أنا أقول الشعر. فهل منع ذلك القول أحداً آخر من أن يقول الشعر؟ لا.
إنه لم يقل: ما يقول الشعر إلا أنا.
همسة المساء • منتديات أنا الأردن

ويقول سبحانه:
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ}،
و(العلم) هو الصفة التي تعلم الأشياء على وفق ما هي عليه، هذا هو العلم. وصفة الله وعلمه أعظم من أن يحاط بهم، لأنها لو أحيطت لحددت، وكمالات الله لا تحدد، مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول: هذه قدرة الله، هل هي قدرة الله أو مقدور الله؟ إنها مقدور الله أي أثر القدرة، فعندما يقول: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} أي من معلومه.
 
(ويحيطون) هي دقة في الأداء، لأنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات، فأوضح سبحانه: أنك لا تقدر أن تحيط بعلم الله أو قدرته؛ لأن معنى الإحاطة أنك تعرف كل شيء، مثل المحيط على الدائرة، لكن ذلك لا يمنع أن نعلم جزئية ما، ونحن نعلم بما آتانا الله من قوانين الاستنباط، فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج، مثل الطالب الذي يحل مسألة جبر، أو تمرين هندسة، أيعلم هذه الطالب غيبا؟ لا، ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له ويصل إلى نتائج معروفة سلفا لأستاذه. وأنت لا تحيط بعلم إلا بما شاء لك الله أن تحيط، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ}.

وقول الله:
{إِلاَّ بِمَا شَآءَ} هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا شيئا من معلومه، وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون، ثم يأذن الله للسر أن ينكشف، وكل شيء اكتشفه العقل البشري، كان مطمورا في علم الغيب وكان سراً من أسرار الله، وبعد ذلك أذن الله للسر أن ينكشف فعرفناه، بمشيئته سبحانه. فكل سر في الكون له ميلاد كالإنسان تماما، أي أن له ميعاداً يظهر فيه، وهذا الميعاد يسمى مولد السر. لقد كان هذا السر موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه. لقد كنا نحن نستفيد على سبيل المثال من قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية، وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها، وهذا ما يبينه لنا الحق في موضع آخر من القرآن الكريم، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
ما دام قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ}، فهذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسراراً جديدة، وهذا الميلاد إيجاداً وإنما هو إظهار، ولذلك يقول الناس عن الأسرار العلمية: إنها اكتشافات جديدة، لقد تأدبوا في القول مع أن كثيراً منهم غير متدينين، قالوا: اكتشفنا كذا، كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم لا يقصدون هذا الأدب. إنما هي جاءت كذلك، أما المؤمنون فيقولون: لقد أذن الله لذلك السر أن يولد.

 
 
وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} فيه تحد واضح. فحتى إذا اجتمع البشر مع بعضهم فلن يحيطوا بشيء إلا بإذنه. وهذا تحد للكل حين يشاء سبحانه أن يجد إظهار سر في الوجود، فهذا السر يولد، وقد يكون إظهار السر موافقا لبحث الناس مثل العالم الذي يجلس في معمله ليجرب في العناصر والتفاعلات، ويهتدي لهذه وهذه، إنه يتعب كثيرا كي يعرف بعضا من الأسرار، ونحن لا ندري بتعبه وجهده إلا يوم أن يكشف سره.
لقد أخذ المقدمات التي وضعها الله في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره، مثلما نريد أن نصل إلى الولد فنتزوج حتى يأتي، وقد يأذن الله مراراً كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق بمقدماته، لكن ميعاد ميلاد السر قد جاء ولم ينشغل العلماء بمقدماته؛ فيخرجه الله لأي مخترع كنتيجة لخطأ في تجربة ما.

 
وعندما نبحث في تاريخ معظم الاكتشافات نجدها كذلك، لقد جاءت مصادفة، فهناك عالم يبحث في مجال ما، فتخرج له حقيقة أخرى كانت مخفية عنا جميعاً. لقد جاء ميعاد ميلادها على غير بحث من الخلق، فجاء الله بها في طريق آخر لغيرها، وفي بعض الأحيان يوفق الله عالما يبحث المقدمات ويكشف له السر الذي يبحث عنه.
 
