اذهبي الى المحتوى
  • اﻹهداءات

    قومي بتسجيل الدخول أوﻻً لإرسال إهداء
    عرض المزيد

المنتديات

  1. "أهل القرآن"

    1. 57253
      مشاركات
    2. ساحات تحفيظ القرآن الكريم

      ساحات مخصصة لحفظ القرآن الكريم وتسميعه.
      قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" [صحيح الترغيب]

      109817
      مشاركات
    3. ساحة التجويد

      ساحة مُخصصة لتعليم أحكام تجويد القرآن الكريم وتلاوته على الوجه الصحيح

      9066
      مشاركات
  2. القسم العام

    1. الإعلانات "نشاطات منتدى أخوات طريق الإسلام"

      للإعلان عن مسابقات وحملات المنتدى و نشاطاته المختلفة

      المشرفات: المشرفات, مساعدات المشرفات
      284
      مشاركات
    2. الملتقى المفتوح

      لمناقشة المواضيع العامة التي لا تُناقش في بقية الساحات

      180512
      مشاركات
    3. شموخٌ رغم الجراح

      من رحم المعاناة يخرج جيل النصر، منتدى يعتني بشؤون أمتنا الإسلامية، وأخبار إخواننا حول العالم.

      المشرفات: مُقصرة دومًا
      56695
      مشاركات
    4. 259983
      مشاركات
    5. شكاوى واقتراحات

      لطرح شكاوى وملاحظات على المنتدى، ولطرح اقتراحات لتطويره

      23500
      مشاركات
  3. ميراث الأنبياء

    1. قبس من نور النبوة

      ساحة مخصصة لطرح أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و شروحاتها و الفوائد المستقاة منها

      المشرفات: سدرة المُنتهى 87
      8238
      مشاركات
    2. مجلس طالبات العلم

      قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع"

      32133
      مشاركات
    3. واحة اللغة والأدب

      ساحة لتدارس مختلف علوم اللغة العربية

      المشرفات: الوفاء و الإخلاص
      4160
      مشاركات
    4. أحاديث المنتدى الضعيفة والموضوعة والدعوات الخاطئة

      يتم نقل مواضيع المنتدى التي تشمل أحاديثَ ضعيفة أو موضوعة، وتلك التي تدعو إلى أمور غير شرعية، إلى هذا القسم

      3918
      مشاركات
    5. ساحة تحفيظ الأربعون النووية

      قسم خاص لحفظ أحاديث كتاب الأربعين النووية

      25483
      مشاركات
    6. ساحة تحفيظ رياض الصالحين

      قسم خاص لحفظ أحاديث رياض الصالحين

      المشرفات: ام جومانا وجنى
      1677
      مشاركات
  4. الملتقى الشرعي

    1. الساحة الرمضانية

      مواضيع تتعلق بشهر رمضان المبارك

      المشرفات: فريق التصحيح
      30256
      مشاركات
    2. الساحة العقدية والفقهية

      لطرح مواضيع العقيدة والفقه؛ خاصة تلك المتعلقة بالمرأة المسلمة.

      المشرفات: أرشيف الفتاوى
      52992
      مشاركات
    3. أرشيف فتاوى المنتدى الشرعية

      يتم هنا نقل وتجميع مواضيع المنتدى المحتوية على فتاوى شرعية

      المشرفات: أرشيف الفتاوى
      19530
      مشاركات
    4. 6678
      مشاركات
  5. داعيات إلى الهدى

    1. زاد الداعية

      لمناقشة أمور الدعوة النسائية؛ من أفكار وأساليب، وعقبات ينبغي التغلب عليها.

      المشرفات: جمانة راجح
      21004
      مشاركات
    2. إصدارات ركن أخوات طريق الإسلام الدعوية

      إصدراتنا الدعوية من المجلات والمطويات والنشرات، الجاهزة للطباعة والتوزيع.

      776
      مشاركات
  6. البيت السعيد

    1. بَاْبُڪِ إِلَے اَلْجَنَّۃِ

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فأضع ذلك الباب أو احفظه." [صحيح ابن ماجه 2970]

      المشرفات: جمانة راجح
      6306
      مشاركات
    2. .❤. هو جنتكِ وناركِ .❤.

      لمناقشة أمور الحياة الزوجية

      97009
      مشاركات
    3. آمال المستقبل

      "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" قسم لمناقشة أمور تربية الأبناء

      36838
      مشاركات
  7. سير وقصص ومواعظ

    1. 31793
      مشاركات
    2. القصص القرآني

      "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يُفترى"

      4883
      مشاركات
    3. السيرة النبوية

      نفحات الطيب من سيرة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم

      16438
      مشاركات
    4. سيرة الصحابة والسلف الصالح

      ساحة لعرض سير الصحابة رضوان الله عليهم ، وسير سلفنا الصالح الذين جاء فيهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.."

      المشرفات: سدرة المُنتهى 87
      15479
      مشاركات
    5. على طريق التوبة

      يقول الله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } طه:82.

      المشرفات: أمل الأمّة
      29721
      مشاركات
  8. العلم والإيمان

    1. العبادة المنسية

      "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ.." عبادة غفل عنها الناس

      31147
      مشاركات
    2. الساحة العلمية

      العلوم الكونية والتطبيقية وجديد العلم في كل المجالات

      المشرفات: ميرفت ابو القاسم
      12926
      مشاركات
  9. إن من البيان لسحرًا

    1. قلمٌ نابضٌ

      ساحة لصاحبات الأقلام المبدعة المتذوقة للشعر العربي وأدبه

      المشرفات: الوفاء و الإخلاص
      50492
      مشاركات
  10. مملكتكِ الجميلة

    1. 41313
      مشاركات
    2. 33904
      مشاركات
    3. الطيّبات

      ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ))
      [البقرة : 172]

      91746
      مشاركات
  11. كمبيوتر وتقنيات

    1. صوتيات ومرئيات

      ساحة مخصصة للمواد الإسلامية السمعية والمرئية

      المشرفات: ام جومانا وجنى
      32199
      مشاركات
    2. جوالات واتصالات

      قسم خاص بما يتعلق بالجوالات من برامج وأجهزة

      13116
      مشاركات
    3. 34854
      مشاركات
    4. خربشة مبدعة

      ساحة التصاميم الرسومية

      المشرفات: محبة للجنان
      65605
      مشاركات
    5. وميضُ ضوء

      صور فوتوغرافية ملتقطة بواسطة كاميرات عضوات منتدياتنا

      6120
      مشاركات
    6. 8966
      مشاركات
    7. المصممة الداعية

      يداَ بيد نخطو بثبات لنكون مصممات داعيـــات

      4925
      مشاركات
  12. ورشة عمل المحاضرات المفرغة

    1. ورشة التفريغ

      هنا يتم تفريغ المحاضرات الصوتية (في قسم التفريغ) ثم تنسيقها وتدقيقها لغويا (في قسم التصحيح) ثم يتم تخريج آياتها وأحاديثها (في قسم التخريج)

      12904
      مشاركات
    2. المحاضرات المنقحة و المطويات الجاهزة

      هنا توضع المحاضرات المنقحة والجاهزة بعد تفريغها وتصحيحها وتخريجها

      508
      مشاركات
  13. IslamWay Sisters

    1. English forums   (36947 زيارات علي هذا الرابط)

      Several English forums

  14. المكررات

    1. المواضيع المكررة

      تقوم مشرفات المنتدى بنقل أي موضوع مكرر تم نشره سابقًا إلى هذه الساحة.

