اذهبي الى المحتوى
  • اﻹهداءات

    قومي بتسجيل الدخول أوﻻً لإرسال إهداء
    عرض المزيد

المنتديات

  1. "أهل القرآن"

    1. 57209
      مشاركات
    2. ساحات تحفيظ القرآن الكريم

      ساحات مخصصة لحفظ القرآن الكريم وتسميعه.
      قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" [صحيح الترغيب]

      109817
      مشاركات
    3. ساحة التجويد

      ساحة مُخصصة لتعليم أحكام تجويد القرآن الكريم وتلاوته على الوجه الصحيح

      9066
      مشاركات
  2. القسم العام

    1. الإعلانات "نشاطات منتدى أخوات طريق الإسلام"

      للإعلان عن مسابقات وحملات المنتدى و نشاطاته المختلفة

      المشرفات: المشرفات, مساعدات المشرفات
      284
      مشاركات
    2. الملتقى المفتوح

      لمناقشة المواضيع العامة التي لا تُناقش في بقية الساحات

      180500
      مشاركات
    3. شموخٌ رغم الجراح

      من رحم المعاناة يخرج جيل النصر، منتدى يعتني بشؤون أمتنا الإسلامية، وأخبار إخواننا حول العالم.

      المشرفات: مُقصرة دومًا
      56695
      مشاركات
    4. 259981
      مشاركات
    5. شكاوى واقتراحات

      لطرح شكاوى وملاحظات على المنتدى، ولطرح اقتراحات لتطويره

      23500
      مشاركات
  3. ميراث الأنبياء

    1. قبس من نور النبوة

      ساحة مخصصة لطرح أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و شروحاتها و الفوائد المستقاة منها

      المشرفات: سدرة المُنتهى 87
      8234
      مشاركات
    2. مجلس طالبات العلم

      قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع"

      32130
      مشاركات
    3. واحة اللغة والأدب

      ساحة لتدارس مختلف علوم اللغة العربية

      المشرفات: الوفاء و الإخلاص
      4160
      مشاركات
    4. أحاديث المنتدى الضعيفة والموضوعة والدعوات الخاطئة

      يتم نقل مواضيع المنتدى التي تشمل أحاديثَ ضعيفة أو موضوعة، وتلك التي تدعو إلى أمور غير شرعية، إلى هذا القسم

      3918
      مشاركات
    5. ساحة تحفيظ الأربعون النووية

      قسم خاص لحفظ أحاديث كتاب الأربعين النووية

      25483
      مشاركات
    6. ساحة تحفيظ رياض الصالحين

      قسم خاص لحفظ أحاديث رياض الصالحين

      المشرفات: ام جومانا وجنى
      1677
      مشاركات
  4. الملتقى الشرعي

    1. الساحة الرمضانية

      مواضيع تتعلق بشهر رمضان المبارك

      المشرفات: فريق التصحيح
      30256
      مشاركات
    2. الساحة العقدية والفقهية

      لطرح مواضيع العقيدة والفقه؛ خاصة تلك المتعلقة بالمرأة المسلمة.

      المشرفات: أرشيف الفتاوى
      52987
      مشاركات
    3. أرشيف فتاوى المنتدى الشرعية

      يتم هنا نقل وتجميع مواضيع المنتدى المحتوية على فتاوى شرعية

      المشرفات: أرشيف الفتاوى
      19530
      مشاركات
    4. 6678
      مشاركات
  5. داعيات إلى الهدى

    1. زاد الداعية

      لمناقشة أمور الدعوة النسائية؛ من أفكار وأساليب، وعقبات ينبغي التغلب عليها.

      المشرفات: جمانة راجح
      21004
      مشاركات
    2. إصدارات ركن أخوات طريق الإسلام الدعوية

      إصدراتنا الدعوية من المجلات والمطويات والنشرات، الجاهزة للطباعة والتوزيع.

      776
      مشاركات
  6. البيت السعيد

    1. بَاْبُڪِ إِلَے اَلْجَنَّۃِ

      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوالد أوسط أبواب الجنة فأضع ذلك الباب أو احفظه." [صحيح ابن ماجه 2970]

      المشرفات: جمانة راجح
      6306
      مشاركات
    2. .❤. هو جنتكِ وناركِ .❤.

      لمناقشة أمور الحياة الزوجية

      97008
      مشاركات
    3. آمال المستقبل

      "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" قسم لمناقشة أمور تربية الأبناء

      36838
      مشاركات
  7. سير وقصص ومواعظ

    1. 31793
      مشاركات
    2. القصص القرآني

      "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يُفترى"

      4883
      مشاركات
    3. السيرة النبوية

      نفحات الطيب من سيرة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم

      16438
      مشاركات
    4. سيرة الصحابة والسلف الصالح

      ساحة لعرض سير الصحابة رضوان الله عليهم ، وسير سلفنا الصالح الذين جاء فيهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.."

      المشرفات: سدرة المُنتهى 87
      15478
      مشاركات
    5. على طريق التوبة

      يقول الله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } طه:82.

      المشرفات: أمل الأمّة
      29721
      مشاركات
  8. العلم والإيمان

    1. العبادة المنسية

      "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ.." عبادة غفل عنها الناس

      31145
      مشاركات
    2. الساحة العلمية

      العلوم الكونية والتطبيقية وجديد العلم في كل المجالات

      المشرفات: ميرفت ابو القاسم
      12926
      مشاركات
  9. إن من البيان لسحرًا

    1. قلمٌ نابضٌ

      ساحة لصاحبات الأقلام المبدعة المتذوقة للشعر العربي وأدبه

      المشرفات: الوفاء و الإخلاص
      50492
      مشاركات
  10. مملكتكِ الجميلة

    1. 41314
      مشاركات
    2. 33909
      مشاركات
    3. الطيّبات

      ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ))
      [البقرة : 172]

      91746
      مشاركات
  11. كمبيوتر وتقنيات

    1. صوتيات ومرئيات

      ساحة مخصصة للمواد الإسلامية السمعية والمرئية

      المشرفات: ام جومانا وجنى
      32199
      مشاركات
    2. جوالات واتصالات

      قسم خاص بما يتعلق بالجوالات من برامج وأجهزة

      13116
      مشاركات
    3. 34854
      مشاركات
    4. خربشة مبدعة

      ساحة التصاميم الرسومية

      المشرفات: محبة للجنان
      65605
      مشاركات
    5. وميضُ ضوء

      صور فوتوغرافية ملتقطة بواسطة كاميرات عضوات منتدياتنا

      6120
      مشاركات
    6. 8966
      مشاركات
    7. المصممة الداعية

      يداَ بيد نخطو بثبات لنكون مصممات داعيـــات

      4925
      مشاركات
  12. ورشة عمل المحاضرات المفرغة

    1. ورشة التفريغ

      هنا يتم تفريغ المحاضرات الصوتية (في قسم التفريغ) ثم تنسيقها وتدقيقها لغويا (في قسم التصحيح) ثم يتم تخريج آياتها وأحاديثها (في قسم التخريج)

      12904
      مشاركات
    2. المحاضرات المنقحة و المطويات الجاهزة

      هنا توضع المحاضرات المنقحة والجاهزة بعد تفريغها وتصحيحها وتخريجها

      508
      مشاركات
  13. IslamWay Sisters

    1. English forums   (36903 زيارات علي هذا الرابط)

      Several English forums

  14. المكررات

    1. المواضيع المكررة

      تقوم مشرفات المنتدى بنقل أي موضوع مكرر تم نشره سابقًا إلى هذه الساحة.