إذن، ف {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} تعني أن الإنسان قد يصادف السر بالبحث، ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره، فالله لا يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به ونسميها نحن مصادفة إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار، وهذا هو الذي يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجوداً وله مقدمات في كون الله نستطيع أن نصل إليه بها، وشيء مستور عند الله ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضلا؛ من باب فضل الجود لا بذل المجهود وهو سبحانه يفيضه في (المصادفة) هنا ويفيضه فيما لا مقدمات له على بعض أصفيائه من خلقه، ليعلم الناس جميعاً أن لله فيوضات على بعض عبيده الذين وَالاَهُمُ الله بمحبته وإشراقاته وتجليه.
لكن هل هذا يعني أن باستطاعتنا أن نعرف كل الغيب؟ لا، فالغيب قسمان: غيب جعل الله له في كونه مقدمات، إن استعملناها نصل إليه، ككثير من الاكتشافات، وإذا شاء الله أن يولد سر ما ولم نبحث عنه فهو يعطيه لنا (مصادفة) من باب فيض الجود لا بذل المجهود. ونوع آخر من الغيب ليست له مقدمات، وهذا ما استأثر الله بعلمه إلا أنه قد يفيض به على بعض خلقه كما يقول سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26-27].

 
إن الله هو عالم الغيب فلا يُطلع أحدا من خلقه على غيبه إلا من ارتضاه واصطفاه من البشر، لذلك فلا أحد يستطيع أن يتعلم هذا اللون من الغيب. ولذلك فلا يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب يذهب إليه الإنسان ليسأله عن الغيب. إن الحق يقول: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
وهو سبحانه لا يعطي المفتاح لأحد من خلقه. وقد يريد الله أن يعطي لواحد كرامة، فأعطاه كلمة على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها! فيقول: من يسمح هذا القول وينتفع به. فلان قال لي: كذا وكذا.. يا سلام! وهذا فيض من الله على عبده حين يبين الله لنا أنه يوالي هؤلاء العباد الصالحين.
وقوله الحق:
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ}
نجد أن كلمة {بِشَيْءٍ} تعني أقل القليل.

همسة المساء • منتديات أنا الأردن
 
وقوله سبحانه:
{مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض}
يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه ولخلقه فيه نظائر، كالوجود، هو سبحانه موجود وأنت موجود، كالغني هو غني وأنت غني، كالعلم هو عالم وأنت تكون عالماً، فهل نقول: إن الصفة لله كالصفة عندنا؟ لا، كذلك كل ما يرد بالنسبة للغيب فيما يتعلق بالله إضافة أو وصفاً؛ لا تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. فإذا قيل لله يد، قل: هو له يد كما أن له وجوداً؛ وبما أن وجوده ليس كوجودي فيده ليست كيدي بل افهمها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فإذا قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} نقول: هو قال هذا، ومادام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. فلا تقل له كرسي وسيقعد عليه مثلنا، لا. لقد وجدنا من قال: أين يوجد الله؟!! متى وجد؟!! وقلنا ونقول: (متى) و(أين) لا تأتي بالنسبة لله، إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم، لماذا؟ لأن (متى) زمان و(أين) مكان. والزمان والمكان ظرفان للحدث، فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان، مثال ذلك أن أقول: (أنا شربت) ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان، لكن هب أنني لم أشرب، أيكون هناك زمان أو مكان؟! لا، فمادام الله ليس حدثاً فليس متعلقاً به زمان أو مكان، لأن الزمان والمكان نشأ عندما خلق الله وأحدث هذا الكون، فلا تقل: (متى) لأن (متى) خُلِقَت به، ولا تقل (أين) لأن أين خُلِقَت به ولأن (متى) و(أين) ظرفان؛ هذه للزمان، وهذه للمكان، والزمان والمكان فرعا الحديث.
وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان.