      101648
      مشاركات
  • أحدث المشاركات

    • إنّ سنن الله الكونيّة في عباده -الّتي لا تتبدّل ولا تتغيّر- كثيرةٌ ومتنوّعةٌ، ولا يردّها قويٌّ مهما بلغت قوّته، ولا تتعجّل لمستعجلٍ حتّى تبلغ أجلها الّذي ضربه الله جل جلاله لها، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].   وإنّ مِن سنن الله عز وجل في عباده، سَوقُ الظّالمين إلى مهالكهم، وأخذهم بما كسبت أيديهم، وهي سنّةٌ في الظّالمين ثابتةٌ لا تتخلّف أبدًا، سواءٌ كان ظلمهم لأنفسهم أم كان لغيرهم، وإنّ كلّ الأمم الّتي عذّبها الله وأهلكها، علّق هلاكها بظلمها، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 4-5]. ولقد أتى التّعبير بكلمة "كَمْ" الّتي تستخدمها العرب لتكثير العدد، ليدلّ على كثرة تلك القرى الّتي أخذها الله عز وجل، وفي ذلك بشارةٌ للمظلومين، وحسرةٌ للظّالمين، فليوقن المظلومون أنّ الله سبحانه منتقمٌ من الظّالمين لا محالة، عاجلًا أو آجلًا، فَللكونِ ربٌّ يدبّره، وله حُكمٌ يَفرضه، وقدَرٌ يُنفذه، وسننٌ يمضيها، فلا ييأسنّ مسلمٌ يعلم ذلك، ويوقن به. نعم، قد يستبطئ المظلوم هلاك الظّالم، لشدّة ما يُعاني مِن الظّلم، وكثرة ما يجد مِن القهر، لا سيّما إذا كان الظّلم سفكًا للدّماء، وانتهاكًا للأعراض، وتهجيرًا من الدّيار، وسلبًا للأموال، ولكن سرعان ما يرتاح المسلم المظلوم المقهور، عندما يتدبّر قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَل الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].     1- لماذا يسلّط الله علينا الظّالمين ثمّ يمهلهم؟ ما تزال فئاتٌ مِن النّاس يُلحّون على هذا السّؤال المكرّر والمعاد، حيث يقولون: إنّنا مؤمنون بربّنا جل جلاله، فلماذا يُسلّط علينا أعداءه الكفرة المجرمين، مِن هؤلاء الّذين يعيثون في الأرض فسادًا، ألم يَعدِ الله سبحانه المسلمين بالحماية والتّأييد والنّصر، فلماذا لا يُعجّل بهلاك الظّالمين؟ وأين رحمته بالمستضعفين الّذين يكتوون بنار الظّلم والقهر، والّذين تُلقَى عليهم الحِممُ البركانيّة فوق رؤوسهم؟ وأين عذاب الله القويّ العزيز لهؤلاء المجرمين؟ وكلّ هذه الأسئلة نتيجةٌ للابتعاد عن الوعي، وتحوّل حال هؤلاء النّاس إلى التّمسك بالشّعارات، وابتعادهم عن المضامين والمبادئ والأحكام، وإلّا فإنّ الواعي الّذي يعي حقيقة الإسلام، لا يمكن أن يقف عند هذا الإشكال، ولا يُوجِع رأسه بهذا السّؤال، ومع ذلك فإنّنا سنجمل الإجابة عليه في النّقاط الآتية:     أوّلًا: إنّ الله عز وجل يُمهل ولا يُهمل: فلا يُؤاخذ الظّالم فور ظلمه، بل يُمهله ويُمهله حتّى لا يبقى له عذرٌ، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]. ولعلّه أن يرجع إلى الله بالتّوبة، ولو آخذ الظّالم فور ظلمه، ما ترك أحدًا على وجه الأرض، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النّحل: 61].     ثانيًا: إنّ الدّنيا دار عملٍ لا دار جزاءٍ: فالله جل جلاله يمهل الظّالم ليتمادى في الظّلم، فيسمع به أهل الأرض، عندئذٍ يأمر الله سبحانه بهلاكه، فكلّما ارتفع الظّالم وعلا، كان أبيَنَ لسقوطه والاعتبار به، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. [ 1 ]     ثالثًا: إنّ مِن سنن الله جل جلاله في عباده أن يبتلي النّاس بعضهم ببعضٍ: ليعلم الصّادق في إيمانه، والصّابر على قضائه، مِن الكاذب السّاخط على أمر الله، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. ففي الوقت الّذي يُمهل الله سبحانه فيه الظّالم ليزداد ظلمًا، فتشتدّ عليه العقوبة في الدّنيا قبل الآخرة، يبتلي الله المؤمنين به لترتفع درجاتهم في الجنّات، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمّد: 4]. فلا بدّ مِن التّمحيص والاختبار بالصّبر على البلاء والشّدائد، حتّى يتميّز الخبيث مِن الطّيب، قال سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} [آل عمران: 179].     2- طغيانُ الباغينَ مُؤذِنٌ بالفرجِ من ربِّ العالمينَ إنّ الله تعالى يغار على دِينه أكثر مِن غيرة عباده وأشدّ، فلقد أهلك جبابرة القرون الّذين خلوا لمّا بلغوا في الظّلم والإفساد مبلغًا عظيمًا، قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزّخرف: 55]. وخاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزّخرف: 23-25]. وفي زواجر القرآن مِن أخبار الأمم ما يدعو للاعتبار، قال جل جلاله على سبيل الإجمال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم: 47]. وإنّ النّظام المجرم وحلفاءه مِن دول الغرب والكفر، قد بلغوا مِن الإفساد والإجرام والطّغيان، مبلغًا يُؤذن بقرب زوالهم، يعلم هذا مَن أدرك واقع هذه الأنظمة العفنة، ثمّ عرف الله سبحانه وآمن بأسمائه وصفات جلاله وكماله، ومِن ذلك: أنّه ملكٌ جبّارٌ عزيزٌ مهيمنٌ ذو انتقام، يغضب ويغار على محارمه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشِ). [ 2 ]   لقد أهلك الله عز وجل مِن الأمم الماضية، مَن لم يُعرف إلّا بذنبٍ مع الكفر، حيث أهلك قوم لوطٍ بفاحشتهم، وأهلك قوم شعيبٍ بتطفيف الكيل والميزان، وقوم عادٍ بتكبّرهم وتجبّرهم، وغيرهم مِن الأمم الّتي جعلها الله سبحانه أحاديث للنّاس، فبادت بعدما سادت، وعادت أثرًا بعد عينٍ، فكيف والنّظام المجرم اليوم وحلفاؤه قد بلغوا مِن الاستطالة على المحارم والمقدّسات مبلغًا يُضارعون فيه تلك الأمم السّالفة! فاستشراء الفواحش فيهم ظاهرٌ، والإجرام والوحشيّة في القصف المُمَنهج، والصّواريخ والحمم البركانيّة الّتي يلقيها فوق النّساء والأطفال الأبرياء قد بلغ غايته، وإنّها لبراميلٌ مِن الحقد والإجرام تُلقى فوق رؤوس شعبنا الضّعيف المقهور، لا تستطيع الجبال الرّاسيات أن تتحمّل شيئًا منها، وهذا كلّه يُؤذن بقرب حلول نقمة الله جل جلاله بهم، ولكن في الوقت الّذي يريده، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]. ولا شكّ أنّ في تأخير انتقام الله عز وجل مِن الظّالمين حكمةٌ من حِكَمِه الّتي لا يعلمها إلّا هو، ومنْ لم تكنْ له معرفةٌ بالسّنن وأخبار الأمم، يجزم بذلك إذا عرف ربّه، و صِدْق وعده، قال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].     خاتمةٌ:   عندما يرى الله جل جلاله أنّ هذه الأمّة قد آل أمرها إلى العصيان بعد الطّاعة، وإلى التّفرّق بعد الوحدة، فإنّه لا يؤدّبها باستئصالٍ جماعيٍّ، بغرقٍ أو خسفٍ ونحوهما، كما أهلك الأمم السّابقة، بل إنّما يُسلّط عليها عدوّها، ويمدّ له، حتّى ترجع هذه الأمّة إلى ربّها، وتصحو من نومها. وإنّه جل جلاله لا يعجل بعجلة أحدنا، فلقد أوصى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالصّبر وعدم الاستعجال لهلاك المجرمين، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]. وهذا ما يجب أن نكون عليه في ظلّ هذه الظّروف المريرة الّتي نمرّ بها، ونحن نخوض فيها أقسى المعارك، مع الطّغاة المجرمين، فلْنتحلَّ بالصّبر الجميل، والثّقة الكاملة بالله، بأنّه ناصرٌ دينه، ومهلكٌ عدوّه، وليكنْ عندنا الأمل الواسع بالنّصر القريب، والفتح المبين المُرتقب، ولا ينبغي أن يحملنا استبطاء النّصر على اليأس مِن رحمة الله جل جلاله، وليعتبرِ الظّالمون بمَن سبقهم، ولينتهوا، فوعد الله حقٌّ، وعذابه أليمٌ ، وأمره كلمح البصر أو هو أقرب. ولنعلمْ أنّ شدّة طغيان الظّالمين المجرمين، مؤذنٌ بقرب موعد هلاكهم، فما حدث لجبابرة الأمس مِن عذابٍ وانتقامٍ، سيحدث مثله لجبابرة هذا العصر، اليوم أو غدًا، وإنّ غدًا لناظره قريبٌ.     1 - صحيح البخاريّ: 4686 2 - صحيح البخاريّ: 7403   رابطة العلماء السوريين
    • تفسير الشيخ الشعراوي 7-8 (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) ٧-الإسراء ما زال الخطاب مُوجّهاً إلى بني إسرائيل، هاكم سُنّة من سنن الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر، وهي أن مَنْ أحسن فله إحسانه، ومَنْ أساء فعليه إساءته.
      فها هم اليهود لهم الغَلبة  بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله؛ لأن هذه سُنّة كونية، مَنِ استحق الغلبة فهي له؛ لأن الحق سبحانه وتعالى مُنزّه عن الظلم، حتى مع أعداء دينه ومنهجه.
      والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله.
        وقوله تعالى: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ .. } [الإسراء: 7].
      فيه إشارة إلى أنهم في شَكٍّ أنْ يُحسِنوا، وكأن أحدهم يقول للآخر: دَعْكَ من قضية الإحسان هذه.
      فإذا كانت الكَرَّة الآن لليهود، فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ لا .. لن تظل لهم الغَلبة، ولن تدوم لهم الكرّة على المسلمين، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ .. } [الإسراء: 7].
      أي: إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم، وقد سبق أنْ قال الحق سبحانه عنهم: { لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ .. } [الإسراء: 4]
      وبينّا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
      وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصَحْوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة، وستعود لنا الكَرَّة على اليهود.
        وقوله تعالى: { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ .. } [الإسراء: 7].
      أي: نُلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لأن الوجه هو السِّمة المعبّرة عن نوازع النفس الإنسانية، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر، وهو أشرف ما في المرء، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة.
      وقوله تعالى: { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } [الإسراء: 7] أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى، وسينقذونه من أيدي اليهود.
      { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } [الإسراء: 7].
      المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين.
      فدخوله الأول لم يكُنْ إساءةً لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونُطهِّره من رِجْسهم.