      101648
      مشاركات
  • أحدث المشاركات

    • ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ١-فاطر   تعرضنا للسور التي بُدئت بالحمد لله، وهي: الأنعام، والكهف، وسبأ. وهنا في فاطر، والحمد في كل منها له معنى وله مناسبة؛ لأن الإنسان احتاج إلى إيجاد من عدم، ثم وسائل إبقاء في الحياة الدنيا، ثم احتاج إلى إيجاد بعد البعث، وأيضاً وسائل إبقاء في الآخرة.
        فسورة الكهف تعرضت لحمد الله على المنهج { { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ.. } [الكهف: 1]؛ لأن المنهج هو وسيلة الاستبقاء للإنسان، فلولا أن المنهج يُبيِّن للناس الحق والباطل لتفاني الخَلْق، وما استقامتْ لهم الحياة، أما سورة سبأ فتعرضت لحمد الله على نعمه في الدنيا وفي الآخرة.
      وهنا في فاطر: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر: 1]؛ فذكرتْ الحمد على وسائل الإبقاء كلها، المادي منها المتمثل في مُقوِّمات الحياة المادية، والمعنوي منها المتمثل في منهج الله.
        والحمد على إطلاقه لله تعالى، حتى إنْ توجه للبشر، فمردُّه إلى الله، لأنك حين تحمد البشر تحمده على شيء قدَّمه لك، هذا الشيء ليس مِنْ مِلْكه في الحقيقة، ولا من ذاته، إنما هو من فيض الله عليه، فهو مناول عن الله، وإنْ قدّم لك عملاً فإنما يقدِّمه بالطاقة التي خلقها الله فيه، وبالجوارح التي انفعلتْ بخَلْق الله فيه، إذن: فالحمد بكل صيغة راجع إلى الله تعالى.
        ثم يأتي بحيثية من حيثيات حَمْد الله، فيقول: { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1]ومعنى فاطر السماوات والأرض: خلقها ومُبدعها على غير مثال سابق يُحتذى به، وهذه مسألة تستحق الحمد؛ لأن الله تعالى كرَّم الإنسان الخليفة في الأرض، فسَوَّدهُ على سائر الأجناس وكرَّمه بالعقل الذي يختار بين البدائل.
      وبعد ذلك بيَّن سبحانه إنْ كان خَلْق الإنسان مُعْجزاً، وإن كان هو السيد المخدوم من جميع الأجناس، فإنَّ خَلْق السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس وأعظم؛ لذلك لما تكلم سبحانه عن حمد الله ذكر أكبر المخلوقات وأعظمها، وهي السماوات والأرض.
        والسماء هي كل ما علاك، لذلك تُطلق على السحاب، فهو السماء التي ينزل منها المطر، كما قال سبحانه { { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [القمر: 11] وليست هذه هي السماء المقابلة للأرض.
      والله تعالى يقول في خلق السماوات السبع: { { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [الملك: 3] يعني: ليس بها فتوق أو شقوق، فكيف إذن تنزل الملائكة ومسكنهم السماء، كيف ينزلون إلى الأرض؟
      قال الحق سبحانه وتعالى: { { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } [القدر: 4].
        الحق سبحانه يُقرِّب لنا وظيفة الملائكة، وأنها خاصة بالسماء صعوداً وهبوطاً، فقال في آية فاطر { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ } [فاطر: 1] فعملهم إذن في السماء، لكن كيف يَنْفُذون من السماء، وليس بها فتوق ولا شقوق، قالوا: ينفذون؛ لأن طبيعتهم الملائكية الشفافة تسمح لهم بذلك، فالإنسان مثلاً خُلِق من طين، والطين له جِرْم ومادة لا تمكنه أنْ ينفذ من شيء.
        أما الجن فقد خلقه الله من النار، وللنار أيضاً جِرْم ومادة، لكن ألطف وأشفّ من الطين؛ لذلك ينفذ الجن من الأشياء المادية، بدليل أنك لو جعلتَ مثلاً تفاحة خلف جدار، فإنك لا ترى شكلها، ولا تحسُّ طعمها ولا رائحتها، لكن لو أوقدتَ ناراً خلف هذا الجدار فإنك بعد قليل تُحِسُّ بحرارتها في الجهة الأخرى، وهكذا ينفذ الجن كما تنفذ الحرارة.
        أما الملائكة فهي أرْقى الأجناس وأعلاها، خلقها الله من نور، وهو ألطف وأشفّ من الطين ومن النار؛ لذلك لا يحتاج النور إلى منافذ، أرأيتم مثلاً الأشعة التي تخترق الجسم وتعطينا صورة كاملة لما بداخله كالقلب أو غيره؛ هكذا الملائكة تنفذ لا يحجزها شيء.
        وقوله سبحانه { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر: 1] الملائكة جنس من المخلوقات، قال الله عنهم: { { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 26-27] والملائكة أقسام: فمنهم العَالُون، وهم المهيَّمون في الله، ولا عملَ لهم إلا عبادته سبحانه، وهؤلاء لا يدرُونَ شيئاً عن هذا الكون، ولا صلةَ لهم به؛ لذلك لما أَبَى إبليس أنْ يسجد لآدم كما أمره الله، قال الله له: { { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص: 75].
      ومن الملائكة قسْم له علاقة بالإنسان، وهؤلاء هم الذين أُمِروا بالسجود لآدم، وكأن الله تعالى يقول لهم: هذا المخلوق هو الذي ستكونون في خدمته، ومنهم: المعقبات، كما قال سبحانه: { { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11] يعني: يحفظونه حِفْظاً صادراً من أمر الله، وإلا فالملائكة لا تمنع عن الإنسان أمراً قضاه الله عليه.
      إذن: حِفظهم لنا حِفْظ من باطن حِفْظ الله لنا؛ لذلك يقولون مثلاً (العين عليها حارس)، ونرى مثلاً من يسقط من الطابق الثالث أو الرابع، ولا يصيبه مكروه؛ لأن الله سبَّب له أسباب النجاة، وحفظته الحفظة.
      ومن هؤلاء المدبرات أمراً، الذين قال الله عنهم: { { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [النازعات: 5] وهم الذين يُدبِّرون أمور الخَلْق بأمر الله، ومنهم الكتبة الذين يكتبون الأعمال: { { كِرَاماً كَاتِبِينَ } [الانفطار: 11].
      هؤلاء الملائكة جعلهم الله { رُسُلاً } [فاطر: 1] إما إلى الرسل من البشر يحملون إليهم منهج الله، وإما رسلاً منه سبحانه لمهامهم التي تتعلق بهذا الكائن الإنساني. ثم وصفهم فقال: { أُوْلِيۤ } [فاطر: 1] أصحاب { أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [فاطر: 1] وهذا الوصف دلَّ على صلة الملائكة بالجو والسماء، ومهمة الصعود والهبوط، وهذه الأجنحة ليس لها نظام ثابت، بل منهم مَنْ له مثنى، ومَنْ له ثلاث، ومَنْ له رُبَاع، بل ويزيد الله في ذلك ما يشاء { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1].
      وكأن الخالق سبحانه يقول لنا: إنْ كنتم لم تروْا إلا جناحين للطائر، فلا تتعجبوا ولا تنكروا أنْ يكون للملَك أكثر من ذلك؛ لأنه خَلْق الله الذي يزيد في الخَلْق ما يشاء، والذي له سبحانه طلاقة القدرة، فخَلْق الله ليس عملية ميكانيكية أو قوالب تُصَبُّ على شكل واحد، وخَلْق الله ليس مخبزاً آلياً يُخرِج لك الأرغفة متساوية.
        وتتجلى طلاقة القدرة في الخلق منذ خَلْق الإنسان الأول آدم عليه السلام، فإنْ كانت مسألة التناسل تقوم على وجود ذكر وأنثى، ومن هذه جاءت جمهرة الناس، فطلاقة القدرة تخرق هذه القاعدة في كل مراحل القسمة العقلية لها، فالله خلق آدم عليه السلام من لا أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب.
      فما دام أن الذي يزيد في الخَلْق هو الله، فلا تتعجب ولا تُكذِّب حين تسمع الحديث النبوي، قال صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ جبريل وله ستمائة جناح" صَدِّق؛ لأنك لستَ مسئولاً عن الكيفية، إنما عليك أنْ تُوثق الكلام: صدر من الله أو لم يصدر، صَحَّ عن رسول الله أو لم يصح، كُنْ كالصِّدِّيق لمَّا حدثوه عن الإسراء والمعراج وقالوا: إن صاحبك يقول كذا وكذا، فقال الصِّديق: "إنْ كان قال فقد صدق".
      لذلك، فالذين يبحثون في عِلَل الأحكام عليهم أنْ يَدَعُوا البحث فيها، ويكفي أنْ يُوثِّقوا مصدرها، فإنْ كانت من الله فعلىَّ أن أفعل لمجرد أن الله أمرني بذلك، فَعِلَّة الحكم أن الله أمر به، فهمتُ حكمته أو لم أفهم.
      ونرى بعض العلماء يحرصون على استنباط الحكم من كل عبادة من العبادات، فيقولون مثلاً، شرع اللهُ الصومَ ليدرك الغنيُّ ألمَ الجوع، فيعطف على الفقير، وهذا يعني أن الفقير لا يصوم، فالأقرب أنْ تقول: أصوم؛ لأن الله أمرني بالصوم.
        فأنت مثلاً لا تسأل الطبيب لماذا كتب لك دواء كذا وكذا، بل تترك له هذه المهمة، وما عليك إلا أنْ تتناول الدواء، ولا يسأل الطبيب، ولا يناقشه في هذه المسألة إلا طبيب مثله، لكن هل هناك مُسَاوٍ لله فيسأله: لماذا فُرِض علينا كذا أو كذا؟
        فقوله سبحانه { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1] دليل على طلاقة القدرة التي لا يعجزها شيء، ومن طلاقة القدرة أنْ ترى الطويل والقصير، ولا تكاد تُفرِّق بين قامات الناس وهم جلوس؛ لأن منطقة الصدر والبطن متقاربة الطول، إنما تُفرِّق بينهم حال الوقوف؛ لأن معظم الطول في السيقان والأوراك؛ لذلك تنظر إلى رجلين وهما جالسان ترى طولهما واحداً، فإنْ قاما ظهر الفارق، وهذا يسمونه (الحبتر).
        من طلاقة القدرة اختلاف الخَلْق في الشكل، وفي اللون، وفي الطباع، وفي الذكاء؛ لذلك من وقت لآخر نرى طفلاً برأسين، أو بيد فيها ستة أصابع، أو دابة بخمسة أرجل، من طلاقة القدرة أن ترى هذا وسيماً معتدل الصورة، متناسق الأعضاء، كهؤلاء الذين تنطبق عليهم شروط القبول مثلاً في الكليات العسكرية أو البوليس، وترى آخر جبهته نصف وجهه، أو أنفه كذا وكذا .. إلخ، هذا جريء القلب، وهذا رعديد جبان، هذا فصيح اللسان، وهذا عَيى لا يكاد ينطق؛ لذلك يقول سبحانه { { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ .. } [الروم: 22].