 
إذن فما دام الله ليس حدثاً، فإياك أن تقول فيه متى، وإياك أن تقول فيه أين، لأن (متى) و(أين) وليدة الحدث. وقوله الحق: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} نأخذه كما قلنا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، الكرسي: في اللغة من الكِرْس. والكِرْسُ هو: التجميع، ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة، وكلمة (كرسي) استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يُبنى عليه الشيء، فمادة (الكرسي) (الكاف والراء والسين) تدل على التجميع وتدل على الأساس الذي تثبت عليه الأشياء؛ فنقول: اصنع لهذا الجدار كرسيًّا، أي ضع لهذا الجدار أساساً يقوم عليه. وتطلق أيضاً على القوم والعلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث، والشاعر العربي قال: (كراسي في الأحداث حين تنوب) أي يعتمد عليهم في الأمور الجسيمة.
وحين يُنسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى. فإن السلف لهم فيها كلام والخلف لهم فيها كلام، والسلف يقولون: كما قال الله نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وبعضهم قال: نؤولها بما يُثبت لها صفة من الصفات، كما يثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10].
أي أن قدرة الله فوق قدرتهم، وكما قال سبحانه عن قدرته في الخلق: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].

 
إن كمال قدرة الله أحكمت خلق السماء، والحق سبحانه مقدس وَمُنَزَّهٌ عن أن يتصور المخلوق كلمة (يد) بالنسبة لله. ونحن نقول: الله قال ذلك، ونأخذها من الله؛ لأنه أعلم بذاته وبنفسه، ونُحيلها إلى ألاَّ يكون له شبيه أو نظير، كما أثبتنا لله كثيراً من الصفات، في خلق الله مثلها ومع ذلك نقول: علمه لا كعلمنا، وبصره لا كبصرنا، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟. فتكون في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

همسة المساء • منتديات أنا الأردن

 
والعلماء قالوا عن الكرسي: إنه ما يُعتمد عليه، فهل المقصود علمه؟. نعم. وهل المقصود سلطانه وقدرته؟. نعم، لأن كلمة (كرسي) توحي بالجلوس فوقه، والإنسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر، ولذلك يسمونه (كرسي الملك)؛ لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيام وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي، فعندما تقعد على الكرسي، فمعنى ذلك أن الأمر قد استتب، إذن فهو بالنسبة لله السلطان، والقهر، والغلبة، والقدرة.
أو نقول: مادام قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} فوسع الشيء أي: دخل في وسعه واحتماله. (والسماوات والأرض) نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا، إنه سبحانه يقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
وعندما يقول: إن الكرسي وسع السماوات والأرض، إذن، فهو أعظم من السماوات والأرض أي دخل في وسعه السماوات والأرض.
ولذلك (يقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)).

 
والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من ضواحي الأرض، ومفصول عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية، ولقد تعودنا في حياتنا أن نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الأطوال والأبعاد الكبيرة، لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لأننا نعرف مثلا أن الشمس تبعد عن الأرض ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال، ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الأصفار أمام رقم ما، وهذا يجعل التعبير غير عملي، ولهذا السبب وضع علماء الفلك وحدة ملائمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية. ونحن نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية. ولذلك فقياس أي مسافة بيننا وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة.
فالشمس بيننا وبينها ثلاثة وتسعون مليوناً من الأميال ويصلنا ضوؤها في خلال ثماني دقائق وثلث الدقيقة. والشعرى اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية.
إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية. ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!! كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا، فما بالنا ببقية السماوات؟ إذن فحدود ملك الله فوق تصورنا. ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الجنة يقول سبحانه: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21].

 
هذه هي الجنة التي أعدها الله للمؤمنين بالله ورسله الذين يسارعون إلى طلب غفران الله. فإذا كان عرض الجنة هو السماوات والأرض، فما طولها إذن؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف هو أقل البعدين.
إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والأرض، لكن عيوننا لا تبصر فقط إلا ما أراده الحق لنا من السماء والأرض، ولذلك فعندما نسمع قول الحق: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} فلنا أن نتخيل أي عظمة هي عظمة كرسي ذي الجلال والإكرام.


