اذهبي الى المحتوى
  • اﻹهداءات

    قومي بتسجيل الدخول أوﻻً لإرسال إهداء
    عرض المزيد

المنتديات

  1. "أهل القرآن"

    1. 57227
      مشاركات
    2. ساحات تحفيظ القرآن الكريم

      ساحات مخصصة لحفظ القرآن الكريم وتسميعه.
      قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" [صحيح الترغيب]

      109817
      مشاركات
    3. ساحة التجويد

      ساحة مُخصصة لتعليم أحكام تجويد القرآن الكريم وتلاوته على الوجه الصحيح

      9066
      مشاركات
  2. القسم العام

    1. الإعلانات "نشاطات منتدى أخوات طريق الإسلام"

      للإعلان عن مسابقات وحملات المنتدى و نشاطاته المختلفة

      المشرفات: المشرفات, مساعدات المشرفات
      284
      مشاركات
    2. الملتقى المفتوح

      لمناقشة المواضيع العامة التي لا تُناقش في بقية الساحات

      180506
      مشاركات
    3. شموخٌ رغم الجراح

      من رحم المعاناة يخرج جيل النصر، منتدى يعتني بشؤون أمتنا الإسلامية، وأخبار إخواننا حول العالم.

      المشرفات: مُقصرة دومًا
      56695
      مشاركات
    4. 259983
      مشاركات
    5. شكاوى واقتراحات

      لطرح شكاوى وملاحظات على المنتدى، ولطرح اقتراحات لتطويره

      23500
      مشاركات
  3. ميراث الأنبياء

    1. قبس من نور النبوة

      ساحة مخصصة لطرح أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و شروحاتها و الفوائد المستقاة منها

      المشرفات: سدرة المُنتهى 87
      8234
      مشاركات
    2. مجلس طالبات العلم

      قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع"

      32130
      مشاركات
    3. واحة اللغة والأدب

      ساحة لتدارس مختلف علوم اللغة العربية

      المشرفات: الوفاء و الإخلاص
      4160
      مشاركات
    4. أحاديث المنتدى الضعيفة والموضوعة والدعوات الخاطئة

      يتم نقل مواضيع المنتدى التي تشمل أحاديثَ ضعيفة أو موضوعة، وتلك التي تدعو إلى أمور غير شرعية، إلى هذا القسم

      3918
      مشاركات
    5. ساحة تحفيظ الأربعون النووية

      قسم خاص لحفظ أحاديث كتاب الأربعين النووية

      25483
      مشاركات
    6. ساحة تحفيظ رياض الصالحين

      قسم خاص لحفظ أحاديث رياض الصالحين

      المشرفات: ام جومانا وجنى
      1677
      مشاركات
  4. الملتقى الشرعي

    1. الساحة الرمضانية

      مواضيع تتعلق بشهر رمضان المبارك

      المشرفات: فريق التصحيح
      30256
      مشاركات
    2. الساحة العقدية والفقهية

      لطرح مواضيع العقيدة والفقه؛ خاصة تلك المتعلقة بالمرأة المسلمة.

      المشرفات: أرشيف الفتاوى
      52990
      مشاركات
    3. أرشيف فتاوى المنتدى الشرعية

      يتم هنا نقل وتجميع مواضيع المنتدى المحتوية على فتاوى شرعية

      المشرفات: أرشيف الفتاوى
      19530
      مشاركات
    4. 6678
      مشاركات
  5. داعيات إلى الهدى

    1. زاد الداعية

      لمناقشة أمور الدعوة النسائية؛ من أفكار وأساليب، وعقبات ينبغي التغلب عليها.

      المشرفات: جمانة راجح
      21004
      مشاركات
    2. إصدارات ركن أخوات طريق الإسلام الدعوية

      إصدراتنا الدعوية من المجلات والمطويات والنشرات، الجاهزة للطباعة والتوزيع.

      776
      مشاركات
  6. البيت السعيد

    1. بَاْبُڪِ إِلَے اَلْجَنَّۃِ

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فأضع ذلك الباب أو احفظه." [صحيح ابن ماجه 2970]

      المشرفات: جمانة راجح
      6306
      مشاركات
    2. .❤. هو جنتكِ وناركِ .❤.

      لمناقشة أمور الحياة الزوجية

      97008
      مشاركات
    3. آمال المستقبل

      "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" قسم لمناقشة أمور تربية الأبناء

      36838
      مشاركات
  7. سير وقصص ومواعظ

    1. 31793
      مشاركات
    2. القصص القرآني

      "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يُفترى"

      4883
      مشاركات
    3. السيرة النبوية

      نفحات الطيب من سيرة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم

      16438
      مشاركات
    4. سيرة الصحابة والسلف الصالح

      ساحة لعرض سير الصحابة رضوان الله عليهم ، وسير سلفنا الصالح الذين جاء فيهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.."

      المشرفات: سدرة المُنتهى 87
      15478
      مشاركات
    5. على طريق التوبة

      يقول الله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } طه:82.

      المشرفات: أمل الأمّة
      29721
      مشاركات
  8. العلم والإيمان

    1. العبادة المنسية

      "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ.." عبادة غفل عنها الناس

      31147
      مشاركات
    2. الساحة العلمية

      العلوم الكونية والتطبيقية وجديد العلم في كل المجالات

      المشرفات: ميرفت ابو القاسم
      12926
      مشاركات
  9. إن من البيان لسحرًا

    1. قلمٌ نابضٌ

      ساحة لصاحبات الأقلام المبدعة المتذوقة للشعر العربي وأدبه

      المشرفات: الوفاء و الإخلاص
      50492
      مشاركات
  10. مملكتكِ الجميلة

    1. 41314
      مشاركات
    2. 33909
      مشاركات
    3. الطيّبات

      ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ))
      [البقرة : 172]

      91746
      مشاركات
  11. كمبيوتر وتقنيات

    1. صوتيات ومرئيات

      ساحة مخصصة للمواد الإسلامية السمعية والمرئية

      المشرفات: ام جومانا وجنى
      32199
      مشاركات
    2. جوالات واتصالات

      قسم خاص بما يتعلق بالجوالات من برامج وأجهزة

      13116
      مشاركات
    3. 34854
      مشاركات
    4. خربشة مبدعة

      ساحة التصاميم الرسومية

      المشرفات: محبة للجنان
      65605
      مشاركات
    5. وميضُ ضوء

      صور فوتوغرافية ملتقطة بواسطة كاميرات عضوات منتدياتنا

      6120
      مشاركات
    6. 8966
      مشاركات
    7. المصممة الداعية

      يداَ بيد نخطو بثبات لنكون مصممات داعيـــات

      4925
      مشاركات
  12. ورشة عمل المحاضرات المفرغة

    1. ورشة التفريغ

      هنا يتم تفريغ المحاضرات الصوتية (في قسم التفريغ) ثم تنسيقها وتدقيقها لغويا (في قسم التصحيح) ثم يتم تخريج آياتها وأحاديثها (في قسم التخريج)

      12904
      مشاركات
    2. المحاضرات المنقحة و المطويات الجاهزة

      هنا توضع المحاضرات المنقحة والجاهزة بعد تفريغها وتصحيحها وتخريجها

      508
      مشاركات
  13. IslamWay Sisters

    1. English forums   (36921 زيارات علي هذا الرابط)

      Several English forums

  14. المكررات

    1. المواضيع المكررة

      تقوم مشرفات المنتدى بنقل أي موضوع مكرر تم نشره سابقًا إلى هذه الساحة.