      من طلاقة القدرة أنه سبحانه { { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [الشورى: 49-50].
        من طلاقة القدرة أنْ يؤلف الله سبحانه بين الأجناس المتباعدة تآلُفَ مصلحة وانتفاع، ففي السودان مثلاً بيئة تعيش فيها التماسيح، ورغم ما عرفناه من شراستها إلا أن الله ألَّف بينها وبين الطيور، فجمعتهم مصالح مشتركة: التمساح يخرج إلى البَرِّ ثم يفتح فَاهُ، فيأتي الطائر ويدخل فم التمساح، ويُنظف له أسنانه ويتغذَّى على بقايا طعام التمساح ويخلِّصه من الفضلات، فإذا أحسَّ الطائر بقدوم الصياد صوَّت ليحذر التمساح، فتسرع إلى الماء، سبحان الله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى.
      إنك تتعجب من طلاقة القدرة حين ترى عنق الزرافة أو الجمل، وعنق الدب مثلاً، فكُلٌّ له ما يناسبه.
      تذكرون أنه عندما تكلم العلماء عن الحواس، قالوا: الحواس الخمس. واحتاطوا للأمر وللزيادة فقالوا: الخمس المعروفة، وبالفعل عرفنا بعدها حواسَّ أخرى، كحاسة البَيْن التي نعرف بها مثلاً سُمك القماش، وعرفنا حاسَّة العَضل التي نعرف بها ثقل الأشياء.
      كما أن أعضاء الإنسان وحواسّه تؤدي مهمتها مع اختلافها من شخص لآخر، فنحن جميعاً نرى بالعين، ونسمع بالأذن، ونشُم بالأنف وهكذا، لكن ألم تسمع؛ فلان هذا يسمع دبة النملة، وروى لنا التاريخ عن شخصيات كانت ترى لمسافات بعيدة على غير المعتاد، هذا كله زيادة في الخَلْق، يختصُّ الله بها مَنْ يشاء.
      لذلك يقول الشاعر: سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الحُظُوظَ فَلا عتَابَ ولاَ مَلاَمَه
      أعْمى وأَعْشى ثُمَّ ذُو بَصَرٍ وزرْقَاء اليَمَامَه وزرقاء اليمامة يُضرب بها المثل في حِدة البصر، فيقولون: أبصر من زرقاء اليمامة.
      ويُلخِّص الشاعر قصة فتاة منحها الله هذه الزيادة في البصر، فقال: وَاحْكُمْ كحُكْمِ فَتَاةِ الحيِّ إذْ نظرَتْ إلى حمام شِراعٍ وَارد الثُّمَدِ
      قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد وكان عندها حمامة واحدة، فتمنَّتْ أنْ ينضم هذا السرب ونصفه إلى حمامتها، وبذلك سيكون عندها مائة: فَعَدوه فَألْفَوْهُ كما حكمَتْ سِتّاً وسِتِّين لَمْ تنقُصْ ولم تزد فتأمل هذه الفتاة تنظر إلى سِرْب الحمام وتعده، وتضيف إليه نصفه ثم تضيف حمامتها، فيكون لديها مائة حمامة، هذه قوة في البصر، وقوة في الملاحظة.
        كذلك حاسة الشم فيها عجائب مما يزيده الله في هذه الحاسة عند مَنْ شاء أن يزيده، والمثال الواضح لحاسة الشم وتمييز الروائح عند كلب البوليس مثلاً، وحاسة الشم قوية أيضاً عند الذين يبيعون الروائح والعطور، فأنت تقول رائحة طيبة، لكن قليل مَنْ يميز بين هذه الروائح، أما بائع الروائح فرغم امتلاء أنفه بهذه الروائح الطيبة إلا أنه لا يستطيع أن يُميِّزها فيقول لك: هذه رائحة ورد، وهذه رائحة فل، وهذه كذا، وهذه كذا، فإنْ خُلِط له عدة أنواع يقول لك: هذا مخلوط.
        أما سيدنا يعقوب عليه السلام فقد تميَّز في هذه الحاسة بصورة عجيبة، وتعلمون أنه ابتلي بفقد ولده يوسف - عليه السلام - حين رماه إخوته في البئر، وانتهى الأمر به إلى أنْ صار على خزائن مصر كلها، وجاءه إخوته يطلبون الميرة إلى أن أعطاهم قميصه ليجعلوه على وجه أبيه فيرتد له بصره، العجيب هنا أنه لما فصلت العير يعني: خرجت من مصر وعن حيزها السكاني لأن المنطقة السكنية تكثر الروائح فيها وتختلط، فلما خرجوا بقميص يوسف خارج المدينة، قال يعقوب عليه السلام - وهو آنذاك - بأرض فلسطين: { { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف: 94]، لأن في قميص يوسف شيئاً من رائحته.
        ومع تقدُّم العلم عرفنا أن الرائحة هي أقوى الآثار الدالة على الإنسان، وأن للرائحة بصمة كبصمة اليد أو بصمة الصوت؛ لذلك حتى في لغتنا العامية نقول (مش ح اخللي لفلان ريحه)، وكأن الرائحة هي آخر أثر يمكن أنْ يتبقَّى للإنسان في المكان.
        كذلك يزيد الله في الخلق مَا يشاء في حاسة الذوق، وبعض الناس حرفته وعمله أنه ذوَّاقة يذوق الطعام، ويزيد الله في الخَلْق ما يشاء في حاسة اللمس، وكلنا رأى الصراف في البنك بمجرد أنْ تلمس أصابعه العملة يعرف جَيِّدها من زائفها.
        كل هذه المعاني نفهمها من قوله تعالى: { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1] ثم تختم الآية بما يُطمئِن القلوب إلى هذه الطلاقة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فاطر: 1] هذه هي العلة، يعني: لا تتعجب، فهي قدرة الله التي لا يُعجزها شيء، وشيء هذه تعد جنس الأجناس؛ لأنها تشمل من الذرَّة إلى المجرَّة، وهو سبحانه يقول للشيء كُنْ فيكون، فكأنه موجود في علم الغيب ينتظر الأمر بأن يظهر.
      وبعضهم قال: (يَزِيدُ في الحَلْق) بالحاء، والمراد: جمال وعذوبة الصوت؛ لأن الصوتَ وسيلةٌ لنقل خواطر المتكلم إلى السامع، وهذه يكفي لها أيُّ صوت، فإنْ كان الصوت جميلاً عَذْباً، فهذه زيادة وفضل من الله.
      ومن أغرب ما رواه لنا تاريخ العرب، ويُعَدُّ دليلاً على الزيادة في الخَلْق، والمواهب التي يختصُّ الله بها مَنْ يشاء ما رُوى عن نزار ابن معد بن عدنان، وقد رزقه الله أربعة من الأولاد هم: مُضَر. ومن قبيلته جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربيعة، وإياد، وأنمار، فلما أحسَّ نزار بدُنُوِّ أجله جمع أولاده الأربعة وقال لهم: أريد أنْ أدلَّكم على تركتكم مني قبل أن أموت: القبة الحمراء لمضر، والفرس الأسود والخباء الأسود لربيعة، والشمطاء لإياد، ومجلس القوم وندّيه لأنمار. وإنِ اختلفتم فاذهبوا إلى الأفعى الجرهمى بنجران يُفسِّر لكم كلامي.
      فلما مات نزار اختلف أولاده، فذهبوا إلى الأفعى الجرهمى، وهم في طريقهم إلى نجران - وكانت من أرض اليمن - رأى مُضَر في ناحية الطريق مرعىً رعَتْ فيه إبل، وفي الجانب الآخر مرعى أحسن منه لم يُمَسّ، فقال: إن الجمل الذي رعى هنا أعور. فقال ربيعة: وهو أزور يعني: أعرج. وقال أنمار: هذا الجمل أبتر يعني مقطوع الذيل. وقال إياد: وإنه لشرود.
      وبينما هم على هذه الحال قابلهم رجل ينشُد بعيره يقول: هل رأيتم بعيراً شرد مني؟ فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، قال: وأزور؟ قال: نعم، قال: وأبتر؟ قال: نعم، قال: وشرود؟ قال: نعم، هو شرود، وأنتم أخذتموه، فاحتكموا إلى الأفعى الجرهمى، لأنهم كانوا على مقربة من نجران، فلما سألهم قالوا: ما أخذنا الجمل.
      فقال: إذن كيف وصفتموه لصاحبه هذا الوصف؟ قال مُضَر: لما رأيتُه رعى جانباً دون الآخر عرفتُ أنه أعور، وقال ربيعة: لما رأيتُ أثر خُفِّه على الأرض وجدت اليُمْنى سليمة البصمة على الرمال، والأخرى غير ذلك، فعرفتُ أنه أَزْور، وقال إياد: رأيت بَعْره في مكان واحد، فعرفت أنه أبتر، ولو كان له ذيل لفرَّق بَعْره هنا وهناك، فقال أنمار: لما رأيتُه يأكل من أماكن متفرقة عرفْتُ أنه شرود. فقال الأفعى الجرهمى: خَلُّوا سبيلهم، فتلك فراسة يهبها الله لمن يشاء.
      ثم سألهم: مَنْ أنتم؟ فقالوا: نحن أولاد نزار بن معد بن عدنان، وقد أوصانا أبونا إذا اختلفنا أنْ نحتكم إليك، ثم قَصُّوا عليه مقالة أبيهم، فقال: القبة الحمراء التي لمضر. أعطوه كل شيء أحمر كالدنانير والنُّوق الحمر؛ لذلك سُمِّيت مضر الحمراء بعد أن صار مُضَر عَلَماً على القبيلة.
      وقال: والفَرَس الأدهم والخباء الأسود لربيعة يعني: أعطوه كل شيء فيه سواد، والشمطاء لإياد: أعطوه رُذَال المال و (المدعبلات) من الغنم. أما أنمار فله الفضة البيضاء والمجلس.
      وبعد أن فسَّر لهم وصية أبيهم أراد أنْ يكرمهم، فأمر كهرمانه أن يذبح لهم ذبيحة، ويُعد لهم طعاماً وشراباً، وعلى مائدة الطعام جلسوا يتحدثون، وهو يتأمل فراستهم، فقال ربيعة: ما رأيتُ أطيب من هذا اللحم، لولا أن أمه غُذِّيَتْ بلبن كلبة، فلما شربوا من الشراب قال مُضَر: شراب طيب لولا أنْ كَرْمته زُرِعت على قبر، ثم قال أنمار: هذا الرجل من سَرَاه القوم وهو سيد، إلا أنه ليس ابن أبيه، فقال إياد: والله ما رأينا كلاماً أحسن من كلامنا بعضنا مع بعض.
      ثم قام الأفعى الجرهمى واستدعى الراعي الذي ذبح لهم الشاة، وسأله: ما هذه الشاة التي ذبحتَها لنا؟ فقال له: ماتت أمها بعد ولادتها، ولم يكُنْ عندنا شياه مرضعة، فأرضعتُها من كلبة، ثم سأل كهرمانة عن الشراب فقال: هو من العنبة التي زرعْتَها على قبر أبيك، فلم يَبْق إلا أنْ يسأل عن نسبه إلى أبيه، فذهب إلى أمه وقال لها: يا أمي، أخبريني مَنْ أنا؟ ومَنْ أبي؟ فأحسَّتْ الأم أنه سمع شيئاً فقالت له: لقد كان أبوك مَلِكاً مطاعاً، وذا نعمة ومال، إلا أنه لم ينجب، فخشيتُ أنْ يذهب هذا الملْك وهذا المال إلى غيره، فحدث ما حدث.
      عندها عاد إلى ضيفانه وقال لهم: لم تعودوا فى حاجة إليَّ، وإنما يصبح الناس جميعاً في حاجة إليكم. فإنْ سألتَ الآن: وكيف عرف هؤلاء ما عرفوا؟ نقول: إنها فراسة وقوة وملاحظة تدخل تحت هذه الآية { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ }   التفسير  العظيمة  