همسة المساء • منتديات أنا الأردن

إن الحق يقول:
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}،
ومعنى آده الشيء، أي أثقله. وحتى نفهم ذلك هب أن إنساناً يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات، فإن زدنا هذا الحمل إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه، ويجعل عموده الفقري معوجاً حتى يستطيع أن يقاوم الثقل.
فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الأرض من فرط زيادة الوزن الثقيل.
إذن فمعنى
{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}
أي أنه لا يثقل على الله حفظ السماوات والأرض. إن السماء والأرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني. وقال بعض المفسرين: إذا كان الكرسي لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟
هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يطمئنا فيقول: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41].

 
إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والأرض في توازن عجيب ومذهل، ولئن قُدِّرَ لهما أن تزولا. فلن يحفظهما أحد بعد الله، أي لا يستطيع أحد إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة الواحد القهار، وإذا أراد الله أن تزولا فلا يستطيع أحدٌ أن يمسكهما ويمنعهما من الزوال.
وإذا كانت هذه الأشياء الضخمة من صنع الله وهو فوقها، فإنه عندما يصف نفسه بأنه (عليّ) و(عظيم) فذلك أمر طبيعي. إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلاً منطقياً يقتضيه ما تقدمت به الآية الجليلة: آية الكرسي، إنه الحق يقول: {وَهُوَ العلي العظيم} وكلمة (عليّ) صيغة مبالغة في العلو. و(العليّ) هو الذي لا يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه.
والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه. وهو العليم بكل شيء، الذي يسع كرسيه السماوات والأرض وهو العليّ فلا أعلى منه، وهو العظيم بمطلق العظمة. وتتجمع كل هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة الإيمانية،
 
وقد وردت فيها أحاديث كثيرة، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك؟ فقلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟
قال
: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: ذاك الشيطان».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه آية الكرسي».
وعن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت».
وعن علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ مضجعه آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله».
كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الآية الكريمة،
همسة المساء • منتديات أنا الأردن
 
وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه المسألة فقال واحد منهم: انظروا إلى أسماء الله الموجودة فيها.
وبالفعل
قام أحد العلماء بحصر أسماء الله الحسنى فيها، فوجد أن فيها ستة عشر اسماً من أسماء الله، وبعضهم قال: إن بها سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى، وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله، كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء، ويعلموا فضل وفضائل هذه الآية الكريمة.
والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما من أسماء الله قالوا: إن بها اسم علم واجب الوجود (الله).
واسم (هو) في لا إله إلا هو: هو الاسم الثاني.
و(الحيّ) هو الاسم الثالث.
و(القيوم) هو الاسم الرابع.
وعندما ندقق في قول الحق {لا تأخذه سنة ولا نوم} نجد أن الضمير في {لا تأخذه} عائد إلى ذاته جل شأنه.
و{له ما في السماوات وما في الأرض} فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه.
وكذلك الضمائر في قوله: {عنده} و{بإذنه} و{يعلم} و{من علمه} و{بما شاء} و{كرسيه} كلها تعود إلى ذاته جل شأنه. و{لا يؤوده حفظهما} فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك. وهو في قوله سبحانه: {وهو العلي العظيم} اسم من أسمائه تعالى. والعلي اسم من أسمائه جل وعلا.
و{العظيم} كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.
لكنَّ عالماً آخر قال: إنها سبعة عشر اسماً من أسماء الله؛ لأنك لم تحسب الضمير في المصدر المشتق منه الفعل الموجود بقوله: {حفظهما} إن الضمير في (هما) يعود إلى السماوات والأرض. والحفظ مصدر. فمن الذي يحفظ السماوات والأرض؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى في آية الكرسي.
وعالم ثالث قال: لا، أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لأن في الآية الكريمة أسماء واضحة للحق جل وعلا، وهناك أسماء مشتقة، مثال ذلك: الله لا إله إلا هو. الحي هو. القيوم هو. العلي هو. العظيم هو.
ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك: صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاماً.
المهم أن في
الآية الكريمة ستة عشر اسماً، وإن حسبنا الضمير المستتر في {حفظهما} نجد أنها سبعة عشر اسماً، وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل: الحي هو. و: القيوم هو. و: العلي هو. و: العظيم هو. صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً. إذن هي آية قد جمعت قدراً كبيرا من أسماء الله، ومن ذلك جاءت عظمتها.