        ونلاحظ كذلك في قوله تعالى: { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } [الإسراء: 7] أن القرآن لم يقُلْ ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج.
      إذن: فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لِنُبوءَة القرآن، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا: إنْ أردتُمْ أنْ تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه.
      وقوله تعالى: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ .. } [الإسراء: 7].
      كلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لن تتكرر، ولن يكون لليهود غَلَبة بعدها.
        وقوله تعالى: { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [الإسراء: 7].
      يتبروا: أي: يُهلكوا ويُدمِّروا، ويُخرِّبوا ما أقامه اليهود وما بنَوْهُ وشيَّدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم.
      لكن نلاحظ أن القرآن لم يقُلْ: ما علوتُم، إنما قال { مَا عَلَوْاْ } ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم، وإنما بمساعدة مَنْ وراءهم من أتباعهم وأنصارهم، فاليهود بذاتهم ضعفاء، لا تقوم لهم قائمة، وهذا واضح في قَوْل الحق سبحانه عنهم: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ .. } [آل عمران: 112].
      فهم أذلاء أينما وُجدوا، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظِلِّه، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويُعاونونهم.
        واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهُويّة لا تذوب في غيرهم من الأمم، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى "حارة اليهود"، ولم يكن لهم ميْلٌ للبناء والتشييد؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً .. } [الأعراف: 168].
      كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية، أما الآن، وبعد أنْ أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حَدِّ زعمهم، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد.
        ونحن الآن ننتظر وَعْد الله سبحانه، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا، ونعود إلى ساحة ربنا، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى، وتكون لنا الكرّة الأخيرة عليهم، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية، لا على عروبة وعصبية سياسية، لتعود لنا صِفَة العباد، ونكون أَهْلاً لِنُصْرة الله تعالى.
      إذن: طالما أن الحق سبحانه قال: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ .. } [الإسراء: 7].
      فهو وَعْد آتٍ لا شَكَّ فيه، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصِّها في آخر السورة في قوله تعالى: { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [الإسراء: 104].
      والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقُّق وَعْد الله، ويجد أن ما يحدث الآن من تجميع لليهود في أرض فلسطين آية مُُرادة لله تعالى.
      ومعنى الآية أننا قُلْنا لبني إسرائيل من بعد موسى:
      اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد: اسكُنْ فلا بُدَّ أن يُحدد لك مكاناً من الأرض تسكن فيه فيقول لك: اسكن بورسعيد .. اسكن القاهرة .. اسكن الأردن.
      أما أن يقول لك: اسكن الأرض!! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أنْ يظلُّوا مبعثرين في جميع الأنحاء، مُفرَّقين في كل البلاد، كما قال عنهم: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً .. } [الأعراف: 168].
      فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم، كثيراً ما تُثار بسببهم المشاكل، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم، وقد قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ .. } [الأعراف: 167].
        وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكَدٍ بين سكان الأرض إلى يوم القيامة، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يُهَاج الإسلام، فساعة أنْ يُهَاجَ تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبّه في الناس.
      إذن: فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس، فلو لم تُثَر الحيوية الإيمانية لَبهتَ الإسلام.
      وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل، فلوجودهما حكمة؛ لأن الكفر الذي يشقى الناس به يُلفِت الناس إلى الإيمان، فلا يروْنَ راحة لهم إلا في الإيمان بالله، ولو لم يكُنْ الكفر الذي يؤذي الناس ويُقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان.
      وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويُزعجهم، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه.
        وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزيَّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد.
        وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكايةً في الإسلام والمسلمين، ولكن الحقيقة غير هذا، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم: { عِبَاداً لَّنَآ .. } [الإسراء: 5].
      يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم، فلن نحارب في العالم كله، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون، في كل بلد شِرْذمة منهم؟
      إذن: ففكرة التجمُّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيَّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام، وتُسهِّل علينا تتبعهم وتُمكّننا من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [الإسراء: 104].
      أي: أتينا بكم جميعاً، نضمُّ بعضكم إلى بعض، فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين بأن الكَرَّة ستعود لنا، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله، ونتجه إليه كما قال سبحانه: { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } [الأنعام: 43].
      والمراد بقوله هنا: { وَعْدُ ٱلآخِرَةِ .. } [الإسراء: 7].
      هو الوعد الذي قال الله عنه: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } [الإسراء: 7].   (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً )٨-الإسراء (عَسَى) حَرْف يدلّ على الرجاء، وكأن في الآية إشارةً إلى أنهم سيظلون في مذلّة ومَسْكنة، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظِلِّ حبل من الله وعَهْد منه، وحبل من الناس الذين يُعاهدونهم على النُّصْرة والتأييد والحماية.
      وقوله: { رَبُّكُمْ .. } [الإسراء: 8].
      انظر فيه إلى العظمة الإلهية، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله، وهو آخر رسول يأتي من السماء، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله: { رَبُّكُمْ .. } [الإسراء: 8].
      لأن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقوّمات الحياة، لا يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد كافراً، فالكلُّ أمام عطاء الربوبية سواء: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
      الجميع يتمتع بِنعَم الله: الشمس والهواء والطعام والشراب، فهو سبحانه لا يزال ربَّهم مع كل ما حدث منهم.
      وقوله تعالى: { أَن يَرْحَمَكُمْ .. } [الإسراء: 8].
        والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة، واليهود لن تكون لهم دولة، ولن يكون لهم كيان، بل يعيشون في حِضْن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تُعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم.
      وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أنْ يقترضَ لا يقترض من مسلم، بل كان يقترض من اليهود، وفي هذا حكمة يجب أنْ نعيهَا، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً، أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقِّه وإذا نسى رسول الله سَيُذكّره.
      لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُغالطونه مِرَاراً، وقد حدث أن وفَّى رسول الله لأحدهم دَيْنه، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول: ابْغِني شاهداً.
        ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد، وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة، واسمه خزيمة، فهَبَّ خزيمة قائلاً: أنا يا رسول الله كنت شاهداً، وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل، فَدل ذلك على كذبه. ويكاد المريب أن يقول: خذوني.
      لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال: يا خزيمة ما حملك على هذا القول، ولم يكن أحد معنا، وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال: يا رسول الله أَأُصدِّقُك في خبر السماء، وأُكذِّبك في عِدّة دراهم؟
      فَسُرَّ رسول الله من اجتهاد الرجل، وقال: "مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه" .
        ثم يُهدِّد الحق سبحانه بني إسرائيل، فيقول: { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا .. } [الإسراء: 8].
      إنْ عُدتُّم للفساد، عُدْنا، وهذا جزاء الدنيا، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الآخرة.
      فالعقوبة على الذنب التي تُبرّئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حِضْن الإسلام، وإلاَّ لاَسْتوى مَنْ أقيم عليه الحدّ مع مَنْ لم يُقمْ عليه الحد.
      فلو سرق إنسان وقُطِعَتْ يده، وسرق آخر ولم تُقطع يده، فلو استَووْا في عقوبة الآخرة، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة، وكيف يستوي الذي قُطِعَتْ يده. وعاش بِذلّتها طوال عمره مع مَنْ أفلت من العقوبة؟
      هذا إنْ كان المذنب مؤمناً.
        أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجودَ له، وعقوبة الدنيا هنا لا تُعفي صاحبها من عقوبة الآخرة؛ لذلك يقول تعالى بعدها: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [الإسراء: 8].
      { جَعَلْنَا } فِعْل يفيد التحويل، كأن تقول: جعلت العجين خبزاً، وجعلت القطن ثوباً، أي: صيَّرْتُه وحوَّلْتُه. فماذا كانت جهنم أولاً فيُحوّلها الحق سبحانه حصيراً؟