    • تفسير الشيخ الشعراوى سورة سبأ ٥١-٥٤   (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) سبأ٥١ قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَىٰ } [سبأ: 51] أسلوب شرط ورد عدة مرات في القرآن الكريم، وتلحظ أن السياق لم يذكر له جواباً، واقرأ: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [سبأ: 31]. { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا .. } [الأنعام: 27].
        فالجواب هنا محذوف؛ لأنه معلوم من السياق، فالتقدير هنا: ولو ترى يا محمد إذ فزعوا يوم القيامة أرأيتَ شيئاً عظيماً وأمراً عجيباً يريح قلبك، وينتقم لك جزاءَ ما كذَّبوك وعاندوك، وقد ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: { { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 36].
      فالذين طغَوْا وتجبَّروا في الدنيا، وصادموا كلمة الحق، وكانوا عُتَاة وفراعنة تراهم في الآخرة حين يصيبهم فزعها (بسابس) قططاً وأرانب.
        ومعنى { فَلاَ فَوْتَ } [سبأ: 51] لا مهربَ ولا نجاةَ لهم؛ لأن الإنسان قد يفزع ويخاف من شيء، لكن يستطيع الهرب منه، أو ربما ينقذه أحد، أما هؤلاء فسوف يفزعون دون منقذ ودون مهرب ولا مفر، وهذا يشفي صدرك وصدور المؤمنين الذين أوذوا معك في سبيل نشر دعوة الحق.
      فكما وقفوا في وجه دعوة الله سيقفون يوم القيامة موقفَ الذلة والمهانة، وتأمل: { { مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [سبأ: 31] { { وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } [الأنعام: 27] { { وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } [الأنعام: 30] يعني: ينتظرون أنْ يُؤذَن لهم ليرَوْا ماذا سيقول شفعاؤهم الذين عبدوهم من دون الله، لكن يُفاجأون بأن شفعاءهم وكبراءهم يسبقونهم إلى النار، ويتقدمونهم إلى العذاب كما تقدَّموهم في الضلال.
      لذلك يقول سبحانه: { { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } [مريم: 69] وقال عن فرعون: { { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [هود: 98].
        وهكذا يُيئِّسهم الله من النجاة؛ لأنهم كانوا ينتظرون هؤلاء الشفعاء وهؤلاء الرؤساء ليدافعوا عنهم، فإذا بهم يتقدمونهم إلى العذاب.
      وهذه الوقفات التي ذكرناها للكفار يوم القيامة، كل وَقْفة منها لها ذلة، وكل وَقْفة لها فزعة، وكل وقفة عذابٌ في حدِّ ذاتها، وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه: لو رأيت وقفاتهم وفزعهم لَشَفى غليلك، ولعلمتَ أننا استطعنا أنْ نجازيهم بما يستحقون.
        وسبق أنْ مثَّلْنا لهذا الموقف بواحد (فتوة) أو (فاقد) يُذِل أهل بلده ويُخيفهم، فالكل يخافه ويجامله ويتقي شرَّه، وفي إحدى المرات قبضتْ عليه الشرطة وساقوه في السلاسل، فترى أهل البلدة فرحين يتغامزون به، ونسمع فعلاً في مثل هذا الموقف مَنْ يقول (لو شفتْ اللي حصل لفلان)، والمعنى: رأيتَ أمراً عجيباً لا يُتخيَّل في الذهن.
      ومعنى: { وَأُخِذُواْ } [سبأ: 51] أُهْلِكوا { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [سبأ: 51] هو موقف القيامة ومكان الحساب، يعني: لم يترك لهم الحق سبحانه بحبوحة، إنما أخذهم من الحساب إلى النار.     (وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)٥٢-سبأ سبحان الله، فبعد أنْ فعلوا برسول الله وأتباعه ما فعلوا، وبعد أنْ فَزِعوا وحاق بهم العذاب يعلنون الإيمان ويقولون { آمَنَّا بِهِ } [سبأ: 52] وما أشبه هذا بإيمان فرعون لما أدركه الغرق { { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [يونس: 90] فردَّ الله عليه { { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [يونس: 91] يعني: هذا وقت لا ينفع فيه إيمان.
        وهنا يردُّ الحق عليهم إيمانهم، فيقول: { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ } [سبأ: 52] أي: تناول الإيمان { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ: 52] كلمة (أنّى) يعني: كيف لهم الإيمان الآن، وهم في موقف الموت أو البعث، فقد كان الإيمان قريباً منهم في الدنيا، أما الآن أبعد ما يكون عنهم.
        لذلك استخدم السياق أداة الاستفهام (أنّى) ولها معنيان: بمعنى كيف الدالة على التعجُّب يعني: هذا أمر غريب وعجيب منهم، وتأتي (أنّى) بمعنى من أين كما جاء في قول سيدنا زكريا للسيدة مريم: { { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران: 37].
      يعني: من أين لك هذا الرزق؟ لذلك ينبغي لولي الأمر أن يتعلَّم من هذه الآية إذا رأى عند أهله شيئاً لم يأتِ لهم به أن يسألهم من أين جاءوا به، وكيف وصل إلى بيته، وهذا احتياط واجب؛ لأن هذا الشيء قد يكون تسللاً أو استمالة إلى معصية.
      وترد السيدة مريم على هذا السؤال { { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [آل عمران: 37] ثم تذكر حيثية ذلك { { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] يعني: إياك أنْ تحسب المسائل بقدرتك، فتقول: من أين أتتك فاكهة الصيف في الشتاء، أو فاكهة الشتاء في الصيف؟ لأن هذا عطاء الله وقدرته.
      وكأن هذا القول من السيدة مريم قد نبّه سيدنا زكريا إلى قضية غفل عنها، فهزَّتْه هذه الكلمة { { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37].
      عندها قال في نفسه إذن: لماذا لا أدعو الله أنْ يرزقني الولد بعد أن بلغْتُ من الكِبَر عتيّاً وامرأتي عاقر، فعطاء الله لا يخضع للأسباب { { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } [آل عمران: 38].
      وهكذا استفاد سيدنا زكريا من هذه القضية العقدية التي نبهته لها السيدة مريم، وفعلاً استجاب الله له وأعطاه ولداً، بل أكَّد ذلك بأنْ سَمَّاه له { { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39].
        وهذا تسجيل للبُشْرى وتأكيد لها، ومن ذلك ما رُوي عن سيدنا أبي بكر، فقبل أنْ يموت أوصى السيدة عائشة بخصوص الميراث من بعده، فقال لها: إنما هما أُختاك وأخَواك. في وقت لم يكُنْ لها إلا أخوان هما: عبد الرحمن ومحمد، وأخت واحدة هي السيدة أسماء، لكن بعد موت الصِّدِّيق ولدتْ زوجته بنت خارجة بنتاً فصدقتْ وصية الصِّديق، وهو - رضي الله عنه - لم يكُنْ علم الغيب، إنما عُلِّم، وأنطقه الله بذلك، لأنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله، فلا احد يعلم ما في الأرحام بذاته، إنما يُعلَّم من الله.
        وقد ورد عن سيدنا رسول الله أنه قال لأهل المدينة: "المحيا مَحْياكم، والممات مماتكم" فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه سيموت في المدينة، والله تعالى يقول: { { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [لقمان: 34].
      فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يعلم غيباً، إنما عُلِّم الغيب من علاَّم الغيوب سبحانه؛ لذلك لا نقول فلان عالم غيب، إنما مُعلَّم غيب.
      لذلك كثيراً ما نرى بعض أهل الصلاح أو الذين كشف الله عنهم الحجاب يرى السيدة الحامل فيقول لها سَمِّ هذا الولد محمداً، وفعلاً تلد ولداً، وتسميه محمداً، هذا تسجيل للبُشْرى وإلهام من الله وتعليم لمن اختارهم الله لهذا العلم.
        والناس حين يُسمون يختارون الاسم الذي يُتفَاءل به، فيقولون: سعيد، ذكي .. إلخ تفاؤلاً أن يكون الولد بالفعل سعيداً أو ذكياً، لكن أتملك أن يكون الاسم على مُسمَّاه؟ لا لا أحد يملك أنْ يكون ولده كما يريد، لكن إذا كان المسمِّى هو الله سبحانه فهو وحده القادر على تحقيق المسمَّى.
      لذلك لما وهب لسيدنا زكريا الولد وسماه (يحيى) لم يفطن الناس إلى هذه التسمية، وأنها من الله تعني أن هذا الولد سيحيا ولا يموت، فالله سماه يحيى ليحيا، وفي هذه التسمية إشارة إلى أنه سيموت شهيداً، فتتصل حياة الدنيا بحياة الشهادة، ولو فطن قَاتِلوه إلى هذا المعنى ما قتلوه.
        لذلك لما ذهبنا لزيارة قبر سيدنا حمزة قلنا هناك: أَحَمْزةَ عَمّ المصْطَفى أنتَ سَيِّدٌ على شُهَداء الأرْضِ أجمعِهمْ طُرّا
      وحَسْبُكَ من تِلْكَ الشهادةِ عِصْمةٌ من الموْتِ في وَصْل الحيَاتَيْن بالأُخرى وهذه القضية العقدية التي استفاد منها سيدنا زكريا فطلب من الله الولد، استفادت منها السيدة مريم بعد ذلك حين حملت بلا ذكورة، فتذكرت { { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] فاطمأن قلبها.
        فكلمة (أنَّى) في قوله تعالى: { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ: 52] هى بمعنى كيف، ومثلها قول السيدة مريم لما بُشّرت بعيسى: { { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [مريم: 20].
      ومثل قوله تعالى: { { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } [البقرة: 259] فالسؤال هنا عن كيفية الإحياء، وهي مسألة لا تُقال إنما تُشَاهد، ألم نقرأ قول سيدنا إبراهيم: { { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260].
      وللمستشرقين اعتراض على هذه الآية. يقولون: كيف يخاطب الله أبا الأنبياء إبراهيم ويقول له: { { أَوَلَمْ تُؤْمِن } [البقرة: 260] ويقول هو { { بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260]، وهل الإيمان إلا اطمئنان قلب إلى عقيدة ما؟