همسة المساء • منتديات أنا الأردن

وهذه الآية الكريمة قد بيّنت ووضحت قواعد التصور الإيماني، وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته.
والآية في ذاتها تتضمن حيثيات الإيمان، إنه ما دام هو الله لا إله إلا هو، وما دام هو الحيّ القيوم على أمر السماء والأرض، وكل شيء بيده، وهو العلي العظيم، فكل هذه مبررات لأن نؤمن به سبحانه وتعالى، وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات، وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا الدين الذي كان أمر الألوهية المطلقة واضحاً وبيّناً فيه.
ولذلك فمن الطبيعي ألا يقهر الحق أحداً على الإيمان به إكراهاً، لأن الذي يقهر أحداً على عقيدة ما، هو أول مَنْ يعتقد أنه لولا الإكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد. ونحن في حياتنا اليومية نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على مبادئهم. وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة.

 
ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقداً أن مبدأه سليم لقال: أطرح هذا المبدأ على الناس، وأترك لهم الخيار؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واثقاً من مبدئه. أما الذي يقهر الناس إكراها بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما، فهو أول من يشك في هذا المبدأ، وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل. مثل هؤلاء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم ويسقط بنيانه.
والحق سبحانه وتعالى بعد ذلك يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي...

نداء الايمان



أية الكرسي by محمد متولي الشعراوي

 

 

ملحوظة

﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ﴾


وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: بيان وجه الإشكال في الآية.

المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال.

المطلب الثالث: الترجيح.

♦ ♦ ♦ ♦




المطلب الأول: بيان وجه الإشكال في الآية:

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].



يتمثل وجه توهُّم الإشكال في هذه الآية في قوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ﴾، فهل معنى الكرسي هنا هو العرش؟ أم معناه العلم؟ أم معناه موضع قدمي الله عز وجل؟ [1].



وهل تفسير الكرسي بأنه موضع قدمي الله عز وجل يجعل هذه الآية من نصوص الصفات، وبناءً على ذلك تُثبِت لله قدمين اثنتين؟



وهل تصحُّ دعوى المخالفين لأهل السنة في نسبة التأويل لأهل السنة في هذه الآية؟

هذا ما أحاول بيانه في المسائل التالية بإذن الله.

وهذا كله في بيان المراد بالكرسي في هذه الآية، أما إثبات الكرسي نفسه، فإن "الكرسي ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع جمهور السلف" [2].



المطلب الثاني: أقوال أهل العلم في هذا الإشكال:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال أهمها:

القول الأول: أن الكرسي هو موضع قدمي الله عز وجل، وممن قال بهذا القول أبو موسى الأشعري[3]، وابن عباس[4]، والسدي[5]، وأبو عبيد القاسم بن سلام[6]، والدارمي[7]، والأزهري[8]، وأكثر أهل العلم[9]، وهو قول أهل السنة[10].



القول الثاني: أن الكرسي هو علم الله.

ويُنسب هذا القول لابن عباس، وسعيد بن جبير[11]، والطبري[12].

ومما استدلوا به:

1- ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ وسع كرسيه ﴾ قال: "كرسيه: علمه"[13].



القول الثالث: أن الكرسي هو عرش الرحمن، ويُنسب هذا القول للحسن البصري [14].



المطلب الثالث: الترجيح:

بعد بيان الأقوال في المطلب السابق يترجح القول بأن معنى الكرسي هو موضع قدمي الله عز وجل، وأن هذه الآية تعتبر من نصوص الصفات.



ومما يؤيد هذا الترجيح ما يلي:

1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله" [15].

وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان موقوفًا عليه إلا أن له حكم الحديث المرفوع؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا تُدرَك بالاجتهاد كما هو مقرَّر عند أهل العلم.



2- أن ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير الكرسي بالعلم لا يثبت من جهات؛ منها:

أ- أن هذا الأثر ضعيف[16]، فقد قال الأزهري: "والذي رُوِي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم، فليس مما يُثبته أهل المعرفة بالأخبار" [17]، وقال ابن الأنباري: "إنما يُروى هذا بإسناد مطعون فيه" [18].