      قوله تعالى: { جَعَلْنَا } في هذه الآية لا تفيد التحويل، إنما هي بمعنى خَلَقْنا، أي: خلقناها هكذا، كما نقول: سبحان الذي جعل اللبن أبيض، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوَّله الله تعالى إلى البياض، بل خلقه هكذا بداية.
        ومعنى: { حَصِيراً .. } [الإسراء: 8].
      الحصير فراش معروف يُصنع من القَشِّ أو من نبات يُسمى السَّمُر، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك، وسُمِّي حصيراً، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحَصْر، وهو التضييق في المكان للمكين، وفي صناعة الحصير يضمُّون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أنْ تتماسكَ، ولا توجد مسافة بين العود والآخر.
      لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير؛ لأنه يحبس عَنّا القذَر والأوساخ، فلا تصيب ثيابنا. إذن: الحصر معناه المنع والحبس والتضييق.
        والمتتبع لمادة (حصر) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني، يقول تعالى: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ .. } [التوبة: 5] أي: ضَيِّقوا عليهم.
      وقال تعالى في فريضة الحج: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ .. } [البقرة: 196] أي: حُبِسْتم ومُنِعْتم من أداء الفريضة.
      إذن: فقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [الإسراء: 8].
      أي: تحبسهم فيها وتحصرهم، وتمنعهم الخروج منها، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه؛ لأنها تحيط بهم من كل ناحية، كما قال تعالى: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا .. } [الكهف: 29].
      فلا يستطيعون الخروج، فإنْ حاولوا الخروج رُدُّوا إليها، كما قال تعالى: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا .. } [السجدة: 20].
      وفي قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [الإسراء: 8].
      إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمُون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء، ويدخلون في حضانة أهل الباطل، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً.
      يقول تعالى: { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [الصافات: 25-26].
        وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة، وجَعْله آيةً يمكن إقامة الدليل عليها، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه، فإذا جاءت آية المعراج وخرَق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أَدْعى إلى تصديقه.
      ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله عليه وسلم لربه هي التي أعطتْه هذه المنزلة، وكذلك كان نوح - عليه السلام - عبداً شكوراً، فهناك فَرْق بين عبودية الخَلْق للخالق، وعبودية الخَلْق للخَلْق؛ لأن العبودية للخَلْق مذمومة، حيث يأخذ السيد خيْر عبده، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خَيْر سيده.
      ثم تحدَّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن أحسن ولمن أساء، وكُلٌّ له عمله دون ظُلْم أو جَوْر.
      لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزّل من السماء ليوضح عبودية الإنسان لربه، وكيف يكون عبداً   التفاسير العظيمة  
    • تفسير الشيخ الشعراوي 6-5-4 سورة الاسراء   (وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) ٤-الإسراء { وَقَضَيْنَآ .. } [الإسراء: 4].
      أي: حكمنا حُكْماً لا رجعةَ فيه، وأعلنَّا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى.
      والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفَصْل لا بُدَّ له من قاضٍ مُؤهَّل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
      إذن: لا بُدَّ أن يكون القاضي مُؤهّلاً، ولو في عُرْف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميِّين لا يعرفون عن القانون شيئاً، لكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قَوْل الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضياً ويُحكّمونه فيما بينهم.
        ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لا بُدَّ له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على مَنْ أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه، ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة.
        وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمِّي عليه الأمر، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي، فيحوّل الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا.
      فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
        إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود، ولا يقدر أحد أنْ يُعمِّي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
        وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟!
      ففي الحديث الشريف: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له، فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار" .
      فردَّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إنْ عمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء.
        ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب: "استفتِ قلبك، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ، وإنْ أفتوْكَ" .
      قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مُميّزاً بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يُراجع نفسه ويتدبر أمره.
        وقوله: { فِي ٱلْكِتَابِ .. } [الإسراء: 4].
      أي: في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي: حكم عليهم حُكْماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلّغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أَيُنفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
      وإذا كان رسولهم - عليه السلام - قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأنْ يُطيعوا أمره.
      وقوله تعالى:
        { لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ .. } [الإسراء: 4].
      جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قَسَماً دَلَّ عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول: ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسَم لا يكون إلا بالله.
      أو نقول: إن المعنى: ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْماً مُؤكّداً، لا يستطيع أحد الفِكَاك منه، ففي هذا معنى القسَم، وتكون هذه العبارة جواباً لـ "قضينا"؛ لأن القسَم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى:
      { وَقَضَيْنَآ .. } [الإسراء: 4].
        فما هو الإفساد؟
      الإفساد: أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه، فكُلُّ شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللْتَ به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
      والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء .. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبْقِ الصالح على صلاحه.
      فمثلاً، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء، فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فلا تطمسها، وإما أنْ تزيدَ في صلاحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخُّه في مواسير لتسهِّل على الناس استعماله، وغير ذلك من أَوْجُه الصلاح.
      ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول: { { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. } [هود: 61].
      أي: أنشأكم من الأرض، وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم، فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأعمِلْ عقلك المخلوق لله ليفكر، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون، فأنت لا تأتي بشيء من عندك، فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك، ويُوفِّر لك الرفاهية والترقي.
        فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم، وزادوا الصالح صلاحاً، وكم فيها من مَيْزات وفَّرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان، فأخذوا هذه الفكرة، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية.
      وكما يكون الإفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوِّثات، كذلك يكون في المعنويات، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه، فكوْنُك لا تنفذ هذا المنهج، أو تكتمه، أو تُحرِّف فيه، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى.
        ويقول تعالى لبني إسرائيل:
      { لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ .. } [الإسراء: 4].
      وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
      والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هَيِّن، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى: مرتين؟
      تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام.
      فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدلّ ذلك على أن الإسلام تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم، فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين، ثم أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
        إذن: كان من الأوْلى أن يُفسِّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دَخْلَ للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول:
      { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } [الإسراء: 4].
      فإنْ كان الفساد مُطْلقاً. أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى - عليه السلام: { { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138].
                                               
      والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرَّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى: { { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ .. } [المائدة: 13].
      والذي لم ينسَوْهُ لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرَّفوه، كما قال تعالى: { { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ .. } [المائدة: 13].
      ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدَّى إلى أن أَتَوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى: { { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً .. } [البقرة: 79].
      فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟
        ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ .. } [البقرة: 246].
      فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضَوْه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصَّلوا منه ولم يقاتلوا.
      ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قويَتْ دولتهم، واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصَّر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
        وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للإسلام، والأَوْلى أن نقول: إنهما بعد الإسلام، وسوف نجد في هذا رَبْطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء.
      كيف ذلك؟
      قالوا: لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
        لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومَنْ عنده علم الكتاب، فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
      ويقول أحدهم: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لِمَا قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
      إذن: كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا مستشرفين لمجيئه، وعندهم مُقدِّمات لبعثته صلى الله عليه وسلم.
      ومع ذلك: { { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ .. } [البقرة: 89].
      فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
      في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفّى لهم رسول الله ما وفّوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وقتل منهم مَنْ قَتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [الحشر: 2].
      وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قَيْنقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ونصُّ الآية القادمة يُؤيِّد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام.       (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) ٥_الإسراء معلوم أن (إذَا) ظرف لما يستقبل من الزمان، كما تقول: إذا جاء فلان أكرمته، فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد، فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت، وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر.
      وقوله: { وَعْدُ }. والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى، وإنما بشيء مستقبل. و{ أُولاهُمَا } أي: الإفساد الأول.
      وقوله: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ .. } [الإسراء: 5].
      وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام؛ لأن كلمة { عِبَاداً } لا تطلق إلا على المؤمنين، أما جالوت الذي قتله طالوت، وبختنصر فهما كافران.
        وقد تحدّث العلماء في قوله تعالى: { عِبَاداً لَّنَآ .. } [الإسراء: 5].
      فمنهم مَنْ رأى أن العباد والعبيد سواء، وأن قوله (عِبَاداً) تُقَال للمؤمن وللكافر، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حَسْب زعمهم.
      ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 116-118].
      والشاهد في قوله تعالى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ .. } [المائدة: 118].
      فأطلق كلمة "عبادي" على الكافرين، وعلى هذا القول لا مانع أن يكون جالوت وبختنصر، وهما كافران قد سُلِّطا على بني إسرائيل.
      ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله: { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ .. } [الفرقان: 17].
      فأطلق كلمة (عباد) على الكافرين أيضاً.
        إذن: قوله تعالى: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ .. } [الإسراء: 5].
      ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين، فقد يكونون من الكفار، وهنا نستطيع أن نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم، ويُسلِّط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلّط عليه مَنْ هو أكثر منه ظلماً، وأشدّ منه بطشاً، كما قال سبحانه: { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الأنعام: 129].
      وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تُطلَق على المؤمنين وعلى الكافرين، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تُطلَق إلا على المؤمنين.
      ومن ذلك قوله تعالى: { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 63-67].
      إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفات المؤمنين الصادقين، فأطلق عليهم "عباد الرحمن".
      دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ .. } [الحجر: 42].
      والمراد هنا المؤمنون .. وقد قال إبليس: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 82-83].
        إذن: هنا إشكال، حيث أتى كُلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله، وللخروج من هذا الإشكال نقول: كلمة "عباد" و"عبيد" كلاهما جمع ومفردهما واحد (عبد). فما الفرق بينهما؟
      لو نظرتَ إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعاً لهم اختيارات في أشياء، ومقهورين في أشياء أخرى، فهم جميعاً عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر، إذن: كل الخَلْق عبيد فيما لا اختيارَ لهم فيه.
      ثم بعد ذلك نستطيع أن نُقسّمهم إلى قسمين: عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد، وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله. كيف ذلك؟
      لقد جعل الله تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار، فجعلك قادراً على الفِعْل ومقابله، وخلقك صالحاً للإيمان وصالحاً للكفر، لكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً.
      ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد، فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم، ويتنازلون عن مُرادهم إلى مُراد ربهم في المباحات، فتراهم يُنفِّذون ما أمرهم الله به، ويجعلون الاختيار كالقهر. ولسان حالهم يقول لربهم: سمعاً وطاعة.
      وهؤلاء هم العباد الذين سَلّموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار، فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عز وجل.
        إذن: كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الاختيار، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات.
      أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد الله، واستعملوا اختيارهم، ونسوا اختيار ربهم، حيث خَيَّرَهم: تُؤمن أو تكفر قال: أكفر، تشرب الخمر أو لا تشرب قال: أشرب، تسرق أو لا تسرق، قال: أسرق. وهؤلاء هم العبيد، ولا يقال لهم "عباد" أبداً؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة.
      ولكي نستكمل حَلَّ ما أشكل في هذه المسألة لا بُدَّ لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف؛ لأنها محل الاختيار، وفيها نستطيع أن نُمَيِّز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه، وبين العبيد الذين تمرَّدوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختياريات، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها.
      فإذا جاءت الآخرة فلا محلَّ للاختيار والتكليف، فالجميع مقهور لله تعالى، ولا مجالَ فيها للتقسيم السابق، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.
        إذن: نستطيع أن نقول: إن الكل عباد في الآخرة، وليس الكل عباداً في الدنيا. وعلى هذا نستطيع فهم معنى (عباد) في الآيتين: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ .. } [المائدة: 118].
      وقوله: { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ .. } [الفرقان: 17].