      ونقول: الإيمان خلاف الاطمئنان هنا، فالإيمان بأن الله يحيى الموتى موجود عند إبراهيم، فهو لم يسأل: أيوجد إحياء للموتى من الله أم لا يوجد؛ لأنه يؤمن بقدرة الله على إحياء الموتى، إنما يسأل عن كيفية ذلك، فالاطمئنان المقصود على الكيفية، بدليل أن الله تعالى أظهر له آية عملية وتجربة حسِّية في مسألة ذبح الطير؛ لأن الكيفية كما قلنا لا تُقَال إخباراً إنما تُشَاهد.
      فالحق سبحانه ينكر على الكفار تناولهم للإيمان في هذا الوقت { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ: 52] التناوش تناول الشيء بيُسْر، وهم يريدون تناول الإيمان في آخر لحظة، وبعد فوات أوانه وضياع فرصته، يريدون إيماناً بلا تكاليف، وأنَّى لهم ذلك، وهم أبْعد ما يكونون عن الإيمان، لأن محل الإيمان في الدنيا، فهذا القول منهم أشبه بقول أصحابهم الذين قالوا: { { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } [فاطر: 37].     (وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)٥٣-سبأ يعني: عرض عليهم الإيمان وهم في بحبوحة الدنيا وسعتها، فكفروا به، والدنيا هي محلُّ الإيمان ومحلُّ التكاليف والأوامر والنواهي، فلما وقفوا موقف الموت أو البعث تمنَّوا الإيمان وقالوا آمنا وهم في هذا { يَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ: 53] يعني: يتكلمون بالظن فيما لا عِلْم لهم به، يريدون أنْ يصلوا إلى غرضهم، وهو أنْ ينجوا من العذاب، لكن يأتي هذا القذف بالظن أيضاً من مكان بعيد، يعني في غير محله، وفي غير وقته، والقرآن هنا أثبت لهم قَذْفاً، كما أثبت للحق سبحانه قَذْفاً { { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } [سبأ: 48]، لكن شتَّان بين الاثنين.
      قذف هؤلاء من مكان بعيد، والقَذْف من بعيد قَذْف لا يصيب الهدف، وهم في قَذْفهم لا يعلمون الغيب، ولا يعلمون المؤثرات التي تؤثر على المقذوف، أما الحق سبحانه فيقذف وهو سبحانه علاَّم الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شيء.   (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ٥٤-سبأ نقول: حُلْتُ بين الخصمين يعني: فصلْتُ بينهما، وجعلتُ بينهما حائلاً ومانعاً من الاشتباك حتى لا يبلغ كل منهم أشُدَّه في المعركة، أو ينال مراده من خَصْمه، فالحق - سبحانه وتعالى - جعل حائلاً ومانعاً بين هؤلاء وبين ما يشتهون.
      والاشتهاء طلب شهوة النفس من غير ارتباط بمنهج، لكن ما الذي كان يشتهيه الكفار؟ كانوا يشتهون أنْ يطمسوا دعوة الحق، فلم يُمكِّنهم الله من طمسها، كما قال سبحانه: { { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [التوبة: 32].
      وقال سبحانه: { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9].
      وهم يشتهون انطماس الدعوة؛ لتبقى لهم سيادتهم التي نهبوها على حساب الضعفاء، ولتظل لهم المكانة والتصرُّف، كذلك يَشْتهون انطماس الدعوة حتى لا تقف مناهج الله عقبة أمام شهوات نفوسهم.
      ومعلوم أن الإنسان تحاربه نفسه قبل أن يحاربه الشطيان، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: "إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين" ومع ذلك تحدث في رمضان ذنوب وجرائم. إذن: هذه الذنوب وهذه الجرائم ليست عن طريق الشيطان، إنما من طريق النفس، كأن الله تعالى يريد أنْ يفضح العاصين الذين يتهمون الشيطان، ويُلْقون عليه تبعة كل ذنوبهم. إذن: ليس الشيطان وحده هو وسيلة الضلال والغواية، إنما هناك النفس الأمَّارة بالسوء.
        وسبق أنْ أوضحنا كيفية التفريق بين المعصية من طريق الشيطان والمعصية من طريق النفس، وقلنا: إذا وقفْتَ أمام معصية بعينها لا تتحول عنها مهما عَزَّتْ عليك أسبابها، فاعلم أنها من شهوات النفس؛ لأن النفس تريد شيئاً بعينه، أما الشيطان فإنْ عزَّت عليك معصية أخذك إلى أخرى، المهم أن تعصي الله على أيِّ وجه، وبأية طريقة.
        فقوله تعالى: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ: 54] دلَّ على أن المسألة بالنسبة لهم كانت شهوةَ نفس، لا مدخلَ للشيطان فيها، لماذا؟ لأنهم كفروا بالله وفرغ الشيطان منهم، وإلا ماذا يريد منهم بعد ذلك، فلم تَبْقَ إلا شهوات النفس فاشتهوا أنْ يطمسوا الدعوة، وأنْ يذلوا مَنْ آمن ويجعلوه عبرةً لمن يفكر في الإيمان، لكن حال الله بينهم وبين ما أحبوا، وسارت الدعوة على خلاف ما اشتهوا، فمن ذُلَّ وضُرب وأُهين من المؤمنين ثبت على إيمانه، ومَنْ كان يفكر في الإيمان لم يَرْهَبَهُم، ولم يخف مما فعلوه بإخوانه المؤمنين.
        فإنْ قلت: كيف أسلم اللهُ المؤمنين الأوائل لأنْ يعذبهم الكفار، وأنْ يُهينوهم ويُخرجوهم من أرضهم؟ نقول: كان هذا لحكمة عالية أرادها الحق سبحانه، وهي أنْ يُمحِّص إيمان المؤمنين، بحيث لا يثبت على إيمانه إلا قوى العزيمة الذي يصبر على تحمل الشدائد، فهؤلاء هم الذين سيحملون منهج السماء ودعوة الحق إلى العالم أجمع، فلا بد أن يكونوا صفوة تختار دين الله وتضحي في سبيله بكل غالٍ ونفيس.
      لذلك أراد سبحانه أنْ تتزلزل هذه الدعوة في بدايتها عدة مرات، وأن ترى بعض الفتن التي تُغربل الناس، وتُخرِج المؤمنين في جانب، والمنافقين في الجانب الآخر، وهذا ما حدث بالفعل في مسألة الإسراء والمعراج مثلاً، وفي رحلة الطائف، كلها فِتن تُمحِّص المؤمنين.
      لقد ضيَّق الكفارُ على المؤمنين الخناقَ، حتى جلس رسول الله يفكر في أمرهم ويفتش في رقعة الأرض المعاصرة له، أيها تناسب أصحابه، ويأمنون فيها على أرواحهم وعلى دينهم، فلم يجد صلى الله عليه وسلم إلا الحبشة، فقال لأصحابه: "اذهبوا إلى الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظْلم أحد عنده" .
      وفعلاً كان النجاشي عند ظن رسول الله، فأكرم المؤمنين، ورفض أنْ يُسَلِّمهم إلى وفد قريش؛ لذلك كافأه رسول الله بأنْ وكله في أن يُزوِّجه من أم حبيبة، وكانت لهذه الزيجة حكمة، فالسيدة أم حبيبة هاجرت مع زوجها إلى الحبشة، لكنه تنصَّر هناك، وظلَّتْ أم حبيبة على إيمانها، فدلَّ ذلك على صدْق إيمانها، وأنها ما هاجرت لأجل زوجها، إنما هاجرت لله ورسوله، فكافأها رسول الله هذه المكافأة.
        فالكفار اشتهوا إيذاء رسول الله وإيذاء المؤمنين مجاهرةً، فلم يصلوا من ذلك إلى شيء، فاشتهوا التآمر على رسول الله وقَتْله، ودبروا له مؤامرة لقتله { { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [الأنفال: 30] فخيَّب الله سَعْيهم، "وخرج رسول الله من بين شبابهم وفتيانهم، وهو يحثُو التراب على وجوههم، ويقول: شاهت الوجوه" .
      والله يقول: { { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يس: 9].
        وهكذا حالَ الله بينهم وبين ما يشتهون من المجاهرة ومن المؤامرة، فحاولوا أنْ يسحروا رسول الله، بأن يكيدوا له بطريقة خفية فَسَحره لبيد بن الأعصم، واستعانوا في ذلك بإخوانهم من شياطين الجن، كما قاله سبحانه: { { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ } [الأنعام: 121] لكن خيَّب الله مَسْعاهم في السحر أيضاً، ولم ينالوا من رسول الله، ولا من منهج الله، وكأن الله تعالى يقول لهم: وفِّروا على أنفسكم، فرسول الله معصوم من الله، كما خاطبه سبحانه بقوله: { { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67].
        وقوله سبحانه: { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } [سبأ: 54] يعني هذه القضية ليست خاصة بكفار مكة، إنما هي سنة مُتبعة في الأمم السابقة، ومعنى { بِأَشْيَاعِهِم } [سبأ: 54] بأمثالهم من الكفار في الأُمم السابقة.
      والأشياع: جمع شيعة، وهم الجماعة المجتمعة على رأي ينتفعون به، ويدافعون عنه، سواء أكان حقاً أم كان باطلاً، فقوله تعالى هنا: { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } [سبأ: 54] دلَّ على أنهم كانوا على باطل، أما قوله تعالى: { { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } [الصافات: 83] فهذه على الحق.
      والمعنى: أنهم أُخِذوا كما أُخِذ أمثالهم من الكافرين مع الفارق بين الحالتين، فقبل رسول الله كانت السماء تتدخل مباشرة لتدافع عن دين الله وعن نبي الله؛ لذلك حدثتْ فيهم الزلازل والخسْف والصيحة والمسخ .. إلخ.
        فالأمم السابقة لم تكُنْ مأمونة على أنْ تدفع عن دين الله بسيفها، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد استأمنها الله على هذه المهمة، فحملتْ السيف ودافعتْ عن دينها؛ لذلك أكرم الله هذه الأمة، فلم يحدث فها خَسْف، ولا مَسْخ ولا إغراق. مما حدث لسابقيهم.
      لذلك لما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه دعا عليهم: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 26-27].
        أما سيدنا رسول الله فجاءه الملَك يعرض عليه الانتقام من كفار قومه، فيقول: لا، لعل الله يُخرِج من أصلابهم مَنْ يقول لا إله إلا الله. وفعلاً آمن منهم كثيرون أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، كما كانوا ألدَّ أعداء الإسلام صاروا قادته الفاتحين.