وقد حكم عليه بعض أهل العلم بالشذوذ [19]؛ وذلك أن في إسناده مقالًا، فإنه من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، وجعفر بن أبي المغيرة قال عنه ابن حجر: "صدوق يهم" [20]، [21].



وأما رواية جعفر عن سعيد بن جبير، فقال ابن منده عن جعفر: "لم يُتابَع عليه جعفر وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير"[22].



حتى إن بعض أهل العلم بعد أن نسب لابن عباس تفسير الكرسي بأنه موضع القدمين ذكر أن "من قال غير ذلك، فليس له دليل إلا مجرد الظن" [23].



ب- أنه قد ثبت عن ابن عباس خلاف هذا القول[24]كما سبق.



ج- أن تفسير ابن عباس للكرسي بأنه موضع قدمي الله عز وجل هو المشهور عنه[25]، وأما ما يُنسب إليه من تفسير الكرسي بالعلم، فهو قول مغمور عنه، وتعمُّد الأخذ بالقول المغمور والعدول عن القول المشهور، يدل على الرِّيبة وعدم تحرِّي الحق[26].



3- أن تفسير الكرسي بالعلم "قول ضعيف؛ فإن علم الله وسع كل شيء؛ كما قال: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7] والله... [27] يعلم ما كان وما لم يكن، فلو قيل وسع علمه السماوات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسبًا؛ لا سيما وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255]؛ أي: لا يثقله ولا يَكْرُثه، وهذا يُناسب القدرة لا العلم والآثار المأثورة تقتضي ذلك" [28].



4- أن تفسير الكرسي بالعلم يُعتبر من طرق الجهمية في نفي وتأويل النصوص[29].



5- أن تفسير الكرسي بالعلم "لا يعرف في اللغة البتة" [30].



6- أما تفسير الكرسي بأنه العرش فإن أكثر أهل العلم يرون أن الكرسي ليس هو العرش [31]، وهو اختيار ابن كثير[32]، وابن أبي العز الحنفي[33].



• ويحسن التنبيه هنا إلى أن بعض نفاة الصفات يثبت الكرسي وأنه موضع القدمين، ولكنه ليس موضع قدمي الله عز وجل، وإنما موضع القدمين بالنسبة لأسرة الملوك، قال البيهقي (عن ابن عباس: "وسع كرسيه السماوات والأرض"، قال: موضع القدمين، قال: ولا يُقدر قدر عرشه، كذا قال: "موضع القدمين" من غير إضافة، وقاله أيضًا أبو موسى الأشعري من غير إضافة، وكأنه أصح [34]، وتأويله عند أهل النظر مقدار الكرسي من العرش، كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير، فيكون السرير أعظم قدرا من الكرسي الموضوع دونه موضعا للقدمين، هذا هو المقصود من الخبر عند أهل النظر والله أعلم) [35].



وقال بعد ذكره للكرسي: "ذكرنا أن معناه فيما نرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله سبحانه" [36].



وقال ابن عطية الأندلسي: "قال أبو موسى الأشعري: "الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل"، وقال السدي: "هو موضع قدميه".



وعبارة أبي موسى مخلصة؛ لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك، والكرسي هو موضع القدمين، وأما عبارة السدي فقلقة"[37].


[1] يُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 8/ 363.

[2] مجموع الفتاوى 6/ 584.

[3] يُنظَر: كتاب السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل، رقم (588) 1/ 303، وتفسير الطبري 4/ 538، والأسماء والصفات، للبيهقي، رقم (859) 2/ 296، وقال ابن حجر في فتح الباري 9/ 697: "بإسناد صحيح"، وقال الألباني في مختصر العلو، رقم (75) ص 124: "إسناده موقوف صحيح... رجاله كلهم ثقات معروفون".

ولكن جاء من طريق عمارة بن عمير، عن أبي موسى الأشعري، وعمارة لا يُعرف له رواية عن أبي موسى؛ وإنما يروي عن ابنه إبراهيم، قال الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (906) 2/ 307: "إسناده صحيح إن كان عمارة بن عمير سمِع من أبي موسى، فإنه يروي عنه بواسطة ابنه إبراهيم بن أبي موسى الأشعري".

[4] وسيأتي في الترجيح إثبات نسبته إليه إن شاء الله.