      فسمّاهم الحق سبحانه عباداً؛ لأنه لم يَعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه، فاستوَوْا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل.
        إذن: فقول الحق سبحانه: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ .. } [الإسراء: 5].
      المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظِلِّ الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلال ديارهم، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَنْ قتلوه، وسَبَوْا مَنْ سَبَوْه.
      وقوله: { أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ .. } [الإسراء: 5].
      أي: قوة ومنَعة، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة، بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل، وليس حال ضعفهم في مكة.
        وقوله سبحانه: { فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ .. } [الإسراء: 5].
      جاسُوا من جاسَ أي: بحث واستقصى المكان، وطلب مَنْ فيه، وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال الأمن "تمشيط المكان".
      وهو اصطلاح يعني دِقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر، حيث يتخلل المشط جميع الشعر، وفي هذا ما يدل على دِقّة البحث، فقد يتخلل المشط تخلُّلاً سطحياً، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.
      إذن: جاسُوا أي: تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفى عليهم أحد منهم، وهذا ما حدث مع يهود المدينة: بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، ويهود خيبر.
        ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله: { بَعَثْنَا .. } [الإسراء: 5].
      والبعث يدل على الخير والرحمة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق.
      وكلمة: { عَلَيْكُمْ } تفيد العلو والسيطرة.
      وقوله:{ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [الإسراء: 5].
      أي: وَعْد صدق لا بد أن يتحقق؛ لأنه وعد من قادر على الإنفاذ، ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنفاذ ما وعد به، وإياك أن تظن أنه كأي وَعْد يمكن أنْ يَفِي به صاحبه أو لا يفي به؛ لأن الإنسان إذا وعد وَعْداً: سألقاك غداً مثلاً.
      فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنفاذ، لكن قد يطرأ عليك من العوارض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به، إنما إذا كان الوعد ممَّنْ يقدر على الإنفاذ، ولا تجري عليه مِثْل هذه العوارض، فوعْدُه مُتَحقِّق النفاذ.
      فإذا قال قائل: الوعد لا تُقال إلا في الخير، فكيف سَمَّى القرآن هذه الأحداث: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ .. } [الإسراء: 5].
      قالوا: الوعيد يُطلَق على الشر، والوعد يُطلَق على الخير وعلى الشر، ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره، وهو خير في باطنه، وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده، إذا أراد الحق سبحانه أنْ يُؤدِّبَ هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه، فقد نرى أن هذا شر في ظاهره، لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم، إنْ حاولوا هم الاستفادة منه.
      ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره، فيقسو عليه حِرْصاً على ما يُصلحه، وصدق الشاعر حين قال: فَقَسَا لِيزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِماًفَلْيَقْسُ أَحْيَاناً على مَنْ يَرْحَمُ     (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً )٦-الإسراء الخطاب في هذه الآية مُوجَّه لبني إسرائيل، والآية تمثل نقطة تحوُّل وانقلاب للأوضاع، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين، وأن الله سلّطهم لتأديب بني إسرائيل، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر؛ لأن المسلمين تخلَّوْا عن منهج الله الذي ارتفعوا به، وتَنصَّلوا من كَوْنهم عباداً لله، فدارت عليهم الدائرة، وتسلّط عليهم اليهود، وتبادلوا الدور معهم؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات.
        ولا بُدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكُّب للطريق المستقيم، فانحلَّتْ الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين، وانقسموا دُوَلاً، لكل منها جغرافياً، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام، فانحلّتْ عنهم صِفَة عباد الله.
        فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كِفتهم وتخلَّوْا عن منهج ربهم، وتحاكموا إلى قوانين وضعية، فسلَّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم، فأصبحتْ الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ .. } [الإسراء: 6].
      و { ثُمَّ } حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومن ذلك قوله تعالى: { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس: 21-22].
      فلم يَقُل الحق سبحانه: فرددنا، بل { ثُمَّ رَدَدْنَا }. ذلك لأن بين الكَرَّة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله، وبين هذه الكَرَّة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً.
      فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكَرَّة لهم علينا في عام 1967، فناسب العطف بـ "ثم" التي تفيد التراخي.   والحق سبحانه يقول: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ .. } [الإسراء: 6].
      أي: جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لأنهم تخلوْا عن منهج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عباداً لله.
      و(الكَرَّة) أي: الغلبة من الكَرِّ والفَرِّ الذي يقوم به الجندي في القتال، حيث يُقِدم مرة، ويتراجع أخرى.
      وقوله تعالى: { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [الإسراء: 6].
      وفعلاً أمدّهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدّهم بالبنين الذين يُعلِّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
      ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرَّة على المسلمين، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين، ولا بُدَّ لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وهذا معنى قوله تعالى: { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [الإسراء: 6].
      فالنفير مَنْ يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندتْ اليهود وصادمتْ المسلمين.
      وما زالت الكَرَّة لهم علينا، وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنَّا، عباداً لله مُسْتقيمين على منهجه، مُحكِّمين لكتابه، وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء الله، كما ذكرتْ الآية التالية:
      { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ... }.     التفاسير العظيمة      
    • {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ○ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:٤٩-٥٠]   (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) إن شئت أن ترى عجائب ذلك فانظر إلى الزلازل التي تصيب مئات القرى، بل آلاف القرى، وبلحظة واحدة تعدمها! لو جاءت المعاول والآلات والقنابل، لم تفعل مثل فعل لحظة واحدة من أمر الله!ــ ˮمحمد بن صالح ابن عثيمين“     ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ كيف نترك من إذا قال: كن. كان النفاذ كلمح البصر ونلجأ إلى غيره؟!!     قال الله ﷻ :【 إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ 】 : -
      - 【 إذا استحكم البلاء وأقفلت الأبواب 】.
      - 【 فعلّق قلبك بالرجاء 】.
      - 【 فالله قادر على تحويل القدر بِـ " كـــن " 】. ــــ ˮأحمد عيسى المعصراوى     ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾
      ترقّب فرَجَ الله سيُفاجئك به في لحظة لم تخطُر بِبالك ثِقْ بالله فقَط ــــ ˮ     ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾
      كلُّ أمر الله في كونه كلَمح البصَر، فلا تستبعد فرَجًا ولا تستبطئ خيراً، فما يأذنُ الله به لا يمنعُه مانع ولا يردُّه رادّ.      ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾:
      باغلاق عينك قد يغير الله الدنيا من حال إلى حال فلا تستبعد بعد الضيق سعه ولا بعد العسر يسر ولا بعد الفقر غنى ولا بعد الضلال هداية واستقامة فلا راد لأمر الله ولا مانع لما أعطى، اللهم لا تمنع عنّا رحمتك.       {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ○ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:٤٩-٥٠]