      وقد تألم المسلمون كثيراً؛ لأن هؤلاء نجوْا من القتل، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدخرهم للإسلام، فصار خالد سيف الله المسلول، وعمرو أعظم القادة الفاتحين، ويكفي شهادة لعكرمة أنه ابن أبي جهل، وأنه لما ضُرِب ضربة قوية في موقعة اليرموك احتضنه خالد وهو يعاني سكرات الموت، فقال: يا خالد، أهذه ميتة تُرضي عني الله ورسوله؟
      حتى الذين ظلُّوا على كفرهم من قوم رسول الله كانوا في صالح الإسلام، فمثلاً أبو لهب وهو عم رسول الله، وهو الذي قال له: تباً لك، ألهذا جمعتنا، وهو الذي قال عن رسول الله لما مات ولده إنه أبتر يعني مقطوع الذرية، لأن أولاد البنات يُنسَبون إلى آبائهم، كما قال الشاعر: فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ القَومِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وللأَحْسَابِ آبَاءُ   ومن العجيب أن أبا لهب قدَّم للإسلام كما قدَّم خالد وعمرو وربما أكثر، كيف؟ لأن الله جعله حجة على صِدْق كلام الله، وعلى صِدْق رسول الله فيما بلَّغ عن ربه، فلما قال لرسول الله: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟
      ردَّ الله عليه: { { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [المسد: 1-5].
      فحكم الله عليه وهو ما يزال في سَعَة الدنيا، وما يزال مختاراً حراً قادراً على إعلان إيمانه ولو نفاقاً، ومع ذلك لم يجرؤ أنْ ينطق بكلمة التوحيد، ولو نطق بها لَكَان له أن يقول: إن القرآن كاذب، وها أنا أشهد ألا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله. وهكذا أقام الله من هذا الكافر المعاند دليلاً على صِدْق كلامه، وصِدْق رسوله.
        ثم تُختم السورة بقوله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } [سبأ: 54] كانوا في شك من أمر رسول الله، ونُصْرته عليهم، وعدم تخلِّي ربه عنه، مع أنهم كانوا على اتصال بأهل الكتاب، وأهل الكتاب يقرأون كتبهم على هؤلاء الكفار ويستفتحون بها عليهم، وقد علموا منها أن عاقبة الصراع بين الرسل وأقوامهم على مَرِّ موكب الرسالة كانت للرسل؛ لأن الله تعالى ما كان ليرسل رسولاً ثم يُسلمه أو يتخلى عنه.
      وهذه قضية ذُكِرت في الكتب السابقة كما ذُكِرت في القرآن في أكثر من موضع، وإن كانت الكتب السابقة قد ضاعت أو حُرِّفت فالقرآن هو كتاب الله الباقي الذى تكفَّل الله بحفظه، فهو يُتلَى كما أُنْزِل إلى يوم القيامة، وفيه يقول الله تعالى: { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [غافر: 51].
      وقال سبحانه: { { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-172].
        لذلك سبق أنْ قلنا: إنْ هُزِم الإسلام في معركة مع غيره فاعلم أن شرط الجندية الإيمانية قد اختلَّ، ولو نصرهم الله مع اختلال شرط الجندية الإيمانية قد اختلَّ، ولو نصرهم الله مع اختلال شرط الجندية فيهم ما قامتْ للإسلام قائمة بعدها، وهذا الدرس تعلمناه في أُحُد، لما خالف الرماة أمر رسول الله ونزلوا من على الجبل يريدون الغنائم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّرهم من هذا، وقال لهم: لا تتركوا أماكنكم مهما حدث، فلما تركوا أماكنهم التفَّ عليهم الكفار، وكادوا يهزمونهم.
        وإنْ كان التحقيق أن الكفار لم ينتصروا في أُحُد؛ لأن المعركة (ماعت)، ولو انتصر المسلمون مع هذه المخالفة لهَانَ عليهم أمر رسول الله بعد ذلك، ولقالوا: لقد خالفنا أمره في أُحد وانتصرنا، إذن: نقول: الذي هُزِم في أُحد هو مَنِ انخذل عن جندية الإيمان، أمَّا الإسلام في حدِّ ذاته فقد انتصر.
      إذن: كانوا في شكٍّ من الغاية التي ينتهي إليها رسول الله، والشك هنا في رسول الله لأن لديهم قضية عقدية هي الإيمان بوجود الله، وأنه سبحانه الخالق لكل شيء، بدليل قوله تعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87].
      والشك يعني عدم الجزم وعدم اليقين، وبيَّنا ذلك بأن نسَبَ الكلام في الكون ست، لكل ثلاث منها اتجاه، فالكلام بداية علَّمَ الله سبحانه آدم الأسماء كلها ليتفاهم بها مع غيره، فالكلام يقتضي متكلماً ومُخاطباً، ولا بُدَّ أن يكون المخاطب على علم بمدلول الكلام، بدليل أن العربي لا يفهم الإنجليزي، ولا الإنجليزي يفهم العربي، لا بُدَّ من علم بالتواضع في اللغة ليفهم كل منهما عن الآخر.
        والكلام المفيد هو الجملة التي يحسُن السكوت عليها، بأن تعطي معنى مفيداً، فلو قُلْت مثلاً (محمد) فهي مفردة من مفردات اللغة لا تعطي معنى إلا بنسبة، فتقول: محمد كريم، فأسندتَ الكرم إلى محمد، وهذا معنى تام، يحسُن السكوت عليه.
      وإسناد الكرم لمحمد هو مُعتقد المتكلّم به، فإنْ كان لهذا الكلام وجود بالفعل بأنْ وُجد شخص اسمه محمد، وصفته الكرم، فهذا الكلام المعتقد جازم بالحكم والحكم واقع، فإنْ كان المتكلم غير جازم بالحكم، متردداً فيه فهذا شك، فالشك فيه نسبة متأرجحة بين النفي والإثبات بحيث تتساوى الكفتان، فإنْ رجحت واحدة فهي ظن، والأخرى المرجوحة وهم.
        إذن: كم نسبة للكلام غير المجزوم به؟ ثلاث: الشك والظن والوهم. أما الكلام المجزوم به فإنْ كان له واقع، وتستطيع أنْ تدلل عليه فهو علم، وإنْ لم تستطع أنْ تُدلل عليه فهو تقليد، وإن جزمتَ به وليس له واقع فهذا جهل، وهذه الثلاث نِسَب الكلام المجزوم به: علم، وتقليد، وجهل.
      إذن: الكفار جازمون معتقدون في أن الله هو الخالق، لكنهم شاكُّون في مسألة البلاغ عن الله، وأنها جاءت على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } [سبأ: 54] الشك ذاته يُوقِع في الارتياب والقلق.   التفاسير العظيمة  
    • البركة هي: النماء والزيادة، وبارك اللهُ الشيءَ وبارك فيه وعليه: وضع فيه البركة، قال تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، قال الراغب الأصفهاني: البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء.   قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96]، وفيه تنبيهٌ على ما يفيض به ربُّ العالمين من الخيرات الإلهية على الناس إذا آمنوا واتقوا.   ولو رجعنا إلى الوراء لرأينا أمثلةً كثيرةً لحضور البركة عند الناس، سواء في عهد الصحابة رضي الله عنهم، أو عهود من بعدهم، فها هو سيدنا عثمان رضي الله عنه يجهِّز جيشًا كاملًا من ماله الخاص، فيبارك الله له في ماله، فقد رُوي أنه قد بلغت ثمرة نخله مائتي ألفٍ أو تزيد، حيث بارك الله له إنفاقه في سبيله، فانظروا كيف تكون البركة.   لكن قد يلاحظ الإنسانُ أن الله عز وجل يمنَع عنه البركة في أمرٍ من أمور الدنيا من الرزق أو الولد، أو الزوجة أو العمل وغيرها، وهنا على المرء أن يسأل نفسه مرارًا وتكرارًا: ما الأسباب التي تؤدي لحدوث ذلك الأمر؟ ومن بينها ما يلي: 1- كثرة المعاصي، فللمَعصيةِ كبيرُ الأثر في مَحقِ بركةِ المالِ والعُمُر والعلم والعمَل، وهي سببٌ لهوان العبد على الله تعالى، وسقوطه من عينه، وذَهاب البركة؛ قال ابن القيِّم رحمه الله - في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - عن المعاصي: "وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمُرِ، وَبَرَكَةَ الرِّزْقِ، وَبَرَكَةَ الْعِلْمِ، وَبَرَكَةَ الْعَمَلِ، وَبَرَكَةَ الطَّاعَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ تَمْحَقُ بَرَكَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا تَجِدُ أَقَلَّ بَرَكَةٍ فِي عُمُرِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِمَّنْ عَصَى اللَّهَ، وَمَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا بِمَعَاصِي الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16]". يقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن العبدَ ليُحرَم الرزقَ بالذنبِ يُصيبه)؛ رواه أحمد. 2- الغش والخداع والكذب، ولا سيَّما في البيع والشراء حتى لو كان الحالف صادقًا، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف في البيع والشراء، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَة"؛ رواه البخاري. وعن حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"؛ رواه البخاري، ويُلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس. 3- التعامل بالربا، والإنسان يحسب أن فيه زيادة للمال، لكنها زيادة ظاهرية لا بركة فيها، قال تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]. 4- الدعاء على النفس والأولاد والأموال، لذا حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء عليها، فقال: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها عطاء فيستجيب لكم"؛ رواه مسلم. 5- الحرص والطمع في طلب الدنيا، يرغب الإنسان للدنيا ويُحبُّ لها ويُبغض لها، ويُضيِّع ما أوجب الله عليه لها، ويرتكب ما حرَّم الله عليه لها، حتى ربما نالها من غير حلِّه لطمعه وجشعه وشدَّة حرصه، عن حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى"؛ رواه البخاري.     بركات يومية لا تجعلها تفوتك:   1- إذا دخلت البيت، فسلِّم؛ فالسلام بركة؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [النور: 61].   مباركة؛ أي: يُرْجَى فيها الخيرُ والبركة، وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنس: ((يا بُنَيَّ، إذا دخلتَ على أهلِك فَسلِّم، يَكْنْ سلامُك بركةً عليك وعلى أهل بيتك)).   