[5] يُنظَر: تفسير الطبري 4/ 538.

[6] يُنظَر: كتاب الصفات؛ للدارقطني، رقم (57)، ص 68، شرح أصول اعتقاد أهل السنة؛ للالكائي، رقم (928)، 2/ 581.

[7] يُنظَر: نقض الدارمي على بشر المريسي 1/ 414.

[8] يُنظَر: تهذيب اللغة 10/ 54.

[9] يُنظَر: نقض الدارمي على بشر المريسي 1/ 414، كتاب الصفات؛ للدارقطني، رقم (57)، ص 69، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، رقم (928)، 2/ 581، وسير أعلام النبلاء للذهبي 10/ 505.

[10] يُنظَر: أصول السنة؛ لابن أبي زمنين، ص 96.

[11] يُنظَر: تفسير ابن أبي حاتم 3/ 981، والأسماء والصفات؛ للبيهقي رقم (233) 1/ 309، وذكره البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ [البقرة: 239] 6/ 31، وقال ابن حجر في فتح الباري 9/ 697: "بإسناد صحيح"، وقال بعد ذلك: "ثم هذا التفسير غريب".

ولا يثبت هذا عن سعيد بن جبير؛ فقد جاء من نفس الطريق التي جاء منها أثر ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم، إضافة إلى أن الثابت عن سعيد بن جبير تفسير الكرسي بأنه موضع القدمين، يُنظَر: تفسير ابن أبي حاتم 3/ 982.

[12] يُنظَر: تفسير الطبري 4/ 541، والمحرر الوجيز؛ لابن عطية الأندلسي 1/ 342، تفسير القرطبي 4/ 275.

وإن كان عندي في نسبة هذا القول لابن جرير الطبري نَظَر، فإنه بعد ذكره للأقوال في معنى الكرسي قال 4/ 540: "ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب".

غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما: حدثني به عبدالله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيدالله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: ((إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع)) ثم قال بأصابعه فجمعها: ((وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله))، وهذا الكلام منه ظاهر في أنه لم يختر القول بأن الكرسي هو العلم.

وإن كانت وردت عبارة مُلبسة بعد ذلك؛ وهي قوله: "وأما الذي يدل على صحَّته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال: هو علمه، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255] على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]..."، ولعله يقصد في هذا الكلام أن تفسير الكرسي قد جاء به الحديث المذكور، ولو لم يأت حديث في تفسير الكرسي، فإن ظاهر القرآن يدل على تفسير الكرسي بالعلم، وهذا اجتهاد منه رحمه الله.

واستخدم الطبري مثل هذا الأسلوب في عدة مواضع منها 21/ 131: عند ترجيحه في تفسير الشاهد في قوله تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأحقاف: 10].

[13] أخرجه الطبري في التفسير 4/ 537، وتفسير ابن أبي حاتم 3/ 981، والأسماء والصفات؛ للبيهقي، رقم (233) 1/ 309.

ولا يثبت هذا عن ابن عباس كما سيأتي في الترجيح إن شاء الله.

[14] يُنظَر: تفسير الطبري 4/ 539، والبداية والنهاية؛ لابن كثير 1/ 23.

ولا يصح هذا عن الحسن، كما قال ابن كثير في البداية 1/ 23: "وهذا لا يصحُّ عن الحسن؛ بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أن الكرسي غير العرش".

[15] أخرجه الدارمي في النقض على المريسي 1/ 412، وهذا لفظه، وابن خزيمة في التوحيد، رقم (156) 1/ 249 ولفظه: "الكرسي موضع قدميه"، وابن أبي حاتم في التفسير، رقم (2870) 3/ 982، ولفظه: "موضع قدميه"، والحاكم رقم (3175) 2/ 338، ولفظه: "الكرسي موضع قدميه".

وسُئل أبو زرعة عن أثر ابن عباس "الكرسي موضع القدمين"، فقال: "صحيح"؛ يُنظَر: التوحيد؛ لابن منده3/ 309، وذكر القصاب في نكت القرآن 1/ 181: أنه صحيح مشهور، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه"، وقال الأزهري في تهذيب اللغة 10/ 54: "هذه رواية اتفق أهل العلم على صحَّتها"، وقال الذهبي في العلو 1/ 597: "رواته ثقات"، وصحَّحه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية 8/ 363، وقال الألباني في مختصر العلو للذهبي، رقم (45)، ص 102: "هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات".