      {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} كل شىء... حتى غيمة الحزن التي تمر بقلبك ، وفي كل شىء حكمة قد لاتنكشف لك الآن!!..

      من ضجر مما يصيبه لم يؤمن بهذه الآية الكريمة تمام الإيمان... فأين الصبر؟!.. وأين الرضا؟!.. وأين الإيمان بالقضاء والقدر؟!.. إعلم أن مخاوفك ، أحزانك ، وكل متاعبك هي بقدر لذا فهي لن تطول ، فاملأ قلبك بقين وامض مطمئن ، فكل أقدار الله خير...

      {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
      كل أمر الله في كونه كلمح البصر ، إن أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ، فلا تستبعد فرجاً ولا تستبطئ خيراً ، فما يأذن الله به لايمنعه مانع ولا يرده راد.. وكل شيء بإرادته و حكمته سبحانه . سلّم أمرك لله .  
    • تفسير الشيخ الشعراوي 2-3 سورة الاسراء (وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً)٢-الإسراء { وَآتَيْنَآ } أي: أوحينا إليه معانيه، كما قال تعالى: { { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ .. } [الشورى: 51].
      فليس في هذا الأمر مباشرة.
        و (الكتاب) هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم.
      والوَحْي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم.
      ومثال ذلك: الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل.
        فإن قال قائل: ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط؟
      نقول: لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله، فلا دَخْلَ لأحد فيه، ولا بُدَّ أنْ يظلَّ لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى.
      فالرسول صلى الله عليه وسلم أُوحِيَ إليه لَفْظُ ومعنى القرآن الكريم، وأُوحِي إليه معنى الحديث النبوي الشريف.
      والحق سبحانه يقول:
      { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ .. } [الإسراء: 2].
      فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده، بل لِيُبلِّغه لبني إسرائيل، وليرسمَ لهم طريق الهدى إلى الله سبحانه، وقال تعالى في آية أخرى: { { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [السجدة: 23].