      101648
      مشاركات
  • أحدث المشاركات

    • آيات الذرية في سورة الرعد ومضامينها التربوية الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23، 24].     أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين، والبشرى لعباد الله الصالحين بصحبة أولادهم في الجنة، والبشارة بمضاعفة الأجر للعاملين كأسلوب تربوي قرآني، وأهمية الصبر وعاقبته الحسنة، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:   أولًا: العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين: إن الله تعالى وعد عباده الصالحين حسن الجزاء، وحسن العاقبة، وهي: جنات عدن خالدين ومنعمين فيها، ولا شك أن ذلك مطلب كل مؤمن، ورجاء كل مسلم، وأمل كل تقي؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.   وقد ربط الشارع الحكيم في كثير من الآيات الكريمات دخولَ الجنة ونعيمها بالتقوى والعمل الصالح، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 57]، وقال تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ [إبراهيم: 23]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: 14].     وهذا الجزاء العظيم يناله المؤمن بفضل الله تعالى وعفوه وكرمه؛ كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَـلُهُ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُـولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ"[1].   ولهذا ينبغي للمسلم أن يستفرغ وسعه، في الحرص على مرضاة ربه وطاعته، والعناية التامة بتقوى الله تعالى، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، لقاء ما أسبغ علينا من نعم ظاهرة وباطنه، لا تعد ولا تحصى.     ثانيًا: البشرى لعباد الله الصالحين بصحبة أولادهم في الجنة:   إن من رحمة الله جل وعلا بعباده، وقد علم قوة ولع الوالدين بأبنائهم، وشدة تعلق الأصول بالفروع، وحرصهم على القرب منهم، فقد وعد الله تعالى الصالحين من عباده المؤدين أوامره، المجتنبين نواهيه، إضافة إلى تكرُّمه تعالى بإدخالهم جنانه ذات النعيم المقيم، بأن تكون ذرياتهم معهم في الجنة، ولكن شريطة صلاحهم، وتأديتهم لما فرض عليهم من حقوق، وواجبات.   وأورد ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية، ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينُه.   وهذا التوجيه يؤكِّد أمرين مهمين؛ هما: أولًا: تحفيز الوالدين بزيادة العمل الصالح والقرب من الله تعالى، فإن ذلك مردوده عليهم عظيم، وأي فضل أعظم من أن تكون مع الإنسان ذريته في الآخرة، حتى ولو لم تعمل ذريته نفس عمل الأب، ولكن بصلاح الأب ارتفعت الذرية في الجنة.   ثانيًا: بذل مزيد من الجهد والعناية في تربية الأولاد، والمحافظة عليهم، وحسن رعايتهم، رعاية تحفظ عليهم دينهم وأخلاقهم؛ لأن ذلك سيكون سببًا في سعادتهم بهم في الدنيا، كما سيكون سببًا في سعادتهم بهم أكثر في الآخرة، نسأل الله تعالى من فضله.   فيا أيها الآباء والأمهات، هلَّا بذلتم مزيدًا من العمل الصالح، ومزيدًا من العناية في تربية أولادكم تربية إسلامية صحيحة؛ لتحصلوا على هذه البشرى العظيمة والجائزة الثمينة من الله تعالى.   ثالثًا: البشارة بمضاعفة الأجر للعاملين:   النفس البشرية تحتاج إلى أساليب مناسبة لتربيتها، ولا شك أن القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، يزخر كل منهما بالعديد من الأساليب التربوية المناسبة لها، كيف لا والله تعالى هو خالقها، ويعلم ما يصلحها وما يفسدها؛ قال الله تعـالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].     وقد أشـارت الآية الكريمـة هـذه إلى أسلوب تربوي عظيم، وهو: (البشارة بمضاعفة الأجر للعاملين)، وهناك العديد من الآيات الكريمات التي أشارت أيضًا إلى هـذا الأسلوب في مواضـع مختلفة؛ منهـا: قول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]، وقـال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 17، 18]، وقـــال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 47]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30].   وهذا الأسلوب القرآني تحتاجه النفس البشرية في مختلف المراحل العمـرية، وفي مختلف المجالات الحياتية، فعلى المعنيين في هذه المجالات الأخذ بهذا الأسلوب القرآني، وسيجدون بإذن الله تعالى فوائده العظيمة في مضاعفة الجهد من العاملين، وعلى التربويين المتخصصين في التربية وعلم النفس التربوي تحديدًا، بذل مزيد من الجهد لاستخراج هذه الأساليب التربوية.   رابعًا: أهمية الصبر وعاقبته الحسنة:   جاءت الآية: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 24] مباشرة بعد الآية ( الرعد: 23 ) التي وردت فيها لفظـة الذرية، وبينهما تلازم وارتباط، فهي بيان وتوضيح، وتأكيد بأن النعيم الأخروي، وما أعده الله تعالى لعباده الصالحين، والذي ذكر في الآية (الرعد: 23) لا يتأتى إلا بالصبر والمجاهدة، ولهذا شواهد أخرى؛ منها: قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142].   يقول الشيخ السعدي رحمه الله في هذه الآية استفهام إنكـاري؛ أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنـة مـن دون مشقـة، واحتمــال المكــاره في سبيل الله، وابتغاء مرضـاته؛ فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل مـا بـه يتنافـس المتنافسون، وكلمـا عظـم المطلـوب عظُمـت وسيلتـه، والعمل الموصـل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بتـرك الراحة، ولا يـدرك النعيـم إلا بترك النعيـم، ولكن مكاره الدنيا التي تُصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تؤول إليـه، تنقلب عند أرباب البصائر منحًا يسرون بها، ولا يبالـون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ا.هـ.   ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الحيـاة ليست دائمًا مفروشة بالورود والرياحين، لذلك لا بد أن تواجه الإنسان بعض المصائب، وليس له سبيل في مواجهتها سوى الصبر، بعد الأخذ بالأسباب الشرعية لمواجهة ذلك، ومما يؤكـد ما نقول قول الله تعـالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: وأصـل الكبد الشدة، ثم يصور حال الإنسان وما يعانيه من مشقة، من حين ولادته إلى حين يُأمر به إلى جنة، أو نار فيقول: وأول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا شد رباطًا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابـد نبت أسنانه، وتحـرك لسانه، ثم يكـابد الفطـام، ثم يكابـد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولتـه، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضَعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادهـا، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمـد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن.   ثم يضيف ويقول: ويكابد محنًا في المال والنفس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كلـه، ثم مسـألة الملَك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار.   لذلك يجب أن يستقر في ذهن المسلم وفي وِجدانه أهميةُ الصبر وعاقبته الحسنة؛ لأنه يكاد يكون العلاج الناجع للكثير من المشاكل التي يعاني منها الناس اليوم، والتي قضت مضاجعهم، ومزَّقت ترابطهم.     الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: 38].     أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: النظر والتأمل وأخذ العبرة من الأمم السابقة، ووجوب اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، واليقين الكامل بتقدير الآجال والأقدار، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:   أولًا: النظر والتأمل وأخذ العبرة من الأمم السابقة:     ثانيًا: وجوب اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام.   إن الرسل عليهم الصلاة والسلام جاؤوا مبلغين عن الله تعالى شرائع الدين من أوامر ونواه، وأعدَّ الله تعالى للمتبعين أوامره، المجتنبين نواهيه، الثواب الحسن في الدنيا والآخرة، وأعد للمخالفين أوامره، المتبعين نواهيه سوءَ العقاب في الدنيا والآخرة.   قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في ثنايا تفسير هذه الآية: إن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين، ينقاد لهم المرسل إليهم في جميع ما أُمروا به، ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين، تعظيم المطاع من المطيع.   وعلى الإنسان المسلم أن يُسلِّمَ بما جاء من عند الله تعالى من أمر ونهي، ويسعى لتطبيق ذلك بكل جد، وعناية، واهتمام، وإخلاص ابتغاء مرضاة الله تعالى، واجتناب سخطه، وإن حدث منه تقصير من غير قصد، فارتكب معصية بدون إصرار، فإن الله غفور رحيم، يحب ويفرح بتوبة التائبين المعترفين بذنوبهم.   ثالثًا: اليقين الكامل بتقدير الآجال والأقدار:   إن الله سبحانه وتعالى قَدَّرَ المقادير، وَكَتَبَ الآجال لكل واحد من مخلوقاته، فهو العليم القدير، المحيط بكل شيء، لا يسأل عما يفعـل وهم يسألون، والناس آجالهم محدودة، ومقاديرهم مقدرة، ولكن كل ميسر لما خُلق له، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف عَـنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قـَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا، وَفِـي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِه، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّار، ِ قَالُـوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 10] "[2].   ويحضرني في ختام هذا التوجيه موقفٌ دار بين الصحابيين الجليلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، عندما خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، وأُخْبِر بأن الطاعون بأرضها، ثم رجع عمر ولم يواصل مسيره إلى الشام، فقال له أبو عبيدة رضي الله عنه: " أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَـدَرِ اللَّـهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَـةَ رَعَيْتَهَـا بِقَدَرِ اللَّهِ...الحـديث "[3].     وما على الإنسان المسلم والحالة هذه إلا التسليم الكامل بأقدار الله تعالى، وآجاله المكتوبة على بني آدم من خير، ورزق، وسعادة، وشقاء، وصحة، وعافية، ولكن بعد أن يعمل ويجتهد ويسعى ويصبر ويحتسب، فما يأتي بعد ذلك هو قدر الله تعالى وأجله الذي كُتب له.   [1] (صحيح مسلم، حديث رقم: 7113، كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى). [2] (صحيح مسلم، حديث رقم: 6731، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وعمله وشقاوته وسعادته). [3] ( صحيح البخاري، حديث رقم: 5729، كتاب: الطب، باب: ما يذكر في الطاعون ).       آيات الذرية في سورة إبراهيم ومضامينها التربوية   الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم:37].   يمكن أن نستخلص من هذه الآية الكريمة ستة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: أهمية الدعاء للذرية، والعناية بالمحافظة على الصلاة جماعة، وتقديم التربية العقدية على التربية الجسدية، ومَن يُطِع الله ويَستجب له يحقِّق آماله، والعناية بشكر الله تعالى على نعمه، والاهتمام بزيارة بيت الله الحرام، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات: أولًا: أهمية الدعاء للذرية: وهذا من التوجيهات التربوية المهمة التي تكرر ذكرُها في آيات الذرية، وعلى الوالدين تحديدًا العناية بالدعاء للذرية في كل وقتٍ وحين، وتحيُّن الأوقات المناسبة لذلك.   ثانيًا: العناية بالمحافظة على الصلاة جماعة: من أهم ما يجب أن يعتني به الوالدان في تربية أولادهم، المحافظة على جناب التوحيد الخالص، ومن أهم الوسائل الموصلة لذلك الصلاة، فهي عماد الدين، وهي التطبيق العلمي له، وهي أول ما يحاسب عليه العبد، وهي صلة بين الله تعالى وعبده، وهي الفرق بين المسلم، والكافر؛ فمـن أدَّاها وقام بحقها، كان عهدًا على الله أن يدخله الجنة؛ كما ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قـال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُـنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَـهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَـهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ"[1].   إن العناية بالمحافظة على الصلاة مما هو معروف لدى المسلمين بداهة، لمن وفَّقه الله، ونشأ وترعرع على أهميتها، ووجوب القيام بها، وهناك عددٌ من التوجيهات الشرعية التي تؤكد هذا المعنى، ونكتفي بإيراد بعضها للاختصار، والحر تكفيه الإشارة؛ قال الله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، وقال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]؛ يقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قولـه تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ﴾ أَمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلـم بأن يأمر أهله بالصـلاة، ويَمتثلهـا معهـم، ويصطبر عليها، ويلازمها، وهذا خطاب للنبي، ويدخل في عمـومه جميـع أُمته، وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية، يذهب كـل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما، فيقول: الصلاة.   ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في هذه الآية الكريمة: حثٌّ لأهلك على الصلاة من فرض ونفلٍ، وتعليمهم ما يصلح الصلاة ويفسدها ويُكملها، والاصطبار على إقامتها بحدودها وأركانها وخشوعها، وذلك شاقٌّ على النفس، ولكن ينبغي إكراهُها وجهادها على ذلك، وقد ضمن الله الرزق لمن قام بأمر الله، واشتغل بذكره.   ومن الشواهد الحديثية المهمة والمشهورة لدى عامة المسلمين سلفهم وخلفهم - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"[2].   وقد أوصى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بأهميتها والمحافظة عليها وهو في الرمق الأخير مودعًا الدنيا، فعـن علي رضي الله عنه قال: كان آخـر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم"[3].   ولا شك أن محافظة الوالدين على الصلاة محافظة تامة، فيها تربية بالقدوة للأولاد، فلا يجدون مشقة، ولا عناء في التزام أولادهم بها، على عكس الوالدين المفرطين في أداء الصلاة؛ فاحرص أيها الأب، واحرصي أيتها الأم على أداء الصلوات، وما يتبعها من رواتب ونوافل، وستجدان الخير كل الخير في ذلك لكما ولذريتكما.   وقد تحتاجان أيها الوالدان في أداء هذه الرسالة العظيمـة إلى صبر ومجاهدة ومثابرة، ومتابعة مستمرة للأولاد، حتى وإن كبروا وتزوجوا وخرجوا من دائرة بيت الوالدين، وقد رأينا قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح، فيوقظ ابنته السيدة الجليلة فاطمة وزوجها المبارك علي رضي الله عنهما، كما أشار إليه الإمـام القرطبي رحمه الله آنفًا. وحاشا فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما أن يتأخرا، أو يتكاسلا عن الصلاة، ولكن هو من باب تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وهو القدوة الحسنة.   وأختم هذا التوجيه التربوي العظيم بملحوظتين مهمتين شائعتين بين كثير من الناس؛ هما: الأولى: بعض الآباء قد يحرِص على أداء جميع الفروض جماعةً في المسجد مع أولاده، ولكن لا يهتم بحضور صلاة الفجر، وإن حضرها لا تجده يحرص على إحضار أولاده معه من باب الرفق والشفقة بهم، أو لأسباب دنيوية تافهة، وهـذا بدون شك خطأ عظيم، وتقصير وإفراط من الأب، قد يؤدي إلى عدم المبالاة من الأولاد ببقية الفروض مستقبلًا، ولو علم الأب عظيم الخير من وراء إيقاظ أولاده معه والصبر على ذلك، لَمَا تأخَّر في إيقاظهم، بل إن الإشفاق الحقيقي هو حضورهم لجميع الصلوات جماعة في المسجد، والتوجيهات الشرعية التي تؤكِّد ذلك كثيرة، ولكن أُذَكِّر فقط بحديثين لرسول صلى الله عليـه وسلم: أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"[4]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"[5]، وهذا فضل ركعتي سنة الفجر، فما بالك بفضل صلاة الفجر.   الثانية: يميل بعض الناس إلى تأخير تأدية الصلاة إلى ما بعد الفراغ من أعمالهم واجتماعاتهم وبشكل مستمر، فلا تؤدَّى الصلاة إلا بعد أن ينتهي ذلك العمل، أو ذلك الاجتماع، على الرغم من أنه لا توجد له أهمية تستوجب تأخير الصلاة، وهذا أيضًا خطأ جسيم، واستخفاف بركن عظيم من أركان الإسلام، وتفريط في حق من حقوق الله تعالى.   