2- تناوَلِ الطعام في مجموعة وسَمِّ، فإن في هذا بركة؛ فقد روى الإمام أبو داود بسند صحيح أن قومًا اشتكوا للنبي عدم الشِّبَع، فقالوا: يا رسولَ الله، إنَّا نأكُل ولا نشبَع، قال: ((فلعلّكم تَفترِقون))، قالوا: نعَم، قال: ((فاجتمِعوا على طعامِكم، واذكُروا اسم الله، يبارك لكم فيه)).   3- صِلْ رَحمك؛ فإنها من أسباب زيادة البركة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سَرَّه أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسأَ له في أثرِه، فَلْيَصلْ رَحِمَه))؛ رواه البخاري.       عن أسباب الرجوع الي البركة وزيادتها، فهي تتمثل في العناصر الآتية:   أوَّلُها: أن يتَّقي المجتمعُ المسلم ربَّه، ويؤمِن به على ما أرادَ الله له وأرادَ له رسولُه - صلى الله عليه وسلم - فقد قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].   وثانيها: الشكرُ على الرزق؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].   ثالثها: القَصدُ وعدَم الإسراف؛ ولذلك نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأن أعظمُ النساء بركةً أيسرُهنَّ صداقًا؛ رواه البيهقي والنسائي.   ومن الأسباب - عبادَ الله -: الدعاءُ واللجوء إليه؛ فإنه سببٌ من أسباب البركة؛ كما في قصّة الزبير الآنفة الذكر.   وآخرُ هذه الأسباب - عباد الله -: القناعة والرضا بعطاء الله؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح: ((إن الله - تبارك وتعالى - يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله - عز وجل - له، بارك الله له فيه ووسعه، ومن لم يرضَ لم يبارك له فيه)).     شبكة الالوكة    
    • وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته  أهلا وسهلا هدوء الفجر الحبيبة  نورت المنتدى برجوعك إليه مرة أخرى  ها نحن هنا ننتظر دوما سماع أخبارا سارة عنكن  نسأل الله عزوجل أن يسعدكن ويوفقكن لكل خير..
    • الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:   فلقد خَلَقَ الله تعالى الإنسانَ ليعبده، وجعله خليفته في الأرض حتى يمتحنه وينظر كيف يعمل، وهو تعالى كان وما زال عليمًا بما سيحدث ومن سيطيعه ومن يعصيه في سابق علمه، إلا أنه قدَّر على الإنسان أن يمر بهذا الامتحان، ويختار طريقه وأعماله ويجازيه عليها؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فتُقام بذلك الحُجَّة عليه، وبما كُتِبَ له في صحائف أعماله، وكذلك لتتجلى له قدرة الله وسيطرته عليه وعلى جميع مخلوقاته، وليؤمن بوحدانيته وألوهيته في قلبه، ويسلم له طوعًا، فلا يَسَعُ إنسانًا بعدها أن يقول: "ربِّ لقد خلقتني للنار، فهذا ليس عدل"، أو أن يحتج بالقدر كما يفعل الكفار في النار، فالله تعالى عادل لا يظلم أحدًا، والخاسرون هم من ظلموا أنفسهم بكفرهم، فما دخل أحدٌ النارَ إلا بسوء عمله وغروره، ولولا ذلك لَما شهد عليه كتابه يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14]، فعلينا – إذًا - التوبة والرجوع إلى الله، والاستغفار والإنابة، ومحاسبة النفس، والله تعالى رقيب علينا وعلى ما تقترفه أيدينا بالليل والنهار، كما أنه يعلم ما تخفي قلوبنا وأسرارنا، وكل إنسان بصير بنفسه، ويعرف تمامًا ما قدم وما أخَّر، ويوم القيامة لا يستطيع أن ينكره؛ ولذا كان حرِيًّا به أن يراقب الله في السر والعلن، وفي القول والعمل كما يراقبه هو؛ قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، وقال: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].       ومن رحمة الله بالإنسان أنه مكَّنه من اختيار أعماله وعقيدته ودينه، فلم يجبره على شيء منها، وله الحرية في أن يختار طريقه، ولا يعني ذلك أن أفعاله خارجة عن قدر الله وقدرته وإرادته، فلا يملك إنسان أن يفعل في ملك الله ما لم يأذن به، وهو سبحانه يعلم ما سيفعله عباده، وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، وكل شيء يحدث في مُلْكِهِ مُسَطَّرٌ ومكتوب ومعروف له مسبقًا، ودليل ذلك ما جاء في الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((إن أول شيء خلقه الله عز وجل: القلمُ، فأخذه بيمينه - وكلتا يديه يمين - قال: فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول: بِرٍّ أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عنده في الذكر، ثم قال: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29]، فهل تكون النسخة إلا من أمر قد فَرَغَ منه))[1]، وقوله تعالى: ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29]، وهذا يؤكد على أن أعمال العباد مكتوبة ومُقدَّرة مسبقًا.       وليس من العقل أو المنطق أن يخلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ثم يفرض عليه أعماله، نَعَم، الله قدَّرها وخلقها، ويُغيِّر فيها ما يشاء كما يشاء، وذلك بتغيير قلب الإنسان وإرادته، وبتغيير أقداره وما كتبه فيها، ولكنه سبحانه أعطانا الحرية في الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، ولا ينكر ذلك إلا ضالٌّ أو مجنون، فالمقال الذي أكتبه الآن قدَّره الله لي منذ الأزل في سابق علمه، ولكني أكتبه الآن بكامل قواي العقلية، ولم يجبرني أحد على كتابته، وإن قلت بغير ذلك كنتُ كاذبةً، فما كتبه الله هو ما علِمه عني في سابق علمه بأني سأقوم بذلك، وكان بإمكانه وقدرته تغيير ما يشاء في ذلك إن أراد، كأن يصرفني عنه أو يصيبني بعائق يمنعني منه، أو يحوِّل قلبي من الرغبة في كتابته، ولكنه تعالى لم يفعل، فتركني لِما اخترت فعله وأذِن لي به، وكأنه سبحانه يعطيني الفرصة ليمتحنني، وينظر ماذا أكتب، وما يتفوَّه به قلمي، ولتفسير كل ذلك وفَهْمِهِ لا بد من الإيمان بصفة علم الله التام بالسابق واللاحق، وصفة عدله، والإيمان بقضائه وقدره.       وإذا كان الله سيفرض علينا ما نختاره، فلِمَ وهبنا العقل الذي نفكر به، والقلب الذي نؤمن به؟ ولمَ أمرنا بالتفكر في أنفسنا وفي مخلوقاته وآياته الكونية؟ قال تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، وقال: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185]، وما فائدة العقل إن لم يكن لنا اختيار في أعمالنا؟ وكذلك لِمَ أمرنا الله كثيرًا في آياته بأحكام الإسلام، وأوامره المختلفة؛ حين يقول: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا أو تجنبوا كذا؟ ولِمَ قال لنا: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]؟ فكلمة "شاء" تعني "أراد"، ولا ينبغي أن تؤول على غير معناها الظاهر دون قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي، كما قال أهل التفسير، فلو لم تكن لنا قدرة على الاختيار، لَما أمرنا الله به؛ لأنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولو لم يشأ الكفَّار الكُفْرَ لم يدخلهم الله النار، ولو لم يعصِ العصاة الله لَما شهِدت عليهم جوارحهم، ولَما غضب الله عليهم، وكيف سبحانه سيغضب عليهم لشيء فرضه عليهم؟ فذلك سيعني أنه سيغضب لعمله وقدره بنفسه، وكيف يحاسبهم في شيء ليس لهم يد فيه ولم يختاروه بأنفسهم؟ فاحتجاجهم بالقدر ذلك مردود عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35]، وقال: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 20].       وهذا يردُّ على من غالى في القدر، ونفى إرادة العبد في عمله؛ كالجبرية الذين قالوا: إن العبد مجبور في أعماله، وإن الكفار مجبورون على الكفر، وهذا القول باطل، ويكذبه القرآن الكريم كما بيَّنَّا سابقًا، كما تكذبه أعمالنا، ولو لم يكن للعبد إرادة في اختيار دينه وعمله، فلماذا أرسل الله لنا الرسل ومعجزاتهم وكتبهم ورسالاتهم؟ ولماذا جعل هناك جزاء وحسابًا، وجنة ونارًا، وفائزين وخاسرين؟ ولِمَ يمتحننا بالإيمان والكفر؟ ولو كنا مجبرين على أحدهما، لفسد الامتحان، وأصبح بغير هدف ولا مغزى، وصار خلق الكون عبثًا، وقد أنكر الله ذلك على من اعتقد به في قوله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].       ورغم أن الله تعالى خيَّر الإنسان في عمله، إلا أن هذا التخيير ليس على إطلاقه في كل شيء، فلا ينكر أحد أن هناك أقدارًا لا يستطيع أن يختار فيها الإنسان، ولا يَدَ له فيها، ومثال ذلك: اختيار أين يكون مكان ميلاده، ومن يكون أبواه، وما جنسه، وما شكل خلقته، وأين سيموت...، وهكذا، وهناك أقدار أخرى يختارها الإنسان بإرادته، وقد علمها الله تعالى في سابق علمه وقدَّرها له، وله سبحانه أن يغيِّر فيها أو يفعل ما يشاء، وهو بحكمته وعدله ورحمته بعباده جعل للإنسان إرادة فيها، ومثالها اختيار الطاعة والمعصية، واختيار الكفر والإيمان، واختيار السلوك القويم والانحراف؛ قال تعالى: ﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وكذلك يسَّر لنا الله اختيار معظم قراراتنا الحياتية والدنيوية؛ مثل: ماذا تريد أن تدرس؟ وما عملك؟ وأين تسكن؟ وما إلى ذلك.       