      والهُدَى: هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه، وبأقلّ تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.
      ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله تعالى:
      { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } [الإسراء: 2].
      ففي هذه العبارة خلاصة الهُدى، وتركيز المنهج وجِمَاعه.
      والوكيل: هو الذي يتولَّى أمرك، وأنت لا تُولِّي أحداً أمرك إلا إذا كنتَ عاجزاً عن القيام به، وكان مَنْ تُوكِّله أحكمَ منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً.
      وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تِلْو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لِتولِّي أمرك والقيام بشأنك، فربما وَكَّلْتَ واحداً منهم ففاجأك خبر موته.
        إذن: إذا كنتَ لبيباً فوكِّل مَنْ لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور، يقول: { { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58].
      وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تتخذَ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويُبلِّغونك عن الله سبحانه.
      ولذلك الحق سبحانه يقول: { { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ .. } [الإسراء: 86].
      ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً، فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟
      وقد تحدث العلماء طويلاً في (أن) في قوله:
      { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } [الإسراء: 2].
      فمنهم مَنْ قال: إنها ناهية. ومنهم من قال: نافية، وأحسن ما يُقال فيها: إنها مُفسّرة لما قبلها من قوله تعالى:
      { وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى .. } [الإسراء: 2].
      ففسرت الكتاب والهدى ولخَّصتْه، كما في قوله تعالى: { { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [طه: 120].
      فقوله: { قَالَ يٰآدَمُ } تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان.
      ومثله قوله تعالى: { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ .. } [القصص: 7].
      (فأنْ) هنا مُفسِّرة لما قبلها. وكأن المعنى: وأوحينا إليه ألاَّ تتخذوا من دوني وكيلاً.
      أو نقول: إن فيها معنى المصدرية، وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول: عجبت أنْ تنجحَ، أي: من أنْ تنجح، ويكون معنى الآية هنا: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأنْ لا تتخذوا من دوني وكيلاً.   (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)٣-الإسراء (ذرية) منصوبة هنا على الاختصاص لِقصْد المدح، فالمعنى: أخصّكم أنتم يا ذرية نوح، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات؟
      ذلك لأننا نجَّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق، وحافظنا على حياتهم، وأنتم ذريتهم، فلا بُدَّ لكم أنْ تذكروا هذه النعمة لله تعالى، أنّ أبقاكم الآن من بقاء آبائكم.
      فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجَّى آباءهم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جَرَّبه آباؤهم، ووجدوا أن مَنْ يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله.
      ويقول تعالى:
        { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [الإسراء: 3].
      أي: أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويُجنّبهم الزَّلل والانحراف.
        ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله، فإذا توفّر له قوت عامه قال: أعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره، وتراه ينشغل بهم، ويُؤثِرهم على نفسه، ويترقّى في طلب الخير لهم، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
      ومع ذلك، فالإنسان عُرْضَة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد، فيقول تعالى: { { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء: 9].
        والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى الله تتعدَّى بركتها إلى أولادك من بعدك، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام - التي حكاها لنا القرآن الكريم.
      والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية، واستطعما أهلها فأبَوْا أنْ يُضيّفوهما، وسؤال الطعام يدل على صِدْق الحاجة، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكَنْزِه، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلا شكّ أنه صادق في سؤاله، فهذا دليل على أنها قرية لِئَام لا يقومون بواجب الضيافة، ولا يُقدِّرون حاجة السائل.
      ومن هنا تعجَّبَ موسى - عليه السلام - من مبادرة الخِضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلاء اللئام: { { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [الكهف: 77].
      وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر، ويُظهِر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام، فيقول: { { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ .. } [الكهف: 82].
      فالجدار مِلْك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام، ولأن أباهما كان صالحاً سخّر الله لهما مَنْ يخدمهما، ويحافظ على مالهما.
      إذن: فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً، فأكرمهم الله من أجله، وجعلهما في حيازته وحفظه.
      وهنا قد يسأل سائل: ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
      والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين، فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه.
      والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [الطور: 21].
      فكرامةً للآباء نلحق بهم الأبناء، حتى وإنْ قَصَّروا في العمل عن آبائهم، فنزيد في أجر الأبناء، ولا ننقص من أجر الآباء.
        وقوله: { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [الإسراء: 3].
      وشكور صيغة مبالغة في الشكر، فلم يقل شاكر؛ لأن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة، أما الشكور فهو الدائب على الشكر المداوم عليه، وقالوا عن نوح عليه السلام: إنه كان لا يتناول شيئاً من مُقوّمات حياته إلا شكر الله عليها. ولا تنعَّم بنعمة من ترف الحياة إلا حمد الله عليها، فإذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني من غير حول مني ولا قوة، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني من غير حول مني ولا قوة، وهكذا في جميع أمره.
        ويقول بعض العارفين: ما أكثر ما غفل الإنسان عن شكر الله على نعمه.
      ونرى كثيراً من الناس قصارى جَهْدهم أن يقولوا: بسم الله في أول الطعام والحمد لله في آخره، ثم هم غافلون عن نعم كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، تستوجب الحمد والشكر.
      لذلك حينما يعقل الإنسان ويفقه نِعَم الله عليه، ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة، تجده يعمل ما نُسميّه حَمْد القضاء مثل الصلاة القضاء أي: حمد الله على نعم فاتت لم يحمده عليها، فيقول: الحمد لله على كل نعمة أنعمتَها عليَّ يا ربّ، ونسيت أنْ أحمدَك عليها، ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه.
      وقد يتعدى حمدَ الله لنفسه، فيحمد الله عن الناس الذين أنعم الله عليهم ولم يحمدوه، فيقول: الحمد لله عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه، ولم يحمدك عليها.
      ولذلك يقولون: إن النعمة التي تحمد الله عليها لا تُسأل عنها يوم القيامة؛ لأنك أدَّيْتَ حقها من حَمْد الله والثناء عليه.
      والحمد والشكر وإنْ كان شكراً للمنعم سبحانه وثناء عليه، فهو أيضاً تجارة رابحة للشاكر؛ لأن الحق سبحانه يقول: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7].
      فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا.   التفاسير العظيمة
         
  • أكثر العضوات تفاعلاً

  • آخر تحديثات الحالة المزاجية

    • samra120 تشعر الآن ب غير مهتمة
  • إحصائيات الأقسام

    • إجمالي الموضوعات
      181944
    • إجمالي المشاركات
      2535178
  • إحصائيات العضوات

    • العضوات
      93137
    • أقصى تواجد
      6236

    أحدث العضوات
    أأم محمد
    تاريخ الانضمام

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×