فالأصل أن تكون الصلاة هي المُقَدَّمَة على كل عمل، ثم يُنسق ويرتب وينظم الناس أعمالهم واجتماعاتهم بحسبها، إما قبلها أو بعدها.   وأرى من المناسب هنا أن أستشهد بقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، ويقول ابن كثير رحمه الله: شعـائر الله؛ أي: أوامره، ولا شك أن الصلاة من أعظم أوامر الله تعالى، ويضيف الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أن هذه الآية الكريمة عامـة في جميع شعائر الله، والصلاة بدون شك من أعظم شعائر الله، ولذلك فإن التهيؤ للصلاة فور سماع النداء، دليل على تقوى القلوب، وتعظيمها لأوامر الله تعالى.   ثالثًا: تقديم التربية العقدية على التربية الجسدية: في الآية الكريمة ملحظ مهم للغاية، ربما يغفل عنه كثير من الآباء، وهو أهمية العناية الفائقة بتربية الأولاد عقديًّا، بتحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وإقامتها وَفْق ما شرع، وتقديمها على التربية الجسدية المتمثلة في تلبية حاجاتهم من مأكل ومشربٍ وملبس، ومما يؤسف له أننا نرى اليوم من صور التربية الخاطئة أن يهتم الوالدان فقط بتلبية احتياجات الأولاد أيًّا كانت، فهي عندهما مطلب أساس في التربية، أو هـي كل التربية، فعلى سبيل المثال إذا أراد الأبناء السفر إلى الخارج لبَّى طلبهم، وإذا أرادوا السهر خارج البيت مع رفقة غير معروفة لبَّى طلبهم, وإذا أرادوا شراء سيارة معينة لبَّى طلبهم، وإذا أرادوا تناول طعام معين لبَّى طلبهم، وهكذا. فكل مطلب لأولاده محقَّق على الفور دون ما عناء أو أخذ أو عطاء.   أما إذا نظرت إلى الجانب العقدي، والشرعي في تربيتهم لأولادهم، فلا تكاد تجد له أدنى اهتمام إلا في أضيق الحدود، ولذلك فإنه يجب على الوالدين تقوى الله تعالى، والقيام بأداء أمانة تربية أولادهم تربية إسلامية صحيحة متوازنة، تجمع بين التربية العقدية، والتربية العقلية، والتربية الجسدية.   رابعًا: من يطع الله ويستجب له يحقق آماله: وعد الله تعالى عباده الصالحين الطائعين القائمين على أداء أوامره، واجتناب نواهيه - أن يستجيب دعاءهم، ويحقِّق ما يؤملونه من خيري الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من ذكـر، أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله، ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مكفول من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يَجزيه بأحسن ما عملـه في الـدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت، ثم ذكر عدة أقوال حولها، فمنهم من قال: إنها الرزق الحلال الطيب، ومنهم قال: إنها القناعة، ومنهم من قـال: إنها السعادة، ومنهم من قـال: إنها الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا، والعمل بالطاعة، والانشراح، ثم قال: والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.   ولذلك ينبغي على الإنسان المسلم أن يهتمَّ ويعتني بكون الإيمان مقرونًا بالعمل الصالح؛ لأنه هو مصداق إيمان العبد، وكثير من الآيات القرآنية الكريمة قرنت بينهما؛ مما يبين أهمية التلازم بينهما.   فيا أيها العبد المسلم، اعتنِ بهذا التوجيه أيَّما اعتناء، مطبقًا إياه على نفسك أولًا، معلمـًا به أولادك، موضحًا لهم أهميته، ومبينًا مكانته، وثوابه في الدنيا والآخرة.   خامسًا: العناية بشكر الله تعالى على نعمه: أسبغ الله تعالى علينا نعمه ظاهرة وباطنة؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، ومن تمام العبادة وحق الله تعالى علينا أن نشكره شكرًا قوليًّا وعمليـًّا؛ فبالشكر تدوم النعــم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].   ومن الأحاديث الشريفـة المؤكدة وجوب عناية المسلم بشكر الله تعالى: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْـرَبَ الشَّرْبَـةَ، فَيَحْمَـدَهُ عَلَيْهَا[6].   سادسًا: الاهتمام بزيارة بيت الله الحرام: يجب على المسلم أن يحرص كل الحـرص على زيارة بيت الله الحرام للحج أو العمرة، أو الزيارة؛ ليدخل في الدعوة المباركة لسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأزكى تسليم: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37].   وللشيخ السعدي رحمه الله في اختتام تفسير هذه الآية كلام جميلٌ يُكتَب بمداد من ذهب وهو: "وجعل فيه - يعني البيت الحرام - سرًّا عجيبًا جذابًا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرًا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه، ازداد شوقه، وعظُم ولعُه وتوقُه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة".   وهذا واقع مشاهد وملموس لكل من تردَّد على البيت الحرام، فإذا دخله لا يريد الخروج منه، وكم أناس من أهل هذه البلاد المباركة، أو من المقيمين فيها، لا يغيب عن الحرم إطلاقًا، وقد يؤدي كل الصلوات فيه، على الرغم من مشاغله وتعدُّد أعماله. وربما بعدت المسافة بين مقر إقامته والحرم، لكنه الشوق والحنين والجاذبية العجيبة لبيت الله الحرام.   ويجب على الوالدين أن يحرصا كل الحرص على متابعة زيارة بيت الله الحرام، ويتأكد ذلك في حق مَن وفَّقه الله للسكن مجاورًا للحرم أو قريبًا منه، وأن يصطحبا أولادهما معهما للطواف، وأداء بعض الصلـوات المفروضة، والدعاء لأنفسهما، ولذريتهما، ففي ذلك خير عظيم لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى.   الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]. وتتضمن الآية الكريمة توجيهين تربويين مهمين؛ هما: أهمية الدعاء للنفس أولًا وللذرية ثانيًا، والعناية بإقامة الصلاة والمحافظة عليها، وفيما يلي إشارة إليهما: أولًا: أهمية الدعاء للنفس أولًا وللذرية ثانية: من يستغني عن خالقه ورازقه ومدبر أمره؟! كلَّا، لا أحد البتةَ، فما أحوج الإنسان إلى الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة، فإذا حزبه أمر قام، فتوضَّأ، وصلى لله ركعتين، ودعا الله، وألَحَّ عليه، فإن الله لا يخيب رجاء من دعاه، فهو الكريم مجيب دعوة المضطرين إذا دعوه.   فيجب على الإنسان عند شروعه في الدعاء أن يحرص على الدعاء لنفسه أولًا بأن تكون نفسه صالحة مصلحة، مقيمة لحدود الله تعالى وفرائضه، ومن أهم فرائض الدين على الإنسان الصلاة.   والدعاء للنفس أولًا تكرر مرارًا في كثير من توجيهات القرآن الكريم، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان أبينا إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴾ [نوح: 28].   وجاء في الحديث الشريف أهمية أن يبدأ الداعي بنفسه؛ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ[7].   ثانيًا: العناية بإقامة الصلاة والمحافظة عليها: وسبق شرحُه في التوجيه الثاني من الآية الأولى في نفس السورة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.   [1] (سنن أبي داود، حديث رقم: 1420، كتاب: الوتر، باب: فيمن لم يوتر). [2] (سنن أبي داود، حديث رقم: 495، كتـاب: الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة). [3] (سنـن أبي داود، حديث رقم: 5156، كتاب: الأدب، بـاب: في حق المملوك ). [4] (صحيح البخاري، حـديث رقم: 615، كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان). [5] (صحيح مسلم، حديث رقم: 1688، كتـاب: صلاة المسافرين، بـاب: استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما). [6] (صحيـح مسلــم، حديث رقم: 6932، كتاب: الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب). [7] (سنن الترمذي، حديث رقم: 3307، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه).       آيات الذرية في سورة الإسراء ومضامينها التربوية         الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3].   نستفيد من هذه الآية الكريمة توجيهين تربويين مهمين، هما: محبة الله تعالى لعباده الصالحين، واقتداء الأولاد بآبائهم في الخير، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين: أولًا: محبة الله تعالى لعباده الصالحين: يحب ربنا جل وعلا عباده الصالحين، وفي مقدمتهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد مدح الله تعالى نبيه نوحًا عليه السلام بأنه ﴿ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]؛ وعلى هذا فدوام العبودية الحقَّة لله تعالى، وشكر الله جل وعلا على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، موصل للفوز بمحبَّته سبحانه وتعالى، وقد ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَـا جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا، فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَـاءِ، إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا، فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ))[1].     ثانيًا: اقتداء الأولاد بآبائهم في الخير: من الطبيعي أن ينشأ الأولاد على ما يرون عليه آباءهم؛ لأن الوالدين هما أعظم قدوة في نظر الأبناء؛ لما للوالدين من محبة واحترام في نفوس الأولاد، فإذا كان الأبوان صالحين، فإن ذلك سيؤثِّر إيجابًا في سلوك أولادهم؛ فلذلك يجب على الآباء الحرص على ألَّا يرى أولادهم منهم، إلا كل تصرُّف رشيد، وألَّا يسمعوا إلا كل قول سديد، ولا يكون القول سديدًا، ولا التصرُّف رشيدًا ما لم يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وُفِّق الآباء لذلك، وجدوا ردود أفعال أولادهم بما يثلج صدورهم، وتقرُّ به أعينُهم بحول الله تعالى وقوَّته، ويحضرني قول أبي العلاء المعري: وينشأ ناشئُ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوهُ وما دانَ الفتى بحجًى ولكن يُعلِّمُهُ التديُّنَ أقربوهُ     الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62].   أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: الحوار أسلوب تربوي شرعي، وتحذير الأولاد من عداوة الشيطان المتأصلة لهم، وتحذير الأولاد من عداوة شياطين الإنس.   وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات: أولًا: الحوار أسلوب تربوي شرعي: لا يخفى على ذي لُبٍّ أهميةُ التحاوُر بين الوالدين والأولاد، وخاصة في القضايا الساخنة والمهمة التي تحتاج إلى توضيح، وإقناع؛ لأنه قد يكون من الأولاد من يميل بطبعه إلى هذا الأسلوب، ولا يقبل التوجيه التقليدي، ولا يرضى التسليم بما يلقى على مسامعه، دون أن يكون هناك حوار، وأدلة مقنعة له في القضية المطروحة.   وقد يكون من الأولاد من يحيد عن الصراط المستقيم، ويكون في اتجاه معاكس لفكر الوالدين؛ إما بسبب سوء في تربية الوالدين له، أو بسبب مؤثِّرات خارجية في المجتمع: كالإعلام، والرفقة السيئة، أو قد يكون ابتلاء من الله تعالى للوالدين؛ لمحبته لهما؛ ولزيادة رفعتهما في الدنيا والآخرة؛ ولكن يجب على الوالدين والحالة هذه أن يستعينا أولًا وأخيرًا بالله تعالى، ويبذلا قصارى جهدهما في التحاور معه باللين، والرفق، والكلمة الطيبة، حتى لو اضطرهما الأمر إلى الاستعانة بالمتخصصين في مجال التوجيه والإرشاد الشرعي والنفسي؛ فإن لديهم من الأساليب المقنعة ما يكون سببًا لإصلاحه، إن شاء الله جل وعلا.   وهذا لا يعني عدم استخدام الحوار مع الأولاد المنضبطين في أقوالهم وأفعالهم؛ لأن الحوار وسيلة للإقناع، والتأثير في الآخر، وفي الوقت ذاته هو وسيلة للنقاش، وإثراء للمواضيع المراد التحاوُر حولها.   ثانيًا: تحذير الأولاد من عداوة الشيطان المتأصِّلة لهم: إن عداوة الشيطان للإنسان ليست وليدةَ اليوم، وليس لها وقت محدد؛ وإنما هي قديمة قدم الحياة البشرية، بدأت منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وأمر الملائكة بالسجود له، فامتنع إبليس من ذلك؛ عصيانًا، واستكبارًا، وتمرُّدًا على الخالق جل وعلا، وهي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.   وقد حذرنا الشارع الحكيم في كثير من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية المطهرة من عداوة إبليس وخطورتها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 11 - 17]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].   ومن الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ)) [2].   وقد حفظ الله تعالى عباده المخلصين من شرور الشيطان، واستثناهم الله عز وجل في قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65].   ويقول الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾؛ أي: تسلط وإغواء؛ بل الله يدفـع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كل شـر، ويحفظهم من الشيطان الرجيم، ويقـوم بكفايتهم، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ لمن توكَّل عليه، وأدَّى ما أمر به.   ولذلك يجب على الوالدين تنبيه الأولاد على عداوة إبليس المتأصِّلة لهم؛ ليكونوا على حذر من نزغاته ووساوسه، بالاستعاذة منه، وبكثرة العبادة، والمحافظة على الصلوات، وقراءة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية الصباحية والمسائية.     ولعل من أهم التوجيهات الشرعية لكفِّ أذى الشيطان الرجيم، التي يجب على العبد المسلم الأخذ بها: المداومة على قراءة آية الكرسي، وسورتي المعوذتين؛ لما ثبت في الحديث الشريف: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ))"[3].   وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَـالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقل أَعُوذُ بِـرَبِّ النَّـاسِ))؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 1891، كتاب: فضائل القرآن وما يتعلق به، باب: فضل قراءة المعوذتين).   وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ: إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ، وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَيَقُولُ: ((يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَـا))، قَـالَ: وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَـا بِهِمـَا فِي الصَّلَاةِ"[4].     ثالثًا: تحذير الأولاد من عداوة شياطين الإنس: إن شياطين الإنس أشدُّ فتكًا، وأعظم خطرًا من شياطين الجن؛ لأن عداوتهم قد لا تكون ظاهرةً في الغالب، وهم كُثُر في هذه الأيام، ومنتشرون في كل مناحي الحياة؛ ولديهم من الأساليب، والـوسائل الخبيثة المتجددة، ما يستطيعون به الفتك بالناشئة والشباب، وإغوائهم، وإدخالهم في براثن الرذيلة والفجور، وربما أغووهم بما هو أخطر من ذلك؛ بإفساد أفكارهم، وانحراف توجُّهاتهم العقدية، ممَّا قد يُعرِّضهم إلى تدمير أنفسهم، وأسرهم، ومجتمعهم، وأُمَّتهم.   ولعل سائلًا يسأل: هل يوجد في الإنس شياطين؟ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112].     يقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: إن هذه الآية فيها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كما ابتليناك بهؤلاء القوم، فكذلك جعلنا لكـل نبي قبلك أعداء، ثم فسَّرهم فقال: ﴿ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾، وإبليس جعل جنده فريقين: فبعث فريقًا منهم إلى الإنس، وفريقًا منهم إلى الجن، وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه، وهم الذين يلتقون في كـل حين، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجـن: أضللت صاحبي بكـذا فأضـل صاحبك بمثله، وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك، فذلك وحي بعضهم إلى بعض.     ويجب على الوالدين أخذ الحيطة والحذر من شياطين الإنس، وتحذير الأولاد من خطرهم وشدة عداوتهم، وبيان أساليبهم، ووسائلهم الخبيثة.   وختامًا: لقد أمرنا ربنا تعالى بالتعوُّذ به سبحانه من الوسواس الخنَّاس، الذي يوسوس في صدور الناس، وأيضًا من الجنة ومن الناس، وذلك في آخر سورة من كتاب الله تعالى؛ وهي سورة الناس.   [1] صحيح مسلم، حديث رقم: 6705، كتاب: البر والصلـة، باب: إذا أحب الله عبدًا أمر جبريل فأحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. [2] صحيـح البخاري، حديث رقم: 2038، كتـاب: الاعتكاف، باب: زيارة المرأة زوجها في اعتكافه. [3] صحيح البخاري، حديث رقم: 3275، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده. [4] سنن أبي داود، حديث رقم: 1462، كتاب: الصلاة، بـاب: في المعوذتين.  
       