وهناك من نفى القدر في أعمال العباد كالقدرية، وجعل العباد خالقين لأفعالهم، وهؤلاء أيضًا تاهوا مثل الجبرية، ولكن في الاتجاه المعاكس، فالله تعالى قدَّر أعمال العباد وخلقها أيضًا؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، ولو كان العباد خالقين لأفعالهم كما يقولون، لَتنافى ذلك مع أن يكون الله هو خالق كل شيء، وهذا كفر؛ لأنه يكذب القرآن الذي بيَّن أن الله خالق كل شيء، ويتنافى كذلك مع حديث القلم واللوح المحفوظ السابق ذكره؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]، وقد كتب الله تعالى من سيكون أصحاب الجنة، ومن أصحاب النار؛ وذلك لعلمه وإحاطته بأعمالهم وقلوبهم، وما سيقع منهم؛ ورُوي عن عبدالله بن عمرو أنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يُزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يُزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا، فقال أصحابه: ففِيمَ العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فُرِغَ منه؟ فقال: سدِّدوا وقاربوا؛ فإن صاحب الجنة يُختَم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيَّ عملٍ، وإن صاحب النار يُختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير))[2].       وهذا يبيِّن أن الإنسان عبدٌ لله، ويستطيع أن يختار الكفر أو الإيمان، ولكنه لا يستطيع أن يخلقهما، وإرادته تابعة لإرادة الله وتحت مشيئته، وهذا يثبته الواقع الذي نمر به، فكم من ساعة نقرر فعل شيء، ولكن الله يقدر ألَّا نفعله، فمثلًا ربما قررت أن تذهب للحج هذا العام، ولكنك لم تستطع، ربما نقص مالك عن التكلفة، أو مرضت، أو لم يتم اختيارك من قِبَلِ لجنة اختيار الحُجَّاج، أو مت قبل ذلك، وما إلى ذلك، فهذه الموانع كلها من قضاء الله وقدره، وربما أراد الله تعالى بها أن يكتب لك الأجر دون أن تتكبد المشقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من همَّ بحسنة فلم يعملها، كُتِبت له حسنة، فإن عملها، كُتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة وسبع أمثالها، فإن لم يعملها، كُتِبت له حسنة))[3]، وغير هذه العراقيل التي قد تواجه الإنسان فيما ينوي فعله، وهناك أيضًا تقليب القلوب بيد الله، وجاء في الحديث: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء))[4]وكان يدعو صلى الله عليه وسلم بقوله: ((اللهم مصرِّفَ القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك))[5].       ورغم أن القدر ليس بعذرٍ للكفر، وأن بمقدورنا أن نؤمن، وأن الله تعالى لم يجبرنا عليه، ولكن من يتكبر على الله، وعلى طاعته، ويختار المعصية والكفر قد يختم الله على قلبه، فلا يقبل إيمانًا بعدها والعياذ بالله، وهذا عقاب له على كفره وتكبُّره على خالقه ورفضه الإيمان ابتداءً؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 6، 7]، والله تعالى عادة يُمهِل العبد، ويعطيه الكثير من الفرص ليتوب، ويبتليه بالمصائب والأمراض لعله يرجع وينيب، ويرسل له الإشارات، وهو لا يريد تعذيبنا، وأرسل لنا الرسل والناصحين حتى ننجو، وهو أرحم بنا من أمهاتنا، ويفرح بتوبة عبده؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا، تقرَّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا، أتيته هرولة))[6]، ولكن من يصر ويتمادَ ويبارز الله بالكفر، يغضب الله عليه، ويختم على قلبه، وكثرة المعاصي دون توبة والمجاهرة بها تُهلِك الإنسان، وتجلب له النفاق وسوادَ القلب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة، نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب، صُقل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها، حتى تعلوَ قلبه؛ وهو الران الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]))[7].       والله تعالى ذَكَرَ أن الهداية والضلال بيده، فلا يظن أحد أنه يملك كل شيء في ذلك القرار؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39]، فرغم أن الله خيَّر الإنسان في ذلك، ولكنه يمكن أن يُضِله إن رأى منه ما يُغضبه؛ ولذا أمرنا الله تعالى بأن نستغفره ونستعين به، ونطلب منه الهداية في كل يوم وكل صلاة وكل ركعة؛ حين نقول في سورة الفاتحة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 5، 6]، وعلَّمنا خيرُ البريَّة أن نقول دبر كل صلاة: ((اللهم أعنِّي على ذِكرِك وشكرك وحسن عبادتك))[8]، فعلينا بالاستغفار، وأن نعبد الله بين الخوف والرجاء، ونخشى مَكْرَه وإضلاله لنا، وهذا يحقق الوحدانية المطلقة لله، فلا يظن عبد أنه يمكن أن يقترف المحرمات، ويعيش طيلة حياته على اللهو والكفر، اعتمادًا على أنه سيتوب قبل الموت، فربما يغضب عليه الله، ويمنعه من ذلك في آخر عمره، وينتهي بسوء الخاتمة، وهنا يأتي تدخُّل القدر؛ حيث يظهر أثره كثيرًا في الخواتيم، وعند الموت تفتضح سرائر الناس وأعمالهم، فمن خُتِمَ له بسوء، هو عادة من عاش على المعصية، وحتى لو ظهر للناس بالصلاح، إلا أن الله يعلم سريرته، وليس ذلك لأن الله ظالم له، بل لما أسرَّ في قلبه، ونحن لا نعلم ما في نفوس الناس، ولا ندري ما يُضمرون، ولا ما كسبت قلوبهم ومعتقداتهم، فربما ساءت خاتمة المرء لخَلَلٍ في عقيدته، أو لسوء النية، أو لذنوب الخلوات، أو للرياء والنفاق، أو المجاهرة بالمعاصي، أو لفساد القلب، أو لتغلب الشهوات، أو غيرها من المهلكات، فيقدِّر الله له الموت على كفر أو أثناء معصية، وكذلك كم رأينا من حسن الخاتمة لأناسٍ لا يبدو عليهم كثيرًا من الصلاح، وربما ينجيهم الله لتوحيدهم وحسن سريرتهم، وحسن خُلُقهم، ونقاء قلوبهم، وعفوهم عن الناس، وما إلى ذلك من العبادات التي تكون بين العبد وربه.       وفَهْمُ القدر من أقوى ما يجعل المرء يخبت لله، ويزيد من خوفه وخشيته، ويجعله يجِدُّ في طلب الآخرة، والسعي في مرضاة الله؛ ولذا علينا تعليمه لأبنائنا منذ الصغر، وإفهامهم جميع جوانبه؛ حتى لا يقعوا في الغلو في جانب منه، ويهلكوا به، ويجب تعليمهم أن الصواب في القدر هو الوسطية التي تحميهم من اعتقاد القدرية في نفي القدر في أعمال العباد، ونفي خلق الله لها، ومن معتقد الجبرية بأن الإنسان لا إرادة له ولا خيار في عمله، فهم وسط في ذلك، ولا يغالون في جانب دون آخر، ويسلِّموا بكل ما جاء وصحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم في القدر، واتبعوا ما كان عليه هو وصحابته الكرام، وهذا هو المعتقد الذي تعتقده الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة؛ قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أهل السنة والجماعة وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية"[9]، فعلينا ألَّا ننفي القدر، ونؤمن بأن الله خالقنا وخالق أعمالنا، وبيده مصائرنا، ونؤمن كذلك بأن الله تعالى أرسل لنا الرسل، وأمرنا بالإيمان والعمل الصالح، ووهبنا العقل لنختار به، وجعل لنا القدرة على اختيار أفعالنا والقيام بها، وأنه تعالى يمتحننا بهذا في الدنيا؛ ليجزينا بما عملنا في الآخرة، فلا ننكر القدر، ولا نعتقد أن بيدنا أن نفعل في مُلْكِ الله ما لا يريد، أو أن نقوم بشيء بدون أن يأذَنَ به لنا، وأن بإمكانه أن يمنعنا عن عمل أردنا القيام به، لو شاء حتى ولو كان طاعة، وأن قلوبنا بيده، وأنه ليس بظلام للعبيد، ونؤمن بأن أهل النار دخلوها لسوء أفعالهم التي علِم الله أنهم سيفعلونها بسابق علمه، ونؤمن بأن الهداية والضلال بيد الله، وأنَّ علينا أنْ ندعوه، ونسأله التوفيق للإيمان والعمل الصالح، ونستعيذ به من الكفر والشرك والخذلان، وهذه هي سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله؛ قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، وقال على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].       هذا، والله تعالى أعلم، ونسأله سبحانه أن يوفِّقنا للإيمان والعمل الصالح، ويثبتنا على طاعته حتى الممات، ويتوفانا مسلمين، ويحشرنا في زمرة الأبرار والصالحين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.     [1] أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (3136)، وحكمه عليه: إسناده صحيح. [2] حسنه الألباني في صحيح الترمذي (2141). [3] ذكره شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (9325)، وخلاصة حكمه عليه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه مسلم (130) باختلاف يسير. [4] مسلم (2654). [5] الحديث السابق. [6] البخاري (7536). [7] حسنه الوادعي في الصحيح المسند (1430). [8] ذكره ابن باز في فتاويه (11 /194)، وخلاصة حكمه: إسناده صحيح. [9] العقيدة الواسطية (186).   د. منال محمد أبو العزائم   شبكة الالوكة  
  • أكثر العضوات تفاعلاً

  • آخر تحديثات الحالة المزاجية

    • samra120 تشعر الآن ب غير مهتمة
  • إحصائيات الأقسام

    • إجمالي الموضوعات
      181895
    • إجمالي المشاركات
      2535109
  • إحصائيات العضوات

    • العضوات
      93120
    • أقصى تواجد
      6236

    أحدث العضوات
    شرين حاتم
    تاريخ الانضمام

منتدى❤ أخوات طريق الإسلام❤

‏ أخبروهم بالسلاح الخفي القوي الذي لا يُهزم صاحبه ولا يضام خاطره، عدته ومكانه القلب، وجنوده اليقين وحسن الظن بالله، وشهوده وعده حق وقوله حق وهذا أكبر النصر، من صاحب الدعاء ولزم باب العظيم رب العالمين، جبر خاطره في الحين، وأراه الله التمكين، ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات وارحم المستضعفات في فلسطين وفي كل مكان ..

×