[16] وضعَّفه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (109).

[17] تهذيب اللغة 10/ 54.

[18] العلو للذهبي 1/ 850.

[19] يُنظَر: نقض الدارمي على المريسي 1/ 411، والبداية والنهاية؛ لابن كثير 1/ 23، وشرح الطحاوية؛ لابن أبي العز ص 371.

[20] تقريب التهذيب، رقم (968)، ص 201، ويُنظَر: نكت القرآن للقصاب 1/ 181.

[21] ذكر بعض أهل العلم أن راوي هذا الأثر الذي فيه مقال هو جعفر الأحمر وليس جعفر بن أبي المغيرة، قال الدارمي في نقض المريسي1/ 411: "يُقال لهذا المريسي: أما ما رويت عن ابن عباس، فإنه من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر ممن يعتمد على روايته؛ إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون"، وقال الذهبي في العلو 1/ 850 عن أثر ابن عباس: "جاء من طريق جعفر الأحمر: لين".

وهذا محل تأمل، فإن جميع الطرق التي وقفت عليها هي من رواية جعفر بن أبي المغيرة، فإما أن يكون لأثر ابن عباس طريق آخر لم أقف عليه من رواية جعفر الأحمر، أو أن هذا وهم من الدارمي والذهبي رحم الله الجميع.

ويُنظَر: نقض الدارمي على المريسي بتحقيق السماري، ص 205، حاشية (1).

[22] الرد على الجهمية؛ لابن منده 1/ 21.

[23] شرح العقيدة الطحاوية؛ لابن أبي العز، ص 371.

[24] يُنظَر: نقض الدارمي على المريسي 1/ 412.

[25] يُنظَر: نكت القرآن؛ للقصاب 1/ 181.

[26] يُنظَر: نقض الدارمي على المريسي 1/ 414.

[27] العبارة في مجموع الفتاوى: "والله يعلم نفسه ويعلم ما كان وما لم يكن"، ولم يتبيَّن لي وجه معناها، ولعل الصواب: "والله أعلم بنفسه، ويعلم ما كان وما لم يكن".

[28] مجموع الفتاوى 6/ 584، ويُنظَر: بيان تلبيس الجهمية 8/ 363.

[29] يُنظَر: نقض الدارمي على المريسي 1/ 411، والاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية؛ لابن قتيبة، ص 35، تفسير نكت القرآن؛ للقصاب 1/ 178، ومجموع الفتاوى؛ لابن تيمية 5/ 60.

[30] بيان تلبيس الجهمية 8/ 363، ويُنظَر: 8/ 365، نكت القرآن؛ للقصاب 1/ 183.

[31] يُنظَر: مجموع الفتاوى 6/ 585.

[32] يُنظَر: تفسير ابن كثير 1/ 681.

[33] يُنظَر: شرح العقيدة الطحاوية، ص 368.

[34] أي أصح من لفظ "قدميه" الوارد في باقي النصوص.

[35] الأسماء والصفات؛ للبيهقي، رقم (758) 2/ 196.

[36] الأسماء والصفات؛ للبيهقي، رقم (859) 2/ 197.

[37] المحرر الوجيز 1/ 342، ويُنظَر: تفسير القرطبي 4/ 287.



د. زياد بن حمد العامر

شبكة الالوكة

 

مجالس تدبر القرآن ....(متجددة) - صفحه 5 - ساحة القرآن الكريم العامة - أخوات  طريق الإسلام
 


 

تم تعديل بواسطة امانى يسرى محمد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

إنشاء حساب جديد أو تسجيل دخول لتتمكني من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب جديد

سجلي حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجلي حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلكين حسابًا بالفعل ؟ سجلي دخولك من هنا.

سجلي دخولك الان

  • من يتصفحن الموضوع الآن   0 عضوات متواجدات الآن

    لا توجد عضوات مسجلات يتصفحن هذه الصفحة

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×