    • آيات الذرية في سورة البقرة ومضامينها التربوية   الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].   إن المتأمل في هذه الآية الكريمة، وهي أول آية جاءت فيها لفظة الذرية في القرآن الكريم، يلحظ أنها ركزت على قضيتين أساسيتين في حياة الإنسان، وهي: القيام بالواجبات الشرعية، واعتماد الأولاد على أنفسهم، وكأنها في رأيي مقدمـة لبقية الآيات المتناولة للفظة الذرية:   أولًا: القيام بالواجبات الشرعية على أكمل وجه: إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتكاليف شرعية لا تقوم الحياة ولا تصلح إلا بها، وجعل لكل منهم إرادة الخير والشر، وكل ذلك يدور في فلك قضيَّة من أهم القضايا التي وُجد الإنسان من أجلها تلكم هي: قضية الابتلاء؛ قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].   وقضية الابتلاء هذه كان أشرف الخلق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عرضة لها، بل أشد الناس بلاءً؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ: أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَـا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"؛ (صحيح البخاري، حديث رقم: 5648، كتاب: المرضى، باب: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل).   وفي الحديث الشريف سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي النـاس أشد بلاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ: َيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"؛ (سنن الترمذي، حديث رقم 2398، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء).   المهم في هذه القضية أن الإنسان يجب أن يستقر في ذهنه وقلبه وشعوره، ويربي أولاده ومَن حوله على أن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، وأن يتفاعل مع الابتلاء تفاعلًا إيجابيًّا سواءً كان الابتلاء شرًّا، أم خيرًا بما ورد من نصوص الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فكلاهما خير له، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"؛ (صحيح مسلـم، حديث رقم 7500، كتاب: الزهد، باب: المؤمن أمره كله خير).   ثانيًا: اعتماد الأولاد على أنفسهم: إن الرفعة والمنزلة التي حصلت للآباء والأجداد بما لاقوه في حياتهم من ابتلاء، وتفاعلوا معه تفاعلًا إيجابيًّا للغاية ربما لا تحصل هذه الرفعة والمنزلة للأولاد بالوراثة، فسنة الله تعالى الجارية أن يجتهد الأولاد لتأسيس مكانتهم الاجتماعية بطاعة الله تعالى، وطلب مرضاته، وبالصبر، وبالسهر، والتعب، والجد، والاجتهاد، والمثابرة، وبذلك تتحقق لهم بإذن الله تعالى المكانة المرموقة التي يتطلعون إليها، فمن جَدَّ وَجَدْ، ومن سار على الدرب وصل، أما من حاد وابتعد، وظلم نفسه بأي نوع من أنواع الظلم، فقد وضع لنفسه عقبات، وحواجز حسية، ومعنوية تقف حائلًا أمام تقدُّمه، وتفوُّقه، وحصوله على ما يتطلع إليه من آمال وطموحات.   ومن صور التربية الخاطئة اليوم لدى كثير من الآباء: إهمال هذا التوجيه بمعنى أنهم لا يغرسون في أولادهم في سني حياتهم الأولى الاعتماد على النفس، وتكليفهم ببعض المهمات اليسيرة لأنفسهم خاصة، ولوالديهم عامة، من باب تدريبهم، وتعويدهم لِتَحَمُّلِ مسؤوليات أكبر في المستقبل، فتجد الوالدين فقط منهمكين في تلبية جميع احتياجات أولادهم؛ بحيث لا يشعرونهم البتة بمسؤوليتهم في هذه الحياة، فيشبون على ذلك، وهم لا يعرفون من أمور حياتهم العملية شيئًا، ولو صادف الولد أي عارض في حياته، فإنه لا يعرف كيف يتصرف! وأول ما يفكر فيه هو البحث عن والديه لحل المشكلة التي واجهتْه، وهذا للأسف واقع مشاهد ومحسوس!   لذلك أضع هذا التوجيه التربوي الإسلامي المهم أمام الوالدين للعمل على تطبيقه مع أولادهم، وربما لو نظروا بعين فاحصة لمن أخذ به وطبَّقه مع أولاده، لوجدوا حقيقته، وثمرته، وشاهدوا الفرق بين أولادهم، وبين أولاد غيرهم.   الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128].   أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة مضامين تربوية مهمة؛ هي: الدعاء المستمر للنفس وللأولاد، وطلب العلم الشرعي، والتبصر بأمور الدين، والتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وفيما يلي عرض لهذه المضامين:   أولًا: الدعاء المستمر للنفس وللأولاد: إن الدعاء عبادة عظيمة يتجلى فيها الافتقار، والخضوع، والحاجة لله جلَّ وعلا، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "الدعاء هو: العبادة"؛ (سنن أبي داود، حديث رقم 1479، كتاب: الوتر، باب: الدعاء)، ثم إنه بحـول الله تعالى وقوته يصارع القدر، ويرد شره، ويستعجل خيره، وثبت في الحديث الشريف عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغني حذرٌ من قـدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل، فيتلقـاه الدعاء، فيعتلجـان إلى يوم القيامة "؛ (الحاكم في المستدرك، حديث رقم: 1813، كتاب: الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر).   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا"؛ (سنن ابن ماجه، حديث رقم: 90، كتاب: السنة، باب: في القدر).   وإن الله تعالى لا يرد مَن دعاه وتوجـه إليه، فهو الكريم الجوَاد اللطيف بعباده، وقد تأكَّد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالأهم أن ندعو الله تعالى ونصدق معه، فالإجابة مضمونة؛ لأنه سبحانه وعد بهـا، ومن أصدق من الله تعالى وعدًا ووفاءً؟!   إن أفضل ما يدعو به الإنسان المسلم هو أن يكون من الموحدين لله تعالى قولًا وسلوكًا، وأن يتعدى هذا الدعاء إلى صلاح الذرية؛ لأن صلاحهم مطلب كل والدين ينشدان الخير، والاستقامة لأولادهم، وأولاد أولادهما إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.   ولقد سمعت أذناي أكثر من مرة آباءً يدعون لأولادهم بالهداية والصلاح بعد أن تلقَّفتهم الشهوات، وأصدقاء السوء، والعياذ بالله، فانحرفوا عن جادة الطريق، وبعد مناجاة وإلحاح، وقُربٍ من الله تعالى، رأيت هؤلاء الأولاد، وقد عادوا إلى الطريق المستقيم، فحافظوا على الصلوات، وبروا والديهم، ووصلوا أرحامهم، وأكملوا مشوارهم العلمي والعملي! فاحرص أيها الأب، وأيتها الأم على هذا التوجيه المبارك، فله من الخير والبركة ما لا يخطر في بالكما.   ثانيًا: طلب العلم الشرعي والتبصر بأمور الدين: من أوجب الواجبات على المسلم أن يتبصر بأمور دينه؛ لكي يستطيع أن يعبد الله تعالى وَفق ما شرع من غير زيادةٍ أو نقصان، فقد أكدت الشريعة الإسلامية طلبَ العلم في أكثر من توجيه؛ قـال صلى الله عليـه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"؛ ( سنن ابن ماجه، حديث رقم: 224، كتاب: السنة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم)، وقـال صلى الله عليه وسلم: "مَـنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"؛ (صحيح البخاري، حديث رقم:71، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين).   ولا شك أن تَعَلُّمَ الوالدين العلوم الشرعية الأساسية ينعكس إيجابًا، وبشكل طبيعي على الأولاد، فيتعلمون من والديهم بالمحاكاة، والتقليد، والسؤال عما يعرض لهم في حياتهم من تساؤلات، واستفسارات تقتضيها مراحل عمرهم التي يمرون بها.   وفي الوقت ذاته يجب على الوالدين أن يحرِصا على اقتناء الكتب الشرعية الأساسية؛ مثل: تفسير القرآن الكريم، ومختصر صحيح البخاري ومسلم، وبعض كتب الفقه المختصرة، ومجموعة من كتب الفتاوى للعلماء المعتبرين، ومجموعة من كتب الأعلام والسير، والموسوعات العلمية، وما أشبه ذلك، ولعل أسطوانات "الكمبيوتر" الآن تقدم الكثير من العلوم الشرعية بسرعة فائقة، وبأسعار زهيدة، وربما مجانية.   وفي يقيني إذا نشأ الأولاد على هذا الجو العلمي العائلي، الأب من جهة، والأم من جهة ثانية، فلا شك ولا ريب سيؤثر ذلك إيجابًا على تبصير الأولاد بالكثير من العلوم الشرعية، وتكون في الوقت ذاته سياجًا وحصنًا منيعًا بحول الله وقوته من الانحراف، وارتكاب المحظورات الشرعية.   ثالثًا: التوبة والإنابة إلى الله تعالى: لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يخطئ عدا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد عصمهم الله من الخطأ والزلل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقـال: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " ( سنن الترمذي، حديث رقم: 2499، كتاب: صفة القيامة، باب: في استعظام المؤمن ذنوبه).   والمضامين الشرعية من القرآن الكريم، والسنة المطهرة في هذا الموضوع كثيرة جدًّا، وليس هذا مجال بسطها، ولكن هدفنا هنا التذكير بأهمية التوبة والاستغفار في حياة المسلم، فالله تعالى تواب رحيم يَقبل توبة عباده، ويفرح بها سبحانه وتعالى مهما بلغت درجة ذنوبهم وعصيانهم.   ولعل ذكر شيء من المضامين الشرعية الحاضة على التوبة، يذكرنا والقارئ الكريم بأهميتها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8]، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ"؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 6960، كتاب: التوبـة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها).   وإنني أؤكد هنا تأكيدًا جازمًا أن من كان بالله أعرف، فهو منه أخوف، فمن عرف الله حق المعرفة بأنه الخالق المدبر القادر، الغفور الرحيم، له الأسماء الحسنى والصفات العلى بيده ملكوت السماوات والأرض إذا أراد شيئًا قال له: كُنْ فَيَكُونَ: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فلن يقدم إنسان كائن من كان على عصيانه، بل يكون شديد الحرص على كسب مرضاته وطاعته، وإن عَرَضَ له عارض مِن زلة ومعصية تذكر الله تعالى، فعاد إليه تائبًا نادمـًا؛ قـال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].   الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 266].   أشارت هذه الآية الكريمة إلى خمسة مضامين تربوية مهمة؛ هي: العمل بطاعة الله فيما أوتي الإنسان من مال، والتخطيط الجيد لاستثمار المال، وتعليم وتدريب الأولاد على المحافظة على الأموال، والحذر من إنفاق المال في غير ما شرع الله تعالى، والتفكر في آيات الله والاتعاظ بالغير، وفيما يلي عرض لهذه المضامين:-   أولًا: العمل بطاعة الله فيما أوتي الإنسان من مال: المالُ نعمة عظيمة من الله تعالى، وهو زينة الحياة الدنيا بنص القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، وقـال تعـالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].   ولكنَّ الشارع الحكيم أمر رَبَّ المال بإقامة حق الله فيه بإنفاقه في الوجوه الشرعية من دفع الزكاة للمستحقين، وإطعام الطعام، ومواساة الفقراء، والمساكين، ورغب في أعمال البر من إنشاء المساجد، والدور الوقفية، وما أشبه ذلك، وَحَذَّرَ من الإسراف والتبذير اللذين هما صفة الشياطين؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27]، وفي مقابلها صفة التوسط والاعتدال في الإنفاق، وهي صفة عباد الرحمن؛ كما أخبر عنهم الله تعالى بقولـه: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]؛ ويقـول ابن كثير رحمه الله: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)؛ كَمَا قَالَ: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29].   ثانيًا: التخطيط الجيد لاستثمار المال: إن الإسلام لا يُحَرِّمُ حب المال، فهو فطرة بشرية، بل يدعو المسلم بالمحافظة على ماله بتنميته، والتخطيط لذلك، وَفق خطط، ودراسات علمية، وقد كان من خيار الصحابة الكرام من هم أصحاب مال، وثراء من أمثال: سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وقدموا للإسلام تضحيات عظيمة كان لها الدور الفاعل في خدمة الدين، فنعم المال الصالح للمرء الصالح؛ كما جـاء في الحديث الشريف أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ، وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ، وَيُغْنِمَكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"؛ (مسند الإمام أحمد، حديث رقم: 17096، حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ).   ثالثًا: تعليم وتدريب الأولاد المحافظة على الأموال: يجب على الوالدين تعليم أولادهم منذ نعومة أظفارهم المحافظة على ما اكتسبوه من مال، والتهيؤ لمواجهة متطلبات الحياة؛ لأن الحياة متجددة، ومتغيرة، ولا يتوقع الإنسان ما يحدث في المستقبل القريب فضلًا عن المستقبل البعيد.   ويحذر كل الحذر من الإسراف على نفسه وعلـى أولاده بتلبية كل رغباتهم، فالصغير لا يدرك الأمور، ولا يحسب للعواقب، فإذا تربى على سهولة وجود المال، ولم يُعَّلِمْه ويُرَبْيه الوالدان الكسب المشروع، والمحافظ على المال، وإنفاقه في جهاته المشروعة، فبدون شك سيشب على ذلك، ويضيـع نفسه وماله، فضلًا عن الأخطار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على ذلك لمجتمعه وأمته.   رابعًا: الحذر من إنفاق المال في غير ما شرع الله تعالى: ويجب على الإنسان المسلم أن يحذَر كل الحذَر من التبذير والعبث بماله، إما بإنفاقه في ما لا يرضى الله تعالى، بأي لون من ألوان العبث والمجون؛ من شرب خمر، أو لعب ميسر، أو ارتكاب فواحش؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27].   ويقول ابن كثير رحمه الله: أي: في التبذير والسَّفـه، وترك طاعة الله، وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)؛ أي: جحودًا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته، ومخالفته.   ويجب أن يحذر الإنسان المسلم إذا سلم من هذه المعاصي المحسوسة أن ينفق أمواله رياءً للناس، أو يُتْبِع ما أنفق منُّا أو أذى؛ لأن كل ذلك يمحق بركة المال، وقد يكون سببًا في انحراف أهله وذريته، وهذا ما لا يتمناه، أو يرومه عاقل حصيف.   خامسًا: التفكر في آيات الله والاتعاظ بالغير: إن التفكر في آيات الله من العبادات المطلوبة من الإنسان المسلم، ويتفرد بها أصحاب العقـول السليمة والفطر المستقيمة التي عرَفت ربها، فعبَدته حق عبادته، ولذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].   لذلك يجب على الإنسان المسلم أن يكون دائم التفكر في آيات الله تعالى؛ مثل: خلق السماوات والأرض، وما أودعه الله فيها من مخلوقات؛ كما أشارت إليه آية آل عمران المشار إليها آنفًا، ومثل: إفقار غني، أو إغناء فقير، أو زوال ملك، أو امتلاكه، أو زوال جاه، أو امتلاكه، وهو ما أشارت إليه الآية موضوع الدارسة (البقرة: 266)، وهذه الصور وغيرها، منها ما هو ثابت في القرآن الكريم، ومثاله: قصة قارون في سورة القصص؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]، وما بعدها، وفي السنة النبوية الشريفة ومثاله: حديث الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأعمى والأقرع في: (صحيح البخاري، رقم الحديث: 3464، كتاب: أحاديث الأنبياء)، ومنها ما نقلـه لنا المؤرخون عبر سنين خلـت، ومنها مـا نراه أمام أعيننا من حوادث الزمان، وتقلبات الأيام والليالي، وفيها من العبر والآيات الشيء الكثير، ولكن السعيد من اعتبر، وأخذ العبرة بهذه المشاهد، وأخذ العبرة لنفسه، ونقلها وعلَّمها لأولاده، ومن لهم حق عليه قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم.   ولعله من المناسب الإشارة إلى قصة شاهدتها رأي العين عن شخص كان متوسط الحال، ودخله بالكاد يكفيه مع أسرته، ثم أراد الله تعالى لهذا الرجل سعة في المال، فَرُزِقَ ملايين الريالات عن طريق إرث إحدى قريباته، وأخذ يبدد ماله يمينًا وشمالًا بالشراء تارة وبالسفر تارة أخرى، ولم يحسن تصرف المال ويعمل به وَفق طاعة الله وشرعه، فأخذ المال يتبدد منه شيئًا فشيئًا، وما هي إلا شهور أو سنوات قليلة، وعاد الرجل والعياذ بالله كما كان قبل الميراث!   إن من المطلوب بشكل ملح أن تنقل هذه الصور التي تمثل آيات الله تعالى في مخلوقاته إلى الناشئة والشباب في المدارس؛ ليعرفوا ويطلعوا على عظمة الله تعالى وقدرته في تصريف الأقدار بين الناس، وأن هذه الحياة ما هي إلا دار محدودة الأيام، والله تعالى يداولها بين الناس؛ ليكون الجميع على حذرٍ في التعامل مع هذه الدنيا، وألا تُعطى أكبرَ من حجمها، ولكن من الأهمية بمكان أن يخصص لكل مرحلة دراسية ما يناسبها من هذه الآيات والعبر حسب مستوى التلاميذ.     آيات الذرية في سورة آل عمران ومضامينها التربوية لآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34].       إن هذه الآية العظيمة ركزت تركيزًا شديدًا على العناية التامة بتربية الأولاد وحسن رعايتهم؛ ليكونوا صالحين مصلحين على مرِّ الأزمان والدهور، وفيما يلي عرض لهذا التوجيه:   ♦ العناية التامة بتربية الأولاد:   يقول الله تعالى: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]، فالأسرة الصالحة المباركة التي تعتني بتنشئة أولادها عناية فائقة وَفْق منهج التربية الإسلامية الصحيحة، لا شك أن أولادها سيكونون على منهج الخير، والصلاح، والتقوى، وواقع الحال هو الدليل والبرهان، فالظل لا يستقيم إذا كان العود أعوج.     فلو نظرنا إلى ذرية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، والصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين رحمهم الله والسلف الصالح ومَنْ تبعهم بإحسان، لوجدنا صدق هذه القاعدة، إلا من شذَّ عنها، ولكل قاعدة شواذ؛ كقصة نوح عليه السلام مع ابنه، وسوف تأتي الإشارة إليها إن شاء الله.   ولذلك يكون من لازم القول، أن يتنبَّه المربُّون والوالدان تحديدًا لهذه القاعدة؛ لأن واقعنا المعاصر اليوم يموج بكثير من القضايا التي سببها عدم قيام الوالدين بتربية أولادهم التربية الإسلامية، فضيَّعوا هذه الأمانة الجسيمة، وفرطوا فيمن حمَّلهم الله تعالى مسؤوليتهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَـنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))[1]، ولا شك أن إثم التفريط في تربية الأولاد عظيم وكبير جدًّا عند الله تعالى، استنادًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُـوتُ))[2].       الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36].       أشارت هذه الآية الكريمة إلى أربعة توجيهات تربوية مهمة؛ هي: مناجاة الله تعالى والقُرْب منه، والشكوى إليه، وأهمية دور الأم في تربية الأولاد، والرضا بما قسم الله تعالى من الذرية، وتفويض الأمر إليه، وتحذير الأولاد من عداوة الشيطان لهم، وفيما يلي عرض لهذه التوجيهات:     أولًا: مناجاة الله تعالى والقرب منه والشكوى إليه:   إن مناجاة الله تعالى والقرب منه، والشكوى واللجوء إليه، وكأنه قريب أشد القرب منا، ويسمع كلامنا، ويرى مكاننا؛ أمر في غاية الأهمية، وإذا تحقَّق هذا في حسِّ الإنسان المسلم، فجعل الله مراقبًا لأعماله، ورضي بما قسمه له، فإنه متى ما دعاه، فسوف يجد الله قريبًا منه مجيبًا دعوته؛ لأن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين، المتبعين أوامره المجتنبين نواهيه، ويصدق هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقـَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَـنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))[3].       ولعلِّي أورد قصةً واقعيةً رواها لي صاحبُها ذات يوم، فقال: كنت تخرَّجْتُ من الجامعة، وكنت أرغب أنا وزملائي في الحصول على وظيفة كعادة المتخرِّجين من الجامعة، فتواعدنا مع مجموعة من الزملاء للذَّهاب إلى شخصية مرموقة في المجتمع، وكان له علاقة شخصية جيدة مع بعض الزملاء للتوسُّط لنا لدى الجهات المختصَّة للتعيين، فأخبرت والدي بذلك، وكان والده من الصالحين؛ حفظة كتاب الله تعالى، فقال له: يا ولدي، لو كان لك صديق حميم جدًّا، وبإمكانه وقدرته أن ينهي لك موضوعك، ثم عَلِمَ أنك ذهبت إلى شخص آخر لتطلب منه أن ينهي لك ذلك الموضوع، وربما يقدر على إنهائه وربما لا يقدر، فهل صديقك الحميم جدًّا يكون راضيًا لفعلك، أم يغضب عليك؟! فقال الابن: إنه من الطبيعي سيغضب عليَّ، فقال الوالد: ألا تعلم أن الله تعالى أحق بأن تطلب منه حاجتك؟       ثم قال لي صاحب القصة: ذهبت مع زملائي، وفي نيَّتي الاعتماد على الله تعالى في تعييني، ولكن تطييبًا ومسايرة لزملائي، وعدم الشذوذ عنهم ذهبت معهم، فمـا لبثت إلا زمنًا قصيرًا وأتاني تعييني، فأخذت من والدي درسًا عظيمًا، وفعلًا كان اعتمادي دائمًا على الله في كل أمرٍ أزمع في طلبه وبعونه وتوفيقه كان يأتي ذلك الأمر بكل يُسْرٍ وسهولةٍ، وقد لمست شخصيًّا صدق وتوجُّه صاحب القصة في بعض أموره التي رأيتها، مما جعلني أستفيد شخصيًّا من هذا الموقف التربوي العظيم.   ولذلك يجب أن نغرس في نفوس أولادنا، وناشئتنا الاعتمادَ على الله، والاستعانة به؛ لأننا نرى اليوم بُعْد الناس عن ذلك، فما تكون استعانتهم لله إلا بعد طلب الاستعانة من المخلوقين، ولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته لابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما درس تربوي عظيم يؤكد أهمية الاعتماد والاستعانة بالله تعالى أولًا وأخيرًا؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: " كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ: إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))[4].         ثانيًا: أهمية دور الأم في تربية الأولاد:   للأُمِّ دورٌ عظيم، ومهم جدًّا في تربية الأولاد، ربما يفوق دور الأب، وإن كان لكل منهما مجاله، واختصاصه، وأهميته؛ ولكن لطبيعة وضع الرجل وانشغاله الدائم خارج البيت بسبب كسب الرزق له، ولأولاده، فإن الأم تتحمل العبء والهم الأكبر في التربية، والتوجيه، والإصلاح، وهذا أمر يعرفه المتخصصون في التربية، ومن تأمل ونظر أحوال الناس قديمًا وحديثًا عرف تأثير الأم في أولادها تبيَّن له حقيقة ذلك بكل وضوح وجلاء.       ولعل قصة الإمامين محمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني رحمهما الله تعالى وكفالة أم كل منهما لولدها بعد وفاة أبيه وهما طفلان صغيران، وقيامها بحسن تربيته ورعايته، وما بلغا من علم وفضل ومكانة يشار إليهما بالبنان في الماضي والحاضر والمستقبل ليؤكد الدور الكبير والمهم الذي يمكن للأُمِّ أن تؤديه في تربية أولادها.     ولذلك أكدت الشريعة الإسلامية على حُسْن اختيار الزوجة والتي ستضطلع بهذه الرسالة التربوية المهمـة؛ فقـال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))[5].       فينبغي للزوج أن يُحْسِن اختيار أم أولاده، فهذا حق من حقوقهم، حتى لا يحدث من سوء الاختيار تعثُّر الحياة الزوجية والإساءة إلى تربية الأولاد وتوجيههما، فيكون ذلك سببًا في عقوق أولاده له ولها مستقبلًا، وفي الوقت ذاته، على المؤسسات التربوية والاجتماعية المختلفة أن تعتني بتأهيل الأمهات المقبلات على الزواج، ليعرفن ما لهن وما عليهن، فإن حُسْن إعدادهن وتأهيلهن له مـن الآثار الإيجابية على الأسرة، والمجتمع، والأمة الإسلامية الشيء الكثير، :     وكما أكدت الشريعة الإسلامية على حسن اختيار الأمِّ، فقد أكَّدت أيضًا على حُسْن اختيار الأب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ))، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: ((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ[6].   ثالثًا: الرضا بما قسم الله تعالى من الذرية وتفويض الأمر إليه: يميل الإنسان ربما بفطرته إلى تفضيل الذرية الذكور على الإناث، إضافة إلى الموروثات، والعادات، والتقاليد التي تُمجِّد، وتتفاخر بإنجاب الذكور؛ ولكن ليس ذلك بيد الإنسان، فهو والحالة هذه مخلوق مُسَيَّرٌ، ليس له من الأمر شيء سوى أنه سبب جعله الله موصلًا إلى تكوين الجنين في بطن أمه، والخالق المدبِّر سبحانه وتعالى هو المقدر للذكورة والأنوثة؛ قال الله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].   فسير هذه الآية: إن الله جعل الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم مـن يعطيه من النوعين، ذكورًا، وإناثًا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيمًا لا نسل له، ولا ولد له؛ لأنه عليم بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، وقدير على مـن يشاء من تفاوت الناس في ذلك.     وبعد هذا التوجيه الإلهي ما على الإنسان المسلم إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، فيما يُرزق من ذرية؛ بل يحمد الله، ويثني عليه، فما رُزق به هو الخير المستحق له دون أدنى شك؛ لأن عدم التسليم والاعتراض لا يجدي ولا يغيِّر من قضاء الله تعالى وقدره شيئًا؛ بل قد يكون وبالًا عليه، وقدحًا في عقيدته وإيمانه.       رابعًا: تحذير الأولاد من عداوة الشيطان لهم:   إن عداوة الشيطان للإنسان ليست وليدة اليوم، أو لها وقت محدد؛ بل هي قديمة منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، فامتنع من السجود له عصيانًا وتمرُّدًا على الخالق جل وعلا، وتستمرُّ إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.   وقد حذَّرنا الشارع الحكيم في كثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية المطهرة منه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 11 - 17]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].    وقال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ))[7].     وقد حفظ الله تعالى عباده المخلصين من عداوة الشيطان، واستثناهم الله عز وجل في قوله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65].       ويقول الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾؛ أي: تسلُّط وإغواء؛ بل الله يدفـع عنهم - بقيامهم بعبوديته - كلَّ شـرٍّ، ويحفظهم من الشيطان الرجيم، ويقـوم بكفايتهم، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ لمن توكَّل عليه، وأدَّى ما أمر به؛ ولذلك يجب على الوالدين تنبيه الأولاد على عداوة إبليس المتأصِّلة لهم، فيكونوا على حذر من نزغاته ووسوسته بالاستعاذة منه، وبكثرة العبادة، والمحافظة على الصلوات، وقراءة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية الصباحية والمسائية.     ولعل أهم التوجيهات الشرعية لكفِّ أذى الشيطان الرجيم الذي يجب على العبد المسلم الأخذ بها؛ هي: المداومة على قراءة آية الكرسي، وسورتي المعوِّذتين؛ لما ثبت في الحديث الشريف: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ))[8].   وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَـالَ رَسُـولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ قُلْ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقل أَعُوذُ بِـرَبِّ النَّـاسِ))[9].   وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَيَقُولُ: يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَـا، قَـالَ: وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَـا بِهِمـَا فِي الصَّلَاةِ [10].   الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].     أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويَّين مهمَّين؛ همـا: الدعاء للذرية، وتحرِّي الأوقات المناسبة لقبول الدعاء، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:   أولًا: الدعاء بطلب الذرية الصالحة:   سبقت الإشارة إلى أهمية الدعاء للذرية (في التوجيه الأول من الآية الثانية في سورة البقرة).     ثانيًا: تحرِّي الأوقات المناسبة لقبول الدعاء:   إن الله كريم ذو فضل وجود وإحسان، ومن باب العقل السوي والمنطق السليم، فلو كان لك عند مخلوق وهو صاحب جاه، أو مكانة حاجة، فلا بد لك أن تختار الوقت المناسب وتتهيَّأ له باختيار الكلام البليغ، ولبس أفضل الملابس وتطييبها، وما شابـه ذلك، ولله تعالى المثل الأعلى فهو أحقُّ بأن يتهيَّأ له، وقد ذكر الإمام النووي في كتابه الأذكار آدابًا كثيرة للدعاء نقلًا عن الإِمام أبي حامد الغزالي في الإِحياء يرحمهما الله تعالى، ولأهميتها في موضوع دراستنا، وحاجة الناس إليها نذكرها:   الأول: أن يترصَّدَ الأزمان الشريفة، كيوم عَرَفَة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، ووقت الأسحار.   الثاني: أن يغتنمَ الأحوالَ الشريفة؛ كحالة السجود، والتقاء الجيوش، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة وبعدَها، وحالة رقَّة القلب.   الثالث: استقبالُ القبلة، ورفعُ اليدين.   الرابع: خفضُ الصوت بين المخافتة والجهر.   الخامس: ألَّا يتكلَّف السجعَ.   السادس: التضرُّع، والخشوعُ، والرهبة.       السابع: أن يجزمَ بالطلب، ويُوقِن بالإِجابة، ويصدقَ رجاءه فيها، ودلائلُه كثيرةٌ مشهورة؛ قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: لا يمنعنَّ أحدَكم من الدعاء ما يعلمُه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شرَّ المخلوقين إبليس؛ إذ قال: ﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾ [الأعراف: 14، 15].       الثامن: أن يُلحَّ في الدعاء ويُكرِّره ثلاثًا، ولا يستبطئ الإِجابة.     التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى، وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كله أيضًا.   العاشر: أهمها والأصل في الإِجابة هو: التوبةُ وردُّ المظالم وأكل الحلال، والإِقبال علـى الله تعالى[11].     آية الذرية في سورة النساء ومضامينها التربوية     قال الله تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].   أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين؛ همـا: الحذر والوقاية سبيل للنجاة من الزلل، وأحبَّ لأخيك المسلم ما تُحبه لنفسك، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:   أولًا: الحذر والوقاية سبيل للنجاة من الزلل:   إن الإسلام دين الوسط والاعتدال، وشرائعه متوافقة مع فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها، والإنسان بضَعفه، وقصوره البشري يَميل في بعض الأحيان إلى الاعتداء على الآخرين بأية وسيلة من وسائل الاعتـداء المضرة بالآخر، ولكون شرائع الإسلام جاءت لحفظ المقاصد الشرعية، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وقد ركزت الكثير من التشريعات على تنظيم العلاقات البشرية؛ حتى يتمَّ حفظ الحقوق: حق الله تعالى أولًا، ثم حق العباد الذي أمر الإسلام برعايته وحفظه ثانيًا.   ومن توجيهات الشارع الحكيم، هناك عدة خطابات في موضوعات متعددة تؤكد الجانب الوقائي، بمعنى تحذير الإنسان من مغبة الوقوع في أمر محذور، وهو ما يعرف تربويًّا بأسلوب الترهيب، وقد ألَّف الإمام المنذري رحمه الله تعالى كتابه المشهور الترغيب والترهيب، وذكر في جانب الترهيب الكثير من التوجيهات الشرعية التي تجعل المسلم على حذرٍ من إتيانها.   والعقل السليم والفطرة السليمة تتفاعل بشكل إيجابي مع التوجيهات، فتكون على حذر من الوقوع في المحظور؛ خوفًا من عقاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولذلك نجد أن القرآن الكريم كثيرًا ما يكرِّر الأمر بتقوى الله تعالى في تصرُّفاتنا وسلوكيَّاتنا الظاهرة والباطنة لأجل الابتعاد عن إيذاء أنفسنا وإيذاء الآخرين.   ومما يجب أن يعتني به الإنسان هو: ضبط أقواله، وأفعاله، فتكون وَفق منهج الله تعالى، فلا يغتاب أو ينم، أو يشتم أحدًا، فإما أن يقول خيرًا، أو يصمت، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)[1].   وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"[2].   ولذلك يجب على الوالدين العناية بتقوى الله تعالى في السر والعلن، وغرسها في نفوس أولادهم، فهي سبيل النجاة لهم أولًا، ولأولادهم ثانيًا.   ثانيًا: أحبَّ لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك:   أورد الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية المشـار إليها قولًا لابن عباس رضي الله عنهما، فقال: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعـه أن يتقي الله، ويوفقه، ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشِي عليهم الضيعة.   وهذا القول لحبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يؤكِّد مبدأ معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به، أو أن تحب للناس ما تحبه لنفسك، وهذا ما أسَّسه نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث الشريف: "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَـنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَـالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ، أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ مَـا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"[3].     وأيضًا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ، تَكُنْ مُسْلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِـكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ"[4].   وفي الواقع أننا بحاجة ماسَّة جدًّا اليوم إلى تطبيق هذا التوجيه التربوي الكريم؛ لأننا في زمان طغَت على تصرُّفاتنا الأنانية والأثرة، فأصبَحت الغالبية العظمى لا تفكِّر إلا في نفسها وخاصتها وفصيلتها فقط، وبنظرة غير فاحصة تجد صدق ذلك، والله المستعان!     آيات الذرية في سورة الأنعام ومضامينها التربوية الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 133]. أشارت هذه الآية الكريمة إلى ثلاثة توجيهات تربوية مهمة، هي: غرس معاني أسماء الله الحسنى وصفاته في الناشئة، والاهتمام بمُراعاة سُنَن الله في خَلْقِه، وطاعة الله تعالى باتِّباع ما شرع أمرًا ونهيًا، وفيمـا يلي عرض لهـذه التوجيهات:   أولًا: غرس معاني أسماء الله الحسنى وصفاته في الناشئة:   إن الله سبحانه وتعالى غنيٌّ رحيمٌ، له الأسماء الحسنى، والصفـات العلى، وكثيرٌ منَّا يقرأ أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلى؛ ولكن دون تدبُّرٍ وتأمُّلٍ، ووَعْي وإدراك لما تتضمَّنه من معانٍ سامية جليلة، تغـرس في النفس البشرية الثقة واليقين بقدرة الله تعالى وعظمته.   وهذا التوجيه مبحث تربوي عظيم، يحتاج من المربين بعامة والباحثين التربويين بخاصة مزيدَ عنايةٍ واهتمامٍ، لبيان مدلولات ومضامين أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لغرسها في نفوس الناشئة، لتكون دافعًا قويًّا لزيادة الإيمان، وسياجًا ومنعة من التفريط في جنب الله تعالى.   ثانيًا: الاهتمام بمراعاة سُنَن الله في الأرض:   إن الحياة منذ أن خلق الله تعالى الأرض، وهي تسير إلى أجل مُسمًّى عِلْمُه عند الله سبحانه، والناس فيها في ابتلاء وكرٍّ وفرٍّ يتكون من خلال ذلك كله الثقافات والحضارات، وكم من أُمَمٍ عاشت سنين طويلة، ثم أصبحت في ذاكرة التاريخ تُروى أخبارُهم، وما كانوا عليه من صلاح أو فجور.   والله تعالى خلق الخلق لعبادته واتِّباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والكون كله بما فيه تحت مشيئته وقدرته سبحانه وتعالى، وقد وضع له قوانين وسُنَن عامة يسير عليها، ومَنْ عرفَها والتزم بها التزامًا كاملًا نهج نهجًا موفَّقًا، فاستحقَّ رضا الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومَنْ سارَ على غير هُدًى، ولم يتعرَّف على سُنَن الله تعالى، فسيكون مآلُه الخيبة والخُسْران، والعياذ بالله.     ويجب على الإنسان المسلم أن يأخذ العبرة، والعظة من أحوال الناس والأُمَم السابقة، وأن الله قادر على إهلاك أُممٍ، والإتيان بغيرها، وأن يتعرف على السُّنَن الكونية التي تسير عليها حياة الأُمَم، وقد تأكَّد هذا في كثير من توجيهات الشارع الحكيم؛ فقال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النساء: 26]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الأنعام: 11]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [النمل: 69]، وقـال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ﴾ [الروم: 42].   وتأكيدًا على أهمية أخذ العبرة والعظة من أحوال الناس والأُمَم، فقد أكَّد الله سبحانه وتعالى على أهمية ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].   ويؤكِّد الشيخ السعـدي رحمـه الله في تفسيـره عنـد قول الله تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]؛ أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هـذا معتبرًا يُعرَف به صُنْعُ الله تعالى في المعاندين للحق، المتَّبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم عِزَّتُهم، ولا منعَتْهم قوَّتُهم، ولا حصَّنَتْهم حصونُهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل إليهم النكال بذنوبهـم، والعبرة بعموم اللفـظ، لا بخصوص السبب.   ويقول رحمه الله تعالى: إن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء على مثله، والتفكُّر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم، التي هي محـل العقل، وتتنـوَّر البصـيرة، ويزداد الإيمان، ويحصل الفهم الحقيقي.   كمـا بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلـم أهمية الاتـِّعاظ بالغير، فقـال: ((الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ))[1].   والمسلم العاقل ينبغي له أن يأخذ بهذا التوجيه القرآني، فينظر في حال الناس من زاوية، وحال هذه الأُمَم من زاوية أخرى، فيأخذ من قصصهم وأحوالهم العبرة، والعظة، بمعنى إذا كانوا على خير، وهداية، وصلاح، فيقتدي بهم، ويُتابعهم في ذلك وَفْق ما قرَّرَتْه الشريعة، أما إذا كانـوا على غواية وضلال وفجور، فيحذر كل الحذر مما آلوا إليه من سوء خاتمة، والعياذ بالله تعالى.     ثالثًا: طاعة الله تعالى باتِّباع ما شرع أمرًا ونهيًا:   تشير الآية الكريمة إلى قضية مهمة للغاية؛ وهي: أهمية طاعة الله تعالى، والعمل بها في كل ما أمر به الشارع الحكيم، واجتناب كل ما نهى عنه؛ لأن المخلوق يريد كل ما هو في سلطانه يسير وَفْق مراده، وما خطَّط ورسم له خاليًا من المنغِّصات، ولله المثل الأعلى، فهو الخالق المدبِّر سبحانه وتعالى، يريد ملكه بكل ما فيه خاليًا من أنواع الظُّلْم، والموبقات، والمعاصي، والذنوب، ومَنْ تغافَلَ عن أوامره ونواهيه، فعاقبته الزوال، وسوء المصير، والعياذ بالله من ذلك، وهي سُنَّة ماضية لكل من كان هذا دَأْبَه.   وهذا ما عبَّرَ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه حيث قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: ((إِنَّ الْحَـلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَـرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمـَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ))[2].   فالمسلم البصير الموفَّق بتوفيق الله تعالى يلتزم طاعة ربِّه سبحانه في كل أوامره، ونواهيه، وإن مسَّه طائفٌ من الشيطان تذكَّر خالقَه، وما أعدَّه من عقابٍ للعاصي، وثوابٍ للمُطيع، فما يلبث أن يعود إلى صوابه، ورُشْدِه، ويستقيم على طاعة الله جل وعز؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].     الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84].   تضمَّنت هذه الآية الكريمة توجيهًا تربويًّا مُهمًّا؛ هو: الاقتداء بعباد الله الصالحين، وفيما يلي عرض لهذا التوجيه: • الاقتداء بعباد الله الصالحين. لقد وجَّه الله تعالى رسوله الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمَنْ سبَقَه من الأنبياء عليهم السلام؛ فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90].   ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: فقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرُّسُل قبله، وجمع كل كمال فيهم، فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.   فكما وجَّه الله نبيَّه سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمَنْ قبله من الأنبياء عليهم السلام، وجَّه أُمَّتَه إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].   ولأهمية الاقتداء بالصالحين، فقد أمرنا الله تعالى بطلب ذلك في آية عظيمة من سورة الفاتحة، وهي تتكرَّر معنا في اليوم ما لا يقلُّ عن سبع عشرة مرة من غير الرواتب والنوافل، وهذه الآية هي قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7].   ويُوضِّح ابن كثير رحمه الله بأن قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ هم المذكورون في سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصدِّيقين، والشُّهَداء، والصالحين.     ويضيف الشيخ الجزائري حفظَه الله في تفسيره: بأن صراط المنعم عليهم يشمل كل من أنعم الله عليهم بالإيمان به تعالى ومعرفته، ومعرفة محابه، ومساخطه، والتوفيق لفعل المحاب، وترك المكاره.   قد أدرك أهمية القدوة الحسنة والتشبُّه بالصالحين، وحتى ولو لم يصل إلى مثل حالهم تمامًا، فيكفي التشبُّه بأحوالهم، لعل الله تعالى يجعله مثلهم بنيته، ورغبته في اللِّحاق بهم.     وبقول الشاعر المشار إليه يحضرني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المتفق على صحَّتِه، وهو كما رواه مسلـم في صحيحـه "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَـاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟))، قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا، بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قـَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِـمْ"[3].     وإنني أطالب الوالدين بشدَّة بأهمية التأسِّي بأحوال الصالحين في تربية أولادهم، وفي مقدمتهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأن الآية الكريمة المشار إليها قرَّرَتْ مبدأً قُرْآنيًّا تربويًّا عظيمًا، وهو: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: من يتأسَّى بحال هؤلاء الكوكبة النيِّرة من الأنبياء في حسن تربيتهم لأولادهم، وفي صبرهم على طاعة الله تعالى، سيجعل الله له ذريةً صالحةً مباركةً تقرُّ بهم عينُه، ويثلج بهم صدْرُه.   الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 87].     أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمَّينِ، همـا: الأخذ بأسباب الهداية، وآثار هداية المهتدي على الأسرة، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:   أولًا: الأخذ بأسباب الهداية:   إن الهداية دون أدنى شكٍّ من الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]؛ ولكنَّ هناك أسبابًا موصِّلة لها، وهي من السُّنَن الكونية التي نُظِّمَت بها الحياة، فمن رام طريق الهداية يجب عليه أن يسلك السُّبُل الموصِّلة إليها، ومنها:   1- توفيق الله تعالى لنعمة الهداية؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].   2- الإيمان بالله تعالى، وهو محور أساس في الدين؛ لأنه يعني التصديق والاستسلام لكل ما جاء به الشرع من المغيبات، ومن وُفِّق لذلك، وُفِّق بعناية الله إلى هداية القرآن الكريم: ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 203].   3- تقوى الله تعالى، فهي الطريق الأوحد لكسب الهداية، ويُؤكِّد ذلك الكثير مـن النصوص؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]، وقـال تعـالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].   4- اتِّباع القرآن الكريم والتمسُّك بما جاء به مـن أوامر ونواهٍ؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].   5- البُعْد عن اتِّباع الهوى؛ لأنه سَبَبٌ للزيغ والهلاك؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 56].   6- عدم اتِّباع الشيطان وخطواته؛ لأنه العدوُّ الأول للإنسان المتربِّص به؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 71].   7- إخلاص العبادة لله وتوحيده، وعدم الشرك به؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].   8- المجاهدة في اتِّباع أوامر الله، واجتناب نواهـيه سبَبٌ رئيسٌ لحصول الهداية من الله؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].     ثانيًا: آثار هداية المهتدي على الأسرة:   إن الرجل المهتدي الذي وفَّقَه الله تعالى للهداية وحُسْن الالتزام، سيكون بشيرَ خيرٍ على أهله، وعشيرته، فيبدأ بنصحهم، وإرشادهم، وتبيين ما يهمُّهم من أمور دينهم ودُنْياهم، ولا شكَّ أن دعوته ستلقى الكثير من القبول، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: 4]، وكم رأينا من رجل صالح مُصلِح أثَّر إيجابًا في أهله، وذويه، فأصبحوا في أجواء الهداية مُنعَّمين وتحت ظلالها الوارفة متفيِّئين.       آيات الذرية في سورة الأعراف ومضامينها التربوية   الآية الأولى: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]   أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين؛ هما: عدم التمايز إلا بالتقوى، والمحافظة على سلامة الفطرة البشرية، وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:     أولًا: عدم التمايز إلا بالتقوى:   تُقرر الآية الكريمة بوضوح أن جميع البشر من نسل آدم عليه السلام، وفي الآية التالية يتضح لنا أنه لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].   وقد أكَّد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في حجة الوداع في خطبته المشهورة، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَلا هل بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ: وَلَا أَدْرِي، قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَـالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"[1].   وإن ما يشاهد اليوم من تمييز مقيت في البلاد غير الإسلامية: في اللون والجنس والمعتقد، فلا يستغرب منهم ذلك؛ لجهلهم وبعدهم عن توجيهات الإسلام السامية، أما أن يكون التمييز داخل بلاد الإسلام، فهذا ما يأباه العقل السليم والفطرة السوية، وتؤكد رفضه توجيهات الشارع الحكيم، فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"[2].     ومما يؤكد عظمة الإسلام، ونبذه للعنصرية والعصبية الجاهلية، قول الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما احتج المهاجرون والأنصار عام الخندق في انتساب سلمان الفارسي رضي الله عنه لكل منهم، فحسم الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر، فقال قولته الخالدة: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ"[3].   وأيضًا تقديمه لصهيب الرومي، ولبلال الحبشي رضي الله عنهما، واعتبرهما ضمن كبار شخصيات أصحابه رضي الله عنهم، وأمَّر الرسول صلى الله عليه وسلم على قيادة جيشه أسامة بن زيد رضي الله عنهما - وهو شاب في الثامنة عشرة، وأبوه كان عبدًا، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم - وجعل تحت قيادته مجموعة من كبار أصحابه السابقين في الإسلام.       وفي المقابل نجد عم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لهب - وهو شريف وقرشي - نزلت في ذمه سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة المسد؛ قال تعالى: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 - 5].   لذا يجب أن يُغرس هذا التوجيه التربوي في نفوس أولادنا وناشئتنا، وأن يبين لهم السلبيات الخطيرة القائمة على التمييز بين المسلمين في اللون والجنس في مجتمعات الأمة الإسلامية، وينبغي أن يؤكَّد تأكيدًا كبيرًا، عبر مراحل الدراسة المختلفة، وعبر وسائل الإعلام المختلفة، مع بيان سيرة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في مواقفه العظيمة التي تؤكد أن الرابطة الحقيقية بين المسلمين هي رابطة الإسلام، وما سوى ذلك مرفوض جملةً وتفصيلًا.   ثانيًا: المحافظة على سلامة الفطرة البشرية:   غرس الله تعالى في فطرة البشر من حين خروجهم من أصلاب آبائهم - الإشهادَ على ربوبيته، بأنه هـو الخالق وحده، والمدبر لا شريك له جـل في علاه، ولكن ربما تحدث مؤثرات خارجية على فطرة الإنسان، فتتغير من الدين الصحيح دين التوحيد إلى أديان فاسدة، ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا يُصدقه حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟"[4].   وهنا يجب على الوالدين العناية التامة، للمحافظة على فِطَر أولادهم، بتربيتهم تربية إسلاميةً صحيحة، والاجتهاد قدر المستطاع بإبعادهم عن ملوثات الفطرة: من خلال ما يعرض في القنوات الفضائية الهابطة من مسلسلات، وأفلام، وأغان ساقطة، وعبر ما يبث في مواقع الإنترنت، وما ينشر في بعض الصحف والمجلات من صور وأفكار منحرفة، وغير ذلك من المؤثرات السلبية، وينبغي الحرص على إيجاد بيئات صالحة للأولاد، مقرونة بالتوجيه والنصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة.       الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 173].   أشارت هذه الآية الكريمة إلى توجيهين تربويين مهمين؛ همـا: • طلب العلم الشرعي، والتبصر بأمور الدين. • والتحذير من الاقتداء بالوالدين إن كانا على ضلال.   وفيما يلي عرض لهذين التوجيهين:   أولًا: طلب العلم الشرعي والتبصر بأمور الدين:   تقع على عاتق الإنسان - إذا بلغ درجة النضج والكمال العقلي - مسؤولية التبصر بأمر دينه؛ لمعرفة حقائق الأمور، وهذا ولله الحمد ميسر بأسهل الطرق في زماننا هذا، ومن أراد الله له الهداية والرشاد، وفَّقه الله لذلك.     ثانيًا: التحذير من الاقتداء بالوالدين إن كانا على ضلال:   إن المشكلة تكمُن في غفلة وقصور الكثير من البشر عن البحث والتحري لمعرفة الحقيقة في مجال العقيدة، فتراهم يلجؤون إلى أسهل الطرق، بالاعتماد على ما كان عليه الآباء والأجداد، حتى وإن كانوا على ضلال وغواية، وهذا العجز والقصور يَمقته الإسلام مقتًا شديدًا، جاء في تسع آيات من القرآن الكريم، ولأهمية هذا التوجيه وخطورة التنبه له، نذكر كل هذه الآيات، لكي يتنبه المربون المخلصون إلى هذه القضية؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 28]، وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78]، وقولـه تعـالى: ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21]، وقـوله تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].       ولذلك ينبغي على المربين التحذير من الانجراف وراء تعاليم الآباء الخاطئة بانغلاق ودون وعي ولا تبصُّر، ولا بحث عن حقائق الأمور بميزان الشرع الحنيف ووسطيته، وخير وسيلة لذلك طلب العلم الشرعي من العلماء المعروفين بسلامة دينهم وتوجُّههم، وإخلاصهم لدينهم وأمتهم.   كما يجب التنبيه إلى عدم الانسياق وراء التوجهات العقدية الخاطئة للوالدين، والعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه بالحكمة والموعظة الحسنة، مع الحفاظ على مكانة الوالدين وبرهما والإخلاص لهما؛ امتثالًا لقول الله تعـالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8].   يقول الإمام القرطبي رحمه الله: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيما، روى الترمذي عن مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً: وَقَالَتْ أُمُّ سَعْدٍ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَـرَ اللَّهُ بِالْبِرِّ، وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ: فَكَانُـوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ﴾ [العنكبوت: 8].   د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي     شبكة الالوكة   يتبع      
    • إن موضوع المقال مهم جدًّا؛ فهو يتعلق بمواجهة عدوٍّ خبيث، عداوته متأصلة؛ بل قطع على نفسه العهد لإغواء الإنسان، وإرادة المهالك أسوة بحاله الشقية حين لم يستجب لطاعة ربه وخالقه سبحانه؛ فاستحق اللعنة والخلود في جهنم وبئس المصير.   وقد بيَّن كتاب الله العزيز بيانًا وافيًا لمنشأ وأحداث عداوة الشيطان، والوسائل المناسبة للتصدي له، ولأهمية توضيح ذلك للقارئ الكريم، سأكتفي بالإشارة إلى أسماء بعض سور القرآن الكريم وأرقام الآيات التي تناولت هذا الموضوع، وتلخيص أبرز ما ورد فيها.   أولًا: بعض سور القرآن الكريم وأرقام الآيات التي أوضحت منشأ وأحداث عداوة الشيطان:   1- سورة البقرة: (من الآية 34 إلى الآية 38).
      2- سورة النساء: (من الآية 116 إلى الآية 121).
      3- سورة الأعراف: (من الآية 11 إلى الآية 18).
      4- سورة الحجر: (من الآية 28 إلى الآية 43).
      5- سورة الإسراء: (من الآية 61 إلى الآية 65).
      6- سورة طه: (من الآية 116 إلى الآية 127).
      7- سورة ص: (من الآية 71 إلى الآية 85).   ثانيًا: ملخص أبرز ما ورد في الآيات السابقة:   هناك تشابه لمنشأ وأحداث عداوة الشيطان في مضامين الآيات المشار إليها، وهو من سمات القصص القرآني، ولكن بأساليب مختلفة وسياقات متنوعة، ولا شك أن لذلك حكمًا وفوائد عظيمة أشار إليها العلماء المختصون في مؤلفات خاصة، وإليكم أبرز ملخص مما أشارت إليه الآيات:   1. أمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم عليه السلام، فسجد الملائكة وامتنع إبليس عن السجود.   2. سبب امتناع إبليس عن السجود هو الكبر بأنه خير من آدم لأنه خُلِق من نار وآدم من طين.   3. من الأسباب الرئيسة لتسلُّط الشيطان على الإنسان الانحراف عن منهج الله تعالى، وإهمال شرعه رغم تحذير الله تعالى عن مآلات الانحراف وخطورته.   4. حَرم الله تعالى إبليسَ من البقاء في الجنة ونعيمها؛ لعصيانه وتمرُّده.   5. أعظم إغواء يحرص عليه الشيطان الشركُ بالله، فليس بعد الكفر ذنب.   6. من استجاب لأماني الشيطان ووالاه وتابع خطواته المؤدية للشرك، فقد خسر خسرانًا مبينًا.   7. الموفق من عرَف الحق، وعلم عداوة الشيطان وأمانيه ووعوده الكاذبة قبل فوات الأوان.   8. كتب الله على إبليس الذل والصغار في الدنيا والآخرة.   9. تمادى إبليس في طغيانه ووعد أن يتربص بذرية آدم وإغوائهم في كل اتجاه حتى يبعدهم عن طاعة ربهم فيكونون على شاكلته وحاله الشقية.   10. استحقاق إبليس العقاب الصارم من الله تعالى باللعن والطرد من رحمته في الدنيا والآخرة.   11. حفظ الله عباده المخلصين من الإغواء لرعايته لهم وبطاعتهم له بامتثال أمره واجتناب نهيه.   12. من اتبع الشيطان من عباد الله واستجاب له في الإغواء فمصيرهم جهنم أجمعين.   13. التأكيد على عداوة الشيطان للإنسان.   14. استخدام أسلوب الوسوسة في تزيين المعاصي وإظهارها على غير حقيقتها.   15. الحرص والإسراع بالتوبة والاستغفار لمن وقع في المعاصي قبل فوات الأوان.   16. العناية التامة بالتمسُّك بالقرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة وعدم الإعراض عنهما.   17. كل من أسرف وتمادى في عصيانه ولم يتُبْ فيوم القيامة ينتظره عذابٌ أشدُّ وأبقى.   قد يسألُ سائلٌ: ما العلاقة بين الشيطان المذكور في الآية موضوع المقال، وبين إبليس في الآيات السابقة من سور: البقرة والنساء والأعراف والحجر والإسراء وطه وص؟ وبمعنى آخر: هل الشيطان هو نفسه إبليس؟ الجواب:   قال ابن عثيمين رحمه الله: "الشيطان هو إبليس، والشياطين يكونون من الجن والإنس؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]؛ بل يكون الشيطان من غير العقلاء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان"؛ (صحيح مسلم: حديث رقم: 510).   مهم جدًّا التنويه قبل عرض تفسير الآية موضوع المقال، أنه يجب أن يستقر في عقل المسلم ووجدانه أن الشيطان أداة من أدوات الابتلاء في الدنيا، فلا يخفى أن غاية وجود الإنسان في الدنيا هي عبادة الله تعالى مع وجود الابتلاء؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، والإنسان متعبد بالابتلاء في خيره وشره، قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، قال البغوي رحمه الله: "نختبركم بالشر والخير، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، وقيل: بما تحبون وما تكرهون، ﴿ فِتْنَةً ﴾ ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون، ﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له"؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2999).   ومن عظيم الابتلاء وشدته أن الشيطان مع الإنسان في كل أحواله؛ بل ويجري منه مجرى الدم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّم"؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2174)، قال العيني رحمه الله: "قيل: هو على ظاهره، وأن الله عز وجل جعل له قوة على ذلك، وقيل: هو على الاستعارة؛ لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دَمُه، وقيل: إنه يُلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب"؛ (العيني، بدر الدين، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 11/ 152).   لذلك يجب على المسلم أن يكون حذرًا ويقظًا ومحاسبًا لنفسه ومجاهدًا لها أشد الاجتهاد بالبُعْد عن الشهوات والشبهات متبعًا ما أمره الله به مجتنبًا ما نهى عنه، حتى يكون في منأى عن تسلُّط الشيطان وإغوائه، ويصدق عليه قول الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 99]، قال سفيان الثوري رحمه الله: "ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر"؛ ( البغوي، تفسير سورة النحل).     أبدأ مستعينًا بالله في تفسير الآية موضوع المقال، سائلًا الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يلهمنا الصواب ويهدينا ويسددنا.   قال الطبري رحمه الله: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين، من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به؛ يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف.   وقال السعدي رحمه الله: والكيد سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.   وجميل قول القاضي عبدالجبار الهمداني رحمه الله: إن المراد بأن كيد الشيطان ضعيف، أنه لا يقدر على أن يضر، وإنما يوسوس ويدعو فقط، فإن اتبع لحقته المضرة، وإلا فحاله على ما كان، فهو بمنزلة فقير يوسوس إلى الغني في دفع ماله إليه، وهو يقدر على الامتناع، فإن وافقه فليس ذلك لقوة كيد الفقير، لكن لضعف رأيه واتباعه؛ (المنية والأمل، 1/ 130)، (انظر: سير أعلام النبلاء للإمام للذهبي، ترجمة القاضي عبدالجبار، 17/ 245).     الملامح التربوية التي تُسهم بعون الله تعالى في مواجهة عداوة الشيطان:   أولًا: إن عصيان الشيطان لربه سبحانه وتمرده الصارخ بامتناعه عن السجود لآدم عليه السلام كما أمر الله تعالى كان السبب الرئيس لطرده من الجنة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 11- 13].   ثانيًا: إن معصية الله تعالى شؤم ووبال على العبد في جميع أحواله، ويزداد الأمر سوءًا بالمجاهرة والإصرار عليها عنادًا وتكبُّرًا، كما هو حال إبليس، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36] قال الطبري رحمه الله: "ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد".   وقال سبحانه: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: وبغَّضَ إليكم الكفر والفسوق، وهي: الذنوب الكبار، والعصيان؛ وهي: جميع المعاصي".   ثالثًا: من تمادى في عصيانه واستمر في طغيانه، ولم يستشعر نِعَم الله عليه، وقابلها بالشكر القولي والعملي، فقد استوجب عقاب ربه بحرمانه مما أنعم عليه؛ لأن المعاصي تزيل النعم، وهذا حال إبليس، فقد حُرم مما كان فيه من النعيم الذي أنعمه الله عليه بسبب عصيانه وطغيانه، فأبدله الله صغارًا، قال تعالى: ﴿ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 13]، قال السعدي رحمه الله: ﴿ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾؛ "أي: المهانين الأذلين، جزاءً على كبره وعجبه بالإهانة والذل".   رابعًا: لمَّا وصل طغيان إبليس مداه عنادًا وتكبرًا، استحق اللعن؛ وهو الطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: ﴿ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 34، 35]، قال ابن عاشور رحمه الله: "إن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله، فذلك يومئذٍ أشد من اللعن".   خامسًا: لم يهدأ لإبليس بال بعد طرده من رحمة الله تعالى، فاستنفر كل طاقاته كما هو حال أهل الفسق والمعاصي والفجور لا يريدون الخير للآخرين أسوة بحالهم الشقي والعياذ بالله، فيسعون جاهدين لإغواء غيرهم حقدًا وكراهية عليهم، قال تعالى: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17]، فقال الله سبحانه: ﴿ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 63، 64].   سادسًا: يجب أن يكون الإنسان فطنًا مراقبًا لحاله، معتبرًا بغيره فيما يراه من سُبُل الغواية التي ينتهجها أهل الفسق والضلال، ويزينون الباطل، ويلبسونه لباس الخير والحياة السعيدة للناس وهم بخلاف ذلك؛ بل يتصيَّدون ويتربصون بهم الدوائر داسِّين السم في العسل حتى يقع غيرهم في شباكهم، ويسير في ركابهم، والسعيد مَنِ اتَّعَظ بغيره.   سابعًا: يجب أن يستقر في ذهن المسلم أن كل مجالات الغواية التي قد يقع الإنسان في أوحالها وأعظمها الشرك بالله، وانتشار الفواحش والزنا وشرب الخمور، وغير ذلك من العداوات، كل ذلك من عمل الشيطان ليصد عن سبيل الله، ويفسد الناس ويوردهم المهالك، أسوة بحاله الشقي، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة:90- 91].   قال الطبري رحمه الله: "هذه الأعمال هي: من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم؛ بل هو مما يسخطه لكم"، وقال ابن عثيمين رحمه الله: ﴿ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾، يعني أن هذا العمل من عمل الشيطان، أضافه إلى الشيطان؛ لأنه أوحى به وأمر به الإنسان.   ثامنًا: لما كان ذِكر الله تعالى، وأداء الصلاة من أهم العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه عز وجل، وفي الوقت نفسه من أقوى ما يرد كيد الشيطان ويصرف أذاه، حَرِص الشيطان حرصًا شديدًا على صَد المسلم عنهما بشتى الوسائل الخبيثة، وقد نبَّه القرآن الكريم لذلك، فقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ وفي موضع آخر أكَّد القرآن الكريم على خطورة ما يترتب عليه الصدُّ والإعراض عن ذلك، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36].   قال ابن باز رحمه الله: "من يغفل، ويعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ يُقيِّض له الشيطان- نسأل الله العافية- من غفل عن ذكر الله، وعن قراءة القرآن، وعن طاعة الله من الصلوات، وغيرها؛ قَيَّض الله له الشياطين حتى تصُدَّه عن الحق، وحتى تلهيه في الباطل -نعوذ بالله- ومن قام بأمر الله، وأدى حق الله، واستعمل نفسه في ذكر الله، وطاعة الله، عافاه الله من الشيطان، وحفظه من الشياطين، نسأل الله السلامة.   والواجب على المسلم مجاهدة نفسه وترك الغفلة المسببة لمدخل الشيطان عليه في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ وأن يقابل ذلك بطلب الاستعانة بالله في الإكثار من ذكره، وهي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "أوصيكَ يا معاذُ، لا تدَعنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عبادتِكَ"؛ (الألباني، صحيح أبي داود، 1522).   وأن يحرص أشد الحرص بالمحافظة على الصلوات استجابة لقول الله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238].   تاسعًا: المتأمِّل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76] قد يقول: كيف يُغوي الشيطانُ الإنسانَ وهو ضعيف؟ فيمكن القول أيضًا أن الله تعالى قال: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وهذا يعني أن كليهما ضعيف، ولكن الفيصل في الغلبة، والانتصار يأتي من الاعتصام بالله والالتجاء به سبحانه بكثرة ذكره والالتزام بشرعه أمرًا ونهيًا.   عاشرًا: من أهم وأعظم ما يصُدُّ عداوة الشيطان ويدحر كيده ما أرشد إليه الله تعالى بالاستعاذة منه، قال سبحانه: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98]، قال السعدي رحمه الله: "أي وقت، وفي أي حال ﴿ يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ﴾؛ أي: تحس منه بوسوسة، وتثبيط عن الخير، أو حث على الشر، وإيعاز إليه؛ ﴿ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾؛ أي: التجئ واعتصم باللّه، واحتم بحماه، فإنه "سَمِيعٌ" لما تقول، "عَلِيمٌ" بنيتك وضعفك، وقوة التجائك له، فسيحميك من فتنته، ويقيك من وسوسته".   الحادي عشر: عداوة الشيطان للإنسان ظاهرة، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، قال ابن كثير رحمه الله: "بيَّن الله تعالى عداوة إبليس لابن آدم، فقال: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾؛ أي: هو مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾؛ أي: إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدوُّ المبين.   الثاني عشر: كل من اتَّخَذ الشيطان وليًّا، وسار في ركابه، فقد خسر دنياه وآخرته، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 119]، قال ابن عثيمين رحمه الله: وتولِّي الشيطان يكون بطاعته، فمن أطاع الشيطان وعصى الرحمن، فقد خسر خسرانًا مبينًا، والخسران ضد الربح؛ بل إن الخاسر هو الذي لم يحصل ولا على رأس ماله، فهو لم يربح بل خسر.   الثالث عشر: يسلك الشيطان طرقًا عجيبة لإغواء الناس وتزيين سوء أعمالهم، فإن ظفر بأحدهم واستجاب له، فلا يهنأ حتى يلقى نفس مصيره من اللعن والخلود في نار جهنم وبئس المصير، وقد نَبَّه القرآن الكريم لذلك، فقال تعالى: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴾ [النساء: 120، 121]، قال القرطبي رحمه الله: يعدهم أباطيله وتُرَّهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير، ويُمنِّيهم كذلك، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا؛ أي: خديعة.   الرابع عشر: نبَّه القرآن الكريم المؤمنين بخاصة والناس بعامة على مكر الشيطان وتدرُّجه في الإغواء حتى يصطاد فريسته ويضمها إلى حزبه في نار جهنم، وعبَّر عنها بالخطوات، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، وقال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 168، 169]، قال الطبري رحمه الله: والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته، النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره، وقال السعدي رحمه الله: أي: طرقه التي يأمر بها، وهي جميع المعاصي من كفر، وفسوق، وظلم، وقال ابن عثيمين رحمه الله: "كل شيء حَرَّمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء، أو غير ذلك؛ لأنه يأمر به، وينادي به، ويدعو إليه".   الخامس عشر: التعبير القرآني بخطوات الشيطان أنه يتدرج ويسلك مسالك شتى في الإغواء حسب كل حالة، وحسب كل شخص، وقد ذكر ابن القيم سبع عقبات يتدرَّج فيها الشيطان للإغواء، فقال رحمه الله: إن الشيطان يريد أن يظفر به في عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها، وهي:   العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبصفات كماله.
      العقبة الثانية: عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به كتابه، وإما بتعبُّد بما لم يأذن به الله.
      العقبة الثالثة: عقبة الكبائر فإن ظفر به فيها زينها له، وحسَّنَها في عينه، وسوَّف به، وفتح له باب الإرجاء.
      العقبة الرابعة: عقبة الصغائر، فَكَالَ لَهُ مِنْهَا بِالْقُفْزَانِ، وقال له: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر، (الْقُفْزَان: الحواجز والموانع).
      العقبة الخامسة: عقبة المباحات التي لا حرج على فعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات.
      العقبة السادسة: عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة عن الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها.
      العقبة السابعة: عقبة تسليط جنده عليه بأنواع من الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورَجْله، وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه إليها إلا أولو البصائر التامة، فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر؛ (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ج1، ص 237-242).   السادس عشر: إن أعمال الناس تقوم على إراداتهم واختياراتهم، فالقرار في الإقدام، أو الإحجام بيدهم، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]، قال الطبري رحمه الله: "أي: قولنا لهم يوم القيامة: ﴿ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الحج: 22]، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، وبأن الله عَدْل لا يجورُ فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبةَ، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفِّي كل عامل جزاء ما عمل.   السابع عشر: ينشط الشيطان ويجد بغيته في البيئات الفاسدة عندما يكون الإنسان في حالة من الضياع والبعد عن الله، فمن فقد الصلة بالله تعالى وضعفت علاقته بربه سبحانه، فأصبح لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا؛ هانت مهمة الشيطان ووجد ضالته، أما البيئات الصالحة فهي عامرة بذكر الله تعالى وفي رعايته، فلا يتمكن الشيطان من التسلُّط عليهم، وكلما كان الإنسان لله أقرب، كان الشيطان منه أبعد، قال تعالى: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58] قال السعدي رحمه الله: "إن القلوب الطيبة حين يجيئها الوحي، تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها، وحسن عنصرها، وأما القلوب الخبيثة التي لا خير فيها، فإذا جاءها الوحي لم يجد محلًّا قابلًا؛ بل يجدها غافلة معرضة، أو معارضة".   الثامن عشر: إن المؤمن التقي محفوظ بحفظ الله من الشيطان وشَرَكِه، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 99]، قال الطبري رحمه الله: "إن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمر الله به، وانتهوا عما نهاهم الله عنه، ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ يقول: وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم، أما غير المؤمنين فهو وليُّهم كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، قال البغوي رحمه الله: "أي: قرناء وأعوانًا للذين لا يؤمنون وقال الزجاج: سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ﴾ [مريم: 83]".   التاسع عشر: يُشاع عند بعض الناس أن كيد الشيطان أضعف من كيد النساء؛ لما ورد في بعض كتب التفسير لمعنى قول الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، وقد سُئل سماحة الشيخ ابن باز عن ذلك، فأجاب رحمه الله: هذا حكاه الله عن صاحب يوسف العزيز ﴿ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ هذا نسبي، وكذلك قوله: ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76] نسبي، بالنسبة إلى مَن استعان بالله، وتعوَّذ بالله، واعتصم بالله؛ فكيد الشيطان ضعيف، وأيضًا سُئل سماحة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله عن ذلك، فأجاب: الله أعلم؛ النساء لهن كيد، والشيطان له كيد، وقد يكون كيد النساء أحيانًا أقوى من كيد الشيطان، وقد يكون كيد الشيطان أحيانًا أقوى من كيد النساء، هذا بحسب المواقف، واختلاف المواضع، وسُئل فضيلة الشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله عن ذلك فأجاب فضيلته: سبحان الله! ضع كل جملة في سياقها يظهر لك المعنى، أما بالنسبة لكيد الشيطان، فإن الله عز وجل قال: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]، فكيد الشيطان هنا في مقابل كيد الله فهو ضعيف فعلًا؛ لأنه في مقابل كيد الله عز وجل؛ لكن النساء في قصة يوسف عليه السلام ذُكِر كيدهن في مقابل كيد الرجال، ونَعَمْ، فإن الرجال لا يستطيعون أن يجاروا النساء أبدًا في هذا الكيد.   العشرون: جواز لعن الشيطان، فقد بيَّن سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: لا حرج في لعنه، ولكن التَّعوُّذ بالله أحسن، التَّعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم أفضل، وإن لعنه فلا بأس، فقد لعنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: جاء في الحديث الصحيح أنَّ الشيطان تفلَّتَ عليه وهو يُصلي، فقال له: ألعنُك بلعنة الله، فإذا لعنه فلا بأس، وإن استعاذ بالله من شرِّه فذلك أفضل، وكلاهما جائزٌ.   ويمكن الإشارة في هذا المقام إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقولَنَّ أحدُكم: لعن اللهُ الشيطانَ، فإنه إذا سمعها تعاظَم حتى يصيرَ كالجبلِ، وليقلْ: أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، فإنه إذا قالها تضاءلَ وتصاغر"؛ (الألباني، صحيح أبي داود، رقم: 4982)، قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: من وضع الشيء في غير موضعه ذم الشيطان؛ إذا الإنسان أذنب؛ ذُم نفسك، تُب إلى الله، واستغفر الله بدل لعن الشيطان وسبه، ارجع إلى نفسك وَلُمْها.   الواحد والعشرون: الناظر والمتأمل والمتدبِّر في الأذكار الشرعية يجدها هَيَّأت للإنسان أنجع الوسائل المناسبة لمواجهة عداوة الشيطان ودحره، وهي تعُمُّ كل حركات الإنسان وسكناته في يومه وليلته، ونومه ويقظته، وخروجه من المنزل وعودته، ودخول المسجد وخروجه، ومأكله ومشربه، ودخول الخلاء وخروجه، وحله وترحاله، وحتى قضاء حاجته وشهوته من أهله، فلكل حال أذكار شرعية مناسبة لها واردة بنص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهي ثابتة ومحفوظة في مظانها، وأشهرها: "كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله"، وتُعد الأذكار بمثابة وصفة طبية من طبيب ماهر خبير بأدواء الشيطان وخطواته، فمن وُفِّق للمحافظة عليها، فقد نال خيرًا كثيرًا، وعصمه الله تعالى من الشيطان، ومن فَرَّطَ وتساهل وَغَفل عن ذلك فقد أعطى الشيطان فرصة لإغوائه، فلا يلومَنَّ إلا نفسه.   الثاني والعشرون: من أعظم وأخطر ما يسعى إليه الشيطان وأعوانه من ذريته، ومن شياطين الإنس؛ تفكيك المجتمع، ونشر العداوة والبغضاء والكراهية، والتناحر بينهم حتى تَعُم الفوضى وتشيع الفاحشة؛ بل من أولوياته تفكيك الأسرة الواحدة، وإيجاد المنازعات بين الزوجين والأقارب والأرحام بمختلف درجاتهم، ويضع الحوافز المعنوية لأعوانه لمن يصل إلى درجة التفريق بين الرجل وأهله، فقد ثبت في الحديث الشريف، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبليسَ يضعُ عرشَه على الماء، ثم يبعثُ سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيءُ أحدُهم فيقولُ: فعلتُ كذا وكذا، فيقولُ ما صنعتَ شيئًا، ويجيءُ أحدُهم فيقولُ: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبين أهلِه، فيُدْنِيه منه، ويقولُ: نعم أنتَ!"؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2813)، ومن تأمَّل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المجادلة: 10] يتأكَّد مدى حرص الشيطان على إيقاع العداوة بين الناس في كافة المجالات؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كُنْتُمْ ثَلاثَةً، فلا يَتَناجَ رَجُلانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى تَخْتَلِطُوا بالنَّاسِ، أجْلَ أنْ يُحْزِنَهُ"؛ (صحيح البخاري، حديث رقم:6290)، (صحيح مسلم، حديث رقم:2184)، فليحذر الناس من كيد الشيطان ومكره في العداوة والبغضاء وإشعال الفتن في كافة علاقاتهم، وقد تكون لأتفه الأسباب، ويقع بسببها خصومات ومظالم وعدوات خطيرة وعنيفة تمدد سنوات طويلة، والأولى المبادرة بالعفو والتسامح والصلح والاجتهاد في صد كل أبواب المنازعات من بدايتها قبل تفاقمها، والأولى الرجوع لأهل العلم والاختصاص في معالجة ما يظهر من مشكلات في أوساط المجتمع، وفي محيط الأسرة، والأقارب، والأرحام.   الثالث والعشرون: العناية بالعلم الشرعي والحرص عليه من أهل العلم الثقات، من أهم ما يُعين المسلم على معرفة الأساليب الشرعية الصحيحة من القرآن والسنة لمواجهة عداوة الشيطان، فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟! ومن التوجيهات النبوية المهمة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابنُ آدمَ السَّجدةَ فسجدَ اعتزلَ الشَّيطانُ يبكي يقولُ: يا ويلَه؛ أُمرَ ابنُ آدمَ بالسُّجودِ فسجدَ؛ فلَه الجنَّةُ، وأُمِرتُ بالسُّجودِ فأبيتُ؛ فليَ النَّارُ"؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 81)، قال القرطبي رحمه الله: "وويل: كلمة تُقال لمن وقع في هلكة، وبكاء إبليس المذكور في الحديث: ليس ندمًا على معصيته، ولا رجوعًا عنها، وإنما ذلك لفرط حسده وغيظه وألمه بما أصابه من دخول أحد من ذرية آدم عليه السلام الجنة ونجاته، وذلك نحو مما يعتريه عند الأذان، والإقامة، ويوم عرفة"؛ (المُفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1/ 274).   الرابع والعشرون: عندما تصل الغواية بالإنسان مداها، ويصبح الشيطان متسلطًا عليه في شؤونه كلها، ينحرف انحرافًا كاملًا في أفكاره وخواطره وأفعاله، فلا يعد يرى أمامه إلا أنفاقًا مظلمة من الضياع تَعُج بالفسق والفجور، وكافة المُحرَّمات التي حَرَّمها الله تعالى عليه، زينها الشيطان له فرآها حسنة، وقد تصل درجة الغواية والعياذ بالله إلى أن يصبح الشيطان معبوده الأول؛ مؤتمرًا بأمره ومنتهيًا بنهيه، ومن أعظم الطَّوَام ظهور جماعة تُسمي نفسها: (عبدة الشيطان)، انتكاسة ما بعدها انتكاسة! هذا حال الإنسان إذا لم يسترشد بنور الله تعالى؛ فإنه يضل ضلالًا مبينًا، ومن لم يجعل له نورًا فما له من نور، وقد حذَّر القرآن الكريم من عبادة الشيطان، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60]، قال السعدي رحمه الله: "أي: لا تطيعوه وهذا التوبيخ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي؛ لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾، فحذرتكم منه غاية التحذير، وأنذرتكم عن طاعته، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه (لمزيد من التعرف على جماعة عبدة الشيطان، انظر: فرقة "عبَدة الشيطان"، منهجها، واعتقادها، وكيفية إنقاذ من وقع في براثنها https://islamqa.info/ar/133898).   الخامس والعشرون: يَظُن بعض الناس أن هناك أشخاصًا لهم قدرة على مؤخاة الجن وتسخيرهم في بعض الأعمال، ويزعمون بأنه: "جني مسلم"، وتحدث على يديهم أشياء خارقة للعادة، وقد سُئل سماحة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ما حكم الذهاب إلى بعض الرقاة الذين يقولون: إنهم يستعينون بالجن المسلم، أو بالملائكة؟ فقال سماحته: ما شاء الله الملائكة تخدمهم! الجن المسلم تخدمهم على طلبهم! هذا كله مكر من الشيطان، ولا يجوز هذا، لا يستعين إلا بالله، لا يستعين بالغائب، ولا بالميت، وإنما يستعين بالله، أو بالحي الحاضر الذي يقدر على إعانته، والجن ما سخروا إلا لسليمان عليه السلام ما سخروا الجن لغير سليمان.   السادس والعشرون: إن الشيطان يتربَّص بالإنسان الدوائر ويتحيَّن الفرص المواتية لإغوائه، وهناك مداخل للشيطان، وأسلحة له، فينبغي للمسلم أن يؤصدها بالكلية، فلا يعطي مجالًا للشيطان إلحاق الضرر به، ومن أهم هذه المداخل، الكبر وعُجْب الإنسان بنفسه، يجعله يزدري الناس، ويقلل من شأنهم، وكذلك الغفلة عن أبواب الخير من العبادات وما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، وهناك أيضًا مداخل أخرى، منها:   • الغضب، فعندما يغضب الإنسان يصبح في حالة من عدم التركيز فيتسلَّط الشيطان عليه.   • الشبع؛ فإنه يُقوِّي الشهوة، ويُشغِل عن طاعة الله.   • العجلة وترك التثبُّت.   • حُب المال؛ فمتى تمكَّن من القلب قد يحمل الإنسان على طلبه من غير وجهه، ويؤدي به إلى البُخْل، ومنع الحقوق الواجبة.   • سوء الظنِّ بالمسلمين، فإنَّ مَنْ حكم على مسلم بسوء ظنِّه احتقره، وأطلق فيه لسانه.   • عموم الجوارح؛ كالعين، واليد، والرجل، والأذن، فإذا لم يتَّقِ العبدُ ربَّه فيها، فقد تكون من أسرع المداخل للشيطان والعياذ بالله؛ (اللجنة العلمية في مكتب الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات في جنوب بريدة، موقع الألوكة).   السابع والعشرون: هناك عدوٌّ آخر لا يقل خطره عن الشيطان، وهو النفس الأمَّارة بالسوء، وهي أقل مراتب النفس الإنسانية ومكمن ضعفها، فخطرها عظيم، وقد يفوق خطرها عداوة الشيطان، والطامة الكبرى إذا اجتمعا كلاهما على الإنسان ولم يشعر بخطرهما ولم يجاهد نفسه باتخاذ الوسائل الشرعية المناسبة في الأوقات المناسبة للتصدي لهما وإيقاف خطرهما قبل أن يتمكنا منه ويلحقا به الأذى الذي قد لا ينفك منه إلا وقد لاقى ربه عز وجل خاسرًا دينه ودنياه وآخرته، نسأل الله السلامة والعافية؛ (انظر: مقال: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: 6] على صفحة الكاتب، موقع الألوكة).   الثامن والعشرون: في المشهد الأخير للشيطان يوم القيامة قبل المغادرة إلى جهنم وبئس المصير، وعندما يُقضى الأمر في مشهد مهيب يوم العدل بين يدي الله تعالى، يخطب ويعلن الشيطان اعترافه بجريمته، فيعلن أمام الخلائق أن الله "جل جلاله" صادق، وأنه كاذب، وأنه لا لائمة عليه، وإنما الملامة على من اتبعه؛ فيندم حينها كل من تبعه، ولكن حينذاك لا ينفع الندم! وقد صوَّر القرآن الكريم هذا المشهد أعظم تصوير بأروع بيان، قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22]،قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عمَّا خطب به إبليس لعنه الله أتباعه، بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس لعنه الله حينئذٍ خطيبًا ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم وغبنًا إلى غبنهم، وحسرة إلى حسرتهم.   هذا ما يسَّر الله إيراده، والله أسأل بمنِّه وكرمه أن يحفظنا والمسلمين أجمعين من الشيطان ومكره، ومن دعاوى النفس الأمَّارة بالسوء؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.     وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي   شبكة الالوكة      
    • ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].   تمهيد:   إن تصور الإنسان لمجمل علاقاته التي تتطلب منه تفاعلًا إيجابيًّا معها بحسب مستوى كل علاقة وحجمها ابتداءً من علاقته بخالقه سبحانه، ومرورًا بعلاقاته الاجتماعية الأخرى في إطار منظومة المجتمع التي يعيش فيها، كُل تلك العلاقات تتطلب منه منهجًا واضحًا يشمل تفاصيل كل شيء، ولا غرو أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد هيَّأا للإنسان في كل زمان ومكان منهجًا ربانيًّا محكمًا لكافة هذه العلاقات، لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.       وحتى تتحقق أعظم استفادة من هذا المنهج الرباني القويم يجب على الإنسان المسلم أن يبذل الجهد والمزيد من الاهتمام والعناية التامة بطلب العلم المؤصل من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وفق سلف الأمة الصالح، حتى يكون في منأى عن الغلو والتطرف، أو الإفراط والتفريط.       أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:   قال ابن كثير رحمه الله: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنً ا﴾ يعني: الكُفَّار والفُجَّار، يعملون أعمالًا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعًا؛ أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: بقدره كان ذلك، ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾؛ أي: لا تأسف على ذلك، فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي؛ لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾.       وقال ابن عاشور رحمه الله: الوقوع في هذه الحالة ناشئ من تزيين الشيطان له سوء عمله، فالمزين للأعمال السيئة هو الشيطان، قال تعالى: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [النمل: 24]، فرأوا أعمالهم السيئة حسنة، فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيه نصيحة ناصح، ولا رسالة مرسل، قوله: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾؛ أي: فلا تفعل ذلك، فإنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنًا، وهو من فعل أنفسهم، فلماذا تتحسَّر عليهم، وإسناد الإضلال والهداية إلى الله بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء، وذلك من تصرُّفه تعالى بالخلق، وهو سِرُّ من الحكمة عظيم لا يُدرك غوره وله أصول وضوابط.       وقال ابن عثيمين رحمه الله كلامًا فيه عموم وشمول للآية الكريمة: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴾، من المزين؟ ذكر الله عز وجل أن المزين الشيطان، وسوء العمل يشمل كل الأعمال، سواء كان الشرك أو العدوان على الغير أو سوء السلوك وفساد الأخلاق أو غير ذلك، المهم أنه شامل لكل الأعمال، ﴿ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾؛ أي: رَأَى سُوءَ عَمَلِه حَسَنًا، وهذا أشَدُّ ما يكون أن يكونَ الإنسان على خَطَأ، ويرى أنَّه على صَوَاب؛ لأَنَّ مثل هذا لا يَكَادُ يُقْلِعُ عن غَيِّه حَيْثُ إنَّه يَعْتَبِرُه صَوَابًا، ومن ذلك مثلًا: أصحاب الحيل المخادعون، فالمنافق مثلًا زين له سوء عمله؛ لأنه يرى أنه ذكي، وهذا مِن سُوءِ العمل، ومن أمثلة ذلك: الـمُتَحَايلون على الرِّبَا بأنواعِ الحِيَل، هؤلاء أيْضًا زُيِّنَ لهم سُوءُ أعمالِهم؛ ولهذا لا تكَاد تجِدُهم يقلِعُون على ما هم عليه؛ لأنَّه قد زُيِّنَ ذلك في نفوسِهم فلا يُقْلِعُون عنه، المهم أنَّ هذا له أَمْثِلَة كَثِيرة، وهذا مِن سُوءِ العمل.       الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:   أولًا: تؤكد الآية الكريمة على خطورة اعتقاد الإنسان عملًا سيئًا ويراه حسنًا؛ لما لذلك من تبعات سلبية على الفرد والمجتمع- كما هو حال أي عمل سيئ - فربما يتَّسِع مداه ودائرة قبوله لدى الآخرين فيصبح أمرًا طبعيًّا، وتُبنى عليه تصوُّرات وقرارات مصيرية قد لا تُرى نتائجها العكسية في الوقت الحاضر، فالواجب العناية التامة بأعمالنا وأقوالنا وبخاصة المصيرية منها، والعناية بمراجعتها من أهل الاختصاص للتأكد من سلامتها وموافقتها لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وواقع الحال ومتطلبات العصر.       ثانيًا: توجد علاقة قوية ورابط وثيق بين رؤية الإنسان لعمله السيئ حسنًا، وبين تزيين الشيطان له؛ لأن الشيطان حريص أشد الحرص على إغواء بني آدم بشتى الوسائل الممكنة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 48]، وقال سبحانه: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]، قال الطبري رحمه الله: "وحسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس، وسجودهم لها من دون الله، وحبَّب ذلك إليهم ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ فمنعهم بتزيينه ذلك لهم أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، ومعناه: فصدَّهم عن سبيل الحقِّ ﴿ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ فهم لما قد زين لهم الشيطان ما زين من السجود للشمس من دون الله والكفر به لا يهتدون لسبيل الحقِّ ولا يسلكونه، ولكنهم في ضلالهم الذي هم فيه يتردَّدون"؛ (انظر: مقالًا موسعًا للكاتب على موقع الألوكة: ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].       ثالثًا: من الخيبة والخسران والحرمان وقلة التوفيق أن يسلك الإنسان في حياته مسلكًا يظن كل الظن أنه مستقيم، وهو بخلاف ذلك بل في وجهة قد تَهوي به إلى الشقاء والضياع والعياذ بالله، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104]، قال الطبري رحمه الله: "هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هُدى واستقامة؛ بل كان على جَور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون"، وقال ابن كثير رحمه الله: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: عملوا أعمالًا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾؛ أي: يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون".       رابعًا: أشد الناس وقوعًا في رؤية أعمالهم السيئة حسنة أكثرهم بعدًا عن الله تعالى، ومن أعظم الانحراف وأشده الوقوع في الكفر والعياذ بالله، ثم ارتكاب المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، وغير ذلك من الانحرافات، وكلما كان الإنسان من الله أبعد كانت رؤيته لعمله السيئ حسنًا، قال تعالى: ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33]، وقال سبحانه: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، قال السعدي رحمه الله: "فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم، ويزينها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقًّا، وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفةً راسخةً ملازمة لهم؛ فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح".       خامسًا: عندما لا يشعر الإنسان بخطئه، أو تقصيره، ولا يرى فيه بأسًا، بل قد يراه حسنًا، فذلك انحراف في التصور والسلوك، وقد يكون بسبب تسلُّط الشيطان عليه، أو تسلط نفسه الأمَّارة بالسوء، فيزهو حينها بنفسه كِبْرًا وغُرورًا، وقد يظن في نفسه أنه هو الفاهم الذكي ويحتقر غيره في سوء فهمهم وقلة علمهم، ولم يعلم المسكين أن الله تعالى هو الذي علمه ورزقه الفهم والدراية، وفي أية لحظة فإن الله تعالى قادر على أن يسلبه ذلك؛ ولذلك جاءت الشريعة السمحة بتوجيهات عدة بتحريم الكبر واحتقار الآخرين، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، قال ابن باز رحمه الله: "ينبغي للمؤمن أن يحذر أن يعجب بعمله، أو نفسه، أو أن يتكبَّر على إخوانه، يجب الحذر من ذلك، فإن الإنسان محلُّ الخطر، فينبغي له أن يُحاسب نفسه، وأن يُجاهدها حتى لا يقع في قلبه التكبُّر على إخوانه والعجب بنفسه فيهلك".       سادسًا: يحتاج المؤمن بصفة دائمة إلى محاسبة نفسه ومراجعتها للتأكد من مدى سلامة سيره على الصراط المستقيم، وبخاصة في الأمور المهمة التي تحتاج إلى تأنٍّ وحكمةٍ، وتأتي في مقدمتها شرائع الدين وأحكامه، ومن توجيهات الشريعة السمحة في محاسبة النفس، قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، قال السعدي رحمه الله: "هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه"، وقال صلى الله عليه وسلم: «الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها، وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ»؛ (الترمذي، حديث رقم: 2459، ابن ماجه، حديث رقم: 4260)، قال ابن عثيمين رحمه الله: "من دان نفسه"؛ يعني: من حاسبها ونظر ماذا فعل من المأمورات، وماذا ترك من المنهيات هل قام بما أُمر به؟ هل ترك ما نُهي عنه؟ إذا رأى من نفسه تفريطًا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه، وقام به أو ببدنه إذا رأى من نفسه انتهاكًا لمحرم أقلع عنه وندم وتاب واستغفر". سابعًا: يقع على عاتق الأسرة دور مهم في صياغة الفكر السليم والسلوكيات الإيجابية وتربية النشء عليها ليكونوا معاوِلَ بناء في المجتمع، وكلما كانت تربية النشء في داخل الأسرة تربية إسلامية أصيلة متكاملة، كان المجتمع أكثر استقرارًا ونضوجًا ورقيًّا، وتختفي معه الكثير من الظواهر السلبية، وإن ظهر بعضها في وقت معين يسهل علاجها والقضاء عليها، ومن أبرز من ينبغي أن يركز عليه الوالدان لتجنب أولادهما الوقوع في تزيين سوء أعمالهم ورؤيتها حسنة، ما يلي: • غرس القيم والمبادئ الإسلامية والأخلاق الفاضلة في نفوس النشء، وعرضها بأساليب تربوية مشوقة، وأن يكون الوالدان قدوةً حسنةً لأولادهم في شؤونهم كلها، فهذا أدعى لترسيخها والالتزام بها.   • التعريف بالحق والباطل، والتمييز بينهما، والتحذير من شياطين الجن والإنس، وما يقومون به من ترويج للشُّبُهات والشهوات، وتحريف وتأويل فاسد لبعض النصوص الشرعية لكي يزينوا السوء ويقبحوا الحسن.   • تحصين النشء بتقوية الإيمان بالله تعالى لديهم والتوكل عليه، ليكونوا سدًّا منيعًا أمام ترويج المعاصي والمنكرات من قبل أهل الشر والفساد.   • الحرص التام على الأعمال الصالحة، وفي مقدمتها المحافظة على الصلوات، وتلاوة القرآن الكريم، والأذكار الشرعية، والتوبة والاستغفار من الذنوب والخطايا، والتذكير دائمًا بالآخرة والحساب والجزاء يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.   ثامنًا:من أقوى ما يُعين الإنسان على السلامة والابتعاد عن الزيغ والضلال والانحراف في الفكر والسلوك، ورؤية الأعمال السيئة حسنة؛ الإكثار من الدعاء، ومن الأدعية الشرعية المفيدة في هذا الجانب ما يلي:   الحديث الأول: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قالَ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم»؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2725)، قال النووي رحمه الله: "معنى (سدِّدْني): وفِّقني واجعلني منتصبًا في جميع أموري مستقيمًا، وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور، وأما الهدى هنا فهو الرشاد، ومعنى «وَاذْكُرْ بالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم»؛ أي: تذكر في حال دعائك بهذين اللفظين؛ لأن هادي الطريق لا يزيغ عنه، ومسدد السهم يحرص على تقويمه، ولا يستقيم رميه حتى يقومه، وكذا الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد علمه وتقويمه، ولزومه السنة"؛ (شرح النووي على صحيح مسلم، ج 17، ص 43-44).   الحديث الثاني: قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ ألْهِمني رُشْدي، وقِني شرَّ نَفْسي»؛ (أحمد، المسند، 33/197، الترمذي، حديث رقم: 19992)؛ قال ابن عثيمين رحمه الله في معرض حديثه عن فضل الدعاء، وما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به: «اللَّهمَّ ألْهِمني رُشْدي وقِني شرَّ نَفْسي»، «ألهمني رشدي»؛ يعني: اجعلني موفقًا للرشد، والرشد ضد الغي، والغي هو المعاصي والشر والفساد، والإنسان إذا وفق للرشد فإنه موفق، وهذا هو غاية المؤمنين الذين قال الله عنهم: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7].   الحديث الثالث: دعاء: «اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل»، (دعاء مأثور، ابن شاهين، مذاهب أهل السنة، 38)، قال ابن عثيمين رحمه الله في فتوى لسائل في الحرم المكي الشريف؛ عام 1418 هـ، ختمها رحمه الله بقوله: "واسألوا الله دائمًا قولوا: «اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل»، ادْعُ اللهَ دائمًا بهذا، وادْعُ الله دائمًا أن يثبتكم على الحق أحياءً وأمواتًا، فإن الله يقول: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27].   تاسعًا: من الأمور المهمة التي ينبغي الإشارة إليها، ويجب أن تكون حاضرة في عقل ووجدان كل مسلم لتجنب المصادمات والصراعات بين الناس وما ينتج عنها من فُرقة وتشتُّت في منظومة العلاقات الاجتماعية؛ القناعة التامة بوجود اختلافات في وجهات النظر بين الناس حول موضوعات وقضايا معينة، فلا نسقط الآية موضوع المقال على كل عمل يخالف رأينا، فالاختلاف سنة اجتماعية معتبرة، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: ولا يزال الخُلف بين الناس في أديانهم، واعتقادات مِلَلهم، ونِحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم"، وهنا ينبغي أن تكون هناك مساحة من اتساع الفكر وقبول واحترام وجهات النظر المخالفة، ما دام في إطار الأصول والقواعد الشرعية، ولها مسوغ شرعي معتبر، حفاظًا على سلامة المجتمع من التشتُّت والخصام، ولكي لا تكون هناك فرصة مواتية لشياطين الإنس والجن لبذر بذور التناحُر والقطيعة بين أبناء المجتمع الواحد.   عاشرًا: الخطأ والتقصير وسوء الفهم من لوازم الطبيعة البشرية، وهي بحاجة دائمة إلى التذكير والتناصح بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن تيقَّن حقَّ اليقين رؤية تقصير معين عند أخيه المسلم، فالواجب نصحه وتذكيره، قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»؛ (صحيح مسلم، رقم: 55)، وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ، المؤمنُ أخو المؤمنِ يَكُفُّ عليهِ ضَيْعَتَه ويحوطُه مِن ورائِه»؛ (الألباني، صحيح الأدب المفرد، رقم: 178)، قال ابن باز رحمه الله: "أنت مرآة لأخيك وهو مرآة لك، إذا رأيت شيئًا يشينه نبهته برفق وحكمة وإظهار المودة والنصح حتى يزيل ذلك الشيء الذي يشينه وينقصه، وهو كذلك إذا رأى فيك ما يشينك نبهك بلطف ورفق ومحبة وعدم عنف حتى تزيل ما يشينك وما يقدح فيك من أخلاق وأعمال".   الحادي عشر: هناك ملمح مهم؛ فعندما يُوجه للإنسان نصيحة لأي أمر كان، ينبغي احترام القائل وقبول النصيحة، فقد تكون النصيحة في محلها، والمبادرة بمراجعة النفس، فلآخرون لهم القدرة على رؤية وملاحظة ما في غيرهم بما لا يراه الشخص في نفسه، فلا تواجه بعنف أو اشمئزاز أو تعالٍ، ويكون شعار المنصوح مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي"؛ (الغزالي، إحياء علوم الدين، 3/64)، والواجب أيضًا القبول الحسن والرد الحسن، ولعل الآية الكريمة: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34] تؤكد هذا المعنى، فإذا كان الذي أخطأ في حقك الأولى تقابله بالتي هي أحسن، فكيف بمن أسدى إليك نصيحة! فيكون القبول أعظم والرد أفضل، قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "يعني إذا أساء إليك إنسان فلا تقابله بإساءة، ولا تقابله بحسنة أيضًا، قابله بما هو أحسن".   الثاني عشر: ينبغي على الإنسان التأني والتثبت قبل الحكم على أعمال الآخرين، فلا يصدر حكمًا على شخص لمجرد رؤية صورة واحدة من شخصيته، فالحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، فالعاقل الموفق يتجنب سرعة الانتقاد لأعمال الآخرين، فيحفظ لسانه، ويترك الأمر لأهل العلم كل بحسب اختصاصه للتصدي لمعالجة القضايا والظواهر السلبية بالطرق المناسبة من غير إفراط أو تفريط.   الثالث عشر: قد يغلب على ظن البعض أحيانًا تبني قول لموضوع محدد، أو قضية معينة استنادًا على فهم غير مكتمل، ثم يظهر خلاف ذلك، ورجوحه بدليل أقوى، فالتراجعُ إلى القول الأقوى دليلًا خيرٌ من التمادي في الخطأ، وهذ من التوفيق والحكمة وكمال العقل، فالعلم بحر لا ساحل له، قال تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، قال الطبري رحمه الله: "وفوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله".   هذا ما يسَّر الله إيراده، والله أسأل بمنه وكرمه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي شبكة الالوكة  
    • ماشاء الله تبارك الرحمن  لله في خلقه شؤون 
  • أكثر العضوات تفاعلاً

    لاتوجد مشارِكات لهذا الاسبوع

  • آخر تحديثات الحالة المزاجية

    • samra120 تشعر الآن ب غير مهتمة
  • إحصائيات الأقسام

    • إجمالي الموضوعات
      181920
    • إجمالي المشاركات
      2535140
  • إحصائيات العضوات

    • العضوات
      93126
    • أقصى تواجد
      6236

    أحدث العضوات
    أأم محمد
    تاريخ الانضمام

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×